أسباب النّزول القرآني

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٧

قال سعيد بن المسيب : «أقبل صهيب مهاجرا نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاتبعه نفر من قريش من المشركين ، فنزل عن راحلته ، ونثر ما في كنانته ، وأخذ قوسه ، ثم قال : يا معشر قريش ، لقد علمتم إني من أرماكم رجلا ، وأيّم الله ، لا تصلون إليّ حتى أرمي بما في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم ، قالوا : دلنا على بيتك ، ومالك بمكة ، ونخلي عنك؟ وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل. فلما قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أبا يحيى ، ربح البيع ، ربح البيع ، وأنزل الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)

، وقال المفسرون : أخذ المشركون صهيبا ، فعذبوه ، فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من شرط عليهم راحلة ، ونفقة ، فخرج إلى المدينة ، فتلقاه أبو بكر ، وعمر ، ورجال ، فقال له أبو بكر : ربح بيعك أبا يحيى ، فقال صهيب : وبيعك فلا بخس ما ذاك؟! فقال : أنزل الله فيك كذا ، وقرأ عليه هذه الآية». (١)

فلفظ الآية نزل عاما ، وهو : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي).

وسبب الآية خاص ، وهو واقعة صهيب الرومي مع كفار مكة الذين اعترضوه في هجرته ، ودلهم على بيته ، وماله بمكة مقابل إخلاء سبيله ، ومواصلة هجرته إلى المدينة ، وقبل ذلك.

فالعبرة في الآية لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، ويتعدى السبب الخاص الذي نزلت فيه الآية الى الأسباب المناظرة.

٦ ـ آية شراء لهو الحديث ، التي نزلت في النضر بن الحارث.

قال تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (لقمان : ٦)

__________________

(١) الواحدي ، أسباب النزول ، ص : ٣٩ ـ ٤٠.

٦١

قال الكلبي ، ومقاتل : «نزلت في النضر بن الحارث ، وذلك أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس ، فيشتري أخبار الأعاجم ، فيرويها ، ويحدث بها قريشا ، ويقول لهم : إن محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يحدثكم بحديث عاد ، وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث رستم ، واسفنديار ، وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثة ، ويتركون استماع القرآن ، فنزلت فيه هذه الآية» (١).

وأخرج الواحدي أيضا عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يحل تعليم المغنيات ، ولا بيعهن ، وائتمانهن حرام ، وفي مثل هذا نزلت هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) إلى آخر الآية ، وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله تعالى عليه شيطانين ، أحدهما على هذا المنكب ، والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت» (١).

وأخرج الواحدي عن مجاهد قوله : «نزلت في شراء القيان ، والمغنيات» (١).

وأخرج الواحدي أيضا عن ابن عباس قوله : «نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية تغنيه ليلا ، ونهارا» (٤).

فلفظ الآية ، نزل عاما وهو : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ).

وسبب الآية خاص ، وهو النضر بن الحارث.

فالعبرة في الآية لعموم اللفظ لا خصوص السبب ، وحكمها يتعدى السبب الخاص الذي نزلت فيه إلى الأسباب الأخرى المشابهة.

٧ ـ آية حد السرقة التي نزلت في طعمة بن أبيرق.

__________________

(١) الواحدي : أسباب النزول ، ص : ٢٣٢.

(٤) الواحدي ، أسباب النزول ، ص : ٢٣٣.

٦٢

قال تعالى :

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة : ٣٨)

أخرج الواحدي عن الكلبي قوله : «نزلت في طعمة بن أبيرق ـ سارق الدرع ـ من جار له» (١)

وذكر السيوطي : أن ابن عباس سئل عن حكم هذه الآية أخاص أم عام؟؟ فأجاب بأنه عام.

فلفظ الآية عام ، وهو : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) أي كل سارق ، وكل سارقة ، وهذه الصيغة من صيغ العموم ، وسبب نزول الآية خاص ، وهو سرقة طعمة بن أبيرق لدرع من جار له ، وتخبئته له عند يهودي.

