أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

فلو كان حصول ذلك الجوهر فى حيّزه معللا بعرض قائم به ؛ لكان حصول ذلك الجوهر فى ذلك الحيّز ؛ تبعا لقيام ذلك المعنى به نظرا إلى أن المعلول تبع للعلة ؛ وهو دور ممتنع.

ويمكن أن يجاب عنه : بأن العرض وإن كان فى الحيّز تبعا لمحله فيه ؛ فحصول الجوهر فى ذلك الحيز ليس تبعا لحصول ذلك العرض فى ذلك الحيز ؛ ليلزم الدور ؛ بل تبعا له من جهة كونه علة مخصصة له بذلك الحيز.

ومع اختلاف جهة التوقف ؛ فلا دور.

وأما مذهب الأستاذ أبى إسحاق : فإنما يصح أن لو امتنع أن يكون المخصص للعرض بمحله فاعلا مختارا ؛ كما ذهب إليه الأصحاب ، والقول بامتناعه غير ضرورى والنظرى ؛ فلا بد له من دليل ؛ ولا دليل.

كيف وأنه لو جاز أن يكون المخصص للعرض بمحله ذاته وأن المغايرة بين المتخصص ، والمخصص غير مشترطة. فما المانع أن يكون اختصاص الجوهر ببعض الأحياز أيضا لذاته ؛ لا لكون زائد عليه.

ولو قيل له : ما الفرق لم يجد إليه سبيلا.

وأما المذهب الثالث : القائل بأن الكون وراء الحركة والسكون ، والاجتماع ، والافتراق ؛ فإنما يصح أن لو استدعى حصول الجوهر فى المكان أو بتقدير المكان كونا يخصصه به

وما المانع أن يكون المخصص له بذلك فاعلا مختارا ؛ كما سبق (١).

وإن سلم أنه لا بد فيه من كون يخصصه بالمكان ، أو تقدير المكان ، فلم قال : إنه خارج عن الحركة ، والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ مع أن العلم به غير ضرورى ، ولا دلّ عليه دليل والجوهر المفروض فى أول زمان حدوثه ،

فقد قال القاضى فيه إنه وإن لم تتحقق فيه الحركة ، والاجتماع والافتراق ؛ ففيه كون هو السكون.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ المسألة الثالثة ل ٦٤ / ب وما بعدها.

١٨١

قال : وليس السكون مما يشترط فيه اللبث ؛ / وإلا لما تصور وجود السكون أصلا ؛ إذ السكون عرض ، والعرض غير باق على ما سلف (١) ؛ وما لا بقاء له ؛ فاللبث فيه ممتنع.

بل الموجود فى الزمن الثانى ؛ إنما هو كون غير الكون فى الزمن الأول.

وإذا كان الثانى سكونا ؛ فالأول مثله.

فيجب أن يكون سكونا ، ولا يمكن أن نجعل المجموع هو الكون المعبر عنه بالسكون ؛ وإلا لما كان السكون معنى واحدا ؛ بل متعدّدا ولم يقل به أحد من المحصلين ؛ وهو متجه.

وقد قال : الأستاذ أبو إسحاق فى الجواب ما يؤول إلى جواب القاضى أيضا

وهو أن كون الجوهر فى أول زمان حدوثه سكون فى حكم الحركة ..

أما أنه سكون ؛ فلما سبق.

وأما أنه فى حكم الحركة : فمن جهة أنه غير مسبوق بكون آخر مثله فى ذلك الحيّز كما فى الحركة.

ثم وإن سلم أن كون الجوهر المفروض فى أول زمان حدوثه خارج عن الحركة ، والسكون ؛ فلا يلزم مثله فى الحالة الثانية ، وإلا فلو لزمت التسوية بين الحالتين ؛ لامتنع القول بوجود الحركة ، والسكون فى الحالة الثانية كما فى الأولى ؛ وهو محال.

والحق فى ذلك أن كل واحد من هذه المذاهب ممكن فى نفسه ، والقطع به غير واقع.

وإن كان الأشبه إنما هو مذهب الأصحاب بالنسبة إلى مذهب أبى هاشم ؛ لما فيه من التعليل الظاهر المعقول دون ما ليس ظاهرا ، ولا معقولا.

هذا ما عندى فى هذا الباب ؛ وعسى أن يكون عند غيرى خلافه.

وإذا ثبت أن الأكوان لا تحقق لها إلا بالنسبة إلى اختصاص الجوهر بالمكان ، أو تقدير المكان ؛ فلا بد من تحقيق وجود المكان ، ومعناه.

__________________

(١) راجع ما مر فى الفرع الرابع ل ٤٤ / ب وما بعدها.

١٨٢

الفصل الثانى

فى بيان وجود المكان (١)

أجمع العقلاء على وجود المكان ؛ خلافا لطائفة من قدماء الفلاسفة فإنهم أنكروا وجود المكان ، وانكارهم يقارب جحد الضرورة وما هو المستقر فى الأذهان والعقول من الحكم بأن كذا فى مكان كذا ويدل عليه أمران :

الأول : أنا قد نشاهد بعض الأجسام فى بعض الأوانى وزواله عنه ، وتعاقب آخر له فيه.

ونعلم ضرورة أن الجسم الثانى قد حل فى مكان الأول حالا فيه ، وليس ذلك المحل من ذاتيات أحد الجسمين ، ولا عرضياته اللازمة ، وإلا لما تصور فيه الاستبدال

/ فإذن هو أمر خارج ؛ وهو المعنى بالمكان (٢).

