أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

والحق أن الاختلاف فى حركة الجوهر الباطن من الجسم المتحرك ، آئل إلى الخلاف فى التسمية ؛ فإن من منع من كونه متحركا كما يعنى به ، أنه غير مفارق للجواهر المحيطة به ، ولا يمنع من تبدل الحيّز المحيط به بجملة الجسم عليه.

ومن قال إنه متحرك لم يعن عنه ، غير تبدّل الحيّز المحيط بكل الجسم عليه ولا يمنع من كونه غير متحرك بمعنى أنه غير مفارق للجواهر المحيطة به ؛ ولاحظ لذلك فى المعنى.

الصورة الثانية : قال الأستاذ أبو إسحاق (١) : إذا كان الجوهر مستقرا فى مكانه ، وتحرك عليه جوهر آخر من جهة إلى جهة ، بحيث تبدّلت محاذاته له ؛ فالجوهر المستقر فى مكانه ، يكون متحركا. والتزم على ذلك أنه لو تبدلت عليه المحاذات من جهة إلى جهة بأن تحرك عليه جوهران أحدهما من جهة يمينه ، والآخر بالعكس ؛ أنه يكون متحركا يمنة ، ويسرة فى حالة واحده.

وزعم أن الحركة منها ما يزول بها الشيء المتحرك عن حيّزه ، وبهذا الاعتبار لا يكون الجوهر متحركا يمنة ، ويسرة معا.

ومنها ما لا يزول بها المتحرك ؛ بل يزول بها عنه غيره.

والحركة بهذا الاعتبار لا يمتنع فيها ذلك.

وخالفه فى ذلك الجماعة وشددوا فى الإنكار عليه ، ولا معنى لإنكارهم تسمية ما عنه حركة إذا لم يعن بكونه متحركا ، أنه خارج من حيّزه وداخل فى حيّز ؛ بل غايته أنه أطلق اسم الحركة على اختلاف المحاذيات ، كما أطلق الأصحاب اسم السكون على الحركة ، ولا معنى للنزاع فى التسمية.

__________________

(١) هو الأستاذ أبو إسحاق : إبراهيم بن محمد بن مهران الأسفرايينى ـ انظر عنه ما مر فى الجزء الأول هامش ل ٥ / أ.

أما عن رأيه الّذي نقله عنه الآمدي ؛ فقارن بما أورده إمام الحرمين الجوينى فى الشامل ص ٤٥٣ ، ٤٥٤.

٢٠١

الفصل السابع :

فى تحقيق معنى الاجتماع ، والافتراق ، والمماسة ، والتأليف (١)

وقد اتفق القائلون بالأكوان على أنه لو خلق الله ـ تعالى ـ جوهرا فردا فى حيّز من الأحياز ؛ فلا بد وأن يقوم به كون يخصصه بذلك الحيّز على ما سبق (٢).

ثم اتفقوا على جواز خلق الله ـ تعالى ـ ستة من الجواهر محيطة بذلك الجوهر من فوقه ، وأسفله ، ويمينه ، وشماله ، وخلفه ، وقدامه ، إلا ما نقل عن بعض المتكلمين أنه منع من ذلك. ولم يجوز ملاقاة الجوهر الفرد ، لأكثر من جوهر واحد ؛ حذرا من القول بتجزؤ الجوهر الفرد ؛ وهو مكابرة للمحسوس ، ومنع من تأليف الجسم الطويل ، العريض ، العميق ؛ وهو محال.

واتفقوا على المجاورة ، والتأليف بين الجوهر المفروض ، والجوهر المحيط به / ثم اختلفوا بعد ذلك.

فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعرى (٣) ، والمعتزلة : إلى أن المجاورة ؛ وهى وقوع الجوهرين فى حيزين لا يفصلهما ثالث ؛ زائدة على الكون الموجب لتخصيص الجوهر بحيزه حالة انفراده.

وأن التأليف والمماسة زائدة على المجاورة ، ومغايرة لها ؛ وهو حادث عقيبها. وأن المباينة : وهى وقوع الجوهرين فى حيزين يفصلهما ثالث ؛ ضد المجاورة.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة انظر : الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٥٥ وما بعدها. ومن المفيد ذكر معانى هذه الألفاظ.

الاجتماع : تقارب أجسام بعضها من بعض [التعريفات ص ٢٠].

الافتراق : كون الجوهرين فى حيزين ، بحيث يمكن التفاصل بينهما. [التعريفات ص ٤٢].

أما التماس : فعبارة عن تلاقى الذوات بأطرافها على وجه لا يكون بينهما بعد أصلا. [المبين للآمدى ص ٩٧].

التأليف : هو جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد ، سواء كان لبعض أجزائه نسبة إلى البعض بالتقدم والتأخر أم لا ، فعلى هذا يكون التأليف أهم من الترتيب. [التعريفات ص ٥٩].

(٢) راجع ما سبق فى الفصل الأول : فى تحقيق معنى الكون والكائنية ل ٤٨ / أوما بعدها.

(٣) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٤٥٥.

٢٠٢

وأن المجاورة شرط للتأليف ، والمماسة ؛ وأن التأليف ، والمماسة : ينتفى بالمباينة المضادة لشرط التأليف. ويمكن أن يكون ذلك لمضادة المباينة للتأليف وشرط على أصل الشيخ أبى الحسن (١). غير أن الشيخ أبا الحسن زعم أن المجاورة القائمة بالجوهر الفرد وأن تعدّد المجاور له واحدة ، والتأليف القائم به متعدد بتعدد المؤتلف معه (١١) / / حتى أنه قال : الجوهر الفرد إذا أحاط به ستة من الجواهر ؛ فقد قام به ست تأليفات ، ومماسات ، ومجاورة واحدة ، وأن المماسات الست تغنى عن مكون سابع ، يكون مخصصا له بحيزه ، على ما حكاه عنه القاضى أبو بكر (٢).

