تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - ج ١٣

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

الأمين ، فأحضره فمزّقه وقويت الوحشة (١).

إرسال المأمون الرسول بالبقاء على عهده للأمين

وأحضر المأمون رسل الأمين إليه وقال : إن أمير المؤمنين كتب إليّ في أمر كتبت اليه جوابه ، فأبلغوه بالكتاب ، واعلموا أنّي لا أزال على طاعته حتى يضطرني بترك الحقّ الواجب إلى مخالفته. فخرجوا وقد رأوا جدّا غير مشوب بهزل (٢).

نصائح أولى الرأي للأمين

ونصح الأمين أولو الرأي فلم ينتصح ، وأخذ يستميل القوّاد بالعطاء.

وقال له خازم بن خزيمة : يا أمير المؤمنين ، لن ينصحك من كذبك ، ولن يغشّك من صدقك. لا تجرّئ القوّاد على الخلع فيخلعوك ، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا بيعتك وعهدك ، فإنّ الغادر مغلول ، والناكث مخذول (٣).

بيعة الأمين لابنه موسى بولاية العهد

وفي ربيع الأول (٤) بايع الأمين بولاية العهد لابنه موسى ، ولقّبه الناطق بالحقّ ، وجعل وزيره عليّ بن عيسى بن ماهان (٥).

* * *

__________________

(١) الطبري ٨ / ٣٧٧ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٣٦.

(٢) تاريخ الطبري ٨ / ٣٨٠ ، ٣٨١.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ / ٢٢٨ وفيه «فإن الغادر مخزول ، والناكث مغلول» وكذلك في مروج الذهب ٣ / ٣٩٨ ، الأخبار الطوال ٣٩٦ ، خلاصة الذهب ١٧٥.

(٤) من سنة ١٩٥ ه‍. (الكامل في التاريخ ٦ / ٢٣٤) ، تاريخ الطبري ٨ / ٣٨٧ (١٩٤ ه‍.) ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٣٦.

(٥) تاريخ الطبري ٨ / ٣٨٧ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٣٥ ، خلاصة الذهب ١٧٦ ، البدء والتاريخ ٦ / ١٠٧ و ١٠٨ ، مروج الذهب ٣ / ٤٠٥.

٢١

وثوب الروم على ملكهم

وفيها وثب الروم على ميخائيل صاحب الروم فهرب وترهّب ، وكان ملكه سنتين ، فملّكوا عليهم ليون القائد (١).

__________________

(١) الطبري ٨ / ٣٨٧ ، ٣٨٨ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٣٧ ، التنبيه والإشراف ١٤٣ ، تاريخ الزمان ٢٠ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٢٥ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣١ ، تاريخ حلب ٢٣٨ (حوادث ١٩٥ ه‍.)

٢٢

سنة خمس وتسعين ومائة

توفّي فيها :

إسحاق بن يوسف الأزرق ، واسطيّ ،

بشر بن السّريّ الواعظ ، بمكة ،

عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ الكوفيّ ،

عبيد الله [بن] المهديّ ، فيها في قول ،

غنّام بن عليّ الكوفيّ (١) ، وقيل سنه اربع ،

مورّج بن عمرو السّدوسيّ النّحويّ ،

محمد بن فضيل الضّبيّ الكوفيّ.

الوليد بن مسلم ، في أوّلها بذي المروة ،

يحيى بن سليم الطّائفيّ ، بمكة ،

أبو معاوية الضّرير محمد بن خازم (٢).

بعض الشعر الّذي قيل في ولاية العهد لموسى

وفيها قال بعض الشعراء فيما جرى من ولاية العهد لموسى وهو طفل ، وذلك برأي الفضل كما تقدّم ، ورأي بكر بن المعتمر.

أضاع الخلافة غشّ الوزير

وفسق الأمير وجهل (٣) المشير

 __________________

(١) لم يترجم له.

(٢) ذكره في المحمّدين وقال : «سيأتي» ، ولم يترجم له!

(٣) في مروج الذهب : «ورأي».

٢٣

ففضل وزير وبكر مشير

يريدان ما فيه حتف الأمير

لواط الخليفة أعجوبة

وأعجب منه خلاق الوزير

فهذا يدوس وهذا يداس

وهذا لعمري خلاف الأمور

ولو يستعينان هذا بذاك

لكانا بعرضة آمر ستير

وأعجب من ذا وذا أنّنا

نبايع للطّفل فينا الصغير

ومن لم (١) يحسن غسل استه (٢)

ومن لم يخل من بوله (٣) حجر ظير(٤)

* * *

تسمية المأمون بإمام المؤمنين

ولما تيقّن المأمون خلعه تسمّى بإمام المؤمنين ، وكوتب بذلك.

عقد الأمين الولايات لعليّ بن عيسى

وفي ربيع الآخر عقد الأمين لعلّي بن عيسى بن ماهان على بلد الجبال : همدان ، ونهاوند ، وقمّ ، وأصبهان ، وأقر له فيما قيل بمائتي ألف دينار ، وأعطى لجنده مالا عظيما (٥).

جمع الأمين أهل بغداد لقراءة العهد لابنه

ولما جمع الأمين الملأ لقراءة العهد على ابنه موسى قال :

يا معشر خراسان ، يعني الذين ببغداد ، إنّ الأمير موسى قد أمر لكم من صلب ماله بثلاثة آلاف ألف درهم (٦).

