أعلام النبوّة

أبو حاتم الرازي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبو حاتم الرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسه پژوهشى حكمت و فلسفه ايران
المطبعة: صارمي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

قوة وعلوّا على مرور الأيّام. وأعلم (ص) أمّته أنّ الله عزوجل (١) قد كشف له عن الّذي يكون بعده وأنّه قد (٣) عاين ذلك وأنّ الله (٢) سينجز له ما بشره به (٤) ، فقال : «زويت لى مشارق الارض ومغاربها وسيبلغ ملك امتى ما زوى لى منها.» فكيف ترى صنع الله له فى تصديق قوله بعد خروجه عن العالم؟ وكيف ترى صحّة هذه (٥) الآيات التى فى القرآن والخبر الّذي روى عنه (ص)؟ ولو كان كذّابا ، كما يدعيه الملحدون أعداء الله (٦) ـ لعنهم الله ـ لبطلت (٧) دعاويه ، ولما أنجز الله له عداته ، ولسقط بنيانه بعد وفاته ، ولكان سبيله سبيل من كان بنيانه (٨) على غير أصل صحيح وكان أساس أمره من عند غير الله. فانّا نرى كلّ من يدّعى رئاسة فى الدّين والدّنيا ويكون له أتباع ، يبطل (٩) أمره عند موته من الملوك والرّؤساء ومن جميع الأصناف ؛ فاذا خرجوا عن العالم يتفرّق جمعهم وتنقطع رسومهم وآثارهم وينهدم بنيانهم ، الّا ما كان من رسوم الأنبياء البررة الطّاهرين (ع).

فان ادّعى مشغب أنّ كثيرا من المبتدعين قد بقيت رسومهم فى العالم وبقى جمعهم وأتباعهم ، واحتجّ بالمنّانيّة (١٠) والدّيصانية (١١) وأشباههم من المبتدعين فى الشرائع وبأهل الأديان فى البلدان التى هى فى أطراف الأرض ، مثل التّرك والهند وغير ذلك ، قلنا :

قد (١٢) تقدم القول منّا أنّ هؤلاء بنوا بدعهم على رسوم الأنبياء (ع) وخلطوا بدعهم بآثارهم ونسبوا ما رسموه إلى الأنبياء (١٣) (ع) وإن كانوا مبتدعين.

__________________

(١) ـ عزوجل : ـ A (٢) كشف ... الله : ـ A (٣) ـ قد : ـ AB (٤) ـ به : ـ C (٥) ـ هذه : ـ C (٦) ـ الله : ـ B (٧) ـ لبطلت : بطلت B (٨) ـ بعد وفاته ... بنيانه : ـ C (٩) ـ يبطل : لبطل C (١٠) ـ المنانية : المانيةAB (١١) الديصانية : الديصانةAB (١٢) ـ قد : ـ A (١٣) ـ (ع) ... الأنبياء : ـ A

٢٦١

فانهم متعلقون بحبلهم ، يحتذون حذوهم ويتشبهون (١) بهم ويدعون إلى زخارف قد مثلوها برسوم الأنبياء (ع) وأقاموها بتلك الرّيح. وهكذا سنّ لهم (٢) أوائلهم الذين وضعوا لهم هذه البدع ؛ ولو لا ذلك لما قام لهم رسم ولا أثر. ولكن مقدار ما يثبت من رسومهم هو ريح الرّسوم التى كانت من الأنبياء (ع) ومن خمير كلامهم (٣). ومع ذلك فانّ بنيانهم قد ضعف ويضعف على مرور الأيّام ؛ لا كبنيان محمّد (ص) الّذي لا يزداد فى (٤) كلّ يوم الا علوّا وظهورا ؛ لأنّه خرج (ص) عن العالم والأمصار التى دخلها الاسلام قليلة العدد ، مضى (ص) والاسلام بأرض الحجاز وتهامة فى الحرمين ، مكة والمدينة (٥) وما والاهما من المخاليف مثل قرى (٦) خيبر وفدك ووادى القرى والطائف واليمن والبحرين وما والاهما ، مثل نجران وعمان. فكانت عمّاله (ص) فى هذه الأمصار وفى البوادى على صدقات القبائل. فأمّا سائر الممالك والأمصار (فقد) فتحت بعده بسيفه وقوة كتابه وشريعته وأقيمت فيها أحكامه وسننه وثبت فيها زرعه. وكان (ص) يبشّر أمّته ويخبرهم أن هذه الممالك تفتح (٧) عليهم بعده كما ذكرنا من (٨) آيات القرآن والأخبار التى جاءت عنه.

وروى عنه (ص) أنه قال : «إذا فتح الله عليكم مصر (٩) فاستوصوا بالقبط خيرا ، فانّ لهم رحما» ، يعنى بذلك (١٠) إبراهيم (ع) ولده وكان (١١) من مارية القبطيّة. وما روى عنه فى يوم الخندق ، أنّ سلمان (١٣) قال : كنت أضرب فى ناحية من الخندق (١٢) صخرة فغلظت على ، فرآنى (١٤) (ص) ورأى شدّه المكان ، فنزل و

__________________

(١) ـ يتشبهون : متشبهون A (٢) ـ لهم : ـ B ، عليهم C (٣) ـ كلامهم : ـ A (٤) ـ فى : ـ C (٥) ـ المدينة : مدينةAB (٦) ـ مثل قرى : قرى مثل A ، مثل B (٧) ـ تفتح : يفتح B (٨) من : عن A (٩) ـ مصر : ـ A (١٠) ـ بذلك : + ان AC ـ (١١) وكان : كان A (١٢) ـ ان ... الخندق : ـ A (١٣) سلمان : + ان C (١٤) ـ فرآنى : فرأى A

٢٦٢

أخذ المعول من يدى ، فضرب به ضربة (١) ، فلمعت برقة تحت المعول ، ثم ضرب أخرى (٢) ، فلمعت برقة (٣) ، ثمّ ضرب (٤) الثالثة ، فلمعت برقة. فقلت : يا رسول الله ما هذا الّذي رأيت يلمع تحت المعول؟ قال (ص) : رأيت ذلك يا سلمان؟ قلت : نعم. قال : أمّا الأولى فانّى رأيت فيها فتح اليمن ، والثانية فتح الشام ، والثّالثة فتح المشرق. وقد رويت عنه (٥) فى هذا أخبار كثيرة قد (٦) صحت بعده.