وأما المعتزلة : فإنهم قالوا : إذا تحققت المجاورة بين الجوهرين ، وكان أحدهما رطبا ، والآخر يابسا ، ولّدت المجاورة بينهما تأليفا ، واحدا قائما بهما.

وإن تألف مع ستة من الجواهر ؛ فقد اختلفوا فيه :

فمنهم من قال يقوم بالجواهر السبعة تأليف واحد. وقالوا إذا لم يبعد قيام تأليف واحد بجوهرين ؛ لم يبعد قيامه بأكثر من ذلك.

ومنهم من قال : إذا تألف جوهر مع ستة جواهر يقوم بالجملة ست تأليفات ، واتفقوا على امتناع قيام سبع تأليفات بالجملة ، حذرا من انفراد كل جزء بتأليف.

ثم أبطلوا قول من جوز قيام تأليف واحد بسبعة جواهر بأن قالوا : المباينة بين الجواهر وإن لم تكن مضادة للتأليف ؛ فهى مضادة لشرط التأليف ؛ وهى المجاورة.

وعند ذلك : فلو قدّرنا مباينة بعض الجواهر السبعة للباقى ؛ فيلزم منه زوال تأليفه معها ؛ ضرورة فوات شرط التأليف ؛ وهو المجاورة.

فلو كان التأليف القائم بالجميع واحدا ؛ لبطل ببطلان تأليف الواحد منها ؛ إذ التأليف الواحد يستحيل أن يبطل من وجه دون وجه.

__________________

(١) قارن ما نقله الآمدي هنا عن رأى الأشعرى بما نقله عنه الجوينى فى الشامل ص ٤٥٥ وما بعدها.

(١١)/ / أول ل ٢٩ / أ.

(٢) قارن بما نقله الجوينى فى الشامل ص ٤٥٦.

٢٠٣

وذهب الأستاذ أبو إسحاق : إلى أن المماسة والتأليف بين / الجواهر [هو نفس (١) المجاورة بينها من غير مغايرة ، وأن المجاورة ، والمماسة القائمة بالجوهر متعددة بتعدد] (١) المجاور المماس له. وأن المباينة ضد المماسة والتأليف حقيقة ؛ إذ هى ضد المجاورة بالاتفاق. والمجاورة هى عين المماسة ، والتأليف على أصله (٢).

وذهب القاضى أبو بكر (٣) : إلى أن الجوهر إذا اختص بحيّزه ، وتتابعت عليه الأكوان فى ذلك الحيّز الواحد ، فهو عند انضمام جوهر آخر إليه على ما كان عليه قبل الانضمام ؛ لم يتغير حكمه ، وصفته. غير أن الكون الموجود له قبل الانضمام ؛ يسمى سكونا ، والكون المتجدد له بعد الانضمام ـ وإن كان مماثلا للكون الأول ـ يسمى اجتماعا ، وتأليفا ، ومجاورة ، ومماسّة.

والكون المتجدد له بعد مفارقة ذلك الجوهر له ؛ يسمى مباينة.

فالكون واحد ، وإن تبدلت التسميات عليه ، والأكوان المختلفة على أصله ليس غير الأكوان الموجبة لاختصاص الجوهر بالأحياز المختلفة.

فهذا ما أوردناه من حكاية المذاهب على سبيل الايجاز والاختصار ، ولا بد من تتبع ما فيها على ما هو المألوف من عادتنا ، والتنبيه على ما هو الأولى فيها.

فنقول : أما معتقد الشيخ أبى الحسن : أن المجاورة زائدة على الكون الموجب لتخصيص الجوهر بحيّزه ، وأن المماسة زائدة على المجاورة.

فلقائل أن يقول : وما المانع أن يكون ما للجوهر من الكون غير مختلف.

وإنما الاختلاف عائد إلى التسميات كما ذكره القاضى أبو بكر ، والّذي يدل على ذلك : أن حالة الجوهر ، وهو مستقر فى حيزه حالة الانفراد إما أن يقال بتغيرها حالة انضمام جوهر آخر إليه ، أو لا يقال بتغيرها.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) قارن ما أورده الآمدي هنا بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٥٨ ، ٤٥٩ وما بعدهما ..

(٣) انظر الشامل فى أصول الدين ص ٤٥٥ ـ ٤٦٦ فقد نقل رأى القاضى وبقية الأئمة. كما نقل رأى المعتزلة وناقشهم بالتفصيل.

٢٠٤

لا جائز أن يقال بالأول : حيث أنه لم يتجدد غير انضمام جوهر آخر إليه. والجوهر أو ما قام بالجوهر ، لا يكون مؤثرا فى حكم جوهر آخر ؛ لعدم قيامه به. وحكم الجوهر يمتنع أن يكون مستفادا له من غير ما قام به كما سيأتى.

وسواء كان مباينا له ، أو غير مباين. ولا سيما على أصله حيث أنه ذهب إلى أن حكم العلم لا يتعدى إلى الجملة التى محل العلم منها ، وأن البنية المخصوصة ليست شرطا لقيام العرض بمحله.

