أسباب النّزول القرآني

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٧

ب ـ واقعة أوس بن الصامت مع زوجته خولة بنت ثعلبة ، حيث كان ظهاره منها سببا في نزول آيات الظهار الأربعة من أول سورة المجادلة. قال الله تعالى :

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، الَّذِينَ يُظاهِرُونَ)

(مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ، وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة : ١ ـ ٤)

أخرج ابن أبي حاتم عن عائشة أم المؤمنين : رضي الله عنها قالت : «تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى عليّ بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى كبر سني ، وانقطع ولدي ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك ، قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها). وهو أوس بن الصامت» (١)

والقصة كما أخرجها الواحدي عن ابن عبد الله بن سلام ، قال : «حدثتني خويلة بن ثعلبة ، وكانت عند أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت ، قالت : دخل عليّ ذات يوم ، وكلّمني بشيء ـ وهو فيه كالضجر ـ فراددته ، فغضب ، فقال : أنت عليّ كظهر أمي ، ثم خرج في

__________________

(١) أخرج ابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي ، وابن مردويه.

٢١

نادي قومه ، ثم رجع إليّ ، فراودني عن نفسي ، فامتنعت منه ، فشادّني فشاددته ، فغلبته بما تغلب به المرأة الرجل الضعيف ، فقلت : كلا والذي نفس خويلة بيده ، لا تصل إليّ حتى يحكم الله تعالى فيّ ، وفيك بحكمه ، ثم أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشكو ما لقيت ، فقال : زوجك ، وابن عمك ، اتقي الله ، واحسني صحبته ، فما برحت حتى نزل القرآن : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ... إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ، حتى انتهى إلى الكفّارة.

قال : مريه ، فليعتق رقبة ، قلت : يا نبي الله ، ما عنده رقبة يعتقها قال : مريه ، فليصم شهرين متتابعين : قلت : يا نبي الله ، شيخ كبير ما به من صيام ، قال : فليطعم ستين مسكينا ، قلت : يا نبي الله ، والله ما عنده ما يطعم ، قال : بلى ، سنعينه بعرق من تمر ـ مكتل يسع ثلاثين صاعا ـ قلت : وأنا أعينه بعرق آخر ، قال : قد أحسنت ، فليتصدق».

ج ـ واقعة هلال بن أمية مع زوجته التي قذفها بالزنا من شريك بن سمحاء ، كانت سببا في نزول آيات الملاعنة في سورة النور. قال تعالى :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ، وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ، وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ ، وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور : ٦ ـ ٩)

أخرج البخاري عن ابن عباس : «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سمحاء ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : البيّنة وإلّا حد في

٢٢

ظهرك؟ فجعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : البينة وإلا حد في ظهرك؟؟ ، فقال هلال : والذي بعثك بالحق ، إني لصادق ، ولينزل الله ما يبرى ظهري من الحد ، ونزل جبريل ، فأنزل عليه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (١).

د ـ قصة أصحاب الإفك ، الذين قذفوا أم المؤمنين عائشة ، كانت سببا في نزول آيات الإفك تبرئها ، قال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) إلى آخر الآيات.

(النور : ١١) وأصحاب قصة الإفك هم : عبد الله بن أبيّ بن سلول ، حسّان بن ثابت ، ومسطح بن خالة أبي بكر ، وحمنة بنت جحش ، والقصة مشهورة في كتب التفاسير.

ه ـ حادثة أم جميل زوجة أبي لهب مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانت سببا في نزول أول خمس آيات من سورة الضحى. قال تعالى :

(وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (الضحى : ١ ـ ٥)

أخرج الشيخان عن جندب قال : «اشتكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يقم ليلة ، أو ليلتين ، فأتته امرأة ، فقالت : يا محمد ، ما أرى إلا شيطانك قد تركك.

فأنزل الله : (وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)» (٢)

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٦ ، ص : ١٠٠.

(٢) صحيح البخاري ، ج ٦ ، ص : ١٨٢.

٢٣

سند معرفة سبب النزول

يجمع العلماء على أن سندهم في معرفة سبب النزول ، انما هو الرواية الصحيحة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو رواية الصحابة ، أو رواية التابعين.