(٩) فان قال قائل من الملحدين : إنّ الحديد إذا ضرب به الحجر فعل هذا الفعل ، قلنا : لا ننكر (٧) ذلك ولكنّا أردنا أن نذكر ما قاله (ص) من أمر الفتوح التى كانت بعده (٨) ، فبشّر بذلك كما أراه الله عزوجل ، ثم ظهر صدقه بعد ذلك (٩). ومثل هذا كثير تركنا ذكره ، من الأخبار التى ظهر صدقه فيها بعد وفاته (١٠) (ص) وصحّت ، ولم يبطل شيء منها كما بطلت دعاوى الكذّابين المتنبّئين الذين ظهروا فى العرب مثل مسيلمة الكذّاب بن حبيب المتنبّي باليمامة ، وطليحة بن خويلد المتنبّى (١١) فى أرض بنى أسد ، والأسود العنسى (١٢) ، المتنبّى بصنعاء وسجاح بنت الحارث اليربوعيّة التى تنبّت فى بنى تميم فتبعتها عامتهم وأطاعوها ، حتى قال فيها بعض شعرائهم :

أمست (١٣) نبيتنا أنثى نطيف بها

وأصبحت أنبياء النّاس ذكرانا

ثم صارت إلى اليمامة وتزوّجها مسيلمة الكذّاب ، وهؤلاء كلهم كان لهم أتباع ونهض معهم قوم آمنوا بهم وأطاعوهم (١٤) ونصروهم وكانوا يسجعون ويعدون النّاس. وربما سجعوا وتكهّنوا وأصابوا بكهانتهم فيفتتن (١٥) بهم الناس

__________________

(١) ـ ضربة : ـ A (٢) اخرى : آخرC (٣) ـ برقة : ـ A (٤) ضرب : ضربت A (٥) ـ عنه : ـ B (٦) قد : ـ AC ـ (٧) ـ ننكر : تنكرB (٨) ـ بعده : ـ A (٩) بعد ذلك : ـ C (١٠) ـ ومثل ... وفاته : ـ AC ـ (١١) ـ باليمامة ... المتنبى : ـ A (١٢) ـ العنسى : العنس A (١٣) ـ امست : اصبحت ABC (١٤) ـ اطاعوهم : اطاعوهاA (١٥) ـ فيفتتن : فيفتن A

٢٦٣

كما فعل طلحة حين نهضت معه بنو فزارة (١) وبنو أسد : وأمرهم أن يصلّوا قياما لا يركعون ولا يسجدون وقال : اذكروا (٢) الله قياما فانّى اشهد أن الصريخ يحب الدعوة ، ما يفعل الله بتعفير خدودكم وفتح أدباركم؟ فأطاعوه وقبلوا منه وأصابه هو وأصحابه (٣) عطش فسجع وتكهن فقال : اركبوا غلالا واضربوا اميالا (٤) تجدوا بلالا. وغلال (٥) فرسه ، فركبوه وفعلوا (٦) ما قال فوجدوا ماء ، ففتن به النّاس. وكانت قاتلت عنه أسد وفزارة وهو متلفّف بكساء له فى فناء بيته يتنبّى عليهم والنّاس يقتتلون (٧) حتى قتل منهم خلق عظيم وهو يقول : يأتينى ذو النون الّذي لا يكذب ولا يخون ، ولا يكون الا ما يكون. وكان عيينة بن حصن سيد بنى فزارة يقاتل بين يديه ويرجع إليه ويقول : جاءك ذو النّون؟ فيقول لا حتى رجع إليه مرارا والحرب قد طحنتهم وعيينة يقول : حنقا (٨) حتى متى ، ثم جاءه (٩) فقال له ، هل أتاك ذو النون؟ قال (١٠) نعم. قال : فما (١١) قال لك (١٢)؟ قال : قال لى لك رحاء (١٣) كرحاه (١٤) وحديثا لا تنساه. فقال عيينة : اظن والله يكون لك حديث لا تنساه (١٥) يا بنى فزارة! انصرفوا ، فانه كذاب. فانصرفوا عنه وخذلوه.

وكذلك كان حديث (١٦) مسيلمة ، نهضت (١٧) معه بنو حنيفة وغيرهم وقالوا : منّا نبى ومنكم نبى ؛ وكان يسجع لهم ويقاتلون معه ، حتى قتل منهم ستة الف رجل ثم قتل. وسأل ابو بكر قوما من بنى حنيفة ، فقال : ما كان يقول صاحبكم (١٨)؟ قالوا : كان يقول ، يا ضفدع نقى نقى ، لا الماء (١٩) تكدرين ولا الشراب تمنعين.

__________________

(١) ـ بنو فزارة : بنو فرارةB (٢) ـ اذكروا : اذكرB ، ذكرواC (٣) ـ اصابه هو واصحابه : ـ C (٤) ـ اميالا : نبالاC (٥) غلال : غلالاB (٦) فعلوا : وطواC (٧) ـ يقتتلون : يقتلون ويقتلون B (٨) ـ حنقا : حلقاABC (٩) جاءه : جاءC (١٠) ـ قال : فقال AB (١١) فما : فيماB (١٢) لك : ان لك AC ـ (١٣) رحاء : رجى A ، رجاB (١٤) كرحاه : كرجاه B (١٥) ـ اظن ... تنساه : ـ C (١٦) حديث : حديثاABC (١٧) ـ نهضت : نهض C (١٨) ـ صاحبكم : يقول+A ـ (١٩) الماء : السماءA

٢٦٤

فقال : ويحكم إنّ هذا كلام لم يخرج من آل ، فأين يتاه بكم؟!

