الإعتماد في شرح واجب الإعتقاد

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

الإعتماد في شرح واجب الإعتقاد

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: صفاء الدين البصري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٥

أقول : لمّا بيّن أنّه تعالى قادر عالم ، استدلّ على عموم قدرته وعلمه ، أي : أنّه قادر على كلّ المقدورات ، عالم بكلّ المعلومات.

أمّا بيان أنّه قادر على كلّ المقدورات ؛ فلأنّ المقدورات هي الممكنات لا غير ـ على ما تقدم بيانه ـ (١) ونسبة الممكنات إليه على سبيل السّويّة ، لأنّه واجب وما عداه ممكن ، ونسبة الواجب إلى الممكن نسبة واحدة ، والمقتضي لاحتياج الشّيء إلى فاعل هو الإمكان ، فتشترك جميع الممكنات في صحّة القدرة عليها ، فثبت أنّه قادر على كلّ المقدورات.

وأمّا بيان أنّه عالم بكلّ المعلومات ؛ [فنقول : يجب أن يكون عالما بكلّ المعلومات] ، لأنّه لو لا ذلك ، للزم : إمّا أن لا يكون عالما بشيء منها ، أو يكون عالما ببعض دون بعض. والأوّل محال ، لما ثبت من كونه عالما ، والثّاني أيضا محال ، وإلّا لكان علمه بالبعض منها دون البعض مع تساويهما بالنّسبة إلى ذاته تخصيصا من غير مخصّص ، وهو محال.

قال «قدّس الله روحه» :

ويجب أن يعتقد أنّه تعالى سميع بصير ، لأنّه عالم بكلّ المعلومات ، ومن جملتها المسموع (٢) والمبصر ، فيكون عالما بهما ، وهو معنى كونه سميعا بصيرا.

أقول : من [جملتها ـ أي : الصّفات] (٣) الثّبوتيّة ـ كونه سميعا بصيرا ، وإنّما أثبتنا له سبحانه هاتين الصّفتين لورود الإذن الشّرعيّ في تسميته تعالى بهما في قوله [تعالى] : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٤) لأنّ أسماءه تعالى توقيفيّة ، بمعنى : انّها لا يطلق

__________________

(١) راجع ص : ٥٧.

(٢) «ج» : المسمع.

(٣) «ج» : جملة صفاته.

(٤) لقمان : ٢٨ ، المجادلة : ١.

٦١

عليه منها إلّا ما ورد به الإذن الشّرعيّ : إمّا (١) من الكتاب ، أو السّنّة ، وما عدا ذلك لا (٢) يجوز إطلاقه عليه وإن كان معناه صادقا عليه ، وليس المراد بهاتين الصّفتين أنّ له آلة يسمع بها المسموعات ، أو (٣) آلة يبصر بها المبصرات ؛ كما في حقّنا ، لأنّ ذلك إنّما يكون للأجسام ، والله تعالى ليس بجسم ، لما يأتي (٤) بيانه (٥).

بل معناه : أنّه تعالى يعلم المسموعات ، ويعلم المبصرات ، فمعنى قولنا : انّه سميع ، أي : أنّه (٦) يعلم المسموعات ، بصير ، أي : يعلم المبصرات.

وأمّا الدّليل على كونه سميعا بصيرا بهذا المعنى ؛ فلما تقدّم من بيان أنّه تعالى عالم بجميع المعلومات الّتي من جملتها المسموعات والمبصرات (٧) ، فثبت أنّه سميع بصير بهذا المعنى ، وهو المطلوب.

__________________

(١) «ج» : فإمّا.

(٢) «ج» : فلا.

(٣) «ج» : و.

(٤) «ج» : سيأتي.

(٥) في ص : ٦٩.

(٦) ليست في «ج».

(٧) راجع ص : ٦١.