__________________

(١) عند الطبري «ومن ليس» ، وكذلك في مروج الذهب.

(٢) في مروج الذهب «مسح أنفه».

(٣) في مروج الذهب «نتن».

(٤) ذكرها الطبري في تاريخه ٨ / ٣٩٦ وكان ذكر منها البيتين الأولين فقط ٨ / ٣٨٩ ، وذكر ابن الأثير ٦ / ٢٤٥ ثلاثة أبيات فقط ، وقال إنه ترك بقيتها «لما فيها من القذف الفاحش ، ولقد عجبت لأبي جعفر حيث ذكرها مع ورعه» ، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي ٢٩٨ ثمانية أبيات ، وفي مروج الذهب ثمانية أبيات أيضا (٣ / ٤٠٥ ، ٤٠٦).

(٥) تاريخ الطبري ٨ / ٣٨٩ ، ٣٩٠ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٠ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٣ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٢٦ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣٣.

(٦) الطبري ٨ / ٣٩٠.

٢٤

شخوص عليّ بن عيسى للقبض على المأمون

وشخص عليّ بن عيسى في نصف جمادى الآخرة من بغداد ، وأخذ معه قيد فضّة ليقيّد به المأمون بزعمه. وسار معه الأمين إلى النهروان ، فعرض بها الجند الذين جهّزهم مع عليّ.

استعمال ابن حميد على همدان

وسار حتى نزل همدان ، فاستعمل عليها عبد الله بن حميد بن قحطبة.

لقاء جيش علي بن عيسى بجيش طاهر بن الحسين

ثم شخص عليّ منها حتى بلغ الرّيّ وهو على أهبة الحرب فلقيه طاهر بن الحسين وهو في أقلّ من أربعة آلاف (١) ، وكان قد جهّزه المأمون ، فأشرف على جيش عليّ وهم يلبسون السلاح ، وامتلأت بهم الصحراء بياضا وصفرة من السلاح المذهّب (٢). فقال طاهر بن الحسين : هذا ما لا قبل لنا به ، ولكن نجعلها خارجية ، نقصد القلب.

فهيّأ سبعمائة من الخوارزمية (٣).

رفع نسخة البيعة على الرمح

قال أحمد بن هشام الأمير : فقلنا لطاهر : نذكّر عليّ بن عيسى البيعة التي كانت ، والبيعة التي أخذها هو للمأمون علينا معشر أهل خراسان. قال : نعم.

فعلّقناهما على رمحين ، وقمت بين الصّفّين ، فقلت : الأمان ، ثم قلت : يا عليّ بن عيسى ألا تتّقي الله؟ اليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصّة؟ اتّق الله ، فقد بلغت باب قبرك.

قال : من أنت؟

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ٣٩١ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٢ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٣ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٣٧ وفيه أن جند طاهر كانوا خمسة آلاف ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٢٦ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣٣ ، مروج الذهب ٣ / ٣٩٩ ، الفخري ٢١٤ ، تاريخ الخلفاء ٢٩٨.

(٢) تاريخ الطبري ٨ / ٣٩٢ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٤ ، مروج الذهب ٣ / ٣٩٩.

(٣) الطبري ٨ / ٣٩٢.

٢٥

قلت : أحمد بن هشام!

وكان عليّ ضربه أربعمائة سوط. فصاح عليّ : يا أهل خراسان ، من جاء به فله ألف درهم. وكان معنا قوم بخاريّة ، فرموه وزنّده وقالوا : نقتلك ونأخذ مالك (١).

مقتل عليّ بن عيسى

وخرج من عسكر عليّ العبّاس بن اللّيث ورجل آخر ، فشدّ عليه طاهر فضربه قتله ، وشدّ داود سياه على عليّ بن عيسى فصرعه وهو لا يعرفه (٢). فقال طاهر بن التّاجيّ : أعليّ بن عيسى أنت؟ قال : نعم! وظنّ أنه يهاب فلا يقدم عليه أحد. فشدّ عليه وذبحه بالسيف ، ثم انهزم جيشه (٣).

انهزام البخارية

قال أحمد : فتبعناهم فرسخين ، وأوقفونا اثنتي عشر مرّة ؛ كل ذلك نهزمهم. فلحقني طاهر بن التاجيّ ومعه رأس عليّ (٤) ، فصلّيت ركعتين شكرا. ووجدنا في عسكره سبعمائة كيس ، في كلّ كيس ألف درهم. ووجدنا عدّة بغال عليها له خمر سواديّ. فظنّت البخاريّة أنّه مال ، فكسروا تلك الصناديق فرأوه خمرا ، فضحكوا وقالوا : عملنا العمل (٥) حتى نشرب.

التسليم بالخلافة للمأمون

وأعتق طاهر من كان بحضرته من غلمانه شكرا. فلما وصل البريد إلى المأمون سلّموا عليه بالخلافة ، وطيف بالرأس في خراسان (٦).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ٣٩٣ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٣ ، ٢٤٤.

(٢) الطبري ٨ / ٣٩٣ ، الكامل ٦ / ٢٤٤ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٤ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣٣ ، مروج الذهب ٣ / ٣٩٩ ، مرآة الجنان ١ / ٤٤٧.

(٣) الطبري ٨ / ٣٩٣ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٤ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٣٧ ، الأخبار الطوال ٣٩٨ ، تاريخ الخلفاء ٢٩٨.

(٤) مروج الذهب ٣ / ٤٠٠ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٣٧.