وكذلك كان الأسود العنسى الّذي كان يقال له «ذو الخمار» ، تنبّى على أهل صنعاء وتبعه عالم من الناس كثير ونهضت معه كندة (١) وبقايا ملوكها ، منهم الاشعث بن قيس وحارثة بن سراقة بن معديكرب وغيرهما ، وجمع كثير من (٢) الأبناء الذين كانوا باليمن فحاربوا معه ونصروه (٣) حتى قتل ، وقتل معه خلق كثير. وكانت قبيلة من كندة يقال لها (٤) بنو قتيرة ، قد انضموا الى المهاجرين وخالفوه وحاربوه ، فسجع لهم وقال :

صباح سوء لبنى قتيرة

وللامير من بنى مغيرة

فلما قتل الكذّاب قال رجل من بنى قتيرة فى ذلك :

صباح صدق لبنى قتيرة

وللامير من بنى مغيرة (٥)

اذ (٦) آثروا الله على العشيرة فهؤلاء الكذّابون الذين تنبّوا وتبعهم عالم من النّاس وكانوا يسجعون ويتكهّنون ويعدون أتباعهم ، فلمّا قتلوا بطل أمرهم وتهدّم بنيانهم. وإنما ذكرنا شأنهم ليعلم الملحدون أنّ أمر محمّد (ص) لم يكن مثل أمر هؤلاء الكذّابين الذين تشبّهوا بالأنبياء فلما هلكوا بطلت دعواهم (٧) ودرس كلامهم وسقط بنيانهم لانه كان على شفا جرف هار فانهار به (٨) فى نار جهنّم ؛ لا كبنيان محمّد (ص) الّذي أسّسه (٩) على تقوى من الله ورضوان ؛ فهو يعلو ويزداد قوّة على مرور الأيام والشهور وانقضاء السّنين والدّهور ولو كره المشركون ومعجزته قائمة فى العالم وهى التى يجب أن تدعى معجزة على الحقيقة ، لا ما

__________________

(١) ـ كندة : كندره A (٢) ـ كثير من : ـ C (٣) ـ فحاربوا معه ونصروه : فنصروه وحاربوا معه AC ـ (٤) ـ لها : لهم AB (٥) ـ قتيرة ... بنى مغيرة : ـ A (٦) ـ اذ : ان C (٧) ـ دعواههم : دعواهم AC ـ (٨) ـ فانهار به : فانهاA (٩) ـ اسسه : اسه AB

٢٦٥

ادّعاه الملحد من فعل أصحاب الخفّة والشّعبدة كالرّقص على الأرسان والدّوران على رءوس الأسنّة فوق الرّماح وغير ذلك مما يجوز أن يأتى بمثله كثير من النّاس ، وسمّاها (١) معجزات وشبّهها بمعجزات محمّد (ص). وأنّما سمّيت المعجزة معجزة لأنّ الناس يعجزون أن يأتوا بمثلها. فأمّا الاسباب التى يشترك فيها (٢) الصّادق والكاذب ، ويشتبه الأمر فيها على النّاس حتى ينساغ لهم (٣) القول ويشبّهوها (٤) بفعل السّحرة ، وتبطل (٥) كما يبطل فعل السّحرة فلا (٦) يقال لها معجزات ؛ بل المعجزة على الحقيقة ما قد ذكرنا من شأن (٧) القرآن وشريعة محمّد (ص) وما قد ظهر من قوّته التى (٨) قد كبس بها (٩) الأرض تحت أحكامه (١٠) وسننه وهو (١١) يزداد حتى لا يبقى فى الأرض إقليم ولا جزيرة ولا مصر ولا بلد إلّا ويدخله الاسلام فى مشارق الأرض ومغاربها ، فيتمّ آخره كما تمّ أوّله وينجز الله (١٢) وعده ؛ إنّ الله لا يخلف الميعاد. فهذه هى المعجزة التى (١٣) لا يقدر أحد أن يأتى بمثلها.

(١٠) فان قال قائل : فلعلّ ما تدّعون (١٤) لا يصحّ ولا يكون ، قلنا : هذه الدّعوى هى لمحمد (ص) وهى فرع لدعواه التى ذكر أنّ الله عزوجل يظهر دينه على كلّ دين ولو كره المشركون. وقد صحّ ذلك الأصل ، والفرع تابع الأصل ؛ لأنّ الله عزوجل قد أظهر دينه على جميع الأديان. وأمارات هذه الدعوى التى هى الفرع ، قد ظهرت ؛ لأنّ الاسلام يرداد وظهوره يقوى على مرور الزّمان كما قلنا.