٦٢

الرّكن الأوّل : فى التّوحيد

٦٣
٦٤

قال «قدّس الله روحه» :

ويجب أن يعتقد أنّه تعالى واحد ، لأنّه لو كان معه إله آخر ، لزم المحال ، لأنّه لو أراد أحدهما حركة جسم وأراد الآخر تسكينه : فإمّا أن يقعا معا ، وهو محال ، وإلّا لزم اجتماع المتنافيين ، وإمّا أن لا يقعا معا ، فيلزم خلوّ الجسم عن الحركة والسّكون [وهو باطل بالضّرورة] ، [وإمّا أن] (١) يقع [مراد] أحدهما دون الآخر ، وهو ترجيح من غير مرجّح.

أقول : الواحد : هو المتفرّد (٢) بصفات ذاتيّة لا يشاركه فيها غيره ، وهي : وجوب الوجود ، والقدم ، وإيجاد الخلق ، واستحقاق العبادة.

والدّليل على أنّه تعالى واحد : من العقل والنّقل ، لأنّ النّقل يصحّ الاستدلال به على إثبات هذه الصّفة ، لأنّ كلّ صفة لا تتوقّف صحّة النّقل عليها ، يصحّ إثباتها بالعقل والنّقل ؛ كهذه الصّفة ، ونفي الرّؤية عنه تعالى ، وما يتوقّف صحّة النّقل عليه ، مثل : كونه قادرا عالما حكيما لا يصحّ إثباته بالنّقل ، بل بالعقل خاصّة.

[و] أمّا الدّليل العقليّ على كونه واحدا ؛ فهو أن نقول (٣) : لو لم يكن واحدا ، لكان أزيد من ذلك ، ولو كان معه إله آخر ، لكان كلّ واحد منهما موصوفا بما يتّصف به الآخر من صفات الإلهيّة ، فجاز أن يخالف مراد أحدهما مراد الآخر ، وإذا كان كذلك جاز أن تتعلّق إرادة أحدهما بإيجاد جسم معيّن ؛ كزيد ساكنا ، وتتعلّق إرادة الآخر بإيجاده متحرّكا ، فلا يخلو الواقع من ثلاثة أمور :

إمّا أن يقع مرادهما معا ـ وهو محال ، وإلّا لزم كون الجسم الواحد في الزّمان الواحد ساكنا متحرّكا ، وهو جمع بين المتنافيين ـ وهما الحركة والسّكون اللّذان هما

__________________

(١) «ج» : أو.

(٢) «ج» : المنفرد.

(٣) «ج» : يقول.

٦٥

ضدّان ـ واجتماع الضّدّين في محلّ واحد محال.

وإمّا أن لا يقع مراد كلّ واحد منهما ، فيلزم أن يكون الجسم لا ساكنا ولا متحرّكا ، وقد قلنا أنّ كلّ جسم لا يخلو من الحركة ولا السّكون ، فخلوّه عنهما محال.

وإمّا أن يقع مراد أحدهما دون مراد الآخر ، فيلزم المحال ، من وجهين :

الأوّل أن [يكون] ذلك ترجيح من غير مرجّح ، وهو محال.

والثّاني أنّ الّذي وقع مراده يكون غالبا ، والّذي يقع مراده يكون مغلوبا ، والمغلوب عاجز ، [والعاجز] لا يكون إلها.

وأمّا النّقل : فقوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (١) وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات الواردة في القرآن المجيد.

قال «قدّس الله روحه» :

ويجب أن يعتقد أنّه تعالى مريد ، لأنّ نسبة الحدوث إلى جميع الأوقات بالسّويّة ، فلا بدّ من مخصّص ، هو : الإرادة (٣).

أقول : لمّا ثبت أنّ العالم محدث ، فتخصيص وجود المحدثات بوقت دون وقت مع تساوي الأوقات بالنّسبة إليها لا بدّ له من مخصّص خصّص وجوده بذلك الوقت دون غيره من الأوقات ، وإلّا لزم التّخصيص من غير مخصّص ، وهو محال. وذلك المخصّص هو الإرادة ، وهو علمه بما في وجود ذلك الحادث في هذا الوقت من المصلحة دون غيره من الأوقات ، فلهذا اختصّ وجود ذلك الحادث بذلك الوقت.

