أعلام النبوّة

أبو حاتم الرازي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبو حاتم الرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسه پژوهشى حكمت و فلسفه ايران
المطبعة: صارمي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

والكتب المنزّلة ، لا يعرفون (١) ما فيها ؛ ولكنّ تلك القوّة (٢) ، جمعت الأنفس على محبّتها ؛ حتّى جعلوها شعارهم ودثارهم ، وحلّت فى قلوبهم ، وجذبتها إلى قبول (٣) ذلك ، كما تجذب (٤) القوّة التى فى حجر المغناطيس الحديد. فكذلك فى الكتب المنزّلة (٥) ، قوّة كامنة مستسرة فيها ، تجذب القلوب (٦) ؛ حتى قد صارت كتب الأنبياء (ع) مثل الطّلسمات فى العالم. وسوف نشرح هذا الباب فى موضعه ونذكر فى جواب قول الملحد (٧) فى باب الألف والعادة ، ما يجب إن شاء الله تعالى (٨).

__________________

(١) ـ يعرفون : يعرفواC (٢) القوة : ـ A (٣) ـ قبول : ـ A (٤) تجذب : يجذب C (٥) ـ المنزلة : المنزلات C (٦) القلوب : ـ B (٧) ـ جواب ... الملحد : جوابه A (٨) ـ تعالى : ـ AC ـ

٦١

الفصل الثامن

قوله فى الضّعفاء من الرّجال والنّساء ...!

وأمّا قوله فى الضّعفاء (١) من الرّجال والنّساء والصّبيان ، واجتماعهم على رؤساء (٢) أهل الملّة ، فانّ هذه الطّبقات من النّاس ، إن كانت (٣) أنفسهم لا تتخلّص من كدورة هذا العالم ، حتّى ينظروا فى الفلسفة ، على ما ادّعاه الملحد ، فإنّ الحكيم الرّحيم قد ظلمهم ـ عزّ وتعالى عن ذلك ـ حين لم يرزقهم عقولا تامّة قويّة تضبط الفلسفة ، وتقدر على النّظر فيها ؛ حتى تتخلّص من كدورة هذا العالم. ولا يجوز فى حكمته وعلمه أن يعين هذه الأنفس على أن تتجبّل فى (٤) هذا العالم ، وتتّحد بهذه الأجساد الكدرة ، وتقع فى هذا البلاء العظيم ؛ فيلزمون النّظر فى أمور يعجزون عنها ، ويكلّفون طلب ما لا يطيقونه. فاذا لم يفعلوا ، تركهم يكرّون فى هذا العالم ويشقون فيه (٥) ، على أصل مقالة الملحد. وهذا ظلم ، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ؛ لأنّا

__________________

(١) ـ الضعفاء : الضعفى C (٢) ـ رؤساء : رءوس A (٣) ان كانت : إن كانت B (٤) ـ فى : ـ C (٥) ـ فيه : ـ B

٦٢

نجد دهماء النّاس فى هذه الأقاليم التى نشاهدها (١) ، وكافّة الأمم فى سائر الأقاليم والجزائر من أهل الألسنة المختلفة ، لا يدرون ما الفلسفة ، ولا يعرفون (٢) كيفيّتها وحقيقتها ، فضلا عن النظر فيها ؛ إلا قليلا (٣) من النّاس من أهل اللّغة العربيّة أو اليونانيّة (٤) ، ولو عدوّا لسهل (٥) تعدادهم ؛ وسائر الخلائق (٦) ، سبيلهم ما (٧) قد ذكرنا ، ونعتدّ فى ذلك بما نشاهده. فأين الفلسفة بلسان الفرس ، وبلغاتها المختلفة فى بلدانها (٨) ؛ وهكذا سبيل سائر (٩) الأمم. فأمّا النّساء والصّغار من النّاس الذين لم يبلغوا الاستعباد ، والضّعفاء من البالغين فى جميع الأمصار والمدن فيما قرب وبعد ، فأنت يائس منقطع الرّجاء أن يرتاضوا بالفلسفة ، أو تبلغها عقولهم ؛ لانّا لا نجد فيلسوفات ولا ولدانا ولا ضعفاء من النّاس متفلسفين (١٠) ؛ والموت يجرى عليهم.

(٢) وحكم الامم التى فى أطراف الأرض من أصناف العجم مثل الدّيلم والتّرك والزّنج والحبشة وسائر الاقاليم ، حكم من نشاهده. فان كان الحكيم الرحيم حرمهم ذلك ، ومنعهم تلك القوّة وبخل عليهم بتلك الآلة ، حتى عجزوا عن النّظر فى الفلسفة ، ثم إذا ماتوا ، يعينهم على التّجبل فى هذا العالم والعود إليه على مذهب الملحد ، انّهم يكرّون (١١) فيه أبدا حتى ينظروا فى الفلسفة ، فتصفو أنفسهم ، فإنّ هذا ظلم غير جائز فى حكمة الحكيم ورحمة