فالسند الأول في معرفة سبب النزول ـ هو الرواية الصحيحة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والسند الثاني ـ هو قول الصحابي ، حيث يرى العلماء «أن قول الصحابي فيما لا مجال فيه للرأي ، والاجتهاد ، بل عمدته النقل ، والسماع محمول على سماعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه يبعد جدا أن يقول ذلك من تلقاء نفسه» (١).

ويقرر ابن الصلاح ، والحاكم ، وغيرهما في علوم الحديث : أن الصحابي الذي شهد الوحي ، والتنزيل إذا أخبر عن آية أنها نزلت في كذا ، فإنه حديث مسند له حكم المرفوع (١).

والسند الثالث ـ هو قول التابعي ، بشرط أن يعتضد بمرسل آخر مروي عن أحد أئمة التفسير الذين ثبت أخذهم عن الصحابة أمثال :

عكرمة ، مجاهد ، عطاء ، سعيد بن جبير ، الحسن البصري ، سعيد بن المسيب ، والضحاك ، وغيرهم (١).

فالسند في معرفة سبب النزول ، وهو الرواية الصحيحة أمر ضروري للتأكد من وقوع المشاهدة ، أو السماع للواقعة ، أو السؤال سببي نزول القرآن.

ولذا فالعلماء يستبعدون كل محاولة للاجتهاد ، والرأي في هذا الموضوع ، وهم يحصرون السند في المشاهدة ، أو الرواية ، أو السماع لأسباب

__________________

(١) السيوطي ، الإتقان

٢٤

النزول القرآني.

يقول الواحدي : «ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية ، والسماع ممن شاهدوا التنزيل ، ووقفوا على الأسباب ، وبحثوا عن علمها ، وجدّوا في الطلب» (١).

وينوّه الواحدي أيضا : أن السلف الصالح كانوا يتورعون ، ويتحرجون من البحث ، أو القول بأسباب النزول دون تثبت ، خشية الكذب على القرآن ، أو القول بدون علم.

وإذا فالواحدي يأخذ باللّوم على تساهل العلماء في زمانه بالقول في أسباب النزول ، وهو يقول : «وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئا ، ويختلق إفكا ، وكذبا ، ملقيا زمامه إلى الجهالة غير مفكر بالوعيد للجاهل ، بسبب الآية» (١).

وقال محمد بن سيرين : «سألت عبيدة عن آية من القرآن الكريم ، فقال : اتق الله ، وقل سدادا ، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل الله من القرآن» (٣).

ويعني قول ابن سيرين ـ وهو من التابعين ـ : وجوب تحري الرواية الصحيحة ، والوقوف عند أسباب النزول الصحيحة.

__________________

(١) الواحدي ، أسباب النزول ، ص : ٣ ـ ٤.

(٣) محمد بن سيرين من علماء التابعين ، توفي سنة ١١٠ ه‍.

٢٥

الفصل الثالث

فوائد معرفة أسباب النزول القرآني

مقدمة :

قال الإمام الشباطبي : «إن معرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن ، والدليل على ذلك أمران : الأول ـ إن علم المعاني ، والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد العرب إنما حواره على معرفة مقتضيات الأحوال : حال الخطاب من جهة نفس الخطاب ، أو المخاطب ، أو المخاطب به ، أو الجميع ، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالّيه ، وبحسب المخاطبين ، وبحسب غير ذلك ، كالاستفهام ، لفظه واحد ، ويدخله معان أخرى من : تقرير ، وتوبيخ ، وغير ذلك.

وكالأمر يدخله معنى الإباحة ، والتهديد ، والتعجيز ، وأشباهها ، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجية ، أو عمدتها مقتضيات الأحوال ، وليس كل حال ينقل ، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول ، فإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة ، أو فهم شيء منه ، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط ، فهي من المهمات في فهم الكلام بلا بد ، ومعنى معرفة السبب ، هو معنى معرفة مقتضى الحال ، وينشأ عن هذا الوجه :

الوجه الثاني ـ وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع ، الشبه ، والإشكالات ، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف ، وذلك مظنة وقوع النزاع.

ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التميمي قال :

«خلا عمر ذات يوم فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ، ونبيها

٢٦

حد ، وقبلتها واحده؟ ...

فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، إنّا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيم نزل ، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ، ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، وإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا ، اقتتلوا. قال : فزجره عمر ، وانتهره ، فانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال ، فعرفه ، فأرسل إليه فقال : أعد عليّ ما قلت؟ فأعاده عليه ، فعرف عمر ، قوله ، وأعجبه» (١).