هذا معنى كونه مريدا لما يفعله ، كما تقول : انّه تعالى أراد خلق العالم لما علم في وجوده من المصلحة.

__________________

(١) البقرة : ١٦٣.

(٢) الإخلاص : ١.

(٣) الإرادة قسمان : إرادة لأفعال نفسه ، وتسمّى «إرادة تكوينيّة» كخلق الإنسان والأكوان ورزق الحيوان ، وغيره ، وإرادة لأفعال عبيده ، وتسمّى «إرادة تشريعيّة» كالأمر بالصّلاة والصّيام والحجّ ، وغيره. وكذا الكراهة.

٦٦

وأمّا معنى كونه مريدا لأفعال عباده ؛ فاذا قلنا : انّه تعالى أراد من العبد الإيمان ، فمعناه : انّه أراد : أمر به ، لأنّ كلّ من أمر بشيء لا بدّ أن يكون مريدا [له] ، وقد أمر العبد بالإيمان ، فيكون مريدا له.

قال «قدّس الله روحه» :

ويجب أن يعتقد أنّه تعالى كاره ، لأنّه نهى عن المعاصي ، فيكون كارها لها.

أقول : إذا قلنا : انّه تعالى كاره للقبيح ؛ كالظّلم ، فمعناه : انّه لا يصدر منه مع كونه قادرا عليه ، لأنّ علمه بما فيه من المفسدة صارف له عن فعله ، كما أنّ علمه بما في الفعل من المصلحة داع إليه (١) إلى فعله. وإذا قلنا : انّه كاره لأفعال عباده ، فمعناه : انّه تعالى نهاهم عن القبيح منها كما نهاهم عن المعاصي ، في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ) (٢) ، [وقوله تعالى] (٣) (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) (٤) وكلّ من نهى عن الشّيء [لا بدّ أن] يكون كارها له ، كما أنّ كلّ من أمر بشيء لا بدّ أن يكون مريدا له.

فائدة :

ومن صفاته الثّبوتيّة : كونه تعالى مدركا ، لورود الإذن الشّرعيّ [به] ، في قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٥) ومعناه : انّه عالم بالمدركات.

والدّليل عليه : ممّا ثبت انّه عالم بجميع المعلومات ، ومن جملتها : المدركات ، ومنها : كونه تعالى متكلّما ، لأنّه وصف نفسه بذلك في قوله تعالى : (وَكَلَّمَ

__________________

(١) «ج» : له.

(٢) الأنعام : ١٥١ ، الإسراء : ٣٣.

(٣) أضفناه لاستقامة السّياق.

(٤) الإسراء : ٣٢.

(٥) الأنعام : ١٠٣.

٦٧

اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١) وليس معناه أنّه يتكلّم بجوارح ، لأنّ ذلك إنّما يكون للأجسام ، وهو تعالى ليس بجسم. بل معناه أنّه [تعالى] أوجد الكلام الّذي هو الحروف والأصوات في جسم من الأجسام ؛ كما أوجد الكلام في الشّجرة ، فسمعه موسى عليه‌السلام.

والدّليل عليه : ما سبق من كونه تعالى قادرا على جميع الممكنات ، وهذا من جملتها. وهو محدث ، لأنّه مركّب من الحروف والأصوات المرتّبة (٢) الّتي يتقدّم بعضها على (٣) بعض ، وما يكون كذلك فهو محدث ، لعدم السّابق بوجود اللّاحق ، وسبق اللّاحق بالسّابق ، والقديم لا يعدم ، ولا يسبقه غيره ، فثبت حدوثه.

قال «قدّس الله روحه» :

ويجب أن يعتقد أنّه تعالى ليس بجسم ، ولا عرض ، ولا جوهر ، وإلّا لكان متحيّزا ، أو حالّا في المتحيّز ، فيكون محدثا.

وأنّه تعالى يستحيل عليه الحلول في محلّ أو (٤) جهة ، وإلّا لكان مفتقرا إليهما (٥) ، فلا يكون واجبا.