(٥) في تاريخ الطبري ٨ / ٣٩٤ «عملنا الجدّ».

(٦) تاريخ الطبري ٨ / ٣٩٤ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٥ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣٤.

٢٦

انشغال الأمين بصيد السمك

وجاء الخبر بقتله إلى الأمين وهو يتصيّد السمك ، فقال للذي أخبره ويلك دعني ، فإنّ كوثرا قد صاد سمكتين وأنا ما صدت شيئا بعد (١).

شعر في مقتل عليّ بن عيسى

وقال شاعر من أصحاب عليّ :

لقينا اللّيث مفترشا يديه (٢)

وكنا ما ينهنهنا (٣) اللقاء

نخوض الموت والغمرات قدما

إذا ما كرّ ليس به خفاء

فضعضع ركننا (٤) لمّا التقينا

وراح الموت وانكشف الغطاء

وأودى (٥) كبشنا والرأس منّا

كأنّ بكفّه كان القضاء(٦)

توجيه الأمين للأبناوي

ثم وجّه الأمين عبد الرحمن بن جبلة الأبناويّ وأمير الدّينور بالعدّة والقوّة ، فسار حتّى نزل همدان (٧).

قلّة تدبير الأمين مع كثرة الجيش

وعن عبد الله بن خازم أنّه قال : يريد محمد إزالة الجبال وفلّ العساكر بالفضل وتدبيره ، وهيهات. وهو والله كما قيل :

__________________

(١) الطبري ٨ / ٣٩٥ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٥ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٥ ، الإنباء في تاريخ الخلفاء ٩٠ وفيه إن (كوثر اصطاد ثلاث سمكات وما اصطدت إلا سمكتين) ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٢٦ ، نهاية الأرب ٢٢ / ١٧٤ ، الفخري في الآداب السلطانية ٢١٤ ، مرآة الجنان ١ / ٤٤٨ ، تاريخ الخلفاء ٢٩٨ ، ٢٩٩ ، النجوم الزاهرة ٢ / ١٤٩ ، ١٥٠ ، تاريخ مختصر الدول ١٣٤.

(٢) عند الطبري «مفترسا لديه».

(٣) في الأصل «يهنهنا» ، والتصحيح من الطبري.

(٤) عند الطبري «ركبنا».

(٥) عند الطبري «وأردى».

(٦) تاريخ الطبري ٨ / ٣٩٥.

(٧) تاريخ الطبري ٨ / ٤١٢ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٦ وفيه (الأنباري) وهو تحريف ، وكذا في العيون والحدائق ٣ / ٣٢٤ ، الأخبار الطوال ٣٩٨.

٢٧

قد ضيّع الله ذودا أنت راعيها (١).

وقيل إنّ الجيش الّذي كانوا مع عليّ بن عيسى أربعون ألفا في حمية لم ير مثلها (٢).

مقتل عليّ بن عيسى بسهم

وروى عبد الله بن مجالد أنّ الوقعة اشتدّ فيها القتال ، وأنّ عليّ بن عيسى قتل بسهم جاءه. وأنّ طاهرا بعث بالأسرى والرءوس إلى المأمون (٣).

شغب الجند ببغداد على الأمين

وذكر عبد الله بن صالح الجرميّ أنّ عليّا لما قتل أرجف الناس ببغداد إرجافا شديدا. وندم محمد على خلعه أخاه. وطمع الأمراء فيه ، وشغّبوا جندهم بطلب الأرزاق من الأمين ، وازدحموا على الجسر يطلبون الأرزاق والجوائز ؛ فركب إليهم عبد الله بن خازم في طائفة من قوّاد الأعراب فتراموا بالنّشّاب واقتتلوا. فسمع الأمين الضّجّة ، وأرسل يأمر ابن خازم بالانصراف ، وأنزلهم بأرزاق أربعة أشهر وزاد في عطائهم ، وأمر للقوّاد بالجوائز (٤).

استعداد الأبناوي لمحاربة طاهر

وجهّز عبد الرحمن الأبناوي في عشرين ألفا ، فسار إلى همدان وضبط طرقها ، وحصّن سورها ، وجمع فيها الأقوات ، واستعدّ لمحاربة طاهر (٥).

حبس يحيى بن علي للمنكسرين من جيش أبيه

وقد كان يحيى بن عليّ بن عيسى لما قتل أبوه أقام بين الرّيّ وهمدان ،

__________________

(١) الطبري ٨ / ٣٩٥.

(٢) الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٠ ، ٢٤١ ، وفي الأخبار الطوال ٣٩٦ كان معه ستون ألف رجل. و ٣٩٧ ، الفخري في الآداب السلطانية ٢١٣ ، ٢١٤ وفيه : خمسون ألفا ، تاريخ الخلفاء ٢٩٨.

(٣) تاريخ الطبري ٨ / ٤١١.

(٤) تاريخ الطبري ٨ / ٤١٢ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٥ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٦.

(٥) تاريخ الطبري ٨ / ٤١٣ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٦ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٢٦.

٢٨

فكان لا يمرّ به أحد من المنكسرين إلّا حبسه عنده بناء منه أنّ الأمين يوليه مكان أبيه. فكتب إليه الأمين يأمره بالمقام مع عبد الرحمن الأبناوي. فلما سار يحيى إلى قرب همدان تفرّق أكثر أصحابه (١).