__________________

(١) ـ نشاهدوها : يشاهدوهاC (٢) ـ يعرفون : يعرفواC (٣) ـ قليلا : قليل BC ـ (٤) ـ اليونانية : اليانونيةC (٥) لسهل : فسهل A (٦) الخلائق : الخلق A (٧) ما : ـ A (٨) ـ بلدانها : بلدA (٩) ـ سائر : ـ B (١٠) ـ متفلسفين : متقلفسين C (١١) ـ يكرون : يكررون B ، يكرهون C

٦٣

الرحيم ، حين لم يلهمهم كافّة ما يحتاجون إليه فى أمر دينهم ودنياهم طبعا وفطنة ، وقد اختار لهم أعسر الأمور وحرمهم أيسرها ؛ وهو خلاف ما ادّعاه الملحد ، أنّ الحكيم اختار لهم أيسر الأمور ، ولم يكلّفهم الأعسر ، وألهمهم هذه الأسباب طبعا ، وزعم أنّه لا يجوز فى حكمة الحكيم النّاظر لخلقه ، إذا وجد السّبيل إلى أيسر الأمور ، أن يكلّفه (١) عباده ، فيدع ذلك ويكلّفهم الأعسر (٢) ؛ يريد بذلك ، أنّه لم يكلّفهم طاعة الأنبياء والرّسل ، فانّها (٣) أعسر الأمور ؛ ولكن ألهمهم ما يحتاجون إليه ، ليدركوه بطباعهم. فأين ما ألهم هؤلاء الضّعفاء من الرّجال والنّساء والولدان ، وهذه الأمم التى ذكرناها؟ أو ليس ما يدين به أهل الشّريعة ، أولى بحكمة الحكيم ورحمة الرّحيم ، وأيسر الأمور التى اختارها لبرّيته؟ لانّ أهل الشّريعة قالوا : إنّ الخلائق كلّهم مستعبدون ، مأمورون ، منهيّون (٤) ، مجازون (٥) بأعمالهم على قدر نيّاتهم واجتهادهم ، وإنهم لا يكلّفون ما لا يطيقون ؛ وإنّ الضّعفاء من الرّجال والنّساء والولدان الذين ليس (٦) فى وسعهم الطّلب والبحث ، لم يكلّفوا ذلك ؛ بل ، كلّفه العقلاء الأقوياء ؛ فاذا قصّروا (٧) ، عوقبوا ؛ واذا اجتهدوا ، أثيبوا ؛ واذا عجزوا ، فقد وعد الله أن (٨) يعفو (٩) عنهم ؛ وبهذا نطق القرآن ، قال الله عزوجل (١٠) : (إِنَ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ

__________________

(١) ـ يكلفه : يكلف B (٢) الاعسر : الاA (٣) ـ فانها : فانه AC ـ (٤) ـ منهيون : + وB (٥) مجازون : مجازورن B (٦) ـ ليس : + لهم C (٧) ـ قصروا : قاصرواA (٨) ـ ان : انه C (٩) يعفو : يعف C (١٠) ـ عزوجل : ـ A ـ A ، ع ج C (١١) ان : ـ B (١٢) ـ فيم : افيم B

٦٤

قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً)

(٣) فهذا شرطه عزوجل على بريّته ولبريّته على لسان رسوله محمّد (ص) الّذي جعله سببا بينه وبين خلقه. وهذا أشبه بحكمته ورحمته ، وأولى به ؛ وهو أيسر الأمور عليهم من الّذي ادّعاه الملحد. وإذا كان الأمر هكذا ، فانّ الضّعفاء من الرّجال والنّساء والولدان ، هم معذورون فى اجتماعهم على رؤساء أهل الملّة ، والأخذ عنهم مقدار ما يطيقون (٣) ممّا يرجون به خلاصهم (٤) من وبال هذا العالم ، وجائز لهم التّقليد اذا لم يستطيعوا حيلة ولم يهتدوا سبيلا. وتقليدهم لهؤلاء الرّؤساء أولى من تقليدهم للمتفلسفين ؛ لانّ الرّؤساء (٥) من أهل الشرائع ، يرغبون فى الثواب العظيم على العمل الصالح ، ويرهبون من العذاب الأليم على الظلم والفساد : والرؤساء المتفلسفون (٦) من أهل الالحاد (٧) ، فلا رغبة عندهم ولا رهبة. فأىّ الأمرين أولى بالاحتياط : الاقتداء برؤساء أهل الشّريعة والأخذ بالحزم وتقليدهم ايّاهم ، أم الافتداء بالملحدين وتقليدهم فى إهمال الأمر؟! وأىّ الأمرين أشبه بحكمة الحكيم ورحمة الرّحيم : ما ادّعاه الملحد ، أم ما ادّعاه أهل الشريعة؟! كلّا لا وزر للملحد من هذا ولا محيص ؛ وليس فى احتجاجه باجتماع الضّعفاء من الرّجال والنّساء والولدان (٨) على (٩) رؤساء أهل الملّة ، برهان على إبطال النّبوّة.