ولو جاز أن يكون الجوهر ، أو ما قام به مؤثرا فى حكم جوهر آخر ؛ لما امتنع القول باشتراط البنية المخصوصة فى بعض الأعراض ؛ كالإدراكات وغيرها ، كما تقوله المعتزلة

وإن كان الثانى : ففيه تسليم المطلوب. وما يجده من التفرقة بين حالة كون الجوهر مستقرا فى حيّزه ، وحالة / ضم جوهر آخر إليه ؛ فإنه هو عائد إلى اختلاف كونيهما ، وليس فى ذلك ما يدل على عرض زائد على كونهما ، وإلا كان ما نجده من التفرقة بين حالة تباعد أحد الجوهرين ، وقربه من الآخر يوجب كون القرب عرضا زائدا كما فى المماسة ؛ وهو خلاف أصل الشيخ.

وإن سلمنا أن المماسة والمجاورة زائدة على الكون الموجب لتخصيص الجوهر بحيّزه. ولكن ما المانع من كون المماسة عين المجاورة ، كما قاله الاستاذ أبو اسحاق ، وليس ذلك ممتنعا ؛ فإنه لا يمكن تقدير كل واحد منهما دون الآخر ، ولم يدل الدّليل على المغايرة ؛ فاحتمل أن يكون ذلك لاتحاد المعنى.

وبمثل هذا خبرنا إلى أن الأمر بالشيء ، نهى عن أضداده ، وأن النّهي عن الشيء أمر بأحد أضداده.

وإن سلمنا أن المماسة غير المجاورة ؛ ولكن ما المانع أن تكون المجاورة متعدّدة ؛ لتعدد المماسة ؛ فإنه إذا أحاط بالجوهر ستة جواهر ، فكما هو مماس لكل واحد منها ؛ فهو مجاور لكل واحد منها.

وعند ذلك : فلا يخفى أن التفرقة من غير (١١) / / دليل تحكم.

__________________

(١١)/ / أول ل ٢٩ / ب من النسخة ب.

٢٠٥

وإن سلمنا صحة التفرقة ؛ ولكنه يمتنع أن يقال بوقوع الاكتفاء بالمماسات عن الكون السابع المخصص للجوهر بحيّزه كما قاله الشيخ أبو الحسن.

وذلك لأن الجوهر ، قبل انضمام الجواهر الستة إليه ؛ كان مفتقرا إلى تخصيصه بحيّزه إلى كون يخصصه به ؛ وهو بعد الانضمام متخصص به ، فكان مفتقرا إلى كون يخصّصه به.

ومن مذهب الشيخ أبى الحسن أن المماسّات مخالفة للكون المتخصص بالحيز حالة الانفراد بالحكم الّذي يوجبه عرض لا يوجبه خلافه.

ولهذا امتنع أن تكون القدرة ، والإرادة ، والعلم كل واحد منها يفيد حكم الآخر لمخالفته له.

حتى أن القدرة لا توجب كون محلها عالما ، ولا مريدا ؛ وكذلك العلم لا يوجب كون محله قادرا ولا مريدا.

وأما معتقد المعتزلة : أن التأليف زائد على المجاورة. والمجاورة زائدة على الكون المخصص للجوهر بحيّزه ؛ فباطل بما أوردناه من الإشكال الأول والثانى ، على معتقد الشيخ أبى الحسن.

والّذي يخص المعتزلة فى قولهم بتولّد التأليف عن المجاورة ، وجواز قيام التأليف الواحد بجوهرين أمران :

الأول : إبطال القول بالتولد على ما أسلفناه (١).

والثانى : إبطال قيام التأليف الواحد بجوهرين ، وبيانه : أنه لو جاز قيام التأليف الواحد بجوهرين :

فإما أن يقوم بكل واحد منهما عن ما / قام بالآخر ، أو غيره.

فإن كان الأول : لزم تعدد المتحد ، واتحاد المتعدد ؛ وهو محال.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ الفرع الثامن : فى الرد على القائلين بالتولد ل ٢٧٢ / ب وما بعدها.

٢٠٦

ولو جاز ذلك ؛ لجاز قيام العلم الواحد بمحلين ، والقدرة الواحدة بمحلين ، والجوهر الواحد بحيّزين ، إلى غير ذلك ؛ والكل محال.

وإن كان الثانى : فلم يكن ما قام بهما واحدا ؛ إذ الواحد لا تعدّد فيه ولا تبعيض ؛ وهو خلاف الفرض ، وما نجده فى بعض الأجسام من صعوبة فكّ بعض أجزائه عن بعض ؛ فليس ذلك لاتحاد التأليف كما ظنوه ؛ بل إنما ذلك لعدم خلق القدرة عليه بحكم جرى العادة.

هذا إن كان قائما بمحل القدرة ، وإلا فلعدم تعلّق القدرة به.

وإن سلمنا إمكان قيام التأليف الواحد بجوهرين ، غير أن التأليف عندهم من الأعراض الباقية ، وهو متولد من المجاورة ، والمباينة ضد عندهم للمجاورة دون التأليف.

ومن أصلهم أنه لا يلزم من انتفاء السبب المولد ، انتفاء المسبب.

وعند ذلك فإن قالوا : بوجود التأليف مع انتفاء المجاورة بالمباينة فقد ارتكبوا محالا ، وإن قالوا بلزوم انتفاء التأليف عند انتفاء المجاورة بالمباينة ؛ فقد نقضوا أصلهم.

وأما مذهب الأستاذ أبى إسحاق وإن كان أقرب مما تقدم ؛ لكن يلزم عليه ما ألزمناه من الإشكال الأول على مذهب الشيخ أبى الحسن.

فإذن الأقرب إلى أصول أصحابنا فى تقرير امتناع اشتراط البنية المخصوصة فى عرض من الأعراض ما ذكره القاضى أبو بكر ؛ فعليك بتفهمه ، وتحقيقه (١).