__________________

(١) ـ سماها : سمى هذه ABC (٢) ـ فيها : بهاB (٣) ـ لهم : ـ C (٤) يشبهوها : يشبهونه ABC (٥) تبطل : يبطل AB (٦) ـ فلا : لاABC (٧) ـ شان : مثال B (٨) التى : ـ B (٩) بها : به A (١٠) احكامه : ـ A (١١) وهو : فهوA (١٢) ـ ينجز الله : الله ينجزB (١٣) التى : ـ B (١٤) ـ تدعون : يدعون BC ـ

٢٦٦

فان شغب معاند واحتجّ بمثل ما قاله الملحد بأنّ النّصرانيّة قد غلبت بروميّة واليهوديّة بالخزر ، والمجوسيّة فى بعض الجبال قلنا : إنّ الظهور هو الغلبة والاستعلاء. وقد غلب الاسلام هذه (١) الملل ، واستعلى عليها ؛ لأنّ الأمصار التى قد ملكها أهل الاسلام كانت كلّها ممالك لأهل هذه الملل ، مثل بلاد العجم من أرض بابل العراق وكور الأهواز وفارس وكرمان وسجستان وأصبهان وسائر الجبال الى خراسان وطخارستان (٢) وبغرغر والى حد السند والهند والى حدود الصّين وفيافى التّرك ونواحى الخزر (٣) وغيرها من الممالك العظيمة التى كان يملكها الأكاسرة وملوك الهياطلة وكانوا على المجوسية ، وكذلك (٤) أرض الحجاز وتهامة الى البحرين ونجران ، إلى أقصى الحجر باليمن ؛ وكانت ممالك لأهل (٥) أديان مختلفة من اليهود والنّصارى والمجوس ، سوى ما كان فى مملكة عبدة الأصنام من العرب. ثم بلاد الشّام والأردن إلى طنجة وفرنجة وتاهرت الأقصى التى ملكها إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن على (ع) والى جزيرة وراء البحرين ببلاد الاندلس وتاهرت الادنى التى ملكها الدّيسمى الأباضي فلان (٦) بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب (٧) بن رستم الفارسى الّذي كان يسلّم (٨) عليه بالخلافة. ثم وراء (٩) بحر الاندلس فى بلاد ولد عبد الرحمن بن معاوية الأموى من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان والى حدود (١٠) وادى الرّمل الّذي قد نصب على طرفه تمثال من نحاس ، قد كتب عليه : ليس ورائى

__________________

(١) ـ هذه : لهذه B ، فهذه A (٢) ـ طخارستان : طخرستان A (٣) ـ الخزر : الحررA ، الجزائرB ، الجزرC (٤) ـ كذلك : + من A ، فى C (٥) ـ لاهل : اهل B (٦) ـ فلان : فلات C (٧) عبد الوهاب : الوهاب B (٨) ـ يسلم : سلم A (٩) وراء : + الحجرB (١٠) ـ حدود : حدAB

٢٦٧

مذهب (١) ولا يطأ تلك الأرض أحد إلّا ابتلعه (٢) النّمل (٣). ثم إلى (٤) باب النّوبة ثم الى الجزائر ، ثم الى صقليّة ومدائنها ، ثم الثغور الحرريّة (٥) والشّامية من شمشاط وملطية وطرطوس وغيرها الى قليقلا (٦) وما وراء ذلك من بلاد أرمينية وأذربيجان إلى باب والحرن والداب (٧) وتفليس والباب الى رومية. هذه كلها كانت ممالك الرّوم وقد غلب أهل الاسلام أهل الأديان على هذه الممالك وقهروا ملوكها واستعلوا عليها. وأما (٨) المجوس ، فقد صار أمرهم (٩) إلى ما ترى. وأما النّصارى فقد التجئوا إلى رومية وتحصّنوا فيها ، بمنزلة من يأوى إلى قلعة أو حصن يمتنع فيه من عدوه وكذلك سبيل اليهود بخزر والمجوس الذين فى رءوس الجبال ـ كما ذكر الملحد ـ وسائر الأديان فى أطراف الأرض كلّهم مقهورون مغلوبون. فمن كان منهم فى دار الاسلام قد التزم الجزية والصغار. ومن كان ملتجئ إلى ممالكهم فالسّيف على رقابهم وأهل الاسلام لم يؤدّوا (١٠) إلى أحد جزية ولا دخلوا تحت أحكام متسلّط فى الدّين والدّنيا ، بل الاسلام على عليتهم (١١) قاهر لهم. وقد بنيت المساجد بروميّة على صغر (١٢) منهم وقمأة (١٣) ، لا يجسرون أن يمنعوا من بنيانها إذعانا لأهل الاسلام وانقيادا لهم.

فان قال قائل (١٤) : فانّ البيع والكنائس وبيوت النّيران فى دار الاسلام ، قلنا : ليس سبيل الكنائس والبيع وبيوت النّيران (١٥) فى دار الاسلام تلك السّبيل ، لأنّ محمّدا (ص) ترك هذه الأبنية اختيارا لا اضطرارا ؛ ولو شاء ، لأمر (١٦) بقلعها.

__________________

(١) ـ مذهب : بذهب A (٢) ابتلعه : تبلعه AB (٣) النمل : ـ BC (٤) ـ الى : التى C (٥) الحررية : الجزريةB (٦) ـ قليقلا : قيقلاB (٧) ـ الداب : اللاب C (٨) ـ واما : فاماA (٩) امرهم : امره A (١٠) ـ يؤدوا : يودAC ـ (١١) على عليتهم : عالى عليتهم A على عليهم B ، عالى عليهم C (١٢) ـ صغر : صغيرA (١٣) قماة : فاةB (١٤) ـ قائلون : قائل (١٥) ـ النيران ... النيران : ـ B (١٦) ـ لامر : لاB