الثانى : هو أنا قد نشاهد حركة الجسم ، وانتقاله من جهة إلى جهة أخرى ، وذلك لا يتصور إلا بالانتقال من شيء إلى شيء وليس ما عنه الانتقال ، وإليه من الصفات الذاتية والعرضية اللازمة.

إذ لا انتقال عنها ؛ فما عنه الانتقال وإليه ؛ هو المعنى بالمكان.

فإن قيل : الحركة (٣) والانتقال لا تتوقف على المكان لوجهين :

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما أورده الآمدي هاهنا :

انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى ٢ / ١١٦.

والشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٤٤ وما بعدها.

والمواقف للإيجي ص ١١٣ ـ ١٢٠ وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ١١٥ ـ ١٦٢.

المقصد التاسع : المكان وهو من الكم المتصل.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٥٢ ـ ٦٤ المبحث الثالث : فى المكان.

وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ٨١ ـ ٨٥ المبحث الخامس : فى المكان.

(٢) المكان : عرفه الآمدي فقال : «وأما المكان : فعبارة عن السطح الباطن من الجرم الحاوى المماس للسطح الظاهر من الجرم المحوى. كالسطح الباطن من الكوز المماس للسطح الظاهر من الماء الموضوع فيه».

[المبين للآمدى ص ٩٦].

(٣) الحركة : عرف الآمدي الحركة فقال : «وأما الحركة : فعبارة عن كمال بالفعل لما هو بالقوة من جهة ما هو بالقوة ؛ لا من كل وجه ؛ وذلك كما فى الانتقال من مكان إلى مكان ، والاستحالة من كيفية إلى كيفية».

«وأما السكون : فعبارة عن عدم الحركة فيما من شأنه أن تكون فيه تلك الحركة» [المبين للآمدى ص ٩٥].

١٨٣

الأول : أنه لا معنى للحركة والانتقال ، غير الاستبدال بالقرب ، والبعد عن الشيء.

فلو كان ذلك مما يوجب المكان للجسم ؛ لأوجبه للنقطة ؛ لتحقق هذا الاستبدال بالنسبة إليها.

والنقطة فلا مكان لها لوجهين :

الأول : أنها أمر عدمى ؛ إذ هى قبل الخطّ وانتهاؤه.

والمعنى العدمى ؛ لا يكون فى مكان.

الثانى : أنها لو كان لها مكان ؛ لكان مساويا لها ، والمساوى للنقطة نقطة ، وليس جعل إحداهما مكانا للأخرى بأولى من العكس.

الوجه الثانى : فى بيان أن الحركة لا تتوقف على المكان ؛ لأنها لو توقفت على المكان ؛ لكان المكان علّة لها ، ولو كان علة لها : فإما أن يكون علّة فاعلية ، أو صورية ، أو قابلية ، أو غائية.

فإن كان الأول : فإما فاعل بالطبع ، أو الإرادة :

الأول : محال ، وإلا فالفاعل : إما ما عنه الحركة ، أو إليه.

فإن كان ما عنه الحركة ؛ فهو محال.

وإلا لما يتصور السكون فيه.

وإن كان ما إليه الحركة ؛ فهو محال. وإلا لما تصور الانتقال عنه.

وإن كان فاعلا بالإرادة : فهو محال. والمكان غير مريد.

وإن كان علة صورية : فهو محال ،

إذ ليس المكان صورة للحركة ، وإلا لما تصورت الحركة عنه.

وليس علة قابلية : إذ القابل للحركة ؛ إنّما هو المتحرك.

وليس علة غائية : لأنه موجود قبل الوصول إلى التمام ؛ والغاية إنما توجد عند الوصول إلى التمام.

١٨٤

وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وجود المكان ، إلا أنه معارض بما يدل على عدمه.

وبيانه أنه لا يخلو : إما أن يكون المفهوم من المكان عدما ، أو وجودا.

فإن كان عدما : امتنع أن يضاف الجوهر الموجود بأنه فيه.

وإن كان وجودا : فإما أن يكون جوهرا ، أو عرضا.

فإن كان جوهرا : فإما معقول ، أو محسوس.

لا جائز أن يكون من الجواهر المعقولة ؛

إذ لا إشارة إليها ، ولا وضع لها. وما هذا شانه ؛ فلا يوصف بأنه متصل بالجسم المحسوس ، ولا منفصل عنه.

والمكان عند القائل / متصف باتصاله بالجسم المتمكن فيه تارة وبانفصاله عنه تارة.

ولا جائز أن يكون جوهرا محسوسا : لأنه إما أن يكون جسما ، أو لا يكون جسما

لا جائز أن يكون جسما ؛ وإلا لاستدعى مكانا آخر. ومكانه إما المتمكن فيه ، أو غيره.

فإن كان الأول : فهو دور.

وإن كان الثانى : فهو تسلسل ممتنع.

ولا جائز أن لا يكون جسما : فإن الجوهر المحسوس إما أن يكون مركبا أو غير مركب.

لا جائز أن يكون غير مركب : إذ هو مطابق للجسم المركب ، والمطابق للمركب لا يكون الا مركبا.

وإن كان مركبا : فهو الجسم ، ويعود القسم الّذي قبله.

وإن كان عرضا : فلا بد له من موضوع يقوم به ، ويحل فيه ، ولو حلّ المكان فى محل لاشتق له منه اسم ، وعاد إليه منه حكم وقيل له متمكن كما يقال لموضوع السواد مسودا ، وموضوع البياض مبيضا ؛ ويلزم من ذلك أن يكون المكان عرضا قائما بالمتمكن.

١٨٥

ولو كان كذلك ؛ لكان المكان ملازما للمتمكن فى حركته ، وسكونه ؛ ضرورة كونه متقوما به. ولما تصور حركة المتمكن عن المكان ، ولا إليه.