__________________

(١) ـ يعفو : يعفواC (٢) غفورا : ـ C (٣) ـ يطيقون : يطيقونه C (٤) ـ خلاصهم : صلاحهم BC ـ (٥) ـ اولى ... الرؤساء : ـ B (٦) ـ المتفلسفون : المتفلسفين BC ـ (٧) الالحاد : الحادB (٨) ـ الولدان : والدان A (٩) على : عن C

٦٥
٦٦

الباب الثّالث

٦٧
٦٨

الفصل الاول

قوله الآن ننظر فى كلام القوم وتناقضه

(١) وأمّا قوله : الآن ننظر فى كلام القوم وتناقضه ـ يعنى بذلك كلام الأنبياء (ع) ـ وقال : زعم عيسى أنّه ابن الله ، وزعم موسى أنّه لا ابن (١) له ، وزعم محمد أنه مخلوق كسائر الناس ، ومانى وزرهشت خالفا موسى وعيسى ومحمدا (٢) فى : القديم ، وكون العالم ، وسبب الخير والشرّ ، ومانى خالف (٣) زرهشت فى الكونين وعللهما (٤) ، ومحمّد زعم أنّ المسيح لم يقتل ، واليهود والنّصارى تنكر ذلك وتزعم انّه قتل وصلب ؛ وذكر هذه الأبواب وخلطها بحشو كثير من دعاوى المجوس والثّنويّة وبدعهم ؛ ثم قال : إنّ اليهود قالت إنّ موسى قال : إنّ الله قدير غير مؤلّف ولا مصنوع ، وإنّه لا تنفعه المنافع ولا تضرّه المضارّ ؛ وإنّ فى التّوراة : أن يوضع الشّحم على النار ليشمّ الرّيح منه الرّبّ (٥) ،

__________________

(١) ـ ابن : بن C (٢) ـ محمدا : محمدC (٣) ـ خالف : خالق A (٤) ـ عللهما : عالمهماB (٥) ـ الريح ... الرب : لمذبح سنةC

٦٩

وأنّ فى التّوراة (١) : أنّ قديم الأيّام فى صورة شيخ أبيض الرّأس واللّحية ؛ وفيها : ما لكم تقرّبون إليّ كلّ عرجاء وعوراء (٢) أتراكم لو أهديتم (٣) ذلك الى أصدقائكم قبلوه (٤) منكم إلا صحيحا؟ وفيها : اتّخذوا إليّ بساطا من إبريسم (٥) دقيق (٦) الصّنعة وخوانا من خشب الشّمشار (٧). ثم قال الملحد : هذا ، بكلام أهل الفاقة أشبه منه بكلام الغنىّ الحميد. وذكر أشياء كثيرة ممّا (٨) هى فى التّوراة وعابها (٩). وقال : زعمت النّصارى أنّ عيسى قديم غير مربوب ، وأنّه قال : جئت لاتمّم التّوراة ، ثم نسخ شرائعها وبدّل قوانينها وأحكامها. وأنّ النّصارى زعمت أنّه آب وابن وروح القدس. وذكر ما تدّعيه المجوس عن زرهشت فى باب أهرمن (١٠) واهر (١١) ، وما ادّعاه مانى : أنّ الكلمة انفصلت من الأب ومزّقت الشّياطين وقتلت ، وأنّ السماء من جلود الشياطين ، وأنّ الرّعد جرجرة (١٢) العفاريت (١٣) ، وأنّ الزّلزلة تحرّك الشّياطين تحت الارض ، وأنّ مانى رفع سابور الّذي عمل له «الشّابرقان» (١٤) فى الجوّ ، وأخفاه حينا هناك ، وأنّ مانى كان يختطف من بين (١٥) أيديهم بروحه (١٦) يحاذى (١٧) به عين الشّمس ، فربّما (١٨) مكث ساعة وربّما مكث أياما. فأورد مثل هذه المحالات التى ابتدعها المبتدعون فى المجوسيّة (١٩)

__________________

(١) ـ ان يوضع ... التوراة : ـ A (٢) ـ عوراء : عورى C (٣) ـ اهديتم : اهتديتم A (٤) قبلوه : ما قبلوه AB (٥) ـ إبريسم ابريشيم C (٦) ، دقيق : رقيق B (٧) ـ الشمشار الشمشادA (٨) ـ مما : ماC (٩) عابها : عاب بهاC (١٠) ـ اهرمن : هرمن C (١١) اهر : اهن AB (١٢) ـ جرجرة : جرحرةC (١٣) ، العفاريت : العقاريب C (١٤) ـ الشابرقان : الشامرفان A ، الشايرقان B (١٥) ـ بين : عين A (١٦) ، بروحه : لروحه A (١٧) يحاذى : يتعاذى A (١٨) فربما : ـ A ـ A ، فهماC (١٩) ـ المجوسية ، للمجوسيةA

٧٠

والمنّانيّة (١) وخلطها بما (٢) فى الكتب المنزّلة وآثار الأنبياء ، وأضافها الى (٣) رسل الله الطّاهرين الذين هم (٤) براء من كلّ ذلك.