تراجع الأبناء أمام طاهر بن الحسين

وأمّا طاهر فقصد مدينة همدان وأشرف عليها. فالتقى الجيشان وصبر الفريقان وكثرت القتلى. ثم إنّ عبد الرحمن الأبناويّ تقهقر ودخل مدينة همدان فأقام بها يلمّ شعث أصحابه (٢).

حصار طاهر لهمدان

ثم زحف إلى طاهر ، وقد خندق طاهر على عسكر ، فاقتتلوا قتالا شديدا. وجعل عبد الرحمن يحرّض أصحابه ، ويقاتل بيده ، وحمل حملات منكرة ما منها حملة إلّا وهو يكثر القتل في أصحاب طاهر. فشدّ رجل على صاحب علم عبد الرحمن فقتله. وحمل أصحاب طاهر حملة صادقة حتى ألجئوهم إلى مدينة همدان ، ونزل طاهر محاصرا لها (٣).

طاهر يؤمّن الأبناوي

وكان عبد الرحمن يخرج كلّ يوم فيقاتل على باب المدينة. وتضرّر بهم أهل البلد وجهدوا ، فطلب عبد الرحمن من طاهر الأمان فآمنه ووفى له (٤).

* * *

ظهور أبي العميطر السفياني بدمشق

وفيها ظهر بدمشق السّفياني أبو العميطر عليّ بن عبد الله بن خالد بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ٤١٣ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٥ ، ٣٢٦ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٢٦ ، ٢٢٧.

(٢) تاريخ الطبري ٨ / ٤١٣ ، ٤١٤ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٦ ، الأخبار الطوال ٣٩٨.

(٣) تاريخ الطبري ٨ / ٤١٤ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٦ ، ٢٤٧ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٦.

(٤) الطبري ٨ / ٤١٤ ، ٤١٥ ، الكامل ٦ / ٢٤٧ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٦ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٢٦.

٢٩

يزيد بن معاوية فدعا إلى نفسه ، وطرد عنها سليمان بن أبي جعفر بعد حصره إيّاه بالبلد. وكان عامل الأمين ، فلم يفلت منه إلّا بعد اليأس. فوجّه الأمين لحربه الحسين بن عليّ بن عيسى بن ماهان فلم ينفذ إليه ، ولكنّه وصل إلى الرّقّة فأقام بها (١).

أبو العميطر يضبط دمشق وما حولها حتى الساحل

وعن صالح بن محمد بن صالح بن بيهس قال : ضبط أبو العميطر (٢) دمشق وانضمّت إليه اليمانية من كلّ ناحية ، وبايعه أقل الغوطة والساحل وحمص وقنسرين ، واستقام له الأمر ؛ إلّا أنّ قيسا لم تبايعه وهربوا من دمشق (٣).

وجاء عن عبد الله بن طاهر أنّه لما قدم دمشق قال لمحمد بن حنظلة : عندك من عظام أبي العميطر شيء؟ قال : هو أقلّ عندنا من هذا. ولكن هرب إلينا وخلع نفسه فسترناه.

* * *

غلبة طاهر على كور الجبال

وغلب طاهر بن الحسين على قزوين وطرد عنها عامل الأمين وغلب على سائر كور الجبال (٤).

__________________

(١) الطبري ٨ / ٤١٥ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٣٨ ، ٤٣٩ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٩ ، تاريخ دمشق (مخطوطة التيمورية) ٢ / ١١٣ و ٣٥ / ١١٠ و ٣٨ / ١٠٥ و ٣٥٥ و ٤٥ / ٥١٨ و ٥٣١ ، خلاصة الذهب المسبوك ١٧٦ ، نهاية الأرب ٢٢ / ١٦٥ ـ ١٦٧ ، تاريخ حلب للعظيميّ ٢٣٩ (حوادث سنة ١٩٧ ه‍.) ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٢٧ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، مرآة الجنان ١ / ٤٤٨ ، النجوم الزاهرة ٢ / ١٤٧ ، ١٤٨ و ١٥٩.

(٢) كان أبو العميطر يقول : أنا من شيئي صفّين ، يعني عليّا ومعاوية. وكان يلقّب بأبي العميطر لأنه قال يوما لجلسائه : أيّ شيء كنية الحرذون؟ قالوا : لا ندري. قال : هو أبو العميطر ، فلقبوه به. (الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٩).

(٣) الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٩.

(٤) تاريخ الطبري ٨ / ٤١٥.

٣٠

غدر الأبناوي بجنود طاهر

وذكر عبد الله بن صالح أنّ الأمين لما وجّه عبد الرحمن الأبناويّ إلى همدان أتبعه بعبد الله وأحمد ابني الحرشيّ في جيش مددا له. فلما خرج بالأمان هو وأصحابه ، أقام يرى طاهرا وجنده أنّه لهم مسالم راض بعهودهم ، ثم اغترّهم وهم آمنون فركب في أصحابه ، ولم يشعر طاهر وأصحابه بهم إلّا وقد هجموا عليهم فوضعوا فيهم السيف. وردّت عنهم بالأثر سوء حالتهم حتى أخذت الفرسان عدّتها وصدقوهم القتال حتى تقطّعت السيوف بين الفريقين (١).

مقتل الأبناوي

ثمّ هرب أصحاب عبد الرحمن فترجّل هو وجماعة فقاتل حتى قتل.

ووصل المنهزمة الى عسكر ابني الحرشيّ ، فداخلهم الرعب فولّوا منهزمين من غير قتال حتى أتوا بغداد (٢).