وأنّه تعالى لا يتّحد بغيره ، لأنّ الاتّحاد غير معقول.

وأنّه [تعالى] غير مركّب عن شيء ، [وإلّا لكان مفتقرا إلى جزئه فيكون ممكنا.

وأنّه تعالى يستحيل رؤيته] وإلّا لكان في جهة. وقد بيّنّا بطلانه.

وأنّه تعالى يستحيل عليه الحاجة ، وإلّا لكان ممكنا ، وهو محال.

__________________

(١) النّساء : ١٦٤.

(٢) «ج» : المترتّبة.

(٣) «ج» : عن.

(٤) «ج» : و.

(٥) «ج» : إليها.

٦٨

أقول : لمّا فرغ من صفات الكمال الّتي هي «الثّبوتيّة» شرع في ذكر الصّفات السّلبيّة الّتي هي : «صفات التّنزيه» ، وتسمّى : «صفات الجلال».

فمنها : كونه تعالى ليس بجسم ، ولا عرض ، ولا جوهر ، وكما أنّ إثبات صفة له تعالى يتوقّف على معرفة معناها لتثبت له ، كذلك نفي صفة عنه يحتاج إلى معرفة معناها لتنفى (١) عنه ؛ فنقول (٢) :

الجسم : هو الّذي يقبل القسمة طولا وعرضا وعمقا.

والجوهر : هو الّذي لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه.

والعرض : هو الّذي يحلّ في الجسم ، ولا يصحّ انتقاله عنه.

والحيّز ، والمكان ؛ عبارة عن شيء واحد.

والمتحيّز : هو الحاصل في الحيّز.

والحالّ في المتحيّز : هو العرض القائم بالمتحيّز الّذي هو الجسم ، مثاله : الإناء الّذي فيه الماء ، فيقال للإناء : حيّز ، وللماء : متحيّز ، والبرودة القائمة بالماء : حالّ في المتحيّز.

إذا عرفت هذا ؛ فنقول :

الدّليل على أنّه تعالى ليس بجسم ، ولا عرض ولا جوهر : أنّه لو كان أحد هذه الثّلاثة ، لكان متحيّزا على تقدير كونه جسما أو جوهرا ، لأنّ كلّ واحد منهما لا بدّ له من حيّز ، أو حالّا في المتحيّز ، الّذي هو الجسم ، وكلّ متحيّز فهو : إمّا متحرّك ، أو ساكن ـ كما (٣) سبق بيانه ـ والحالّ في المتحيّز يتبعه في حركته أو سكونه ، فيكون كلّ واحد منهما لا يخلو من الحركة والسّكون الحادثين ، وكلّ ما لا يخلو من المحدثات (٤) ، فهو محدث ـ كما ـ تقدّم ـ فيلزم أن يكون محدثا. وقد ثبت قدمه تعالى ،

__________________

(١) «ج» : لتنتفي.

(٢) «ج» : فيقول.

(٣) «ج» : لما.

(٤) «ج» : المحدث.

٦٩

وحدوثه مع قدمه محال ، فلا يكون أحد الثّلاثة ، وهو المطلوب.

ومنها : أنّه تعالى يستحيل أن يحلّ في محلّ ، كما يقول (١) النّصارى : أنّه حلّ في المسيح ، ويستحيل أن يكون في جهة ، كما يقول (٢) المشبّهة (٣) : أنّه حلّ (٤) في جهة فوق العريش (٥) (٦).

والدّليل على استحالة كلّ واحد منهما : أنّه لو حلّ في محلّ أو جهة ، لكان : إمّا أن يكون له احتياج إليهما ، أو لا ، فإن لم يكن له احتياج إليهما لم يحلّ فيهما ، فإنّ المستغني عن الشّيء لا يحلّ فيه ، وإن كان له احتياج إليهما وكلّ واحد منهما بالنّسبة إليه هو غيره ، فيكون محتاجا إلى غيره ، وكلّ محتاج إلى غيره ، فهو ممكن ، فيلزم أن يكون ممكنا ، وذلك محال. وقد ثبت أنّه تعالى واجب ، فلا يكون حالّا في محلّ ولا جهة (٧) ، وهو المطلوب.