وزعم (٥) أن هذا ، من رسومهم ، وأنّ هذا اختلاف وتناقض فى كلامهم ؛ واحتجّ بذلك فى دفع (٦) النّبوّة ، وأراد أن يستظهر بهذه المخاريق والخرافات ، ويقوّى كلامه بهذه الاباطيل والسّخافات. ولعمرى قد افتقر من أراد أن يطفئ نور الله بالمحالات (٧) التى تدّعيها (٨) المنّانيّة (٩) والزّنادقة وغيرهم من الضّلّال فى كل أمّة ؛ «والله متم نوره ولو كره الكافرون»

فنقول (١٠) فى جوابه :

(٢) أمّا الّذي ذكره عن المجوس والمنّانيّة (١١) ، فانّ الملحد قصد فى ذلك (١٢) التّشنيع على أهل الملل ؛ وليست له حجّة فى ايراد تلك المحالات (١٣) التى ابتدعها المنّانيّة (١٤) والمجوس (١٥) على إبطال النّبوّة ؛ فإنّ تلك بدع من الضّلّال ، مثلها ينسب الى الفلسفة ؛ وسنذكره (١٦) فى موضعه ان شاء (١٧) الله تعالى (١٨).

(٣) فأمّا الّذي ذكره (١٩) أنّه فى التّوراة وفى الإنجيل (٢٠) وفى غيرهما من الكتب المنزّلة ، وما ادّعاه من التّناقض فى القرآن ، فانّ أكثر ذلك أمثال مضروبة ، منها ما (٢١) معانيها واضحة (٢٢) ، ومنها مستغلقة ؛ وليس هناك (٢٣) اختلاف ولا تناقض ؛ وهو كله

__________________

(١) ـ المنانية : المانيةAB (٢) بما : ـ A (٣) ـ الى : الرC (٤) ، الذين هم : الذينهم AB (٥) ـ زعم : قال B (٦) ـ دفع : رفع A (٧) ـ المحالات : المجادلات (٨) تدعيها : ـ A (٩) ـ المنانية : المانيةAB (١٠) ـ فنقول : ـ B ، نقول AC ـ (١١) ـ المنانية : المانيةAB (١٢) ـ ذلك : + فى A (١٣) المحالات : المحلاب C (١٤) ـ المنانية المانيةAB (١٥) المجوس : المجوسيةB (١٦) ـ سنذكره : سنذكرA (١٧) ان شاء : إنشاءB (١٨) تعالى : ـ AC ـ (١٩) ـ ذكره : ـ B (٢٠) فى الإنجيل B (٢١) ـ منهاما : ماA فيهاماC (٢٢) ـ واضحة : واضحات A (٢٣) ـ هناك : B

٧١

حقّ وصدق ؛ وأنّ الأنبياء لم يختلفوا. وكلامهم (١) الّذي يقدّره الجهّال (٢) أنّه متناقض ، فانّه وإن اختلفت (٣) ألفاظه ، فانّ المعانى فيه متّفقة ؛ لانّ الأنبياء والحكماء ، كان أكثر كلامهم مرموزا ، وكانوا يخاطبون الامم بالحكمة ، ويضربون الامثال ؛ فيسمعها الخاصّ والعامّ ، فيعقل ذلك عنهم العلماء والخواصّ الذين كانوا يقفون على أسرار (٤) الأنبياء (ع) ، ثم يعلّمون المستحقين من النّاس ؛ ليكون فى النّاس عالم ومتعلّم وخاصّ وعامّ ، وليكون الامتحان قائما فيهم بذلك. ومن نظر فى ظاهر ألفاظهم ولم يعرف معانيها ، حكم فيه بالتناقض والاختلاف.

(٤) هكذا (٥) كانت (٦) رسوم الأنبياء (ع) ؛ وهو الاصل الصّحيح الّذي كان يعتقده العلماء فى كل ملّة ، من مضى منهم فى الشّرائع القديمة (٧) ، ومن غبر فى هذه الأمّة (٨). وبهذا نطقت (٩) الكتب المنزّلة ، ودلّت عليه جميع كتب الحكماء وبه أخبر العلماء. وهذه شريطة موجودة أيضا فى كتب الفلاسفة الحكماء المحقّين ؛ ففيها (١٠) كلام مغلق ، يحتاج المتعلم فيه الى من يحلّه له ، حتى يصل الى معرفته ومن جهله وقال فيه برأيه ، أخطأ فيه ؛ حتى اختلفوا (١١) وتقولوا (١٢) على القدماء وطعنوا (١٣) عليهم فى مذاهبهم ؛ كما اختلفوا فى أمر أرسطاطاليس ، فمنهم من قضى عليه فى كلامه أنّه موحّد ، وقضى آخرون بغير ذلك ؛ هذا حين جهلوا رموز كلامه فسبيل الكتب المنزّلة وكلام الأنبياء (ع) والاخبار التى رويت عنهم على ما ذكرنا (١٤).