فوائد معرفة سبب النزول :

يذكر السيوطي في اتقانه ، كما يذكر العلماء فوائد عدة لمعرفة سبب النزول منها :

أولا : ـ معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم ، أي بيان الحكمة التي دعت إلى تشريع حكم من الأحكام ، وأمثلة ذلك :

أ ـ تجنب الإضرار الناشئة عن جماع الحائض في قوله تعالى :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة : ٢٢٢) ب ـ زجر الناس عن القذف ، وتناول أعراض النساء المسلمات ، وذلك في قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (سورة النور : ٤)

__________________

(١) الإمام الشاطبي : الموافقات ، ج ٣ ، ص : ٣٤٧.

٢٧

ج ـ زجر الناس عن إيقاع الظهار على زوجاتهم ، وذلك في قوله تعالى :

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ، وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة : ١ ـ ٤) د ـ التحلي بالصبر ، وعدم معاملة الكفار بالمثل في الإيذاء ، والضرر ، واحتساب الأجر على الله في قوله تعالى :

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

(النحل : ١٢٦) ه ـ معرفة مواقيت الفرائض الدينية في قوله تعالى :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) (البقرة : ١٨٩) ثانيا : إن اللفظ قد يكون عاما ، ويقوم الدليل على تخصيصه ، فإذا عرف السبب قصر التخصيص ، على ما عدا صورته ، فإن دخول صورة

٢٨

السبب قطعي ، وإخراجها بالاجتهاد ممنوع إجماعا (١). وبعبارة أخرى : إذا كان هناك لفظ قرآني ، نزل بصيغة العموم ثم ورد دليل على تخصيصه ، فإن معرفة السبب تقصر التخصيص على ما عدا صورته ، ولا يصح إخراجها ، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي ، فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد ، لأنه ظنّي ، وهذا رأي الجمهور.

مثال ذلك : قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (النور : ٢٣ ، ٢٤ ، ٢٥) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) (أي الآية السابقة). نزلت في عائشة خاصة (٢).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أيضا : هذه في عائشة ، وأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يجعل الله لمن فعل ذلك توبة ، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التوبة ، ثم قرأ :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) الى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) (٥).

ولنا القول : إن الآية الخامسة من سورة النور ، وهي قوله تعالى :

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور : ٥).

وهي تنص على قبول توبة القاذف ، وإن كانت مخصصة لعموم

__________________

(١) السيوطي ، الإتقان ، ص : ٢٩.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه.

٢٩

اللفظ في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) الآية ، والتي نزلت بحق من يقذف أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنها لا تتناول بالتخصيص الذين يقذفون أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي ، ولكن تلك الآية ، أي الخامسة تتناول بالتخصيص الآية الرابعة من سورة النور ، وهي قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (النور : ٤)

وذلك بقبول توبة من يقذف المحصنات من غير أزواج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن هذه الآية الأخيرة تتعلق بمن يقذف المحصنات من المسلمات ، فتقبل توبته.

ثالثا : الفهم الصحيح لمعاني القرآن الكريم ، وكشف الغموض والإبهام عنها.

قال الواحدي : «لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها ، وبيان سبب نزولها».

وقال ابن دقيق العيد : «بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن» ، وقال بن تيمية : «سبب معرفة النزول يعين على فهم الآية ، فإن العمل بالسبب يورث العلم بالمسبب» (١).

أمثلة : ١ ـ غموض معنى الآية على مروان بن الحكم في قوله تعالى :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران : ١٨٨)

فقد أرسل مروان بن الحكم بوابه رافع إلى ابن عباس ، ليقول له : لئن

__________________

(١) السيوطي ، الإتقان ، ٢٩.

٣٠

كان كل امرئ فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل ، معذّبا لنعذبن أجمعون»!! ، فقال ابن عباس : «ما لكم ، ولهذه الآية؟ إنما نزلت في أهل الكتاب ، ثم تلا قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) آل عمران : ١٨٧

وقال ابن عباس : سألهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء ، فكتموه إياه ، فأخذوا بغيره ، فخرجوا ، وقد أروه أن قد أخبروه لما سألهم عنه ، واستحمدوا لذلك إليه ، وخرجوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه» (١).