ومنها : أنّه تعالى لا يتّحد بغيره ، خلافا للنّصارى ، حيث زعموا أنّه تعالى اتّحد بالمسيح ، ومعنى الاتّحاد ، هو : صيرورة الشّيئين شيئا واحدا ، وذلك محال ، فإنّهما بعد الاتّحاد إن بقيا على ما كانا عليه ، فهما اثنان ، فلا اتّحاد ، وإن عدما ، فلا اتّحاد أيضا ، وإن عدم أحدهما وبقي الآخر ، فلا اتّحاد أيضا ، فإنّ المعدوم لا

__________________

(١) «ج» : تقوله.

(٢) «ج» : تقوله.

(٣) هم : الّذين حملوا الصّفات على مقتضى الحسّ الّذي يوصف به الأجسام ، فقالوا : إنّ لله بصرا كبصرنا ، ويدا كأيدينا ، وقالوا : إنّه ينزل إلى السّماء الدّنيا من فوق فهم يشبّهون صفات الله بصفات المخلوقين ، والمشبّهة أصناف. معجم الفرق الإسلامية : ٢٢٥.

(٤) «ج» : حالّ.

(٥) «ج» : العرش.

(٦) أصول الدّين للبغدادي : ٧٣ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ١٠٣ ، قواعد المرام في علم الكلام : ٧٠ ، إرشاد الطّالبين : ٢٢٩.

(٧) «ج» بزيادة : في.

٧٠

يتّحد بالموجود ، لأنّ المعدوم لا يكون جزءا من الموجود ، لأنّ جزء الموجود يجب أن يكون موجودا ، فتبيّن أنّ الاتّحاد بأقسامه محال ، وكلّما هو محال في نفسه يستحيل ثبوته لغيره ، فيستحيل عليه الاتّحاد ، وهو المطلوب.

ومنها : أنّه تعالى غير مركّب عن شيء ، أي : لا يجوز أن يكون له أجزاء تتركّب ذاته منها ، لأنّه لو كان مركّبا ، لكان له أجزاء ، وكلّ مركّب فهو محتاج إلى جزئه ضرورة احتياج المركّب إلى جزئه ، وجزؤه غيره ، والمحتاج إلى غيره ممكن ، فيلزم أن يكون ممكنا ، وقد ثبت أنّه واجب الوجود ، فلا يكون مركّبا ، وهو المطلوب.

ومنها : أنّه تعالى يستحيل رؤيته بحاسّة البصر ، خلافا للأشاعرة (١) ؛ فإنّهم قالوا : إنّ الله تعالى [يصحّ] رؤيته بحاسّة البصر ، فيراه المؤمنون في الآخرة ، مع أنّه ليس في جهة (٢).

والدّليل على أنّه لا يصح أن يرى : أنّه لو جازت عليه الرّؤية ، لكان في جهة ، فإنّ معنى الرّؤية تقليب الحدقة السّليمة نحو المرئيّ طلبا لرؤيته ، وإذا كان كذلك ، فلا بدّ أن يكون المرئيّ مقابلا للرّائي ، حتّى يمكن رؤيته ، والرّائي في جهة ، وما يكون مقابلا لما في الجهة يجب أن يكون في جهة ، فيلزم مع جواز رؤيته أن يكون في جهة. وقد تقدّم بطلانه.

ومنها : أنّه تعالى يستحيل عليه الحاجة ، وهو معنى كونه غنيّا ، لأنّه لو احتاج ، فإمّا في ذاته أو في صفاته ، فيحتاج إلى غيره [وكلّ ما كان محتاجا إلى غيره] ، فهو ممكن ، فيلزم أن يكون ممكنا ، وهو محال. وقد ثبت أنّه واجب الوجود ، فيلزم أن يكون غنيّا ، وهو المطلوب.