__________________

(١) ـ كلامهم : كلامه A (٢) الجهال : ـ B (٣) ـ اختلفت : اختلف A (٤) ـ اسرار : اسرارهم C (٥) ـ هكذا : هذاC (٦) كانت : كان ABC (٧) ـ القديمة : القائمةA (٨) ـ الامة+ وبهذه الكتب المنزلةB (٩) نطقت : نطق B (١٠) ـ ففيها : وفيهاABC (١١) ـ اختلفوا : يختلفوا : A (١٢) تقولوا : يتقولواA (١٣) طعنوا يطعنون B (١٤) ـ ذكرنا : ذكرناه A

٧٢

(٥) ويجب أن ينظر (١) فى شأن هذه الكتب المنزّلة وأخبار الأنبياء (ع) التى ادّعى الملحد أنّها مستحيلة ، وأنّ فيها تناقضا ؛ فان كان من تنسب إليه هذه الاخبار صادقا عاقلا مميزا عند أهل زمانه ، فالامر فيه على ما ذكرنا. وإن كان من تنسب إليه هذه (٢) الكتب وتسند إليه هذه الاخبار كذوبا مجنونا معتوها عند أهل زمانه لا يعقل ما يقول ، جاز أن يحكم فيها بالتّناقض والكذب ، على (٣) حسب ما ادّعى الملحد ؛ لأنّه لا يجوز أن يورد العاقل المميز الكامل كلاما متناقضا وقولا مستحيلا يخالف بعضه بعضا ، ولا يجوز أن يكون عاقل مميز (٤) يشهد لغيره بالصّدق والنّبوّة ، ويزعم أنّه على منهاجه وأنّه يريد أن يشيّد بنيانه ، ثم ينقض كلامه ويهدم بنيانه ، مثل ما ادّعاه الملحد من تناقض كلام الأنبياء والخلاف من بعضهم على بعض وهدم بعضهم (٥) بنيان بعض. فان كان (٦) الائمّة الذين أخذت عنهم هذه الكتب ورويت عنهم هذه الاخبار ، مثل : موسى وعيسى ومحمّد (ع) معروفين بالجهل والغباوة والحمق والجنون ، فالقول فيه ما قال الملحد ـ ونعوذ بالله أن يكون كذلك ـ بل ، الائمّة الذين (٧) يقتدى بهم أصحاب الشّرائع ، مثل موسى وعيسى ومحمّد وغيرهم من الأنبياء (ع) كانوا مشهورين بالكمال والعقل والتّمييز والسّياسة والجمع لكلّ خلق محمود ؛ وكيف لا يكون كذلك مع سياستهم للأنام وجمعهم إيّاهم على شرائعهم ؛ وكما اتفقت الامم التى شاهدت محمدا (٨) (ص) أنّهم (٩) وجدوه تاما فى عقله وحلمه وأناته وتدبيره ، وسياسته للخاصّ والعامّ ، وكماله فى جميع الخصال التى يحتاج إليها

__________________

(١) ـ ينظر : ننظرAB (٢) ـ هذه+ هذه C (٣) ـ على : على ماB (٤) ـ عاقل مميز : عاقلا مميزاAC ـ (٥) ـ هدم بعضهم : هدم بعض A (٦) فان كان : فإن كانت B (٧) ـ الذين : التى C (٨) ـ محمدا : محمدC (٩) انهم : ننهم A

٧٣

السّائس للبريّة.

(٦) فاقرّت قريش أنّهم وجدوه أكمل أهل دهره (١) ، وأجمعهم للخصال الحميدة ؛ وكانت قريش تسمّيه «الصّادق (٢) الامين» قبل أن قام بالنّبوّة ؛ حتى : إنّهم لما اجتمعوا لبناء البيت ، لانّه كان قد انتقض بناؤه (٣) ، فحضر من كلّ بطن من بطون قريش رؤساؤهم (٤) وتعاونوا على بنائه ؛ لكى لا تكون (٥) تلك (٦) المنقبة لبعضهم دون بعض. فلمّا أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود موضعه ، اختلفوا وتنافسوا (٧) فى ذلك ، ثم اتّفقوا على محمّد (ص) وقالوا (٨) : رضينا بحكم (٩) الأمين. فحضر (ع) وأمر أن يبسط ثوب ويوضع عليه الحجر ، وأن يأخذ رئيس كلّ قبيلة طرفا (١٠) من الثّوب ، ثمّ يرفعوه معا (١١) ، ففعلوا ، ثمّ تناوله هو (ص) فوضعه فى موضعه ؛ فرضوا بذلك ثقة منهم به ، واعتمادا على رأيه وأمانته وعقله وصدقه ؛ وبذلك كانوا يعرفونه حتى ظهر بالنّبوّة.