وقد قيل : بأن المكان هو ما تقع الحركة عنه ، وإليه.

وهذه المحالات إنما لزمت من القول بوجود المكان ؛ فهو محال.

والجواب :

قولهم : لا معنى للحركة والانتقال غير الاستدلال بالقرب ، والبعد.

قلنا : مطلقا أو من حاصر يحصر المتنقل.

الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم.

وعلى هذا : فلا يلزم أن تكون النقطة بالتفسير المذكور مكانا ؛ إذ لا حاصر لها ؛ لكونها عدمية.

وقولهم : لو توقفت الحركة على المكان ؛ لكان المكان علة لها ؛ غير مسلم ، وما المانع أن يكون ملازما لها ؛ واللازم أعم من كونه علة ، ولا يلزم من وجود الأعم ، وجود الأخص.

وما ذكروه من المعارضة ؛ فباطل أيضا ؛ فإنه ما المانع أن يكون المكان جسما (١).

قولهم : يلزم أن يكون له مكان آخر ممنوع ؛ بل اللازم للجسم : إما المكان ، أو تقدير المكان ، ولا تسلسل.

وإن سلمنا : امتناع كونه جسما ، فما المانع من كونه عرضا (٢).

قولهم : لو كان عرضا ؛ لكان موضوعه متمكنا ، ليس كذلك ؛ فإن مصدر المتمكن ليس هو المكان ؛ بل التمكن ؛ وهو غير المكان. وموضوع المكان على هذا لا يقال له متمكن ؛ ضرورة قيام المكان به.

وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكروه من الإشكال.

__________________

(١) الجسم : فعبارة عن المؤتلف عن جوهرين فردين فصاعدا. [المبين للآمدى ص ١١٠].

(٢) العرض : عبارة عن الموجود فى موضوع. [المبين للآمدى ص ١١٠].

١٨٦

الفصل الثالث

فى تحقيق معنى المكان (١)

وقد اختلف الناس فيه :

فمنهم من قال : هو ما يستقر / الشيء عليه : كمقعد الإنسان من الأرض وموضوع قيامه ، واضطجاعه.

وأما الفلاسفة فمختلفون :

فقال أفلاطون (٢) : مكان الجسم هيولاه. فإن المكان ما كان قابلا لتعاقب الأجسام عليه. وأول قابل للتعاقب ليس غير الهيولى (٣).

ومنهم من قال : مكان الجسم صورته (٤) ؛ إذ المكان حاو للمتمكن ، والصورة فأول حاو ومتجدد.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما أورده الآمدي هاهنا :

انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى ٢ / ١٣٠. والملل والنحل للشهرستانى ٢ / ٢٠٦ وما بعدها.

والمواقف للإيجي ص ١١٣ ـ ١٢٠ المقصد التاسع : فى المكان.

وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ١١٥ وما بعدها.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٥٢ ـ ٦٤ المبحث الثالث : فى المكان.

وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ٨١ ـ ٨٥ المبحث الخامس : فى المكان.

(٢) أفلاطون : ولد (أفلاطون) فى أثينا ، أو فى (إيجين) فى سنة ٤٢٨ قبل المسيح عليه‌السلام. واسم أبيه أرسطن بن أرطوقيس.

وهو من أسرة عريقة : فنسبه من جهة أبيه يتصل ب (كودروس) آخر ملوك أثينا ، ومن جهة أمه يرجع إلى (سولون) أحد الحكماء السبعة. ولما بلغ العشرين من عمره تتلمذ على يد (سقراط).

ومن أشهر تلاميذه : المعلم الأول (أرسطو).

وله ما يقرب من خمسة وعشرين مؤلفا : من أشهرها : الجمهورية. وتقع من عشرة أجزاء. والسياسة ، ومحاوراته وتوفى سنة ٣٢٧ قبل الميلاد.

(راجع : إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى ص ١٧ ، وطبقات الأطباء ص ٢٥ ، والفلسفة الإغريقية للدكتور محمد غلاب ص ١٨٦ وما بعدها).

(٣) الهيولى : لفظ يونانى بمعنى الأصل والمادة. وفى الاصطلاح هى جوهر فى الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال محل للصورتين الجسمية والنوعية. [التعريفات للجرجانى ص ٢٨٧].

(٤) الصورة : صورة الشيء هى ما يؤخذ منه عند حذف المشخصات ، ويقال صورة الشيء ما به يحصل الشيء بالفعل.

والصورة الجسمية : هى جوهر متصل بسيط لا وجود لمحله دونه ، قابل للأبعاد الثلاثة المدركة من الجسم فى بادئ النظر ، أو هى الجوهر الممتد فى الأبعاد كلها ، المدرك فى بادئ النظر بالحس.

والصورة النوعية : هى جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه [التعريفات للجرجانى ص ١٥٤].

١٨٧

ومنهم من قال مكان الجسم هى الأبعاد التى من غاياته.

ومنهم من قال : المكان هو السطح الباطن للجسم الحاوى المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوى عليه : كالسطح الباطن من الكون المماس للسطح الظاهر من الماء الّذي هو فيه ؛ وهو عرض.

ومنهم من قال : المكان هو الخلاء ، وفى هذه المذاهب نظر.

أما المذهب الأول : فإنه يوجب أن لا يكون السهم النافذ فى الهواء الطائر فيما بين السماء والأرض. وكذلك الحجر المتحرك بالقسر إلى جهة فوق فى مكان إذ ليس له فى تلك الحالة موضع يستقر عليه ؛ وهو ممتنع.