__________________

(١) هم : أصحاب أبي الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ ، المولود سنة ٢٦٠ ق ، والمتوفّى سنة ٣٢٤ ق. كان تلميذ أبي عليّ الجبّائيّ من شيوخ المعتزلة. وقد أخذ الأشعريّ أدلّة المعتزلة في سبيل المدافعة عن عقائد السّنّة ، وأصبحت تمثّل السّنّة فيما بعد. معجم الفرق الإسلاميّة : ٣٥.

(٢) أصول الدّين للبغداديّ : ٩٧ ، أصول الدّين للرّازي : ٧٣ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٦ ، قواعد المرام في علم الكلام : ٧٦.

٧١
٧٢

الرّكن الثّاني : فى العدل

٧٣
٧٤

قال «قدّس الله روحه» :

ويجب أن يعتقد أنّه تعالى [عدل] حكيم ، لأنّه لا يفعل قبيحا ، ولا يخلّ بواجب ، وإلّا لكان ناقصا ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

أقول : اعلم أنّ أركان الإيمان أربعة ، وهي : التّوحيد ، والعدل ، والنّبوّة ، والإمامة ، فلمّا ذكر الرّكن الأوّل منها وهو ركن التّوحيد وذكر ما فيه من المسائل ، شرع في بيان الثّاني وهو ركن العدل.

والمراد بالعدل ، هو : تنزيه ذات الباري تعالى عن فعل (١) القبيح ، والإخلال بالواجب ؛ فنقول :

الفعل القبيح ، هو : الّذي يستحقّ فاعله الذّمّ ، وتاركه المدح ، والواجب ، هو : الّذي يستحقّ فاعله المدح ، وتاركه الذّمّ.

والدّليل على أنّه تعالى لا يفعل القبيح : لأنّ القبيح لا يفعله فاعل إلّا لجهله بقبحه ، أو احتياجه إليه مع علمه بقبح ذلك ، وكلّ واحد من الجهل والحاجة نقص ، لأنّ الجهل مقابل للعلم الّذي هو كمال ، والحاجة مقابلة للاستغناء الّذي هو كمال ، ومقابل الكمال نقص ، والله تعالى منزّه عن النّقص ، فلو صدر عنه القبيح ، لكان ناقصا. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وإنّما قلنا : انّ الفاعل للقبيح لا يفعله إلّا جاهل أو محتاج ، لأنّ العالم بالقبيح المستغني عنه لا يفعله البتّة ، لعدم الدّاعي إليه ، ووجود الصّارف عنه ، ومع ذلك لا يوجد الفعل من الفاعل.

وأيضا : فقد ثبت أنّه غنيّ ، فلا يكون له حاجة إلى فعل القبيح ، وثبت أنّه عالم بجميع المعلومات ، فيكون عالما بقبح القبيح ، وعالما باستغنائه عنه ، والغنيّ عن فعل القبيح ، العالم بقبحه ، لا يفعله ضرورة.

__________________

(١) ليست في «ج».

٧٥

وأمّا أنّه لا يخلّ بالواجب ؛ فلأنّ الإخلال بالواجب قبيح.

وكذا لا يريد الله تعالى القبيح ، لأنّ إرادة القبيح قبيحة ، لذمّ العقلاء مريد القبيح.

٧٦

الرّكن الثّالث : فى النّبوّة

٧٧
٧٨

قال «قدّس الله روحه» :

ويجب أن يعتقد نبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه ادّعى النّبوّة ، وظهر المعجزة (١) على يده ، فيكون نبيّا حقّا ، والمقدّمتان قطعيّتان.

أقول : هذا هو الرّكن الثالث من أركان الإيمان ، وهو ركن النّبوّة. والنّبيّ : هو البشر المخبر عن الله تعالى بغير واسطة بشر.