فإن وقوف ابن عباس على سبب النزول هو الذي أزال الغموض عن معنى الآية.

٢ ـ غموض معنى الآية على قدامة بن مظعون في قوله تعالى :

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المائدة : ٩٣

روي : أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين ، فقدم الجارود على عمر ، فقال : إن قدامة شرب ، فسكر. فقال عمر : من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول ، وذكر الحديث ، فقال عمر : يا قدامة ، إني جالدك ، قال : والله ، لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني. قال عمر : ولم؟! قال : لأن الله يقول :

__________________

(١) أخرجه الشيخان.

٣١

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة : ٩٣)

فقال عمر : أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرّم الله؟ ، وفي رواية ، فقال : لم تجلدني ، وبيني وبينك كتاب الله!! ، فقال عمر : وأي كتاب الله تجد ألّا أجلدك؟! قال : إن الله يقول في كتابه : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ...) الآية ، فأنا من الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا ، وآمنوا ثم اتقوا ، وأحسنوا ، شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرا ، وأحدا ، والخندق والمشاهد ، فقال عمر : ألا تردّون على قوله؟ ، فقال ابن عباس : إن هؤلاء الآيات أنزلن ، عذرا للماضين ، وحجة على الباقين ، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر ، وحجة على الباقين ، لأنّ الله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ، ثم قرأ إلى آخر الآية ، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا ، وآمنوا ، ثم اتقوا ، وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر ، قال عمر : صدقت» (١).

فإن معرفة ابن عباس لسبب نزول الآية أزال الغموض في فهمها.

٣ ـ غموض معنى الآية على نفر من أهل الشام في قوله تعالى :

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة : ٩٣)

حكى اسماعيل القاضي قال : «شرب نفر من أهل الشام الخمر ، وعليهم

__________________

(١) د : محمد أنيس عبادة : تاريخ الفقه الإسلامي ، ص : ٦٤.

٣٢

يزيد بن أبي سفيان ، فقالوا : هي لنا حلال ، وتأولوا هذه الآية : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية. فكتب فيهم إلى عمر. قال : فكتب إليه عمر : أن ابعث بهم إليّ قبل أن يفسدوا من قبلك ، فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، نرى أن قد كذبوا على الله ، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به إلى آخر الحديث» (١). فالغفلة عن معرفة سبب نزول الآية أدت إلى الجهالة بمقصود الآية.

٤ ـ غموض معنى الآية في قوله تعالى :

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة : ١١٥)

أخرج الترمذي ، وضعّفه من حديث عامر بن ربيعة ، قال : «كنا في سفر في ليلة مظلمة ، فلم ندر أين القبلة ، فصلى كل رجل منا على حياله ، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت» (٢).

وفي رواية أيضا ، ما أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها بضعة عشر شهرا ، وكان يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو الله ، وينظر إلى السماء فأنزل الله :

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة : ١٤٤)

فارتب من ذلك اليهود ، وقالوا : ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها

__________________

(١) د. محمد أنيس عبادة ، المرجع السابق ، ص : ٦٥.

(٢) السيوطي ، الإتقان ، ص : ٣٣.

٣٣

فأنزل الله :

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة : ١١٥)

إن ظاهر الآية يبيح للمسلم أن يصلي إلى الجهة التي يختارها ، على اعتبار أن لله المشرق ، والمغرب ، وجميع الجهات ، إلا أن الوقوف على سبب نزول الآية ينفي هذا المعنى ، ويمنع هذه الإباحة ، ويقيد الصلاة إلى القبلة ، أي الكعبة ، والمحددة في الآية ١٤٤ من سورة البقرة ، حيث أن سبب النزول كان للرد على يهود عند ما تساءلوا عن سبب تحول المسلمين عن قبلة بيت المقدس إلى قبلة الكعبة.

أو أن سبب النزول كما يقول الواحدي في إسناده : «هو أن نفرا من المسلمين صلّوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة مظلمة ، فلم يدروا كيف القبلة ، فصلى كل رجل على حاله ، وتبعا لاجتهاده ، فلم يضيع الله لأحد منهم عمله ، وأثابه الرضا على صلاته حتى ولو لم يتجه إلى الكعبة ، لأنه لم يكن له إلى معرفة القبلة سبيل في ظلام الليل البهيم» (١).