فإنا نشاهده متحركا ، متنقلا ، والحركة لا بد وأن تكون عن شيء ، إلى شيء وما عنه الانتقال وإليه ؛ هو المكان كما سبق فى الفصل الّذي قبله (١).

ولهذا يصح أن يقال : إنه متنقل من مكان إلى مكان.

وأما المذهب الثانى ، والثالث : وهما القائلان بأن مكان الجسم هيولاه أو صورته فمبنى على أن الجسم مركب من الهيولى والصورة ، وقد أبطلناه (٢).

وإن سلم أن الجسم مركب من الهيولى والصورة ؛ فيمتنع أن يكون كل واحد منهما مكانا للجسم ؛ وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن كل واحد منهما جزء من الجسم ؛ والشيء لا يكون فى جزئه.

الثانى : أن الجزء من الكل داخل فى مكان الكل ، فلو كان الجزء هو مكانا للكل ؛ لكان الشيء الواحد مكانا لنفسه ، ومتمكنا فيه ؛ وهو محال.

الثالث : أنه يمكن أن يقال بانتقال الجسم عن مكانه وإن كانت المادة والصورة من الجسم بحالهما ، وليس يلزم من الاشتراك المكان والهيولى فى إمكان التعاقب عليهما أن يكون هيولى الجسم مكانا ، وإلا لامتنع اشتراك المختلفات فى عارض واحد.

__________________

(١) راجع ما مر فى الفصل الثانى ل ٤٩ / ب وما بعدها.

(٢) راجع ما مر ل ١٨ / ب وما بعدها. الفصل الأول : فى تحقيق معنى الجسم.

١٨٨

ولا يلزم من اشتراك المكان والصورة فى أن كل واحد منهما حاو أن تكون صورة الجسم مكانا ؛ لما حققناه فى الهيولى (١).

كيف وأن المكان ليس مطلق حاو ؛ بل ما كان حاويا منفصلا عن المحوى ؛ وليست الصورة كذلك.

وأما المذهب الخامس : القائل بأن المكان هو الأبعاد التى بين غايات الجسم فمردود / من جهة أن المكان مما يصح الانتقال عنه ، وإليه والأبعاد التى هى غايات الجسم ليس كذلك ؛ إذ هى ملازمة للجسم غير مفارقة له.

كيف وأنا لا نسلم أن تلك الأبعاد خارجة عن الجواهر المتصلة التى هى طرف الجسم ، وهى جزء منه ؛ وجزء الشيء لا يكون مكانا للشىء على ما تقدم.

وعلى هذا : فقد بطل المذهب الخامس أيضا.

وأما المذهب السادس : القائل بأن المكان هو الخلاء فالنظر فيه يتوقف على تحقيق الخلاء (٢) وبيان معناه.

والخلاء : قد يطلق بمعنى عدم الملاء ، فيكون عدما صرفا ؛ كما حققناه فيما وراء كرة العالم.

وعلى هذا : فلا يكون الخلاء بهذا الاعتبار مكانا للجسم ؛ إذ المكان ما يمكن الإشارة إليه ؛ فإنه يصح أن يقال : الجسم فى هذا المكان ، والعدم المحض لا إشارة إليه.

ولأن المكان مما يصح أن يوصف الجسم بأنه فيه ، وأنه منتقل عنه وإليه ؛ وذلك غير متصور فى العدم المحض.

كيف وأن الخلاء بهذا الاعتبار ما لم يعرف قائلا قال بكونه مكانا للجسم.

وقد يطلق الخلاء ويراد به البعد القائم لا فى محل من شأنه أن تتعاقب عليه الأجسام وتملأه ، والخلاء بهذا الاعتبار مختلف فى إثباته ، وفى كونه مكانا.

__________________

(١) راجع ما مر فى النوع الثالث : فى الجسم وأحكامه. الفصل الأول : فى تحقيق معنى الجسم ل ١٦ / ب وما بعدها.

(٢) عرف الآمدي الخلاء فقال : «وأما الخلاء : فعبارة عن بعد قائم لا فى مادة من شأنه أن يملأه الجرم.

١٨٩

وقد احتج القائل. أما على إثباته : فإنا لو فرضنا عدم الملاء فيما بين السماء والأرض ، ورفعناه عن الذهن ؛ فإنا لا نشك فى أن بين السماء ، والأرض بعدا لو فرضت فيه الأجسام ؛ لملأته ويمكن نفوذه : كالسهم وغيره.

وأما على كونه مكانا للأجسام ؛ فمن وجهين :

الأول : أنه إذا لم يكن الجسم متحركا عن مكانه ؛ فهو ساكن فيه. فلو لم يكن مكان الجسم هو الأبعاد بالتفسير المذكور ؛ بل السطح الحاوى ، أو الجسم المحيط ؛ لكان الجسم المستقر فى قعر الماء الجارى ، والواقف فى الهواء السيال لتبدل المحيط به وتجدده مما يمنع عليه أن يكون متحركا لوقوفه ، وأن يكون ساكنا مع تبدل مكانه ؛ وذلك محال بخلاف ما إذا كان المكان هو الأبعاد المذكورة.

الثانى : أنه لو لم يكن المكان هو الخلاء بالتفسير المذكور ؛ لكان لكل جسم مكان ؛ ضرورة تناهى الأجسام.

وأما النافي لذلك ؛ فإنه قال : البعد المفروض : إما أن يكون وجوديا ، أو عدميا.

فإن كان وجوديا : فإما أن يكون غير متناه ، أو متناه.

فإن كان الأول : فهو محال ؛ لما تقدم فى تناهى الأبعاد (١).

وإن كان متناهيا : فإما أن يكون قائما بنفسه ، أو لا يكون / قائما بنفسه.