__________________

(١) بعد أن ناقش الآمدي آراء أئمة المذاهب : الشيخ الأشعرى ، والأستاذ أبى إسحاق والقاضى الباقلانى. والمعتزلة رفض ما ذهب إليه المعتزلة وناقش الشيخ والأستاذ وأيد ما ذهب إليه القاضى وقال : فعليك بتفهمه وتحقيقه.

٢٠٧

الفصل الثامن

فى بقية أحكام الاجتماع والافتراق

خاصة على أصول أصحابنا (١)

فمنها : أن الجوهر الفرد إذا كان مستقرا فى حيزه ، ولم ينضم إليه جوهر آخر : فقد قال الأستاذ أبو إسحاق فيه ست مباينات مضادة للست مجاورات.

وإن انضم إليه جوهر واحد فيه خمس مباينات مضادة لخمس مجاورات ، ومجاورة واحدة مضادّة لمباينة واحدة. وعلى هذا النحو فى الزيادة والنقصان وما باينه من الجواهر ؛ فغير معينة بخلاف ما يماسه ؛ فإنه لا يكون الا معينا. هذا كله فيما لم يحصل فيه المماسة أولا.

وأما ما حصلت فيه المباينة بعد المماسة ؛ فقد قال فى قول : إن المباينة الطارئة للجواهر المعينة التى كانت مماسة له.

وقال فى قول آخر : إنه مباين بست مباينات لستة جواهر غير معينة وهذا تفريع منه على أن المماسة ، / والمباينة من الأعراض الزائدة على نفس الكون المخصص للجوهر بحيزه ، وأن المماسة متعدّدة ، وقد عرف ما فيه.

ومنها : أنه لو وجد جوهران فى حيّزين بينهما أحياز ثم وجد جوهر آخر منضما إلى أحد الجوهرين ؛ فهو لا محالة قريب من المنضم إليه ، وبعيد من الآخر.

فقال الأصحاب : عين قرب المتوسّط من أحد الجوهرين هو عين بعده من الآخر.

وقال الأستاذ أبو إسحاق : القرب غير البعد ؛ لأنه لو كان القرب من أحد الجوهرين ، هو عين البعد من الجوهر الآخر ؛ فيلزم منه أنه لو قدّر انضمام الجوهر البعيد إلى القريب ، وانتقاله إليه أن يبطل البعد بينهما بمضادة القرب له.

ويلزم من إبطال بعده من أحد الجوهرين ، إبطال قربه من الآخر ؛ ضرورة الاتّحاد ؛ وهو محال (٢).

__________________

(١) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين ص ٤٥٧ وما بعدها.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٥٩.

٢٠٨

وما ذكره الاستاذ فمبنى على أنّ البعد هو المباينة ، والقرب هو المجاورة ، وأن كلّ جوهر فرد ، ففيه ست مباينات لستة جواهر (١١) / / فإذا جاور جوهرا ؛ فقد زالت عنه مباينة واحدة ، وبقى خمس مباينات على ما عرف من أصله.

والحق ما ذكره الأصحاب من القول بالاتحاد ؛ فإنه مبنى على أنّ الكون القائم بالجوهر لا يختلف.

وإنما المختلف التسميات على ما حققناه من مذهب القاضى.

فمعنى قولهم : القرب غير البعد : أى الكون الموصوف بالقرب ، غير الكون الموصوف بالبعد.

ولا يلزم من إبطال إحدى التسميتين إبطال المسمى ، والتسمية الأخرى.

ومنها : أن الجوهر الفرد إذا ماس جوهرا آخر (١). فهل يقال إنه ماسّه من جهة وباينه من باقى الجهات؟.

قال بعض المتكلمين به ، ومنعه الأستاذ أبو إسحاق وغيره من أئمتنا ؛ وهو الحقّ ؛ فإن المباينة بين الشيئين من جهة تستدعى إمكان المجاورة بينهما من تلك الجهة ، ومجاورة الجوهر لجوهر من جهتين محال. فلا يقال إنه إذا جاوره من إحدى الجهتين ، أنه مباين له من الجهة الأخرى.

ومنها : أنه يجوز تقدير الافتراق ؛ والمباينة فى جملة جواهر العالم حتى لا يوجد منها ما هو مجتمع مع غيره بتقدير تبدّدها ، وزوال تركيبها. ولا يجوز تقديرها مجتمعة حتى لا يكون منها ما هو مفارق ؛ فإنها بتقدير تركبها واجتماعها ، فالصفحة العليا منها لم تحط به الجواهر من كل الجهات ؛ فكل جوهر منها مفارق من بعض جهاته (٢).

ومنها : أن الجوهر الفرد لا يتصور أن يكون مباينا لجملة جواهر العالم ؛ لأن المباينة تستدعى إمكان المجاورة (٣).

__________________

(١١)/ / أول ل ٣٠ / أمن النسخة ب.

(١) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٤٦٠.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٤٦٠ ، ٤٦١.

(٣) قارن بما ورد فى الشامل ص ٤٦١.

٢٠٩

والجوهر الفرد ؛ فلا يتصور أن يكون مجاورا لأكثر من ستة جواهر فلا يتصور أن يكون مباينا لأكثر من ستة جواهر إما معينة ، أو غير معينة على اختلاف الأقوال فيه.

[وذلك لأن المباينة إنما تكون بتوسط الأحياز المحيطة بالجوهر الفرد بينه وبين باقى الجواهر ، وما يحيط به من الأحياز لا يزيد على ستة أحياز ؛ فلا يكون مباينا لأكثر من ستة جواهر] (١).

__________________

(١) ساقط من أ.