ويعلن الإمام السيوطي أيضا : «فإنا لو تركنا مدلول اللفظ لاقتضى أن المصلين لا يجب عليهم استقبال القبلة ، سفرا ولا حضرا ، وهو خلاف الإجماع ، فلما عرف سبب نزولها ، علم أنها في نافلة السفر ، أو فيمن صلّى بالاجتهاد ، وبأن له الخطأ على مختلف الروايات».

٥ ـ غموض معنى الآية على عروة بن الزبير في قوله تعالى :

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة : ١٥٨)

أخرج الشيخان عن عائشة : «أن عروة بن الزبير قال لها : أرأيت قول الله : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ، ومن تطوع خيرا فإن الله شاكرا عليم. فما

__________________

(١) الواحدي ، أسباب النزول ، ص : ٢٥.

٣٤

أرى على أحد جناح أن لا يطّوف بهما!!

فقالت عائشة : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إنها لو كانت على ما أوّلتها ، كانت : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها ، وكان من أهل لها يتحرج من أن يطوف بالصفا ، والمروة في الجاهلية ، فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية. قالت عائشة : ثم قد بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطواف بهما ، فليس لأحد أن يدع الطواف» (١).

إن معرفة عائشة (رضي الله عنها) بسبب نزول الآية رفع الإشكال الذي التبس على عروة بن الزبير ، وفهم ان حكم الطواف هو الإباحة ، وأفهمته عائشة أن حكم الطواف الوجوب ، لأن الله لم يقل ألّا يطّوّف بهما ، وإنما قال أن يطّوف بهما ، وكان رد عائشة مستندا إلى سبب نزول الآية ، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي بينهما ، لأنه من عمل الجاهلية ، حيث كان على الصفا إساف ، وعلى المروة نائلة ، وهما صنمان ، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما.

٦ ـ غموض معنى الآية على أحد المفسرين في قوله تعالى :

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (الدخان : ١٠)

أخرج البخاري : «جاء رجل إلى ابن مسعود ، فقال : تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه ، يفسر هذه الآية : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) ، يأتي الناس يوم القيامة ، فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام ، فقال ابن مسعود : من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم

__________________

(١) أخرجه الشيخان.

٣٥

له به : الله أعلم ، إنما كان هذا ، لأن قريشا استعصوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم قحط ، وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء ، فيرى بينه ، وبينها كهيئة الدخان من الجهد ، فأنزل الله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ).

فمعرفة ابن مسعود بسبب النزول أزال الغموض في معناها.

٧ ـ غموض معنى الآية على بعض الأئمة ، في قوله تعالى :

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) (الطلاق : ٤) وقد وقع الغموض في معنى الشرط (إِنِ ارْتَبْتُمْ) على بعض الأئمة حتى قال الظاهرية : إن الآيسة لا عدة لها ، إذا لم ترتب ، وقد بين ذلك سبب النزول ، أي أزال الغموض في قوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ).

أخرج الحاكم : أنه لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد النساء ، فقالوا : قد بقي عدد من عدد النساء ، لم يذكرن : الصغار والكبار ، فنزلت.

ويقول السيوطي : «فعلم بذلك أن الآية خطاب لمن لم يعلم ما حكمهن في العدة ، وارتاب هل عليهن عدة أولا؟! أو هل عدتهن كاللاتي في سورة البقرة أولا؟! فمعنى ان ارتبتم : ان اشكل عليكم حكمهن ، وجهلتم كيف يعتدون ، فهذا حكمهن» (١).

رابعا : معرفة فيمن نزلت الآية ، وإزالة الإبهام عمن نزلت فيه ، وذلك دفعا للضرر ، والتحامل في أن يفسر معنى الآية لغير أو بحق غير من نزلت فيه.

فقوله تعالى :

__________________

(١) السيوطي ، الإتقان ، ص : ٣٠.

٣٦

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (الأحقاف : ١٧)

فقد عزا مروان بن الحكم نزول هذه الآية في حق عبد الرحمن بن أبي بكر زورا ، وبهتانا.

حيث أن معاوية طلب من مروان بن الحكم ـ واليه على المدينة ـ أن يأخذ البيعة لابن معاوية يزيد ، فأبى عبد الرحمن بن أبي بكر أن يبايع ، فعزا مروان نزول هذه الآية في حقه ، فتدخلت عائشة عند ما التجأ إلى بيتها عبد الرحمن بن أبي بكر ، وأفهمت مروان سبب نزول الآية ، وأنها ليست في عبد الرحمن بن أبي بكر.