٢٦٨

بل لو شاء لما ترك فى دار الاسلام ذميّا واحدا. ولكن أراد أن (١) تبقى رسوم الأنبياء فى العالم ، وشهد لهم بالتّصديق وسالم اهل الملل بأخذ الجزية منهم ، لتبقى رسوم الأنبياء (ع) ؛ فيكون حجّة لله عزوجل على خلقه. ولو لا (٢) ذلك لاستنّ فيهم بسنّة (٣) العرب ؛ فانّه لم يرض منهم إلّا بالاسلام أو القتل ، ولم يقبل منهم الجزية. ولو فعل ذلك بأهل الملل لكان قادرا على ذلك. فلهذه العلة أقرّ هذه الأبنية. وليس سبيل المساجد بروميّة هكذا ، لأن النّصارى لا تشهد لمحمّد (ص) بالتصديق كما شهد محمد لعيسى (ع). ولو قدرت الروم على إخرابها لما تركتها ولكنهم أقرّوها اضطرارا. ثم نقول (٤) : إنّ هذه الممالك التى هى تحت أحكام القرآن ، هى أعدل الجزائر طبائع وأفضل أقاليم الأرض ، وهى أرض الأنبياء والرّسل ، وفيها مبعثهم ، وهى منشأ الحكماء وأهل الفضل ، وقد صارت ممالك لأهل الاسلام ، والاسلام قد طبّق العالم تطبيقا. ولم يغلب أحد من أهل سائر الملل أهل الاسلام فى شيء من ممالكهم. فهذا هو القهر (٥) والغلبة والظّهور الّذي وعد الله محمدا (ص) أن يظهر دينه على الدّين كلّه ولو كره المشركون. وقد أنجز له وعده ، وظهرت حجّته ، وصحّت هذه الدّلالة الواضحة والمعجزة البيّنة ، وبان صدقه ؛ وهو عزوجل يتمّم ذلك كله (٦) له حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا (والله بالغ أمره ولو كره الكافرون).

وتأوّل قوم فى هذه الآية : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) فقالوا : إنّ الله قد وعد محمّدا أن يظهره على الدين كلّه. فخرج عن الدّنيا (٧) ، ولم يظهره (٨) على الدّين كلّه ، واحتجّوا بذلك. وليست لهم حجّة فى هذه

__________________

(١) ـ ان : ـ A (٢) ـ ولو لا : لو لاC (٣) ـ بسنة : سنةC (٤) ـ نقول : يقول A (٥) ـ القهر : ـ B (٦) ـ كله ... كله : ـ B (٧) ـ الدنيا : الدين A (٨) ـ يظهر : ـ C

٢٦٩

الآية. قال جل ذكره : (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (١) يعنى يظهر الدّين الّذي أتى به محمد (ص) ، وهو دين الحقّ ، على الدّين كلّه ، فالهاء فى قوله «ليظهره» راجعة على دين الحقّ ؛ وقد ظهر دين الحقّ على الدّين كلّه. وهذا صحيح من جهة اللّغة (٢) العربيّة : وليس لمعاند فيه مقال. ولو كانت الهاء راجعة على رسوله ، لكان المعنى صحيحا ؛ لأنّ ظهور دينه على الدّين كلّه هو ظهوره ولكن إذا اردت الهاء على دين الحق سقطت حجّة المعاند ولم يكن له مقال.

__________________

(١) ـ على الدين ... دين الحق : ـ A (٢) ـ اللغة : + وC

٢٧٠

الباب السّابع

٢٧١
٢٧٢

الفصل (١) الاول

الأنبياء أصل التعاليم ومورثوا الحكماء

الآن بعد فراغنا من القول فى معجز (٢) محمد (ص) الّذي هو القرآن العظيم ، وكشفنا عن الدّلالة الكبيرة له (٣) القائمة فى العالم ، وتكرير القول بذلك لايضاح المعانى التى فيه ، وتنوير الحجة ، نقول (٤) فى جواب ما ادّعاه الملحد :

(١) أن الفلاسفة استدركوا هذه العلوم بآرائهم واستنبطوها بدقّة نظرهم وألهموا ذلك بلطافة طبعهم ، يعنى ما فى كتب الطبّ من معرفة طبائع العقاقير والخصوصيّات التى فيها ، وما فى المجسطي وبطلميوس من معرفة حركات الفلك والكواكب وحساب النّجوم وما فيه (٥) من اللطائف والأحكام وما فى أقليدس من (٦) علم الهندسة والمساحات ومعرفة مقدار عرض الأرض وطولها ومسافة ما بين السّماوات وغير ذلك

__________________

(١) ـ فصل : ـ B (٢) ـ معجز : معجزةC (٣) ـ له : + وC (٤) ـ نقول : ونقول BC ـ (٥) ـ فيه : فيهاA (٦) ـ من : فى A

٢٧٣

ممّا فى هذه الكتب. فزعم الملحد أنّ ذلك (١) كلّه باستنباط وإلهام ، وأنّهم استغنوا عن أئمّتنا فى ذلك يعنى الأنبياء (ع). ثم افتخر وقال : إنّ نفعها وضرّها أكبر (٢) من نفع كتب أهل الشّرائع وضرّها ، وتبجّح بذلك ثم قال : أخبرونا أين ما دلّت عليه أئمّتكم من التّفرقة بين السموم والأغذية وأفعال العقاقير؟ أرونا منه ورقة واحدة كما نقل عن بقراط وجالينوس الألف لا الآحاد (٣) ؛ وقد نفعت (٤) الناس. وأرونا شيئا من علوم حركات الفلك (٥) وعلله ، نقل عن رجل من أئمّتكم ، أو شيئا من الطّبائع اللّطيفة الطّريفة نحو الهندسة وغير ذلك من أمر اللّغات ، لم تكن معروفة اخترعها أئمّتكم. ثم قال : إن قلتم إنّ هذا كلّه أخذ أصله من أئمّتنا ، قلنا هذه دعوى غير صحيحة ولا مسلّمة لكم ، وإنّا لنعرف ما تدّعون (٦) أنّه من (٧) أئمّتكم ؛ وهو الضّعف الوقح (٨) الّذي شاع ذكره فى عوام النّاس وخواصهم. ثم قال : فان قلتم فمن اين عرف النّاس أفعال العقاقير فى الأبدان وحركة الفلك وبأىّ لغة تدعى الناس إلى اختراع اللّغات؟ فانّ لنا فى (٩) ذلك أقاويل تستغنى (١٠) عن أئمّتكم. فمنها ما تكون مستخرجة على رسومها المعروفة المشهورة عند أهلها كالأرصاد للنجوم ومعرفة أفعال العقاقير فى الأبدان ومعرفة قوامها بالطّعوم والأراييح ، ومنها ما أخذت