فالعبرة في هذه الآية لعموم اللفظ لا خصوص السبب ، وحكمها يتعدى السبب الخاص الذي نزلت فيه إلى الأسباب الأخرى المشابهة.

٨ ـ آية منع الاستغفار للمشركين ، ولو كانوا أولي قربى ، والتي نزلت في استغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمه أبي طالب.

قال تعالى :

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (التوبة : ١١٣)

فالآية نزلت بلفظ العموم ، وفي سبب خاص ، وهو استغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمه أبي طالب عند ما حضرته الوفاة ، وقد أبى أن يموت إلا

__________________

(١) الواحدي : أسباب النزول ، ص : ١٣٠.

٦٣

مشركا.

عن المسيب قال : «لما حضر أبا طالب الوفاة ، دخل عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ـ فقال : أي عم ، قل : لا إله إلا الله أحاجّ لك بها عند الله ، فقال أبو جهل ، وعبد الله : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب؟! ، فلم يزالا يكلمانه حتى قال : هو على ملة عبد المطلب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ، فنزلت الآية» (١)

فالعبرة بالنسبة لهذه الآية لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، والحكم يحمل على العموم لا الخصوص ، وهو يتعدى السبب الذي نزلت فيه الآية إلى جميع الأسباب المناظرة ، والمشابهة.

٩ ـ آية عدم الصلاة على المنافقين الأموات ، والتي نزلت في صلاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنافق عبد الله بن أبيّ ، قال تعالى :

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (التوبة : ٨٤)

فالآية نزلت بلفظ العموم ، وفي سبب خاص ، وهو صلاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنافق عبد الله بن أبيّ بن سلول.

روى البخاري ، وغيره : «أنه لما توفي عبد الله بن أبيّ ـ رأس المنافقين ـ دعي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلاة عليه فقام عليه ، فلما وقف ، قال عمر : أعلى عدو الله ، عبد الله بن أبيّ القائل كذا ، وكذا ، والقائل كذا ، وكذا؟! يعدد أيامه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبتسم ، ثم قال له : إني قد خيّرت ، قد قيل لي : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

فلو أعلم ان زدت على السبعين غفر له ، لزدت عليها ، ثم صلّى عليه

__________________

(١) أخرجه الشيخان.

٦٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومشى معه حتى قام على قبره ، حتى فرغ منه. قال عمر : فعجبت لي ، ولجرأتي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله ، ورسوله أعلم ، فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) ، فما صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على منافق بعد حتى قبضه الله عزوجل» (١).

١٠ ـ سورة الهمزة التي نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي أو الوليد بن المغيرة.

قال تعالى :

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ، الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ ، يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ، نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ، إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (سورة الهمزة)

السورة نزلت بلفظ العموم ، وفي سبب خاص ، وهو الأخنس بن شريق الثقفي.

فالعبرة فيها لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، والحكم يحمل على العموم لا على الخصوص.

وهو يتعدى السبب الذي نزلت فيه السورة إلى غيره من الأسباب المشابهة.

وكما يقول الزمخشري في كشافه : «ويجوز أن يكون السبب خاصا ، والوعيد عاما ، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح ، وليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه ، فإن ذلك أزجر له ، وأنكى فيه» (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري ، وأحمد ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجة ، وغيرهم.

(٢) الزمخشري : الكشاف ، ج ٤ ، ص : ٢٣٢.

٦٥
٦٦

الباب الثالث

روايات سبب النزول القرآني

الفصل الأول : تعدد الروايات في سبب النزول :

الفصل الثاني : تعدد السبب مع وحدة النزول :

الفصل الثالث : تعدد النزول مع وحدة السبب :

الفصل الرابع : صيغة سبب النزول :

٦٧
٦٨

الفصل الأول

تعدد الروايات في سبب النزول

قد تتعدد الروايات في سبب نزول آية واحدة ، فكيف يكون موقف المفسرين في هذه الحالة؟ ...

أولا : ـ إذا كانت صيغ الروايات غير صريحة فلا منافاة بينها ، ويؤخذ بها جميعها ، حيث أن المراد هنا هو التفسير ، وليس سبب النزول.

مثل : نزلت هذه الآية في كذا ، أو أحسبها نزلت في كذا.