طاهر يخندق على جنده قرب حلوان

وسار طاهر بن الحسين وقد خلت له البلاد حتى قارب حلوان فعسكر بها وخندق على جندة (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ٤١٦.

(٢) تاريخ الطبري ٨ / ٤١٦ ، ٤١٧ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٤٨ ، الأخبار الطوال ٣٩٩ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٧ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٢٧.

(٣) الطبري ٨ / ٤١٧ ، الكامل ٦ / ٢٤٨ ، الأخبار الطوال ٣٩٩.

٣١

سنة ستّ وتسعين ومائة

توفّى فيها :

الحسين بن على بن عيسى ، قتل كما يأتي ،

سعد بن الصلت ، قاضي شيراز ،

عبد الله بن كثير الطويل الدمشقيّ ،

عبد الملك بن صالح بن علي الأمير ،

عتّاب بن بشير الجزريّ ، في قول ،

مخلّد بن الحسين ، في قول ، وكلاهما مرّ ،

معاذ بن معاذ العنبريّ القاضي ،

الوليد بن خالد بالشام (١) ، قاله ابن قانع ،

أبو نواس الشاعر ، هو الحسن بن هانئ.

* * *

الفضل بن الربيع يحثّ أسد بن يزيد على نصرة الأمين

وفيها روي عن عبد الرحمن بن وثّاب قال : حدّثني أسد بن يزيد بن مزيد ، أنّ الفضل بن الربيع الحاجب بعث إليه بعد مقتل عبد الرحمن الأبناوي قال : فأتيته فوجدته مغضبا ، فقال : يا أبا الحارث أنا وإيّاك نجري إلى غاية إن قصّرنا عنها ذممنا ، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا. وإنّما نحن

__________________

(١) لم يترجم له.

٣٢

شعرة من أصل ، إن قوي قوينا ، وإن ضعف ضعّفنا ، إنّ هذا الرجل ، يعني الأمين ، قد ألقى بيده إلى الأمة الوكعاء ، يشاور النّساء ويعترض على الرؤساء (١) ، وقد أمكن مسامعه من اللهو والجسارة (٢) فهم يكبدونه (٣) الظّفر. والهلاك أسرع إليه من السّيل إلى قيعان الرمل ، وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه ، ونعطب بعطبه ، وأنت فارس العرب وابن فارسها ، قد فزع إليك في لقاء هذا الرجل ، وأطمعه فيما قبلك أمران. أمّا أحدهما فصدق طاعتك وفضل نصيحتك ، والثاني يمن نقيبتك وشدّة بأسك. وقد أمرني بإزاحة علّتك وبسط يدك فيما أحببت ، فعجّل المبادرة إلى عدوّك. فإنّي أرجو أن يولّيك الله تعالى شرف هذا الفتح ، ويلم بك شعث هذه الخلافة.

أسد بن يزيد يطلب نفقة سنة لجنده

فقلت : أنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم ، ولكل ما أدخل الوهن والذلّ على عدوّه حريص. غير أنّ المحارب لا يعمل بالغدر (٤) ، ولا يفتتح أمره بالتقصير والخلل. وإنّما ملاك المحارب الجنود ، وملاك الجنود المال. وأمير المؤمنين فقد [ملأ] (٥) في أيدي من عنده من العسكر ، وتابع عليهم بالأرزاق والصّلات. فإن سرت بأصحابي وقلوبهم متطلّعة إلى من خلفهم من إخوانهم لم أنتفع بهم في لقاء. وقد فضل أهل السّلم على أهل الحرب. والّذي أسأله أن يؤمر لأصحابي برزق سنة ، ويحمل معهم أرزاق سنة ، ولا أسال عن محاسبة ما افتتحت من المدن.

فقال : قد اشتططت ، ولا بدّ من مناظرة أمير المؤمنين.

__________________

(١) في تاريخ الطبري ٨ / ٤١٩ «ويعتزم على الرؤيا» ، وفي الكامل ٦ / ٢٥٣ «ويعتزم على الرياء».

(٢) في الأصل «الخسارة» ، والتصحيح من الطبري ، وابن الأثير.

(٣) عند الطبري ، وابن الأثير «يعدونه».

(٤) في تاريخ الطبري ٨ / ٤١٩ «بالغرور» ، والمثبت يتفق مع ابن الأثير ٦ / ٢٥٤.

(٥) إضافة من الطبري.

٣٣

حبس الأمين لأسد بن يزيد

ثم ركب معي إليه فدخلت ، فما دار بيني وبينه إلّا كلمتان حتّى غضب وأمر بحبسي (١).

اختيار أحمد بن مزيد لقتال طاهر بن الحسين

وذكر زياد [بن عليّ] (٢) قال : ثم قال الأمين : هل في أهل بيت هذا من يقوم مقامه؟ فأنا أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وطاعتهم.

قالوا : نعم ، فيهم أحمد بن مزيد عمّه ؛ وأثنوا عليه ، فاستقدمه على البريد.

قال أحمد : فبدأت بالفضل بن الربيع ، فإذا عنده عبد الله بن حميد بن قحطبة ، وهو يريده على الشخوص إلى طاهر بن الحسين ؛ وعبد الله يشتطّ في طلب المال والإكثار من الرجال. فلما رآني رحّب بي وصيّرني معه إلى صدر المجلس ، فكلّمني ثمّ قام معي حتّى دخلنا على الأمين ، فلم يزل يأمرني بالدّنوّ حتى كدت ألاصقه ، فقال : إنه قد كثر عليّ تخليط ابن أخيك وتنكّره ، وطال خلافة. وقد وصفت لي بخير ، وأحببت أن أرفع قدرك وأعلى منزلتك.