فإن كان قائما بنفسه : فهو جوهر. وإن لم يسم باسم الجوهر.

وهو إما أن يكون محسوسا ، أو غير محسوس.

فإن كان محسوسا : فهو متجزئ ؛ ضرورة مطابقته للجسم المتجزئ وهو المعنى بالجسم. فإن لم يسم باسم الجسم ؛ فيكون المكان بهذا الاعتبار جسم لا غيره.

وإن لم يكن محسوسا ؛ بل معقولا محضا : فلا يكون واقعا فى امتداد الإشارة إليه ؛ ولا يصح اتصاف الجسم المحسوس بكونه فيه ، ومتصلا به ومنفصلا عنه ؛ وليس المكان كذلك ؛ على ما سبق (٢).

__________________

(١) راجع ما سبق فى النوع الثالث ـ الفصل الثانى : فى أن أبعاد الأجسام متناهية ل ٢١ / ب وما بعدها.

(٢) راجع ما سبق ل ٤٩ / ب وما بعدها.

١٩٠

وإن لم يكن قائما بنفسه : فهو عرض ، والعرض فلا بد له من موضوع يقوّمه ؛ وقد قيل إن الخلاء ليس كذلك.

وإن كان عدميا : فالعدم لا يكون مكانا للجسم ؛ لما حققناه فيما إذا كان معقولا محضا.

ثم اعترض على ما قيل من الحجة الأولى ، وعلى الحجة الثانية أنها إنما تلزم أن لو كان لكل جسم مكانا ، وليس كذلك.

وعلى هذا : فالأشبه بالمكان أنه السطح على ما قال به الفلاسفة أو ما هو اللائق بأصول أصحابنا : أن المكان إنما هو الجواهر المجتمعة المحيطة بالجوهر ، أو الجسم المحاط به.

وإن كنت لم أجد فى ذلك عنهم نصا ، لا فى هذا ولا غيره ، فيما يرجع إلى معنى المكان ، ولعل غيرى أطلع عليه.

١٩١

الفصل الرابع

فى أن المكان هل يخلو عن المالى له أم لا؟ (١)

اتفق أصحابنا ، وجماعة من المتكلمين ، وبعض قدماء الفلاسفة : على جواز خلو المكان عن المالى له.

وذهب المتأخرون من الفلاسفة ، والجم الغفير منهم ، وجماعة من المتكلمين :

إلى إمكان ذلك حتى زعم بعض الكرّاميّة (٢) أنه لو ارتفعت الوسائط فيما بين السماء والأرض ؛ لاصطك جرم السماء والأرض ، متحركا كل واحد إلى الآخر.

احتج من قال بالجواز : بحجج :

الأول : أنه لو امتنع خلو المكان عن الملاء ؛ للزم منه امتناع حركات الأجسام فى العالم فيما بين السماء والأرض ؛ وهو خلاف المشاهد المحسوس.

وبيان الملزوم : أنه يلزم من تحرّك الجسم : إما مداخلته لما يليه من الأجسام ، أو مدافعته.

والأول : محال لما سبق (٣).

والثانى : يلزم منه : إما أن ينتقل المدفوع إلى مكان الدافع ، أو إلى مكان غيره.

فإن كان الأول : فلا يتصور انتقال الأول إلى مكان الثانى حتى يخلو منه. ولا يتصور انتقال الثانى عن مكانه ؛ وهو دور.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى :

الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٥٠٨ ، ٥٠٩.

والمواقف للإيجي ص ١١٣ ـ ١٢٠ المقصد التاسع : فى المكان.

وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ١١٥ ـ ١٦٢ المقصد التاسع : المكان وهو من الكم المتصل.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٥٢ ـ ٦٤ المبحث الثالث : فى المكان.

وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ٨١ ـ ٨٥ المبحث الخامس : فى المكان.

(٢) راجع عنهم ما مر فى الجزء الأول هامش ل ٦٥ / أ.

وأما عن آرائهم فانظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة.

(٣) راجع ما مر فى النوع الأول ـ الفصل الخامس : فى أن الجواهر لا تتداخل ل ٦ / ب.

١٩٢

وإن كان الثانى : لزم أن يحرك ما يليه لما يليه ، وهلمّ جرا إلى أن يتصل تحرك الأجسام بكرة الثوابت ؛ وهذا أيضا محال خلاف المشاهد.

الثانية : أن النمو لا / يكون إلا بدخول الخط بين أجزاء الثانى ولا دخول له فى غير الخلاء.

الثالثة : أنا نشاهد الجسم متخلخلا بعد التكاثف ، ومتكاثفا بعد التخلخل من غير زيادة فى أجزائه ، ولا نقص ؛ وليس ذلك إلا بسبب الخلاء ، وتباعد أجزائه ، وانضمامها.

الرابعة : أنا لو فرضنا سطحين مستويين انطبق أحدهما على الآخر بتمامه. ثم فرضنا ارتفاع أحدهما عن الآخر دفعة ؛ فهو ممكن ويلزم من ذلك حصول الخلاء (١) فى وسط ذينك السطحين إلى أن يتصل الملاء من الطرفين إلى الوسط.

وربما احتجوا باستبصارات أخرى منها :

أن الإناء المملوء رمادا يمتنع معه فيه ملوه ماء. وكذلك الدّن المملوء شرابا إذا أخذ ما فيه ، ووضع فى زقّ وسعهما ولو لا الخلاء ؛ لما كان كذلك.