فتحمل هذه الأقوال ، والصيغ على أنها مفسرة ، وليس المراد منها ذكر سبب النزول إلا إذا قامت قرينة تثبت أن إحدى هذه الصيغ إنما وردت في ذكر سبب النزول.

ثانيا : إذا كانت إحدى صيغ الروايات غير صريحة ، والأخرى صريحة يؤخذ بالصريحة.

مثال : ورود صيغ ، ونصوص غير صريحة ، ونصوص صريحة في ذكر سبب نزول قوله تعالى :

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (البقرة : ٢٢٣)

فالنص غير الصريح في تفسير سبب نزول الآية ، ورد عن ابن عمر :

عن نافع قال : «قرأت ذات يوم (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ، فقال ابن عمر : أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟؟ قلت : لا ، قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن» (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري.

٦٩

فهذه الصيغة غير صريحة في السببية.

أما النص الصريح في تفسير سبب نزول الآية ، فقد ورد عن جابر.

«قال : كانت اليهود تقول : إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها جاء الولد أحول ، فنزلت (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)» (١).

فهذه الصيغة صريحة في السببية ، وبذلك يعتمد عليها في تفسير سبب نزول الآية ، أما صيغة ابن عمر فهي غير صريحة في السببية ، فلا يعتد بها ، ويحمل قوله : على أنه تفسير ، أو استنباط.

ويقول السيوطي : فالمعتمد حديث جبير ، لأنه نقل ، وقول ابن عمر استنباط.

ثالثا : إذا كانت صيغ الروايات كلها صريحة ، ولكن إحداهما صحيح ، والآخر غير صحيح ، فالمعتمد هو الرواية الصحيحة.

فأحيانا ترد صيغ ، ونصوص اسنادها صحيح ، وأخرى اسنادها غير صحيح ، فنأخذ في هذه الحالة بالصيغة التي اسنادها صحيح ، ومن البداهة أن يؤخذ بالرواية الصحيحة في تفسير سبب النزول.

مثال : فالنص الصحيح في تفسير سبب نزول الآية : ما

أخرجه الشيخان ، وغيرهما عن (جندب البجلي) قال : «اشتكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقم ليلتين ، أو ثلاثا ، فأتته امرأة ، فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك لم يقربك ليلتين ، أو ثلاثا ، فأنزل الله : (وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى).

والنص غير الصحيح في تفسير سبب نزول الآية : ما

أخرجه الطبراني ، وابن أبي شيبة عن حفص بن ميسرة عن أمه عن أمها ـ وكانت خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّ جزوا دخل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخل تحت السرير

__________________

(١) أخرجه البخاري.

٧٠

فمات ، فمكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي ، فقال : يا خولة ، ما حدث في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! جبريل لا يأتيني!! فقلت في نفسي ، لو هيأت البيت ، وكنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فأخرجت الجرو ، فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترعد لحيته ، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة ، فأنزل الله : (وَالضُّحى) إلى قوله : (فَتَرْضى).

قال ابن حجر في شرح البخاري : «قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة ، لكن كونها سبب نزول الآية غريب ، وفي إسناده من لا يعرف ، فالمعتمد ما في الصحيحين».

فالرواية الأولى هي الأصح فنأخذ بها.

رابعا : إذا كانت صيغ الروايات كلها صحيحة ، ولكن إحداها أرجح من الأخرى نأخذ بالأرجح ، اعتبارا أن راويها قد يكون شهد القصة ، أو الحادثة سبب النزول ، فتكون روايته أرجح من عداها.

مثال : فالنص الراجح في تفسير سبب نزول الآية : ما

أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال : «كنت أمشي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، وهو يتوكأ على عسيب ، فمر بنفر من اليهود ، فقال بعضهم : لو سألتموه؟ فقالوا : حدّثنا عن الروح ، فقام ساعة ، ورفع رأسه ، فعرفت أنه يوحى إليه حتى صعد الوحي ، ثم قال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

(الإسراء : ٨٥)

والنص غير الراجح في تفسير سبب نزول الآية هو :

ما أخرجه الترمذي ، وصححه عن ابن عباس ، قال : «قالت قريش لليهود : أعطنا شيئا نسأل هذا الرجل ، فقالوا : اسألوه عن الروح ،

٧١

فسألوه فأنزل الله :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الآية.