وأن أولّيك جهاد هذه الفئة الباغية.

فقلت : سأبذل في طاعتكم مهجتي.

وصيّة الأمين لأحمد بن مزيد

قال : وانتخبت الرجال ، فبلغ عدّة من صحّحت اسمه ألف رجل ، ثم سرت بهم إلى حلوان. ودخلت عليه قبل ذلك وقلت : أوصني. قال : إيّاك والبغي ، فإنه عقال النصر. ولا تقدّم رجلا إلا بالاستخارة ، ولا تشهر سيفا إلّا بعد إعذار ، ومهما قدرت عليه باللّين فلا تتعدّه بالحرب ، في كلام طويل.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ٤١٨ ـ ٤٢٠ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٥٢ ـ ٢٥٤ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٧.

(٢) إضافة من الطبري.

٣٤

وأطلق له ابن أخيه أسدا (١).

احتيال طاهر على جيوش الأمين حتى تقاتلوا وتفرّقوا

وذكر يزيد بن الحارث أنّ الأمين وجّه معه عشرين ألفا من الأعراب ، ومع عبد الله بن حميد عشرين ألفا من الأبناء وأمرهم أن ينزلوا حلوان ويدفعوا طاهرا عنها ، وينصبا له الحرب. فنزلا في خانقين (٢) ، فدس طاهر العيون إلى عسكرهما ، فكانوا يأتون الجيش بالأراجيف ويخبرونهما أنّ الأمين قد وضع العطاء لأصحابه ، وقد أمر لهم بالأرزاق. ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا ، وانتفض أمرهم وقاتلوا بعضهم بعضا ، ورجعوا (٣).

تسليم ما احتواه طاهر إلى هرثمة بن أعين

ثم دخل طاهر حلوان ، وأتاه هرثمة بن أعين بكتابي المأمون والفضل بن سهل يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن إلى هرثمة ، والتّوجّه إلى الأهواز.

فسلّم ذلك إليه ، وأقام هرثمة بحلوان فحصّنها وأحكم أموره. ومضى طاهر إلى الأهواز (٤).

تولية المأمون للفضل بن سهل على جميع المشرق

ودعا المأمون الفضل بن سهل فولاه على جميع المشرق من همدان إلى جبل سقينان (٥) والتّبت طولا ، ومن بحر فارس والهند إلى بحر الدّيلم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ٤٢٠ ـ ٤٢٣ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٥٥ ، ٢٥٦.

(٢) خانقين : بلدة من نواحي السواد في طريق همدان من بغداد. (معجم البلدان ٢ / ٣٤٠).

(٣) تاريخ الطبري ٨ / ٤٢٣ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٧ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٥٦ ، نهاية الأرب ٢٢ / ١٧٦ ، المختصر في أخبار البشر ٢ / ١٩ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٣٥ ، ٢٣٦ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣٥ ، ٢٣٦.

(٤) تاريخ الطبري ٨ / ٤٢٣ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٥٦ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٧.

(٥) في الأصل «سفيان» ، والتصحيح من تاريخ الطبري ٨ / ٤٢٤ ، وفي : البدء والتاريخ ٦ / ١٠٨ (جبل سقين).

٣٥

وجرجان عرضا ، وقرّر له عمالة ثلاثة آلاف [ألف] درهم (١) ، ولقّبه ذا الرئاستين.

تولية الحسن بن سهل ديوان الخراج

ثم ولّى أخاه الحسن بن سهل ديوان الخراج (٢).

* * *

إطلاق عبد الملك بن صالح من الحبس

وكان في حبس الرشيد عبد الملك بن صالح بن عليّ ، فأطلقه الأمين وقرّبه ، فدخل عليه أحد الأيام وقال : يا أمير المؤمنين إنّي أرى الناس قد طمعوا فيك ، وقد بذلت سماحتك ، فإن بقيت على أمرك أبطرتهم ، وإن كففت عن البذل سخطتهم ، ومع هذا فإنّ جندك قد داخلهم الرعب وأضعفتهم الوقائع ، وهابوا عدوّهم. فإن سيّرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم.

وأهل الشام قوم قد مرّستهم الحرب وأدّبتهم الشدائد ، وجلّهم منقاد إليّ ، مسارع إلى طاعتي. فإن وجّهتني اتّخذت لك منهم جندا تعظم نكايته في عدوّه. فولّاه الشام والجزيرة واستحثّه على الخروج (٣) ،

فلمّا بلغ الرّقّة أقام بها ، وأنفذ رسله وكتبه إلى رؤساء الأجناد بجمع الأمداد والرجال والزواقيل والأعراب من كلّ فجّ ، وخلع عليهم. ثم إنّ بعض جنده الخراسانيّة نظر إلى فرس كانت أخذت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر بالشام تحت بعض الزّواقيل. فتعلّق بها ، فتنازعا الفرس ، واجتمع

__________________

(١) زيادة من : الطبري ٨ / ٤٢٤ ، الكامل ٦ / ٢٥٧ ، والمنتقى من تاريخ الإسلام لابن الملا.