وأما النفاة فقد احتجوا بحجج أيضا :

الأولى : أنه لو تصوّر الخلاء فلو فرض أن متحركا تحرك لقطع مسافة فى الخلاء وبمثل تلك الحركة ؛ لقطع مثل تلك المسافة فى ملاء فإن قطعه لمسافة الخلاء يكون أسرع من قطعه لمسافة الملاء وفى زمان أقل من زمان الملاء ؛ ضرورة المعاوق له فى الملاء وعدمه فى الخلاء.

وعند ذلك : فلو فرض ملاء أرق من الملاء الأول نسبته فى الممانعة إليه كالنسبة الواقعة بين زمن المتحرك فى الخلاء والمتحرك فى الملاء الأول ؛ فيلزم أن يكون قطع المتحرك للمسافة فى الملاء الأرق بمثل الحركتين السابقتين عاملا لقطع المتحرك فى الخلاء ؛ ضرورة التساوى فى النسبة. ومحال أن يتساوى ، ما له معاوق ، بما ليس له معاوق. وهذا المحال : إنما لزم من الخلاء ؛ فلا خلاء.

__________________

(١) عرف الآمدي الخلاء فقال : «وأما الخلاء فعبارة عن بعد قائم لا فى مادة من شأنه أن يملأه الجرم» [المبين للآمدى ص ٩٦].

١٩٣

الحجة الثانية : قالوا : إنا نشاهد وقوف ذوات التجاويف على المادة بسبب تعلق الهواء. بقعرها ونتوء اللحم الممصوص بالقارورة. وكذلك السحارة المملوءة ماء إذا سدّ رأسها لا ينزل منها الماء ؛ بخلاف ما إذا فتح رأسها.

وكذلك نشاهد بقبقة الكوز الضيق الرأس ؛ إذا صب منه الماء ؛ لدخول الهواء فيه ؛ ليكون بدل ما ينزل من الماء ؛ وليس ذلك الّا بسبب امتناع الخلاء.

وفى حجج المذهبين نظر :

أما الحجة الأولى : على جواز الخلاء ، فلقائل أن يقول : ما المانع من الحركة من غير مداخلة ، ولا مدافعة ؛ وذلك بأن يعدم الله ـ تعالى ـ ما يلى الجسم المتحرك من الأجسام حالة حركته شيئا ، فشيئا ويخلق ما يملأ حيزه المتفرغ منه حالة خلوه منه شيئا فشيئا ، إلى حيّز سكونه.

وأما حجّة / النمو (١) فلقائل أن يقول : ما المانع أن يكون النمو زيادة أبعاد الجسم ل ٥٣ / أالثانى : بأن يخلق الله ـ تعالى ـ زيادة أخرى فى أقطار الجسم شبيهة به عند الأكل ، والشرب ، بحكم جرى العادة من غير خلو بين أجزاء المغتدى وبتقدير أن تكون الزيادة ، والنمو من أجزاء المغذى فما المانع من مدافعتها لأجزاء الثانى إلى غير أحيازها ، وحصول أجزاء المغذى فى أحيازها ، ولا يلزم منه المدافعة لما يلى أجزاء الثانى من الأجسام عن أماكنها ؛ لما سبق فى الحجة الأولى (٢).

وأما حجة التكاثف والتخلخل (٣) : فلقائل أن يقول : ما المانع أن يكون التخلخل بخلق الله ـ تعالى ـ أجزاء زائدة فيه. والتكاثف باعدام بعض أجزائه ؛ لا أنه بسبب الخلاء.

وأما حجة السطحين : فما المانع أن يخلق الله ـ تعالى ـ مع ارتفاع أحدهما عن الآخر بينهما المالى لما بينهما ؛ لا بأن يكون واحدا من الطرفين.

__________________

(١) عرف الآمدي النمو فقال : «وأما النمو فعبارة عن زيادة أقطار الجسم بما يرد عليه من الغذاء ويستحيل شبيها به» (المبين للآمدى ص ١٠١).

(٢) راجع ما مر ل ٥٢ / أوما بعدها.

(٣) التكاثف : هو انتقاص أجزاء المركب من غير انفصال شيء.

وأما التخلخل : فهو ازدياد حجم من غير أن ينضم إليه شيء من خارج وهو ضد التكاثف. [التعريفات ص ٦٣ ، ٧٣].

١٩٤

وأما حجة الرماد دون الشراب فغير صحيحة ؛ فإنها خلاف ما دل عليه الاعتبار. وبتقدير الصحة ؛ فلا مانع أن يكون الرّب ـ تعالى ـ قد أعدم بعض أجزاء الرماد ، أو الشراب حتى صار غيره فى مكانه.

وأما الحجة الأولى على امتناع الخلاء فمبنية على أن المتحرك فى الخلاء. إذا قطع المسافة فى نصف يوم مثلا ، والمتحرك فى الملاء الأكثف قطعها فى يوم مثلا. وكان الملاء الأرق فى المانعة على النصف من الملاء الأكثف أنه يجب أن يكون المتحرك فى الملاء الأرق قد قطع المسافة فى نصف يوم ؛ ضرورة أن المانع فيه على النصف منه فى الملاء الأكثف ، وليس كذلك ؛ بل إنما يقطعها عند التقدير فى ثلاثة أرباع يوم.

وذلك أنا لو قدرنا عدم المانع فى الملاء الأرق ؛ لكان قطعه للمسافة فى نصف يوم. ولم يظهر تأثير المانع فى الملاء الأكثف إلا فى زيادة نصف يوم.

فإذا كان المانع فى الملاء الأرق على النصف منه فى الملاء الأكثف ، فيظهر مما نعته فى نصف ما أثرت فيه ممانعة الأكثف ؛ وذلك ربع يوم.

وعلى هذا فلا مساواة بين المتحرك فى الخلاء ، والملاء الأرق.