(٧) فلمّا ظهر بالنّبوّة وعاب دينهم ، وما كانوا يعبدونه (١٢) من دون الله ، عادوه وو نابذوه وقالوا : يا محمد إنّا عرفناك صدوقا (١٣) أمينا ، فما هذا الّذي قد أتيتنا به؟! فأنزل الله تعالى فى ذلك ، فقال : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أى : لا يجدونك كذّابا ، ويعرفونك بالصدق ؛ ولكن يظلمون انفسهم ويجحدون الحقّ (١٤) ويستنكفون منه. فان قال قائل ، فلم قالوا له أنّك مجنون حتى أنزل الله (١٥) عزوجل : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) ، وأنزل قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ

__________________

(١) ـ دهره : + جمعهم B (٢) ـ الصادق : ـ AB (٣) ـ بناؤه : بنائدA (٤) ـ رؤسا ـ وهم : رؤسائهم AB (٥) لكى لا تكون : ولكن C (٦) ـ تلك : ـ B (٧) ـ تنافسوا : تناقشواC (٨) ـ قالوا : ـ A (٩) ـ بحكم : + الصادق C (١٠) ـ طرفا : طرف C (١١) معا : ـ B (١٢) ـ يعبدونه : يعبدون A (١٣) ـ صدوقا : ـ B (١٤) ـ الحق : ـ B (١٥) ـ الله : + عليه C

٧٤

بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ)؟ قلنا (١) : انّهم لم يعنوا بهذا أنّه مجنون معتوه ، ولكنّهم ادعوا أنّ (٢) له تابعا من الجنّ يعلّمه ، وعلى هذا المعنى قالوا به جنّة ؛ لأنّهم لمّا وجدوا للأشياء (٣) التى يخبر بها (٤) حقيقة (٥) من الأمور الغائبة التى كان يذكرها ثم يجدونها كما يقول ، قالوا : هذا له (٦) رئىّ من الجنّ ، وتابع يلقى (٧) إليه هذه الأمور.

(٨) وهكذا قالوا لمن تقدّم من الأنبياء ، كما ذكر الله فى قصّة نوح : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) (٨) (٩) وفى قصّة موسى (ع) حكاية عن فرعون حين قال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ، ثم قال على اثر هذه الآية التى اظهرها من العصا (١٠) واليد : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) فكيف يجوز أن يعنى بقوله مجنون أنّه معتوه ، ثم يقول إنّه لساحر عليم يريد أن يخرجكم من ارضكم بسحره (١١)؟ فكيف يكون المجنون ساحرا عليما؟! وكيف يخاف فرعون من مجنون أن يخرجه من أرضه ولكنّه أراد بقوله مجنون ، أى له رئى من الجن ؛ لانه كان يخبرهم بأشياء تصحّ ، فقالوا هذا من جهة الجنّ. ولمّا رأوا الآيات ، قالوا هذا سحر ، فلم يكن قولهم لمحمّد : معلّم مجنون وبه جنّة ، طعنا عليه فى عقله وكماله وتمام فهمه وتمييزه. فكيف يجوز أن يظنّوا به الجنون مع الامور العظيمة الجليلة التى كانت ترى (١٢) منه؟ ألا تراه (١٣) يقول عزوجل : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) يعنى ، أم لم يعرفوه بالصّدق والامانة فهم ينكرون عقله ويتهمونه بالكذب ؛ وقد عرفوه بالصّدق والامانة. وقال عزوجل أيضا (١٤) : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) ، قوله بنعمة ربك

__________________

(١) ـ قلنا : + لم C (٢) ـ ان : انه C (٣) ـ للاشياء : ـ B ، الاشياءA (٤) يخبر بها : بخيرهاA (٥) حقيقة : ـ B (٦) ـ له : A (٧) ـ يلقى : يلغى A (٨) ـ به : ـ B (٩) حين : A (١٠) ـ العصا : العصى B (١١) ـ بسحره : من سحره A (١٢) ـ ترى : تراC (١٣) تراه : بمجنون : مجنون A ترى A (١٤) ـ عزوجل أيضا : أيضا عزوجل ، AC ، الله عزوجل B

٧٥

كما يقول (٢) ما أنت بحمد الله بمجنون (١). ثم قال على أثر ذلك : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، قالوا فى تفسيره : الخلق العظيم ، هو القرآن ؛ يعنى : أنّ الّذي تورده (٣) ، ليس هو من الجنّ بل ، هو القرآن العظيم الّذي هو وحى من الله عزوجل (٤).