__________________

(١) ـ ان ذلك : ا ذلك B (٢) ـ اكبر : اكثرBC ـ (٣) لا الآحاد : الآحادC (٤) ـ نفعت : نفع ABC (٥) الفلك : ـ A (٦) ـ تدعون : يدعون C (٧) من : عن B (٨) الوقح : الرع AB (٩) ـ فى : ـ AB (١٠) تستغنى : تستغن A

٢٧٤

أولا (١) عن أوّل إلى نهاية الزّمان ، ومنها أن تكون معرفتها بالطّبع كما يحسن الإوزّ السّباحة من غير تعليم (٢) من أئمّتكم ؛ ويدحض الاحتجاج الّذي احتججتم به. هذا قول الملحد حكيته على وجهه ، ونقول فى جوابه (٣) :

(٢) أمّا (٤) القول فى باب نفع الكتب التى ذكرها وضرّها (و) فى تفضيله إيّاها على القرآن العظيم وعلى سائر الكتب المنزّلة فقد شرحنا ما فيه كفاية لمن أنصف ولم يعاند ولم يغشّ نفسه. «فامّا من طغى وآثر الحياة الدّنيا فان الجحيم هى الماوى واما من خاف مقام ربّه ونهى النّفس عن الهوى فان الجنّة هى الماوى»

وأمّا هذه الكتب التى ذكرها وذكر أنّها عن أئمّتهم فانّا نقول : إنّها من رسوم الحكماء الصّادقين المؤيّدين من الله عزوجل (٥) ، وليس اسم أئمّتهم فيها إلا عارية وهذه الاسماء التى تنسب (٦) هذه الكتب (٧) إليها ، مثل جالينوس وبقراط وأقليدس وبطلميوس وغير ذلك ممّا يشاكلها فهى أسماء كنى بها عن (٨) أسماء الحكماء الذين وضعوا هذه الكتب. وهذه الكتب هى مبنيّة (٩) على الحكمة الصّحيحة والاصول المنتظمة. وقد كنت ناظرت الملحد على أشياء (١٠) فى كتاب بليناس وقد كان (١١) ذكر لنا (١٢) أن صاحب هذا الكتاب «حدوثى» (١٣) وأنّه كان فى هذه الشريعة ، وتسمى (١٤) بهذا الاسم ، ووضع هذا الكتاب ؛ وقد

__________________

(١) ـ اولا : ـ B (٢) ـ تعليم : معلم C (٣) ـ فى جوابه : ـ A (٤) ـ واما : اماBC ـ (٥) ـ عزوجل : ـ A (٦) ـ تنسب : نسبت C (٧) الكتب : الاسماءC (٨) ـ بها عن : + بها عن A (٩) ـ مبنية : بينةA (١٠) ـ اشياء : + هى AB (١١) ـ كان : ـ B (١٢) ذكر لنا : ذكرناBC ـ (١٣) حدوثى : محدث ABC (١٤) ـ تسمى : تسمعواA

٢٧٥

ذكرنا شيئا من كلامه والأمثال التى ضربها (١) فى كتابه. فذاكرت الملحد بذلك ، فقال : هذا هو صحيح ، وقد عرفناه ، واسم هذا الرجل فلان ، وكان أيّام المأمون ، وكان حكيما متفلسفا. وهكذا كنا سمعناه من غيره. فهذا الرّجل سلك (٢) سبيل أولئك الحكماء القدماء ، وتسمّى بهذا الاسم الّذي يشاكل تلك الأسماء ، وكلامه من ذلك النوع ؛ ولكنه قد جرّد القول فى التوحيد ، ورد على أصحاب الاثنين وسائر الملحدين ، وأثبت حدث العالم ، وأورد فى ذلك حججا كثيرة قويّة ، ثم تكلّم فى كون العالم ، وعلى علل (٣) الأشياء ، وضرب أمثالا كثيرة ، منها سهلة تلحق معانيها ، ومنها مستغلقة. وهكذا كان سبيل سائر الحكماء الذين تسموا بهذه (٤) الاسماء.

وقرأت فى كتاب دانيال أن بخت نصر لما فتح بيت المقدس وسبى أهله ، انتخب غلمانا من ذلك السّبى لخدمته ، وكان فيهم دانيال فكانوا يخدمونه (٥) حتى رأى تلك الرّؤيا فسأل السّحرة وأصحاب الرّقى والمجوس والكلدانيين والمنجّمين والكهنة عنها وعن تعبيرها ، فلم يخبروه بها ولم يقدروا على ذلك فأخبره (٦) بها دانيال وعبّرها (٧) له (٨) ، فقال له بخت نصر : ليس فى جميع مملكتى (٩) من يقدر أن يخبرنى بها وتعبيرها ، وأنت يا دانيال تقدر على ذلك لأنّ فيك روح الله الطّاهرة ، وأنت اسمك بلطشاسر (١٠). ثم رأى بعد ذلك رؤيا أخرى ، فقال : ادخلوا الى دانيال عظيم الحكماء الّذي سميته باسم إلهى بلطشاسر. فادخلوه (١٢) إليه فعبّرها له بعد أن أخبره بها وقال بلطشاسر (١١)

__________________

(١) ـ ضربها : نضربهاB (٢) ـ سلك : يسلك B (٣) ـ علل : ـ B (٤) ـ بهذه : بهذاB (٥) ـ وكان ... يخدمونه : ـ C (٦) ـ فاخبره : فاخبروه A (٧) عبرها : غيرهاB (٨) له : ـ BC (٩) ـ مملكتى مملكتينى A (١٠) ـ بلطشاسر : بلسطاس A ، بلطاس B (١١) ـ فادخلوه ... بلطشاسر : ـ C (١٢) فادخلوه : فادخلواB

٢٧٦

معناه صورة بال وهو الوثن الّذي كانوا يعبدونه.