(٢) تاريخ الطبري ٨ / ٤٢٤ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٧ ، ٣٢٨ ، البدء والتاريخ ٦ / ١٠٨ ، ١٠٩ ، نهاية الأرب ٢٢ / ١٧٦ ، المختصر في أخبار البشر ٢ / ٢٠ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٣٦ ، النجوم الزاهرة ٢ / ١٥١ ، مآثر الإنافة ١ / ٢١٥ ، تاريخ سنيّ ملوك الأرض ١٦٦ ، ١٦٧.

(٣) تاريخ الطبري ٨ / ٤٢٤ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٥٧ ، النجوم الزاهرة ٢ / ١٥١.

٣٦

الناس وتأهّبوا ، وأعان كل منهم صاحبه ، وتضاربوا بالأيدي. فاجتمعت بعض الأبناء إلى محمد بن أبي خالد الحربيّ وقالوا : أنت شيخنا ، وقد ركب الزواقيل منّا ما سمعت ، فاجمع أمرنا وإلّا استذلّونا ، فقال : ما كنت لأدخل في شغب ، ولا أشاهدكم (١) على مثل هذه الحال. فاستعدّ الأبناء وأتوا الزّواقيل وهم غارّون ، فوضعوا فيهم السيف ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. فتنادى الزواقيل ولبسوا لأمة الحرب. ونشبت الحرب بينهم ، فوجّه عبد الملك رسولا يأمرهم بالكفّ. فرموه بالحجارة. وكان عبد الملك مريضا مدنفا ، وقال : واذلّاه! تستضام العرب في دورها وبلادها وتقتل. فغضب من كان أمسك عن الشرّ من الأبناء ، وتفاقم الأمر. وقام بأمر الأبناء الحسين بن عليّ بن عيسى بن ماهان ، وأصبح الزواقيل وقد جيّشوا بالرّقّة ، واجتمع الأبناء والخراسانيّة بالرافقة. وقام رجل من أهل حمص فقال : يا أهل حمص ، الهرب أهون من العطب ، والموت أهون من الذلّ ، النفير النفير قبل أن ينقطع الشمل (٢) ويعسر المهرب (٣) ، ثم قام نمر بن كلب (٤) فقال نحو ذلك ، فسار معه عامّة أهل الشام ورحلوا (٥).

وأقبل نصر بن شبت في الزّواقيل ، وهو يقول :

فرسان قيس اصبري (٦) للموت

لا ترهبنّي عن لقاء الفوت(٧).

دعي التّمنّي بعسى وليت

ثم حمل هو وأصحابه ، فقاتل قتالا شديدا ، وكثر القتل والبلاء في

__________________

(١) في الأصل «اساعدكم» ، والتصحيح من الطبري.

(٢) عند الطبري ٨ / ٤٢٦ ، «ينقطع السبيل» ، وكذلك في الكامل ٦ / ٢٥٨.

(٣) عند الطبري ٨ / ٤٢٦ «المذهب» ، والمثبت يتفق مع ابن الأثير ٦ / ٢٥٨.

(٤) عند الطبري وابن الأثير «رجل من كلب».

(٥) في الأصل «هللوا» ، والخبر في تاريخ الطبري ٨ / ٤٢٦ ، ٤٢٧ ، والكامل في التاريخ ٦ / ٢٥٨.

(٦) عند الطبري «اصمدنّ».

(٧) تاريخ الطبري ٨ / ٤٢٧.

٣٧

الزّواقيل ، وحملت الأبناء فانهزمت الزّواقيل (١).

وفاة عبد الملك وعودة الرجّالة

ثم توفّى عبد الملك في هذه الأيام. فنادى الحسين بن عليّ بن عيسى في الجند ، وصيّر الرّجّالة في السفن ، والفرسان على الظّهر ، ووصّلهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة في رجب ، ودخل بغداد (٢).

فلمّا كان في جوف الليل طلبه الأمين ، فقال للرسول : ما أنا مغنّ ولا مسامر ولا مضحك ، ولا وليت له عملا ، فلأيّ شيء يريدني؟ انصرف فمن الغد آتيه.

خطبة الحسين بن عليّ في الأبناء

قال : فأصبح الحسين فوافى باب الجسر ، واجتمع إليه النّاس ، فأمر بإغلاق الباب الّذي يخرج منه إلى عبيد الله (٣) بن عليّ وباب سوق يحيى ، وقال : يا معشر الأبناء ، إنّ خلافة الله لا تجاور بالبطر ، ونعمة لا تستصحب بالتجبّر ، وإنّ محمدا يريد أن يزيغ (٤) أديانكم ، وينكث بيعتكم ، ويفرّق أمركم. وتالله إن طالت يده (٥) ، وراجعه من أمره قوّة ، ليرجعنّ وبال ذلك عليكم ، ولتعرفنّ ضرره. فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم ، وضعوا عزّه قبل أن يضع عزّكم.

بيعة الحسين المأمون وخلعه الأمين

ثم أمر الناس بعبور الجسر ، فعبروا حتى صاروا إلى سكّة باب خراسان ، واجتمعت الحربيّة وأهل الأرباض ممّا يلي باب الشام ، فتسرّعت

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ٤٢٧ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٥٩ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٨ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٣٦ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٣٦.

(٢) تاريخ الطبري ٨ / ٤٢٨ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٥٩ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٣٦.

(٣) هكذا ، وعند الطبري ٨ / ٤٢٨ «عبد الله» ، انظر الحاشية.