وأما باقى الحجج فضعيفة ؛ إذ لا مانع أن يقال :

ذلك كله إنما هو بفعل فاعل مختار (١) بحكم جرى العادة كما فى الشبع عند الأكل والرى عند الشرب للماء أما أن يكون ذلك لامتناع / الخلاء فلا.

وعلى هذا فالمسألة من الطرفين غير يقينية عندى ، ومن ظهر له اليقين ؛ فعليه باعتقاده.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى : فى أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه ل ٢١١ / ب وما بعدها.

١٩٥

الفصل الخامس

فى تحقيق معنى الحركة والسكون (١)

وقد اختلف فيهما : والّذي عليه إجماع الفلاسفة أن الحركة معنى وجودى وعبروا عنها بأنها استبدال حالة قارة فى المحل بأخرى يسيرا يسيرا ، لا دفعة واحدة ، وأنها قد تكون فى المكان ؛ كالحركة من مكان إلى مكان ، وفى الكيف : كالتسود والتبيض ، وفى الكم : كالنمو أو الذبول ، والتكاثف ، والتخلخل ونحو ذلك.

وأما السكون : فعبارة عن عدم الحركة ، فيما من شأنه أن يكون قابلا للحركة ، حتى أن ما لا يكون قابلا للحركة وإن لم يكن متحركا : كالإله ـ تعالى ؛ فإنه لا يكون ساكنا.

وما ذكروه فى رسم الحركة ؛ فغير صحيح.

فإنا لو فرضنا مكانين لا يفصلهما ثالث ، وفرضنا جوهرا تحرك من أحدهما إلى الآخر : فإما أن يقال بأن تلك الحركة متجددة ، أو غير متجددة.

فإن قيل بالتجدد : فكل جزء منها ؛ فلا بد وأن يقطع جزءا ، أو مكانا غير ما يقطعه الآخر ؛ ويلزم من ذلك أن يكون بين المكانين المفروضين ، أمكنة أخرى ؛ وهو خلاف الفرض.

وإن قيل بعدم التجدد : فلم يصح ما ذكروه فى حدّ الحركة من الاستبدال يسيرا يسيرا.

وأما ما ذكروه فى تفسير السكون ؛ فسيأتى إبطاله فيما بعد (٢).

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا :

انظر : مقالات الإسلاميين للأشعرى ٢ / ٢١ ، ٢٢ ، ٢٣ ، وشرح الأصول الخمسة ص ٩٦. والشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص ١٩٠ ، ١٩١.

والمواقف للإيجي ص ١٦٧ وما بعدها ، وشرح المواقف للجرجانى ٦ / ١٩٨ وما بعدها. وقد عرّف الآمدي الحركة والسكون فقال : «أما الحركة فعبارة عن كمال بالفعل لما هو بالقوة من جهة ما هو بالقوة ؛ لا من كل وجه ؛ وذلك كما فى الانتقال من مكان إلى مكان والاستحالة من كيفية إلى كيفية. وأما السكون : فعبارة عن عدم الحركة فيما من شأنه أن تكون فيه تلك الحركة (المبين للآمدى ص ٩٥).

(٢) انظر ما سيأتى ٥٩ / أوما بعدها.

١٩٦

وأما ما يتعلق بالحركة والسكون من التفاصيل ، والأحكام على أصولهم ؛ فقد استقصيناه فى دقائق الحقائق (١) ، وغيره من كتبنا ، وحققنا ما فيه ؛ فعليك بمراجعته.

وأما أصحابنا وأكثر العقلاء : فقد اتفقوا على أن اسم الحركة والسكون ، لا يطلق على غير الحصول فى المكان ، والخروج عنه.

ثم اتفق القائلون بالأكوان على أن الجوهر إذا كان فى مكان ، وخرج منه ودخل فى مكان آخر. أن الخروج من الأول ، هو عين الدخول فى الثانى ، والدخول فى الثانى عين الخروج من الأول ، لا أنه غيره.

واتفقوا على أن الخروج من الأول ، والدخول فى الثانى حركة. وأن السكون الثانى فى الزمان الثانى : إما فى المكان الأول ، أو المكان الثانى سكون واختلفوا فى الكون الأول ، فى أول زمان حدوث الجوهر ، وفى السكون الأول فى المكان الثانى ، وهو الدخول فيه ؛ هل هو سكون ، أم لا؟

فذهب المتحدثون من أصحابنا وغيرهم : إلى أنه سكون ، ووصفوه بالحركة والسكون معا ، وقالوا : الخروج / عن الأول ، والدخول فى الثانى حركة عن الأول إلى الثانى ، وسكون فى الثانى.

وبنوا على هذا الأصل صحة القول بأن كل حركة سكون ؛ لأن كل حركة لا بد وأن تكون دخولا فى مكان. وليس كل سكون حركة ؛ وذلك كالكون الثانى فى المكان الأول أو الثانى.

وذهب آخرون من أصحابنا وغيرهم : إلى أن الكون الأول فى المكان الثانى ، لا يكون سكونا ؛ لكن من هؤلاء من اعترف مع ذلك بالتماثل بين الكون الأول والثانى ، فى المكان الثانى.

ومنهم من قال بالاختلاف.

احتج من قال بكونه سكونا : بأنه لا نزاع فى أن الكون الثانى ، فى الزمن الثانى سكون ؛ فالكون الأول أوجب اختصاص الجوهر بالمكان الثانى ، حسب ايجاب الكون الثانى له.

__________________

(١) أهم كتب الآمدي الفلسفية انظر عنه ما مر فى المقدمة.