وإنّما (١) ذكرنا هذا لما قلنا أنّ هذه الأسماء التى نسبت إليها هذه الكتب ، هى كنايات عن الحكماء الذين (٢) وضعوها ولها معان (٣) ، يعرفها من (٤) يعرف تلك اللغّة ، وتسمّى بها أولئك الحكماء وكنوا بها عن أسمائهم. لم تشبّه بهم هؤلاء الكذّابون الضّلّال الذين نظروا فى تلك الرّسوم وعوّلوا عليها دون التّمسك برسوم أصحاب الشّرائع ، وتأسّوا (٥) بآرائهم وتعمقوا ، وابتدعوا تلك الوساوس الكبيرة التى زعموا أنّها حكمة وفلسفة وأنّهم سلكوا مسالك الحكماء ، وتكلّموا فى البارى جلّ وعزّ (٦) وفى مبادى الأشياء وتحيّروا فيها (٧) وتاهوا ، وزعموا أنّهم يستخرجون بفطنهم وطبعهم ما أغفله من تقدمهم من الحكماء. فأوردوا هذه الوساوس التى ذكرناها ، وذكرنا اختلافهم فيها وتنازعهم وتحيّرهم وتناقضهم وانهما كهم فى تلك الضّلالات ، كما زعم الملحد انّه استدرك بفطنته ما لم يفطن له من تقدّمه ، وابتدع (٨) مقالته السخيفة وزعم أنّه نظير بقراط فى الطبّ وسقراط فى استخراج اللّطائف. وهكذا كان سبيل أولئك الكذابين الذين تقدّموه ممّن (٩) تشبّه بالفلاسفة وتسمّوا باسمائهم واتّخذوا الالحاد شريعة ورسما ودانوا بالتعطيل. وقد رأيت من كانت سبيله هكذا وكان قد (١٠) تسمى بنسطولس (١١) وآخر بنسطوس. فهكذا كان سبيل هؤلاء الكذّابين. فأمّا الحكماء الأوائل المحقّين الذين وضعوا هذه الرّسوم الصّحيحة فى النجوم

__________________

(١) ـ وانما : فماA (٢) ـ الذين : الّذي C (٣) معان : معانى ABC (٤) يعرفها من : ـ B (٥) ـ تأسوا : قاسواB (٦) ـ جل وعز : ـ A (٧) ـ فيها : ـ B (٨) ـ ابتدع : ابدع AB (٩) ـ ممن : فى C (١٠) ـ وكان قد : وقد كان C (١١) ـ بنسطوس : بطوس B

٢٧٧

والطبّ والهندسة وغير ذلك من علم الطّبيعة ، فانّهم (١) كانوا حكماء أهل (٢) دهرهم وأئمّة فى أعصارهم وحجج الله (٣) على خلقه فى أزمنتهم أيّدهم الله بوحى منه وعلمهم هذه الحكمة (٤). فكلّ واحد منهم أعطى نوعا من الحكمة. فمنهم من أعطى علم الطّبّ وغير ذلك من علوم الهندسة والطبائع. فأخرجوها إلى النّاس ، وأخذها عنهم النّاس لمّا أراد الله عزوجل أن يعرّف خلقه ما فى هذه الاصول من الحكمة ، وليظهر مراتب هؤلاء الأنبياء فى أزمنتهم ، وتظهر حجج الله على خلقه (٥) على ألسنتهم. كما قد روى أن أصل النّجوم من إدريس النبىّ. (ع). وتأوّل (٦) قوم فى قول الله عزوجل (٧) فى قصة قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) أن الله عزوجل رفعه (٨) الى الجبل الّذي هو فى سرّة الأرض ، وبعث إليه ملكا حتى علّمه أسباب الفلك وما فيه من الحدود والبروج والكواكب ومقدار (٩) سيرها وسائر ذلك من علوم النجوم. وقالوا إنّ هرمس المذكور فى الفلاسفة هو إدريس ، فاسمه فى الفلاسفة هرمس ، وفى القرآن إدريس. وهذان الاسمان مشاكلان لتلك الاسماء مثل جالينوس وارسطاطاليس وغير ذلك مما فى آخرها «سين» ، واسمه فى سائر الكتب المنزلة (١٠) أخنوخ (١١) ؛ فهذا (١٢) دليل بأنّهم (١٣) كانوا يكنون بهذه الاسماء وعلى هذه التقطيع من أسماء الأنبياء ممن (١٤) ذكر منهم فى القرآن إلياس وإدريس ومن هو مذكور عند أهل الكتاب (١٥) من الأنبياء والحكماء ، شمعون (١٦) تلميذ المسيح (ع) ، كان يقال له فطروس (١٧) ، واخوه أيضا احد الاثنى عشر اسمه اندريوس (١٨) ، ومن الحواريين

__________________

(١) ـ فانهم : وانهم C (٢) اهل : ـ C (٣) ـ الله : ـ BC (٤) الحكمة : الحقيقةC (٥) ـ يعرف خلقه ... على خلقه : ـ C + (٦) ـ تاول : تامل : C (٧) عزوجل : ـ A (٨) ـ رفعه : فى قصة رفعه A (٩) ـ مقدار : مقداره A (١٠) ـ المنزلة : ـ C (١١) اخنوخ : حنوخ A (١٢) ـ فهذا : فهذه A (١٣) بانهم : انهم AC ـ (١٤) ـ ممن : فمن AC ـ (١٥) ـ الكتاب : + من اهل الكتاب B (١٦) شمعون : يسمون C (١٧) ـ فطروس : وطروس C (١٨) اندريوس : اندلس C

٢٧٨

الاثنى عشر فيلوس (١) ومارقوس أحد الاربعة وملغوس (٢) الرّسول المطاع فيهم ومن الأنبياء المذكورين عندهم سراقسيس (٣) وآغا يونس ولوقس وبولس (٤) وفيلدفيوس (٥). فهذه أسماء الأنبياء والحكماء ومثلها أسماء كثيرة ، وهى (٦) تشاكل اسماء الفلاسفة القدماء الذين وضعوا كتب الطّب والنجوم والهندسة ، وكنوا عن أنفسهم بهذه الاسماء كما ذكرنا من (٧) شأن إدريس أنّه أوّل من علم الناس علم النّجوم وأنه هرمس المعروف عند الفلاسفة بهذا الاسم.