عن يوسف بن ماهك قال : «كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان ، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية ، لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا ، فقال : خذوه.

فدخل بيت عائشة ، فلم يقدروا عليه ، فقال مروان : إن هذه أنزلت فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) ، فقالت عائشة : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري».

وفي رواية : «إن مروان لما طلب البيعة ليزيد ، قال : سنّة أبي بكر ، وعمر ، فقال عبد الرحمن : سنة هيرقل ، وقيصر ، فقال مروان : هذا الذي قال الله فيه : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) الآية ، فبلغ ذلك عائشة ، فقالت : كذب مروان ، والله ، ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه ، لسمّيته» (١).

خامسا : معرفة ما إذا كانت العبرة لعموم اللفظ أم لخصوص

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد ، والنّسائي ، وابن المنذر ، والحاكم.

٣٧

السبب ، ويمكننا تأصيل ذلك ضمن حالتين اثنتين من النزول القرآني ، وهما :

الحالة الأولى : خصوص اللفظ وخصوص السبب ... أي أن ينزل القرآن بلفظ الخصوص ، وفي سبب خاص ، فالعلماء يجمعون على أن العبرة بالنسبة له لخصوص السبب ، ولا خلاف.

الحالة الثانية : عموم اللفظ وخصوص السبب : أي أن ينزل القرآن بلفظ العموم ، وفي سبب خاص ، فأكثر العلماء على أن العبرة بالنسبة له هي لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.

ويشترط في هذه الحالة أن يفيد اللفظ العموم في ظاهره ، وحقيقته ، أما إذا كان اللفظ يفيد العموم في ظاهره ، ولكنه يفيد الخصوص في حقيقته ، فإن العبرة في هذه الحالة ، تكون لخصوص السبب لا لعموم اللفظ ، وهنا تأتي الفائدة من معرفة سبب النزول ، حيث يستند إليه في تخصيص الحكم لا تعميمه ، وفي الحكم على أن العبرة لخصوص السبب.

مثال ذلك قوله تعالى :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران : ١٨٨)

فاللفظ في هذه الآية يفيد العموم في ظاهره ، ولكنه يفيد الخصوص في حقيقته ، فالعبرة فيه لخصوص السبب لا لعموم اللفظ.

وبعبارة أخرى : فاللفظ في هذه الآية ، ولو أنه يفيد العموم في ظاهره إلا أن معرفتنا بسبب النزول تجعل العبرة فيها لخصوص السبب لا لعموم اللفظ ، أي أن معرفة سبب النزول قصر حكم هذه الآية على الخصوص لا على العموم ، ومن ثم فإن حكم هذه الآية لا يتعدى السبب

٣٨

الذي نزلت فيه ، وهم فئة من اليهود ، سألهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء فكتموه إياه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.

أخرج البخاري ، ومسلم عن مروان بن الحكم قال لبوابه : «اذهب يا رافع ، إلى ابن عباس ، فقل : لئن كان كل أمرع منا فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون ، فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ، إنما نزلت في أهل الكتاب ، ثم تلا قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (آل عمران : ١٨٧) قال ابن عباس : «سألهم رسول الله عن شيء ، فكتموه إياه ، وأخذوا بغيره ، فخرجوا ، وقد أروه أن قد اخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أوتوا من كتمان ما سألهم عنه».

ونظرا لأهمية موضوع عموم اللفظ ، وخصوص السبب فقد افرد له العلماء بحوثا خاصة مفصلة به. وترتبط أهمية الدراسة لعلم أسباب النزول في تفسيرها لمدلولات الأحكام القرآنية بتغاير اللفظ ، والسبب في الآية القرآنية الواحدة.

ففي الآية القرآنية قد يرد اللفظ عاما ، وفي سبب عام ، وهو ما يعرف بعموم اللفظ وعموم السبب.

وقد يرد اللفظ خاصا ، وفي سبب خاص ، وهو ما يعرف بخصوص اللفظ وخصوص السبب ، وقد يرد اللفظ عاما وفي سبب خاص ، وهو ما يعرف بعموم اللفظ وخصوص السبب.

وهذا سيكون مدار الباب الثاني.

٣٩
٤٠