٢١٠

الفصل التاسع

فى اختلاف الأكوان وتماثلها ، وتضادها

وأعلم أن من لم يثبت المماسة ، كونا دائما بالجوهر [مغايرا للكون المخصّص للجوهر بحيزه (١)] : كالقاضى أبى بكر ومن نصر مذهبه ؛ أطلق القول بتضاد كل لونين (٢).

وذلك لأن كل كونين : إما أن يوجبا تخصيص الجوهر بحيّز واحد ، أو أن كل واحد منهما يوجب التخصيص بحيّز غير الحيّز الآخر

فإن كان الأول : فهما متماثلان ، والمتماثلان ضدّان ؛ ولا يتصور اجتماعهما ، بل وجودهما فى الجوهر لا يكون إلا بجهة التعاقب عليه ، كما إذا كان مستقرا فى حيز أكثر من زمان ؛ فالكون المتجدّد فى الزمان الثانى ؛ يكون مثلا للكون الموجود فى الزمان الأول ؛ لقيام كل واحد منهما مقام الآخر فى تخصيص الجوهر بذلك الحيّز.

وإن كان الثانى : فقد اختلف المتكلمون فيه.

فمنهم من قال : بتماثلهما ؛ لتماثل الحيّزين.

ومنهم من قال : باختلافهما ؛ لاستحالة قيام أحدهما مقام الآخر ؛ وهو الحق.

وعلى كل تقدير ؛ فهما ضدان (٣) لا يجتمعان.

فإنهما لو اجتمعا فى جوهر واحد : فإما أن يثبت تخصيص كل واحد منهما ، أو تخصيص أحدهما دون الآخر ، أو لا يثبت تخصيص واحد منهما.

فإن كان الأول : لزم كون الجوهر الواحد فى حيّزين معا. وهو محال.

وإن كان الثانى : فليس أحدهما أولى من الآخر.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٦٢.

(٣) الضدان : صفتان وجوديتان يتعاقبان فى موضع واحد ، يستحيل اجتماعهما كالسواد والبياض ، والفرق بين الضدين والنقيضين : أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان : كالعدم والوجود ، والضدين لا يجتمعان ؛ ولكن يرتفعان : كالسواد والبياض. [التعريفات للجرجانى ص ١٥٥].

٢١١

كيف وأن ما لم يثبت تخصيصه ؛ يلزم خروجه عن صفة نفسه ، فإنه لا معنى للكون غير المخصص ؛ وذلك محال.

وإن كان الثالث : فيلزم منه خروج الجوهر عن أن يكون مختصا بالحيّز ؛ وهو محال.

ومع ذلك يلزم منه خروج كل واحد من الكونين عن الكونية ؛ وهو ممتنع.

وأما من جوّز قيام المماسات بالجوهر الواحد ، وجعلها أكوانا : كالشيخ أبى الحسن ، والأستاذ أبى إسحاق.

لم يطلق القول بتضاد كل كونين ؛ لأن المماسات عنده أكوان ، وليست أضدادا ؛ لاجتماعها فهى أكوان مختلفة ، غير متضادة ، ولا متماثلة.

والحق هو الأول ؛ لما سبق تحقيقه.

٢١٢

الفصل العاشر

فى اختلافات بين المعتزلة فى أحكام

الأكوان متفرّعة على أصولهم ، ومناقضتهم فيها (١)

الاختلاف / الأول :

اختلفوا فى بقاء الحركة ؛ مع اتفاقهم على بقاء الأعراض.

فذهب الجبائى ، وأكثر المعتزلة (٢) : إلى أن الحركة غير باقية ؛ محتجين على ذلك بأن الحركة عبارة عن الكون فى الحيّز بعد أن كان فى غيره.

والكون فى الحيّز الثانى بتقدير بقاء الجوهر فيه غير باق ؛ بل المتجدد فيه كون الآخر هو السّكون. والسّكون لا يكون هو نفس الحركة ؛ بل ضدها ، والحركة لا توجد مع ضدها.

ولأن الكون الأول فى الحيّز الثانى ؛ موجب للخروج من الحيّز الأول. والكون الثانى ليس كذلك ؛ فهما غيران.

وذهب أبو هاشم (٣) : إلى القول ببقاء الحركة ، وأن الكون الأول فى الحيّز الثانى هو الحركة ؛ وهو بعينه الكون فى الزمن الثانى الّذي هو السكون.

ولقائل أن يقول : أما ما ذكره الجبائى : فى تفسير الحركة ؛ فمسلم ؛ ولكن لم (١١) / / قال بامتناع بقائها؟

__________________

(١) انظر الشامل فى أصول الدين للإمام الجوينى ص ٤٧٩ ـ ٤٨٩.

ص ٤٧٩ فصل : مشتمل على اختلاف المعتزلة فى أحكام الأكوان.

ص ٤٨٦ فصل : من بقية أحكام الأكوان.

وانظر المواقف للإيجي ص ١٦٦ المقصد السابع : فى اختلافات للمعتزلة بناء على أصولهم.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل ص ٤٧٩ فقد ذكر رأى الجبائى وأكثر المعتزلة بالتفصيل. وانظر المواقف للإيجي ص ١٦٦ ليتضح مدى تأثره بالآمدي.

(٣) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٧٩ فقد ذكر رأى أبى هاشم فى بقاء الحركة بالتفصيل.

وانظر المواقف للإيجي ص ١٦٦ ليتضح مدى التأثر والتأثير. فإمام الحرمين متقدم على الآمدي ، والإيجى متأخر عنه.

(١١)/ / أول ل ٣٠ / ب.

٢١٣

قوله : الكون فى الزمن الثانى سكون ؛ مسلم.

ولكن ما المانع أن يكون الكون الواحد حركة ، وسكونا.