(٤) عند الطبري ٨ / ٤٢٩ «يونغ» ، وعند ابن الأثير ٦ / ٢٥٩ «يوقع».

(٥) عند الطبري وابن الأثير «إن طالت به مدّة».

٣٨

خيول من خيول الأمين من الأعراب وغيرهم إلى الحسين ، فاقتتلوا اقتتالا شديدا ، ثم استظهر عليهم الحسين وتفرّقوا. فخلع الحسين محمدا لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب ، وبايع المأمون من الغد ، ثم غدا إلى محمد.

حبس الأمين وأمّه في قصر المنصور

فوثب العبّاس بن موسى بن عيسى الهاشميّ فدخل قصر الخلد وأخرج منه محمدا إلى قصر المنصور ، فحبسه هناك إلى الظهر. وأخرج أمّه ، أمّ جعفر ، بعد أن أبت ، وقنعها بالسّوط وسبّها (١) ، وأدخلت إلى قصر المنصور (٢).

خطبة محمد بن أبي خالد لاعتزال الحسين بن عليّ

فلمّا أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بن عليّ بن عيسى بن ماهان الأرزاق ، وقد ماج الناس بعضهم في بعض. وقام محمد بن أبي خالد كبير الأبناء بباب الشام فقال : أيّها الناس ، والله ما أدري بأيّ سبب تأمرّ الحسين علينا؟ والله ما هو بأكبرنا سنّا ، ولا أكرمنا حسبا ، ولا أعظمنا منزلة وغناء. وإنّ فينا من لا يرضى بالدّنيّة ، ولا ينقاد بالمخالفة ، وإني أوّلكم نقض عهده ، وأنكر فعله ، فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معي (٣).

وقام أسد الحربيّ فقال نحو مقالته (٤).

خطبة الشيخ الكوفي وإخراج الأمين من حبسه

وأقبل شيخ كبير من أبناء الكوفة فصاح : اسكتوا أيّها النّاس ؛ فسكتوا له ، فقال : هل تعتدون (٥) على محمد بقطع أرزاقكم؟ قالوا : لا! قال : فهل قصّر بأحد من أعيانكم؟ قالوا : ما علمنا! قال : فهل عزل أحدا من قوّادكم؟

__________________

(١) عند الطبري ٨ / ٤٢٩ «وساءها».

(٢) خلاصة الذهب ١٨١ ، نهاية الأرب ٢٢ / ١٧٨ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٣٦ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣٦ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٦٠ ، التنبيه والإشراف ٣٠١.

(٣) تاريخ الطبري ٨ / ٤٢٨ ـ ٤٣٠ ، الكامل في التاريخ ٦ / ٢٥٩ ، ٢٦٠ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٨ ، ٣٢٩ ، المعارف ٣٨٥.

(٤) الطبري ٨ / ٤٣٠ ، ابن الأثير ٦ / ٢٦٠.

(٥) هكذا في الأصل ، وتاريخ الطبري ، والكامل ، وفي العيون والحدائق ٣ / ٣٢٩ «تغدرون».

٣٩

قالوا : لا! قال : فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوّه على اضطهاده وأسره؟ والله ما قتل قوم خليفتهم إلّا سلّط الله عليهم السيف. انهضوا إلى خليفتكم فادفعوا عنه ، وقاتلوا من أراد خلعه. فنهضت الحربيّة ، ونهض معهم عامّة أهل الأرباض ، فقاتلوا الحسين وأصحابه قتالا شديدا ، وأكثروا في أصحابه الجراح ، وأسر الحسين. فدخل أسد الحربيّ (١) على الأمين ، فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة. فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الجند ، ولا عليهم سلاح ، فأمرهم فأخذوا من الخزائن حاجتهم من السلاح ، ووعدهم ومناهم.

الصفح عن الحسين بن عليّ

وأحضروا الحسين ، فلامه على خلافه وقال : ألم أقدّم أباك على النّاس ، وأشرّف أقداركم؟ قال : بلى! قال : فما الّذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي ، وتؤلّب النّاس على قتالي؟

قال : الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظّنّ بصفحة. قال : فإنّي قد فعلت ذلك ، وولّيتك الطلب بثأر أبيك. ثم خلع عليه وأمره بالمسير إلى حلوان ، فخرج (٢).

هرب الحسين بن عليّ وقتله

فلما خفّ النّاس قطع الجسر ، وهرب في نفر من حشمه ومواليه. فنادى الأمين في الناس فركبوا وأدركوه. فلما بصر بالخيل نزل فصلّى ركعتين ثم تهيّأ ، فلقيهم وحمل عليهم حملات في محلّها يهزمهم ، ثم عثر به فرسه

__________________

(١) هكذا في الأصل ، وتاريخ الطبري ٨ / ٤٣٠. وفي العيون والحدائق ٣ / ٣٢٩ ، «الحرميّ» (بالميم).

(٢) تاريخ الطبري ٨ / ٤٣٠ ، ٤٣١ ، الكامل ٦ / ٢٦٠ ، ٢٦١ ، العيون والحدائق ٣ / ٣٢٩ ، الفخري ٢١٥ ، نهاية الأرب ٢٢ / ١٧٨ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٣٦ ، ٢٣٧ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣٦ ، ٢٣٧ ، النجوم الزاهرة ٢ / ١٥١.

٤٠