١٩٧

ووجه اختصاصه به فى الحالة الثانية ، كما فى الكون الثانى والثالث ، فلو أمكن تقدير فرق بين الكون الأول والثانى مع الاتحاد فى ايجاب تخصيص الجوهر بذلك المكان ؛ لأمكن مثله فى الثانى ، والثالث ؛ وهو محال.

وإن قيل : بالتماثل ؛ فيلزم من كون الثانى سكونا. أن يكون الأول سكونا ؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين يكون ثابتا للآخر.

ومن لم يسمه مع ذلك سكونا ؛ فلا نزاع معه فى غير التسمية.

وأعلم أن القول بهذا المذهب ، والتمسك بهذا المسلك ، وإن سنده الأئمة من أصحابنا : كالقاضى ، والإمام أبى المعالى ، وغيرهما ؛ ففيه نظر ؛ إذ لقائل أن يقول : وان سلمنا أن الكون الثانى سكون ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم أن يكون الكون الأول سكونا.

وما ذكرتموه من الاشتراك بينهما مما لا يوجب التماثل بينهما ؛ فإنه لا مانع من اشتراك المختلفات ، والمتماثلات فى واحد.

كيف وأن الكون الأول ، هو عين الخروج من المكان الأول ، وهو أيضا حركة بالاتفاق منا ، ومنكم.

والكون الثانى ليس حركة ، ولا هو خروج عن المكان الأول ولو تماثلا ؛ لجاز أن يثبت لكل واحد منهما ، ما يثبت للآخر.

فهذا اشكال مشكل ، ولعل عند غيرى جوابه.

وربما قيل فى إبطال هذا المسلك طرق أخرى ، لا بد من الإشارة إليها ، والتنبيه على جوابها.

الأول : أنهم قالوا : الحركة مضادة للسكون ، كمضادة السواد للبياض فلو جاز أن يكون الكون الأول فى المكان الثانى سكونا مع كونه حركة ؛ لاجتمع المتضادات ، أو لما كانا ضدين. وكل واحد / من الأمرين محال.

والثانى : أنه لو جاز أن يكون الكون الأول سكونا ، فالسهم الدافع الحركة إذا لم يوجد منه فى كل مكان إلا كون واحد. فلو كان كل واحد من الأكوان المفروضة سكونا ، لزم أن يكون السهم فى حالة حركته ساكنا ؛ وهو محال.

١٩٨

والجواب عن الأول : أن المضادة بين الحركة والسكون ، ليست مطلقا حتى تكون الحركة كالمكان مضادة للسكون فيه ؛ بل عين الحركة إلى المكان هو عين السكون فيه.

وإنما التضاد بين الحركة عن المكان ، والسكون فيه ، ولا جرم لا يجتمعان.

الثانى : أن كل كون من الأكوان المفروضة ، وإن كان سكونا فى المكان الّذي إليه الحركة ؛ فلا يمتنع أن يكون حركة ؛ لما قررناه. وإن كانت الحركة عند كل واحد لا تكون سكونا فيه.

وعلى هذا : فمدار المذهبين على المماثلة بين الكون الأول والثانى وعدم المماثلة.

ولا يخفى أن القول بالاختلاف لما ذكرناه فى الإشكال أشبه ، وعليك بتخليص الحق من ذلك.

١٩٩

الفصل السادس

فيما اختلف فى كونه متحركا وبيان الحق فيه (١)

وقد اختلف فى ذلك فى صور.

الصورة الأولى (٢) : أنه إذا تحرك الجسم من مكان إلى مكان ، فقد اتفقوا على تحرك الجواهر الظاهرة منه ، لمفارقتها أحيازها.

واختلفوا فى الجوهر المتوسط الباطن منه. هل هو متحرك أم لا؟

فقال بعضهم : إنه متحرك ؛ لأنه لو لم يكن متحركا ؛ لكان ساكنا ولا واسطة فيما هو قابل للحركة ، والسكون ، بين الحركة والسكون.

ولو كان ساكنا مع حركة باقى الأجزاء ؛ لحصل الانفكاك ، والانفصال ؛ وهو خلاف المحسوس ؛ ولأن الحيز المحيط بكلية الجسم حيز له أيضا.

وإن لم يكن مماسا له ؛ إذ هو حيز حيزه ، والداخل فى الداخل داخل.

فإذن هو داخل فى حيز حيزه ؛ فيكون متحيزا به أيضا. وقد خرج عنه إلى غيره لا محالة ؛ فيكون متحركا عنه.

وقال بعضهم : إنه غير متحرك نظرا إلى أن حيزه إنما هو الجواهر المحيطة به ؛ وهو غير مفارق لها ، ولا منفصل عنها.

ثم اختلف هؤلاء فى المستقر فى السفينة المتحركة :

فمنهم من قال : إنه ليس. بمتحرك. كما فى الجوهر الباطن من الجسم المتحرك.

ومنهم من قال : إنه متحرك. وفرق بينه ، وبين الجوهر الباطن من الجسم المتحرك من حيث أن الجوهر لم يفارق المحيطة به بخلاف راكب السفينة ، فإنه مفارق للجواهر الهوائية المحيطة به ، وخارق لها ، وخارج منها من شيء إلى شيء ، وعلى هذا / فالحجر المستقر فى قعر الماء السيال ؛ لتبدل أحيازه عليه ؛ يكون متحركا.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة قارن بما أورده إمام الحرمين الجوينى فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٥٣ ـ ٤٥٥ فصل مشتمل على اختلافات فى أحكام الحركات راجعة إلى الألقاب والعبارات.

(٢) قارن ما أورده الآمدي فى الصورة الأولى بما أورده إمام الحرمين الجوينى فى الشامل ص ٤٥٤ ، ٤٥٥.

٢٠٠