قوله : لأنهما ضدان.

قلنا : التضاد إنما هو بين الحركة عن الحيّز ، والسكون فيه ؛ لا بين الحركة إلى الحيز ، والسكون فيه ؛ على ما تقدم

قوله : الكون الأول فى الحيز الثانى موجب للخروج عن الحيّز الأول ، بخلاف الكون الثانى.

إنما يصح هذا الكلام أن لو كان الدخول فى الحيّز الثانى ؛ غير الخروج من الحيز الأول.

وليس كذلك ؛ بل الدّخول فى الحيّز الثانى ؛ هو عين الخروج من الحيّز الأول ؛ على ما تقدم تحقيقه.

وعلى هذا فلا يقال : إن الشيء يكون موجبا لنفسه.

فإن قيل : وإن تعدّدت هذه العبارة

فلا يخفى أن الكون الأول فى الحيّز الثانى ؛ هو عين الخروج من الأول ؛ بخلاف الكون الثانى.

فنقول : هذا إنما يصح أيضا أن لو ثبت تعدد الكونين ؛ وإلا فعلى تقدير أن يكون الكون الثانى ؛ هو عين الأول.

فإذا كان الأول : هو عين الخروج من الحيّز الأول ؛

فكذلك الكون فى الزمن الثانى.

وأما مذهب أبى هاشم : فابطاله بما قدمناه [من بيان استحالة بقاء الأعراض] (١).

__________________

(١) فى أ(من استحالة الأعراض) راجع ما تقدم فى الفرع الرابع : فى تجدد الأعراض واستحالة بقائها ل ٤٤ / ب وما بعدها.

٢١٤

الاختلاف الثانى

ذهب أبو هاشم ، وأكثر المعتزلة : إلى بقاء السكون من غير تفصيل (١).

وذهب الجبائى (٢) ، ومن نصر مذهبه : إلى بقاء السكون ؛ إلا فى صورتين.

الأولى : ما إذا هوى جسم ثقيل بما فيه من الاعتمادات ؛ فأمسكه الله تعالى فى الجو ، ولم يكن تحته ما / يقله ؛ فلا بد من تجدد السكون فيه.

وإنما قال ذلك ؛ لأن من أصله أن الطّارئ الحادث ، أقوى من الباقى ؛ فلو كان السكون باقيا ، لهوى الثقيل بالاعتمادات الطارئة الحادثة.

الصورة الثانية : السكون المقدور للحىّ.

فإنه قال : لا بد من تجدده ؛ فإنه لو بقى ، وأمر الحى بالحركة ولم يتحرك ؛ فهو مأثوم بالاجماع.

والإثم لا يكون على عدم الفعل على أصلهم ، والسكون المضاد للحركة إذا كان باقيا متجددا [فليس بمقدور ؛ فلا يكون مألوفا ؛ وهو خلاف الاجماع ؛ وهذا خلاف ما إذا كان السكون متجددا] (٣).

ولقائل أن يقول : أما ما صار إليه أبو هاشم من بقاء السكون مطلقا. فمع بطلانه بما ذكرناه من استحالة بقاء الأعراض ؛ فهو محجوج بما ذكره الجبائى فى تحقيق الصورة الثانية ، ولا محيص له عنه بناء على مقتضى أصولهم من ربط الثواب والعقاب ، بالأفعال المقدورة.

ومن أمر بالحركة ، ولم يفعلها مع بقاء السكون ؛ فما فعل شيئا وإلا فليس بضد من أضداد الحركة ؛ فلا يكون مأثوما ولو جاز ذلك مع عدم الفعل المقدور ؛ لما امتنع ذلك فى الفعل المكتسب على ما يراه الأشعرى ، ولم يقل به أحد منهم.

ولما التزم أبو هاشم التأثيم فى هذه الصورة على عدم الفعل ؛ لقبوه بالذمى

__________________

(١) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٤٨٠. والمواقف للإيجي ص ١٦٦.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٨٠. وانظر المواقف للإيجي ص ١٦٦ فقد لخص ما ذكره الآمدي هنا.

(٣) ساقط من أ.

٢١٥

وأما ما صار إليه الجبائى : من التفصيل : فباطل أيضا

أما الصورة الأول : فلأنه لا مانع مع إمكان بقاء السكون ، أن يخلق الله ـ تعالى ـ فى الجسم الثقيل الهاوى ؛ سكونا باقيا يكون به لبثه فى الهواء كلبثه بالسكنات المتجددة.

وما ذكره فى التقرير ؛ فقد سبق إبطاله

وأما ما ذكره من الصورة الثانية.

فإنها وإن كانت لازمة على أبى هاشم ، وغيره من المعتزلة القائلين ببقاء السكون كما ذكرناه ؛ فغير لازمة على أصولنا ؛ لما عرف فى التعديل والتجوير (١).

الاختلاف الثالث : (٢)

ذهب الجبائى إلى أن الحركة والسكون مدركان بحاسة البصر واللمس محتجا على ذلك بأن من نظر إلى الجوهر ، أو لمسه ، وهو مغمض العينين ؛ فهو ساكن ، أو متحرك فإنه يدرك التفرقة بين الحالتين ضرورة.

وخالفه أبو هاشم (٣) فى ذلك. واحتج على نصرة مذهبه بأن قال : لا معنى للحركة غير الكون فى الحيّز ، بعد أن كان فى غيره ؛ وذلك هو السّكون بعينه ؛ كما تقدم من مذهبه ولو كان ذلك مدركا [لكان مدركا] (٤) بخصوصيته من حيث أن الإدراك عندهم لا يتعلق بمطلق الوجود ؛ بل بخصوصية الشيء المدرك ، وخصوصية الكون.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الأول : فى التعديل والتجوير ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٨٣ قال : «ومما اختلفا فيه إدراك الأكوان : فذهب الجبائى إلى أن الحركة مدركة بحاسة البصر واللمس ، والسكون مدرك أيضا عنده بالحاستين».