فالرواية الأولى هي المعتمد عليها ، لأنها الأصح ، والأرجح في تفسير سبب نزول الآية ، وعلى اعتبار أنها نزلت بالمدينة ، ولأن الراوي ابن مسعود حضر القصة ، ولأن الرواية من البخاري ، وهو مقدّم على الترمذي ، أما الرواية الثانية فقد نزلت في مكة ، فلا يعتد بها ، وراويها الترمذي ، والبخاري مقدّم عليه.

خامسا : إذا لم نستطع ترجيح رواية على أخرى ننظر إذا كانت الروايات متقاربة في الزمن ، أو غير متقاربة.

أ ـ إذا كانت الروايات متقاربة في الزمن.

إذا كانت صيغ الروايات كلها راجحة ، ولم نستطع ترجيح إحداها على الأخرى ، وكانت متقاربة في الزمن ، أخذنا بها كلها ، أي نجمع بين الروايات كلها كأسباب متعددة لنزول آية واحدة.

ويكون الأمر هنا بالقول : بوقوع أكثر من سبب لنزول آية واحدة.

قال ابن حجر : «لا مانع من تعدد الأسباب ، ومثاله : آيات اللعان (النور : ٦ ـ ٩) فقد نزلت في هلال بن أمية ، وفي عويمر ، فالرواية الراجحة الأولى في عويمر ، والثانية في هلال.

مثال ذلك : ما أخرجه الشيخان ـ واللفظ للبخاري عن سهل بن سعد أن عويمرا أتى عاصم بن عدي ، وكان سيد بني عجلان ـ فقال : كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله ، فتقتلونه كيف يصنع؟؟! ، سل لي رسول الله عن ذلك ، فأتى عاصم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسائل ، وعابها.

٧٢

فقال عويمر : والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فجاء «عويمر» فقال يا رسول الله : رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله ، فتقتلونه ، أم كيف يصنع؟؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد أنزل الله القرآن فيك ، وفي صاحبتك ، فأمرهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالملاعنة ، بما سمّى الله في كتابه ، فلاعنهما» (١).

والرواية الراجحة الصحيحة عن هلال.

أخرج البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس : «أن هلال بن أمية (٢) قذف امرأته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سمحاء ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (البيّنة أو حد في ظهرك) ، فقال : يا رسول الله ، إذا وجد أحد رجلا مع امرأته ، ينطلق يلتمس البيّنة؟؟ فنزل جبريل عليه‌السلام ، وأنزل عليه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) ، حتى بلغ (إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

فالروايتان صحيحتان ، وجمع بينهما كسبب ، أو كأسباب نزل في شأنهما آية واحدة.

ب ـ إذا كانت الروايات غير متقاربة في الزمن.

إذا كانت صيغ الروايات كلها راجحة ، ولم نستطع ترجيح إحداها على الأخرى ، وكانت متباعدة في الزمن ، ففي هذه الحالة لا نستطيع أن نجمع بين الروايات كأسباب متعددة لنزول آية واحدة. وهنا نحمل الأمر على تعدد نزول الآية ، وتعدد الأسباب.

مثال ذلك : ١ ـ ما أخرجه الشيخان عن المسيّب قال : «لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أميّة ـ فقال : أي عم ، قل : لا إله إلا الله أحاجّ لك بها عند

__________________

(١) صحيح البخاري.

(٢) هلال بن أميّة الخزاعي أحد الثلاثة الذين خلّفوا عن غزوة تبوك ، ونزل قرآن فيهم بالتوبة عليهم.

٧٣

الله ، فقال أبو جهل ، وعبد الله : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب! ، فلم يزالا يكلمانه حتى قال : هو على ملّة عبد المطلب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ، فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (التوبة : ١١٣).

وما أخرجه الترمذي عن علي قال : «سمعت رجلا يستغفر لأبويه ، وهما مشركان ، فقلت : تستغفر لأبويك ، وهما مشركان! فقال : استغفر إبراهيم لأبيه ، وهو مشرك. فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت.