(٢) فان قال قائل : فلم نهى محمّد (ص) عن النّظر فى النّجوم وهى من علوم الأنبياء؟ قلنا : لانه أمر منسوخ وسبيله سبيل سائر رسوم الأنبياء المنسوخة المنهى عنها. فأمرهم أن لا يشتغلوا به عن النظر فى شرائع الاسلام ولم يحرمه تحريما جزما (٨). إنّما نهى عنه ترغيبا عنه ، ولانّ الانسان اذا تعمّق فيه ولم يكن مستبصرا بالشّرائع وبامر التوحيد ولطائف العلوم الحقيقية (٩) ، تحيّر وأداه ذلك (١٠) إلى الالحاد ويكون سبيله سبيل هؤلاء الضّالين الذين تسمّوا بالفلسفة (١١) ؛ فنهى عن التّعمق فيه. ولانّ الناظر فيه يتكلف ما لا يحسنه ويكذب ويتشبّه (١٢) بالكهّان ويغلو فى القول ويكثر الدّعاوى الباطلة فى الاحكام ، كما روى عنه انه قال : «إيّاكم والنّظر فى النّجوم فانه يدعو الى الكهانة» فرغّب (١٣) (ص) بالمسلمين عن الكذب والدّعاوى الباطلة وما يخاف عليهم من ذهول العقل (١٤) إذا لم يكونوا مستبصرين فى الدّين. فهذه هى (١٥) العلّة فى النّهى عن النّجوم والنّظر فيه ولم يحرمه تحريما. ولو حرمه لما جاز لمسلم

__________________

(١) فيلوس : ملوس C (٢) ـ ملغوس : فلفوس C (٣) ـ سراقسيس : نراقيس C (٤) بولس بوس B (٥) فيلدفيوس. ملدفبوس C (٦) ـ هى : + اسماءB (٧) ـ من : + من C (٨) ـ جزما : جرماAB ، حراماC (٩) ـ الحقيقية : الحقيقةB (١٠) ذلك : تلك C (١١) ـ بالفلسفة : بالفلاسفةA (١٢) ـ يتشبه : يشتبه A (١٣) ـ فرغب : فرتحب A (١٤) ـ العقل : العقول A (١٥) هى : فى A ، ـ B ، عن C

٢٧٩

أن ينظر فيه أصلا ولكان سبيله سبيل سائر الاشياء المحرّمة مثل الخمر والميتة والدّم ولحم الخنزير. فعلم النّجوم أصله (١) من إدريس (ع) ، وهرمس هو إدريس وهو نبى وهو من أئمّتنا لا من أئمّة الملحدين وكان بينه (٢) وبين آدم (ع) خمسة آباء.

(٣) واما معرفة طبائع الأشياء ، فانّ الله عزوجل لمّا خلق آدم (ع) وكان جسده مركّبا من طبائع الأرض وغذاؤه (٣) مما أخرجت الأرض ، وكانت الطّبائع متضادة متشاكلة ضارّة ونافعة ، علّم عزوجل آدم الأسماء كلّها اذ كان بدنه (٤) وأبدان ولده لا تصحّ (٥) إلّا بالغذاء ، والغذاء منه ما يضرّ ومنه ما ينفع ، وإذا كانت الأدواء تلحق أبدانهم ولا بد لكلّ داء من دواء ، فعرّفه عزوجل من أى شيء يتولّد الدّاء ، وما دواء كلّ داء اذ (٦) لم يستغن عن ذلك. واذ (٧) كان الله عزوجل أرحم به وبولده أن يدووا (٨) ، ولا يعرفوا (٩) لأدوائهم أدوية ، فعلّمه هذه الطّبائع كلّها وعلّم هو ولده ، فوعى ذلك منهم من وعى ونسى من نسى. ثم أخذه الخلف عن السّلف كما قال الله عزوجل (١٠) فى القرآن العظيم : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) فعلمه كل شيء يحتاج إليه من أمر دينه ودنياه. ولم يجز فى حكمة (١١) الله الّا هكذا ، لانهم لم يستغنوا عن عبادة الله عزوجل ومعرفته طرفة عين ، ولا جازت لهم الحياة فى هذا العالم يوما واحدا إلّا و (١٢) يعرفوا ما يصلح أبدانهم وما يفسدها وما يضرّها وما ينفعها. فهذه هى النهاية فى معرفة طبائع الأشياء التى ذكرها الملحد وقال : أخذه الأول عن الأول إلى نهاية الزّمان

__________________

(١) ـ اصله : ـ B (٢) ـ بينه : ـ A (٣) ـ غذاؤه : غذاه A (٤) ـ بدنه : بدن B (٥) تصح : تصلح A (٦) ـ اذ : اذاABC (٧) ـ اذ : اذاC (٨) يدووا : يدوون ABC (٩) يعرفوا : يعرفون ABC (١٠) ـ عزوجل : ـ A (١١) ـ حكمة : حكم C (١٢) ـ الا و : ولاB

٢٨٠