وانظر المواقف للإيجي ص ١٦٦ فقد قال : «قال الجبائى : الحركة والسكون مدركان بحاسة البصر واللمس ؛ فإن من نظر إلى الجوهر أو لمسه مغمضا لعينيه وهو ساكن أو متحرك أدرك التفرقة بين الحالتين. ومنعه أبو هاشم : بأن الكون لو كان مدركا ؛ لكان مدركا بخصوصيته الخ».

وقد نقلت هذه النصوص من الشامل والمواقف لأوضح مدى التأثير والتأثر ؛ فقد تأثر الآمدي بالجوينى وأثر فى الإيجى.

(٣) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٤٨٣ قال : «وأبى أبو هاشم ذلك أشد الإباء ومنع تعلق الإدراك بالأكون».

(٤) ساقط من أ.

٢١٦

/ الأول : اختلفوا فى بقاء الحركة مع اتفاقهم على بقاء الأعراض.

فذهب الجبائى ، وأكثر المعتزلة : إلى أن الحركة غير باقية محتجين على ذلك بأن الحركة عبارة عن الكون فى الحيّز بعد أن كان فى غيره.

والكون فى الحيّز الثانى بتقدير بقاء الجوهرية غير باق ؛ بل المتجدّد فيه كون آخر هو السكون ، والسكون لا يكون هو نفس الحركة ؛ بل ضدّها ، والحركة لا توجد مع ضدها ، ولأن الكون الأول فى الحيّز الثانى موجب للخروج من الحيّز الأول ، والكون الثانى ليس كذلك ؛ فهما غيران.

وذهب أبو هاشم إلى القول ببقاء الحركة وأن الكون (١) الأول فى الأحياز المعينة غير مدركة.

ولهذا فإن راكب السفينة إذا كانت سهلة الجرى على الماء غير مضطربة ، لا يدرك التفرقة بين خصوصيات أكوانه فى الأحياز الهوائية المحيطة به المسدلة عليه ؛ وهو خارق لها ، بل ربما ظن كونه ساكنا غير متحرك عن حيّزه من الهواء المحيط به.

وكذلك أيضا فإن من كان فى الجو هاويا ، وأحيازه مسدلة عليه ، فلو غلبته عيناه وهو فى حيّزه ، وأنتقل منه إلى غيره حالة نومه ، ثم استيقظ ، وهو فى حيّزه ؛ فإنه لا يدرك اختلافا فى حالتيه مع القطع (١١) / / باختلاف الكونين المخصّصين له بالحيّزين.

ولو كان ذلك مدركا ؛ لأدركه كالورق وهو متلون بلون ، ثم استيقظ وهو متلون بغيره ؛ فإنه يدركه.

ولقائل أن يقول على حجة الجبائى :

ما المانع على أصلك أن يكون ما يجده الناظر من التفرقة راجع إلى انحراف الشعاع الخارج من العين ، وميله عن جهة اتصاله بسبب تزحزح الجوهر عن حيّزه ، فإنه لا يبعد على أصلك أن تختلف أحوال الشيء المدرك باختلاف أحوال الشعاع.

__________________

(١) من أول : «الأول : اختلفوا فى بقاء الحركة مع اتفاقهم على بقاء الأعراض ...... إلى قوله : ببقاء الحركة وأن الكون» ساقط من ب.

(١١)/ / أول ل ٣١ / أ.

٢١٧

ولهذا فإن من سدّد شعاعه فى جهة نظره ؛ فإنه يرى الشيء على ما هو عليه.

ولو ميل الشعاع إلى مؤخر أمامه ؛ فإنه يرى الشيء الواحد شيئين ، وإن كان الشيء المدرك لا اختلاف فيه أو أن يكون ما يجده من التفرقة بالنظر واللمس ، راجعا إلى اختلاف محاذيات الجوهر المدرك بالنظر واللمس ، وهذا قادح على أصول المعتزلة ، ولا محيص عنه.

وأما حجة أبى هاشم : وإن كانت لازمة على أبيه ؛ فغير لازمة على أصولنا ؛ لجواز أن يدرك المدرك أمرين ؛ ولا يدرك التفرقة بينهما.

الاختلاف الرابع :

ذهب الحبائى (١) : إلى أن الكون فى حالة عدمه يتصف بالحركة والسكون ؛ لأنه أخص وصف / الكون ذلك ، وأخص وصف الشيء ؛ يلزمه وجودا ، أو عدما.

وخالفه أبو هاشم فى ذلك : وقال : الحركة لا معنى لها إلا كون الجوهر فى مكان ؛ بعد أن كان فى غيره.

وذلك لا يتحقق دون قيام الكون بمحله ؛ وذلك لا يكون إلا فى حالة الوجود.

وإذا تقرر ذلك فى الحركة ؛ لزم مثله فى السكون ؛ لأن كل حركة سكون كما تقدم (٢).

وأعلم أن هذه التفاريع ؛ مبنية على كون المعدوم شيئا ، وبطلانها بطلانه ؛ كما يأتى (٣) :

ثم لقائل أن يقول : مع تسليم كون المعدوم الممكن شيئا.

أما على ما ذهب إليه الجبائى ؛ ما المانع أن يكون اتصاف الكون بالحركة ، والسكون مشروطا بالوجود ، كما قلت فى تحيّز الجوهر.