وأمّا الدّليل على نبوة نبيّنا محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ [فهو أن نقول] (٢) انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ادّعى النّبوّة ، وظهر [على يده المعجزة] (٣) ، وكلّ من ادّعى النّبوة ، وظهر على يده المعجزة ، فهو صادق في دعواه ، فها هنا ثلاثة امور :

الأوّل : إنّه ادّعى النّبوّة ، وهذا [ما] لا ينكره أحد ، فإنّ جميع الخلائق : الموافق منهم والمخالف ، يعترفون بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظهر بمكّة وادّعى النّبوّة (٤).

الثّاني : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظهر على يده المعجزة (٥) ، وذلك أيضا معلوم بالتّواتر المفيد لليقين.

[والمعجزة : هي (٦)] الأمر الخارق للعادة ، المطابق للدّعوى ، المتعذّر على الخلق الإتيان بمثله ، فالخارق للعادة : هو الّذي لم تجر العادة به ؛ كقلب العصا حيّة (٧) ، وإحياء الموتى (٨) ، وانشقاق القمر ، ومجىء الشّجرة ، وحنين الجذع (٩).

__________________

(١) «ج» : المعجز.

(٢) «ج» : فنقول.

(٣) «ج» : المعجز على يده.

(٤) في النّسخة الحجريّة : أمرا.

(٥) «ج» : المعجز.

(٦) «ج» : والمعجز هو.

(٧) معجزة النّبيّ موسى (ع).

(٨) معجزة النّبيّ عيسى (ع).

(٩) من جملة معاجز نبيّنا محمّد بن عبد الله (ص).

٧٩

وقولنا : المطابق للدّعوى ، بمعنى أنّه يكون موافقا لدعواه ، وفيه احتراز عمّا لا يكون مطابقا للدّعوى ؛ كما نقل عن مسيلمة الكذّاب أنّه قيل له : أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله تفل في بئر ففاض ماؤها ، فقال : أنا أفعل كذلك ، وأتى إلى بئر وفيها ماء فتفل فيها ، فغاض (١) ماؤها (٢). فإنّه أمر خارق للعادة ، لكنّه غير مطابق لدعواه ، بل تكذيب له فيما ادّعاه.

وقولنا : المتعذّر على الخلق الإتيان به (٣) ، وذلك لأنّه من فعل الله تعالى وممّا اختصّ (٤) بالاقتدار عليه.

والتّعذّر : إمّا في جنسه ؛ كإحياء الموتى ، أو في وصفه (٥) ؛ كفصاحة القرآن ، وقلع المدينة ؛ فنقول :

نبيّنا [محمّد] صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظهر على يده كثير من المعجزات ، ومن جملتها : القرآن المجيد ، وهو معجز ، لأنّه تحدّى به العرب ، ومعنى التّحدّي : هو أن يطلب منهم الإتيان بمثل ما أتى به ، فإنّه ادّعى النّبوّة ، وقال : (معجزتي هذا القرآن ، فإن صدقتموني فيما أقول فاتّبعوني وإن لم تصدّقوني فاتوا بمثل هذا القرآن ، حتّى تنقطع حجّتي عليكم) (٦) وكانوا حريصين على إبطال قوله ، فلمّا لم يأتوا بمثل هذا القرآن وعدلوا عن المعارضة إلى حربه ومقاتلته المؤدّي إلى قتلهم ، وسبي حريمهم ، وأطفالهم ، وأخذ أموالهم ، دلّ على عجزهم عن ذلك ؛ فإنّ العاقل إذا خاف أمرا ، ويدفع (٧) بالأمر الأسهل ، لا يعدل عنه إلى الأشق ؛ فدلّ على أنّ تركهم

__________________

(١) غاض الماء يغيض غيضا ، أي : قلّ ونضب. المصباح المنير ٢ : ٤٥٩ ، صحاح اللّغة ٣ : ١٠٩٦ (مادّة غيض).

(٢) بحار الأنوار ١٨ : ٢٨.

(٣) «ج» : بمثله.

(٤) «ج» : خصّ.

(٥) «ج» : صفته.

(٦) بعد التّتبّع الكثير ، لم أعثر على هذا الحديث من المصادر الحديثيّة المتوفّرة عندنا.

(٧) «ج» : واندفع.

٨٠