وما أخرجه الحاكم ، وغيره عن ابن مسعود ، قال : «خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما إلى المقابر ، فجلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ثم بكى ، فقال : إن القبر الذي جلست عنده قبر أمّي ، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها ، فلم يأذن لي ، فأنزل عليّ : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...) الآية.

وهنا فقد جمعنا بين تعدد النزول للآيات مع تعدد أسبابها.

٢ ـ ومن ذلك سورة الإخلاص ، فقد ورد أنها تعددت في النزول مع تعدد أسبابها ، ولم نستطع أن نجمع بين أسبابها لتباعد الفترة الزمنية بينها ، فأخذنا بتعدد نزول الآيات فقد نزلت سورة الإخلاص مرة بمكة ، وبسبب جواب للمشركين فيها.

ونزلت مرة أخرى بالمدينة ، وبسبب جواب أهل الكتاب فيها.

٣ ـ ومثال ذلك أيضا : خواتيم سورة النحل :

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ، وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ، إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (سورة النحل : ١٢٦ ـ ١٢٨)

٧٤

فقد روي عن أبي هريرة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على حمزة حين استشهد وقد مثّل به ، فقال : لأمثلن بسبعين منهم مكانك ، فنزل جبريل ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف ، بخواتيم سورة النحل : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) إلى آخر السورة.

فهذه الرواية تدل على أن هذه الآيات نزلت يوم أحد.

وفي رواية أخرى أن هذه الآيات نزلت يوم الفتح في مكة. وفي رواية ثالثة أنها نزلت بمكة قبل الهجرة مع السورة ، ففي هذه الحالة أخذنا بتعدد نزول الآية ، مع تعدد أسباب نزولها.

قال الزركشي : «وقد ينزل الشيء مرتين ، تعظيما لشأنه ، وتذكيرا عند حدوث سبب خوف نسيانه ، كما قيل في الفاتحة ... نزلت مرتين :

مرة بمكة ، ومرة بالمدينة» (١).

خلاصة : في حالة تعدد أسباب النزول نحكم في أنه :

١ ـ إذا كانت جميع أسباب النزول غير صريحة في السببية ، فلا منافاة بينها ، ويصبح الأمر هنا محمولا على التفسير ، والدخول في الآية.

٢ ـ إذا كانت أسباب النزول أخذها صريح ، والآخر غير صريح أخذنا بالصريح.

٣ ـ إذا كانت أسباب النزول كلها صريحة ، ولكن أحدها صحيح ، والآخر غير صحيح أخذنا بالصحيح.

٤ ـ إذا كانت أسباب النزول كلها صحيحة ، ولكن أحدها يرجّح على الآخر ، أخذنا بالراجح دون المرجوح.

٥ ـ إذا كانت أسباب النزول كلها راجحة ، ولم نستطع أن نرجح سببا على آخر نقول :

__________________

(١) أخرجه الحاكم ، والبيهقي ، والبزار ، عن أبي هريرة.

٧٥

أ ـ إذا كانت الأسباب متقاربة في الزمن أخذنا بها في نزول آية واحدة.

ب ـ إذا كانت الأسباب غير متقاربة في الزمن أخذنا بتعدد الأسباب ، وتعدد نزول الآية الواحدة.

٧٦

الفصل الثاني

تعدد السبب مع وحدة النزول

ويعني أن يكون هناك أسباب متعددة لنزول آية واحدة ، ولا إشكال في ذلك ، فالآية القرآنية الواحدة قد يكون لنزولها أكثر من سبب ، وبالتالي يكون الأمر هنا بوقوع أكثر من سبب لنزول آية واحدة. قال الحافظ بن حجر : «لا مانع من تعدد الأسباب».