__________________

(١) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٤٨٥ فقد ذكر رأى الجبائى بالتفصيل فقال : «ومما اختلفا فيه : أن الحركة والسكون فى العدم هل يتصفان بصفة الحركة وسمة السكون : فالذى صار إليه الجبائى إطلاق القول بذلك طردا لقياسه فى تجنيس جملة الأعراض فى العدم ، ومنع أبو هاشم ذلك الخ».

(٢) راجع ما مر فى الفصل الخامس : فى تحقيق معنى الحركة والسكون ل ٥٣ / ب وما بعدها.

(٣) انظر ما سيأتى فى الباب الثانى ـ الفصل الرابع : فى أن المعدوم هل هو شيء وذاته ثابتة فى حالة العدم أم لا؟

ل ١٠٨ / ب وما بعدها.

٢١٨

ولو قيل له : ما الفرق بين البابين ؛ لم يجد إليه سبيلا.

وأما على ما ذهب إليه أبو هاشم (١).

فإنه لو قيل : إذا كانت الحركة والسكون من أخص وصف الكون ؛ كما أن قيام الجوهر بنفسه من أخصّ وصف الجوهر ؛

فما الفرق بين الأمرين ، حتى أنك أوجبت كون الجوهر قائما بنفسه فى العدم ، ولم توجب اتصاف الكون بالحركة والسكون فى حالة العدم ولم ألحقت الحركة والسكون ، بالتحيّز للجوهر دون قيامه بنفسه ، واستغنائه عن محلّ يقوم به ، لم يجد إلى دفعه سبيلا.

الاختلاف الخامس : (٢)

ذهب الجبائى إلى أن التأليف يدرك بحاسة البصر واللمس ، محتجا على ذلك بما ندركه من التفرقة بين الأشكال المختلفة باللمس ، والبصر ، وتمييز بعضها عن بعض ، وليس ذلك إلا بالنظر إلى التأليفات المختلفة ؛ فدل على أنها مدركة باللمس ، والبصر.

وذهب أبو هاشم فى آخر أقواله : إلى مخالفة أبيه فى ذلك ؛ محتجا عليه بأنه لو أدرك اللامس والمبصر ، تأليف الصفحة العليا من الجسم ؛ لأدرك تأليف الصفحة التى تحتها ؛ ضرورة قيام تأليف واحد لكل حيّزين من الصفحتين ؛ فلو رأى قيامه بالصفحة العليا ؛ لرأى قائما بالصفحة التى تحتها ؛ ضرورة اتحاده ، والحجتان مدخولتان.

أما حجة الجبائى : فلقائل أن يقول : وما المانع من أن يكون ما ندركه من التفرقة عائدا إلى اختلاف أجزاء الجوهر المرئى ، أو إلى اختلاف المجاورات المولدة للتأليف ؛ لا إلى نفس التأليف ؛ ولا محيص عنه.

وأما حجة أبى هاشم : فلقائل أن يقول عليها :

إذا جوزت قيام تأليف واحد بجوهرين ،

فما المانع من انقسامه إدراكا بحيث يكون مدركا من جهة قيامه بأحد الجوهرين ؛ دون الآخر.

__________________

(١) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٤٨٥ ، ٤٨٦.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٤٨٣ ، ٤٨٤. وانظر المواقف للإيجي ص ١٦٧ وشرح المواقف للجرجانى ٦ / ١٩٦.

٢١٩

وإن سلّم امتناع إدراك التأليف / الواحد من وجه دون وجه ؛ ولكن لا نسلم أن تأليف جواهر الصفحة العليا مع جواهر الصفحة السفلى مدركة ؛

بل المدرك إنما هو تأليف جواهر الصفحة العليا بعضها مع بعض ، كل واحد مع الّذي يليه من جوانبه من الصفحة العليا ، وتأليف كل واحد مع الآخر مرئى من كلا الطرفين ؛ ولا محيص عنه.

الاختلاف السادس : (١)

ذهب أكثر المعتزلة إلى أنه لا يشترط فى تولّد التأليف عن المجاورة رطوبة أحد المتجاورين ، ويبوسة الآخر ، ومنهم من شرط ذلك.

واحتج من قال بعدم الاشتراط بثلاث حجج :

الحجة الأولى : أنه لو كانت الرطوبة ، واليبوسة شرطا فى ابتداء التأليف ؛ لكانت شرطا فى دوامه : كالمجاورة ، وليس كذلك بدليل الصخور الصّم ، واليواقيت ونحوها.

الحجة الثانية : أنه لو اشترطت الرطوبة ، واليبوسة فى تأليف أحد الجوهرين بالآخر ؛ لكانت صفة كل واحد من الجوهرين مؤثره فى الثانى مع أنها لا تتعداه؟؟ ، وهو محال.

الحجة الثالثة : أن من أصل المعتزلة أن كل عرض (١١) / / لا يتعدى حكمه إلى غير محله.

فالتنبيه المخصوص غير مشترط فيه : كالسواد ، والبياض ، ونحوه. وكل عرض يتعدى حكمه إلى الجملة التى محله منها : كالعلم ، والقدرة ، ونحوه ؛ فلا بد له من البيّنة المخصوصة.

وحكم التأليف لا يتعدى محله ؛ فإن التأليف الواحد قائم بالجوهرين وحكمه ثابت لهما.

__________________

(١) قارن بما ورد فى المواقف للإيجي ص ١٦٧ فقد قال : «ذهب أكثر المعتزلة إلى أن مجاورة الرطب واليابس وإن ولدت التأليف فليست شرطا له .. الخ».

(١١)/ / أول ل ٣١ / ب من النسخة ب.

٢٢٠