(٩) فاذا كان الامام (٥) فى مثل حال محمّد (ص) من كماله وجمعه للخصال الحميدة كلّها التى تكون (٦) فى النّاس من الصّدق والامانة والعقل والحلم والرّزانة والوقار وحسن الخلق والتّواضع والسّخاء والوفاء والشّجاعة ورقّة القلب والتّعطف على من آمن به وتبعه ، والعفو عمن كفر به وخالفه (٧) عند ظفره به ، وغير ذلك من كلّ (٨) خصلة محمودة تكون فى النّاس ، فلا يجوز أن يتّهم من (٩) يكون فى مثل هذه الحال بأن (١٠) يتكلّم ، بما يعرف غيره فيه التّناقض والاختلاف ، ويجهل هو ما يتكلّم به ؛ فانّ محمّدا (١١) (ص) قد كان جمع هذه الخصال كلّها ؛ ونحن نذكر منها (١٢) ما هى مشهورة عنه ، ليعرف صدق ما ذكرناه ان شاء الله تعالى (١٣).

__________________

(١) ـ قوله ... بمجنون : ـ C (٢) يقول : ـ B (٣) ـ تورده : يورده B (٤) ـ عزوجل : ـ A (٥) ـ الامام : الاماA (٦) ـ تكون : ـ B (٧) ـ خالفه : خالف A (٨) ـ كل : ـ C (٩) من : ومن A (١٠) ـ بان : ان ABC (١١) ـ محمدا : محمدC (١٢) ـ منها : ـ A (١٣) ـ تعالى : ـ AB

٧٦

الفصل الثانى

فى حلية الرّسول (ص) وشمائله

(١) وأمّا الصّدق والامانة ، فقد ذكرنا طرفا منه : وأنّ قريشا كانت تسمّيه بالصّادق (١) الامين ، لثقتهم به ومعرفتهم إيّاه بالصّدق قبل ظهوره بالنّبوّة. وقد ذكرنا تراضيهم به فى باب بناء البيت ، وأنّهم اختاروه من بينهم أجمعين ، ورضوا بحكمه ؛ وهم المعروفون بأصالة الرأى والعقول الرّصينة من بين جميع العرب.

(٢) وأمّا السّخاء فانّه كان لا يذخر (٢) شيئا ، وكان يأخذ من أغنياء أصحابه صدقات أموالهم ويفرّقها على فقرائهم ، ولا يذخرها (٣) ولا يقتنى عقارا ؛ والّذي كان يصير إليه فى سهمه من الغنائم ، وغير ذلك ما يفضل من قوته ، كان يشترى به عقارا ويجعله صدقة ؛ فقد كان (٤) اشترى بساتين ، وتصدّق بها ؛ وهى معروفة إلى يومنا هذا. وكان لا يمسك يده عن بذل ما يملكه ، حتى روى أنّ : سائلا سأله ولم (يكن) يملك (٥) ما يعطيه ، فأعطاه ثوبه الّذي كان عليه.

__________________

(١) ـ بالصادق : ـ AB (٢) ـ يذخر : يدخرA (٣) ـ يذخرها : يدخرهاC (٤) ـ كان : ـ C (٥) ـ يملك : يملكه A

٧٧

فانزل الله عزوجل : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)

(٣) وأمّا الحلم والعفو ، فكان أحلم النّاس. ولما فتح مكّة وفيها أعداؤه الذين عادوه وأخرجوه من داره وأجلوه عن أهله ووطنه ولم يدعوا المكر (١) به والاحتيال فى قتله وطلب الغوائل عليه ، فنادى فى أصحابه وأمرهم أن لا يقتلوا أحدا بعد فتح مكة إلا أربعة نفر ، أمر أن يقتلوا (٢) ولو وجدوا تحت أستار (٣) الكعبة ؛ لانّهم استوجبوا ذلك بعظائم (٤) كانت منهم ، وبقتلهم قوما من المسلمين غيلة ، وارتدادهم عن الاسلام. ثم أتاه بعضهم بعد (٦) تائبا ، فعفا (٥) عنه وقبل (٧) توبته ؛ وأخبارهم مشهورة ، تركنا إطالة القول بها. ونادى فى النّاس قبل أن تضع الحرب أوزارها ، إنّ : «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه على نفسه فهو آمن» وعفا (٨) عن أبى سفيان ، وكان أكبر أعدائه ومن المحرضين (٩) على قتله قبل هجرته وعلى قتاله بعد هجرته ، وصاحب العير يوم بدر (١٠) ، وصاحب الجمع يوم أحد ، وفى غيرها من الغزوات قبل فتح مكة ، ومن المنافقين الخاذلين المخذلين (١١) عنه يوم حنين ، ومن المنافقين الباذلين أموالهم لمن حاربه ، فعفا (ص) عنه وقبل إسلامه ابتغاء مرضات الله وايثارا لطاعته فيما أمر به فى شأن المنافقين (١٢). وعفا عن امرأته هند بنت عتبة وقد بقرت بطن حمزة (١٣) حين استشهد يوم أحد ، وأكلت كبده ، وقالت فيه (١٤) :

__________________

(١) ـ المكر : لمنكرA (٢) ـ ان يقتلوا : يقتلهم B (٣) ـ استار : ابتتارA (٤) بعظائم : ـ B (٥) ـ فعفا : فعفى A (٦) بعد : ـ BC (٧) ـ وقبل ؛ قبل C (٨) ـ عفا : عفى ABC (٩) ـ المحرضين : الحرضين B (١٠) ـ بدر : ببدرC (١١) ـ المخذلين : ـ AB (١٢) ـ المنافقين ... المنافقين : ـ A (١٣) ـ فى شان المنافقين .. حمزة : ـ A (١٤) ـ فيه : ـ A