أمثلة : ١ ـ ما أخرجه الشيخان ، وغيرهما أن الأشعث قال : «كان بيني وبين رجل من اليهود أرض ، فجحدني ، فقدمته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ألك بينة؟ قلت : لا. فقال اليهودي : أحلف ، فقلت : يا رسول الله ، إذا يحلف ، فيذهب مالي ، فأنزل الله :

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران : ٧٧)

وأخرج البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى : «أن رجلا أقام سلعة له في السوق ، فحلف بالله ، لقد أعطي بها ما لم يعطه ، ليوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) (آل عمران : ٧٧)

قال الحافظ بن حجر في شرح البخاري : «لا منافاة بين الحديثين ، بل يحمل على أن النزول كان بالسببين معا».

وأخرج بن جرير عن عكرمة : «أن الآية نزلت في حييّ بن

٧٧

أخطب ، وكعب بن الأشرف ، وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة ، وحلفوا أنه من عند الله».

قال الحافظ بن حجر : «والآية محتملة ، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح».

٢ ـ ما أخرجه الشيخان ـ واللفظ للبخاري ـ عن سهل بن سعد : «أن عويمرا أتى عاصم بن عدي ـ وكان سيد بني عجلان ـ ، فقال : كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلا ، أيقتله ، فتقتلونه ، فكيف يصنع؟! سل لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك؟ فأتى عاصم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسائل ، وعابها ، فقال عويمر : والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فقال عويمر : يا رسول الله ، رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله ، فتقتلونه ، أم كيف يصنع؟! ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد أنزل القرآن فيك ، وفي صاحبتك ، فأمرهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالملاعنة بما سمّى الله في كتابه فلا عنهما».

وأخرج البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس : «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سمحاء ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

البينة أو حد في ظهرك؟ فقال : يا رسول الله ، إذا وجد أحدنا رجلا مع امرأته ، ينطلق يلتمس البينة؟!! ، فنزل جبريل «عليه‌السلام» وأنزل عليه :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ، وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ، وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ ، وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور : ٦ ـ ٩)

فالآية هنا واحدة ، أي نزول قرآني واحد لأكثر من سبب.

٧٨

الفصل الثالث

تعدّد النزول مع وحدة السبب

ويعني أن يكون هناك سبب واحد لنزول آيات متعددة. ولا إشكال في ذلك ، فالواقعة الواحدة ، أو السبب الواحد قد يكون سببا في نزول أكثر من آية.

أمثلة : ١ ـ ما أخرجه الترمذي ، والحاكم عن أمّ سلمة أنها قالت : «يا رسول الله ، لا أسمع الله ذكر النّساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله :

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ). (آل عمران : ١٩٥)

وأخرج الحاكم عنها أيضا قالت : «قلت : يا رسول الله ، تذكر الرجال ، ولا تذكر النساء ، فأنزلت : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ).

(الأحزاب : ٣٥) ، وأنزلت : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) (الآية. آل عمران : ١٩٥).

وأخرج الحاكم عن أمّ سلمة ، أنها قالت : تغزو الرجال ، ولا تغزو النساء! وإنما لنا نصف الميراث. فأنزل الله : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً). (النساء : ٣٢)

فهذه الآيات الثلاث نزلت بسبب واحد ، وهو كلام ، وسؤال أم سلمة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشأن ذكر القرآن للرجال دون النساء.

٧٩

٢ ـ ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أملى عليه قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ).(النساء : ٩٥)

فجاء ابن أمّ مكتوم ، وقال : يا رسول الله ، لو أستطيع الجهاد لجاهدت ـ وكان أعمى ـ فأنزل الله : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (النساء : ٩٥)

وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن زيد بن ثابت قال : «كنت أكتب لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، فإنّي لواضع القلم على أذني ، إذ أمر بالقتال ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى ، فقال : كيف لي يا رسول الله ، وأنا أعمى!! فأنزلت : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) (التوبة : ٩١).

فهاتان الآيتان نزلتا بسبب واحد ، هو قصة ابن أم مكتوم ، وسؤاله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدم قدرته على القتال.

٣ ـ ما أخرجه ابن جرير الطبري ، والطبراني ، وابن مردوية عن ابن عباس قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في ظل شجرة ، فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء ، فلا تكلموه ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين ، فدعاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : علام تشتمني أنت ، وأصحابك؟ ، فانطلق الرجل ، فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله :

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا

٨٠