٧٨

شفيت من (١) حمزة نفسى بأحد

حين بقرت بطنه عن الكبد

فأتته (٢) مظهرة للاسلام بعد فتح مكّة ، وبعد أن كانت تحرّض النّاس على القتال يوم فتح مكة ، وتشتم أبا سفيان وتوبّخه حين استأمن وتقبّح فعله ، فعفا (٣) عنها بعد أن أظفره الله بها ، وقبل إسلامها ، وحلم عنها ؛ وحمزة عمّه ، وأعزّ النّاس عليه ، وأسد الله وأسد رسوله. وقبل إسلام وحشى غلام (٤) جبير (٥) بن مطعم ؛ وهو الّذي زرق (٦) حمزة بالحربة وقتله ؛ فحلم عنه وآثر رضاء الله على رضاء نفسه. ولما فتحت مكّة هرب صفوان بن أميّة ، وهو سيد قومه ، وكان شديد العداوة لرسول الله (ص) ؛ فمضى يريد جدّة. فقال عمير (٧) بن (٨) وهب : يا نبىّ الله إنّ صفوان بن أميّة (١٠) قد (٩) خرج هاربا ليغرق نفسه فى البحر ، فأمّنه. قال (ص) : «هو آمن» وأعطاه عمامته التى دخل بها مكّة. فخرج عمير ولحقه ، فرجع وقال : يا محمّد أليس قد أمّنتنى؟ قال : نعم. قال : فخيّرنى فى نفسى شهرين. قال : «قد خيرتك أربعة أشهر» ؛ وعفا عن كثير من أعدائه الذين ارتكبوا (١١) العظائم ؛ حتى قال أبو سفيان (١٢) : ما رأينا أحلم منك يا رسول الله! وجاءه (١٣) بعد ذلك قوم من الشّعراء (١٤) ، قد كانت (١٥) ضاقت عليهم الارض بما رحبت ، بعد أن كانوا قد هجوه أقبح (١٦) هجاء وحرّضوا عليه بشعرهم ، مثل : عبد الله بن الزّبعرى (١٧) ، مع كثرة أشعاره فى هجائه وشدّة عداوته وتحريضه

__________________

(١) من : عن A (٢) ـ فاتته : فاتت A (٣) ـ فغفا : فغفى B (٤) ـ غلام : مشطوبة فى C (٥) جبير : ـ C (٦) زرق : رزق A (٧) ـ عمير : عميروB ، عمرC (٨) بن : ابن B (٩) قد : ـ A (١٠) امية : + وهو سيدA (١١) ـ ارتكبوا : + منهاA ، + منه BC ـ (١٢) ابو سفيان : أبا سفيان A (١٣) ـ جاءه : جائه A ، جاءC (١٤) قوم من الشعراء : قوم شعراءABC (١٥) كانت : ـ B (١٦) ـ اقبح : لقبح B (١٧) ـ الزبعرى : الزبير جوى B ، الزبعراC

٧٩

عليه. فأتاه معتذرا وهو يقول (١) :

يا رسول (٢) المليك إنّ لسانى

راتق (٣) ما فتقت إذ أنا بور

اذ أجارى (٤) الشّيطان فى سنن ال

غىّ ومن مال ميله مثبور

آمن اللّحم والعظام بما قل

ت فنفسى الفدى (٥) وأنت النّذير

فقال (ص) له : «قد آمنك الله» وقبل إسلامه وعفا عنه. ومثل كعب بن (٦) زهير الّذي كان يهجوه ويؤذيه بهجائه ، فأتاه تائبا مسلما ، وقال فى شعر له يمدحه ويسأله العفو :

نبّئت أنّ رسول الله أو عدنى

والعفو عند رسول الله مأمول

فقال (ص) : «قد عفوت عنك» وقبل إسلامه ، وكذلك عفا عن شعراء كثيرين كانوا يهجونه ويؤذونه بهجائهم (٧) ، بما كان الملوك وذوو القدرة يقتلون بأصغر من ذلك.

(٤) وأمّا الشّجاعة ، فانه (ص) غزا (٨) بنفسه ثلاث عشرة غزوة ما ولىّ الدّبر فى شيء منها. ولما اشتدّ القتال يوم أحد واشتغل كلّ امره (٩) بنفسه واستحرّ

__________________

(١) ـ يقول : + شعرC (٢) ـ رسول : + الله A (٣) ـ راتق : رايق C (٤) ـ اجارى : أجارA (٥) ـ الفدى : الفداءB ، الفدأC (٦) ـ بن : ابن B C (٧) ـ بهجائهم : بهجائه ـ B (٨) ـ غزا : غزى B (٩) ـ امرئ : امرC

٨٠