أعلام النبوّة

أبو حاتم الرازي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبو حاتم الرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسه پژوهشى حكمت و فلسفه ايران
المطبعة: صارمي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

(ص) على مصارعهم وقال لأصحابه : هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فعرفهم (١) مصارعهم رجلا رجلا. فأظفره الله عزوجل بهم ولم يخالف (٢) أحد مصرعه ، وحقّق قوله وصدق وعده ؛ ثم نزلت : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) فحقّق الله قوله وقطع دابرهم وقتل فرسانهم وصناديد هم وأسر رؤساءهم وعظماءهم (٣) ، وانتقم الله منهم (٤) ببطشة وأنزل أيضا : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) ونزلت : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) الى قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وذلك أنّ كثيرا منهم كانوا يودّون أن يأخذوا الأموال التى فى العير بغير حرب ، وكثير منهم رضوا بما اختار الله لهم ، فنزلت (٥) أيضا : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). فهذا نزل به القرآن قبل أن كان قوله (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) والآية تدلّ على (٦) أنّها نزلت قبل هذه القصّة ؛ لأنّ قوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) هذه السّين تكون للمستقبل لا للماضى ، وكذلك السّين التى فى الآية فى قصّة الرّوم : (سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) تدلّ على المستقبل (٨) ، ونزلت هذه الآيات بهذه الأنباء (٩) قبل أن كانت ، ثمّ كانت من بعد ذلك وصحّت. وهذا القرآن ينطق به ، وهذه القصص لا شكّ فيها أنّها كانت ، وهى شبه العيان والمشاهدة لا يدفعها الّا

__________________

(١) ـ فعرفهم : فهم B (٢) يخالف : يخالفوB (٣) ـ وعظماءهم : ـ B (٤) منهم : ومنهم B (٥) ـ فنزلت : ونزلت AC ـ (٦) ـ على : ـ C (٧) ـ الجمع : ـ C (٨) ـ لا للماضى ... المستقبل : ـ B (٩) ـ بهذه الانباء : ـ C

٢٢١

جاهل عديم العقل. ومثل من ينكر هذه القصص مثل شيخ كان يقول بالأرجاء والنّصب وكان جاهلا ، قال لى يوما : ما رأيت أكذب (١) من الرّافضة ، يزعمون أنّ طلحة والزّبير أخرجا عائشة إلى البصرة ، وأنّها ركبت الجمل وحاربت عليّ بن أبى طالب. قلت له : فما تقول فى هذا (٢)؟ قال : هذا حديث وضعه الرافضة وهو كذب ليس له أصل. وكذلك من ينكر هذه القصص ويدفعها ويزعم أنّها لم تكن فقد ردّ العيان ، وإن (٤) أنكر الآيات التى هى فى القرآن فهو أيضا (٥) ردّ (٣) للعيان. ومثال (٦) الملحد فى ردّ هذه الأعلام مثال هذا الشّيخ الّذي قد ذكرناه فى رد ما هو مثل العيان ولا مرية فيه ؛ لأنّها أعلام نطق بها القرآن قبل أن كانت ، ثم كانت بعد ذلك.

(٩) ووجه آخر من أعلامه ممّا جاءت فى القرآن ، منها حديث الإسراء والبراق والمعراج وما أراه الله عزوجل من ملكوت السّماوات والأرض فى ليلة الاسرى. فلمّا أصبح حدّث به الناس. فأنزل الله عزوجل : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فقالت العرب ما سمعنا مثل هذا وكانوا يسألونه (٧) عن صفة بيت المقدس فجعل يصفه لهم ، ثم قال لهم : «إنّى مررت بعير بنى فلان بوادى كذا وأنا متوجه إلى المسجد الأقصى ، فانفرها حسّ (٨) الدّابة ، فندلّهم (٩) بعير ، فدلّلتهم عليه». فلمّا (١٠) أقبلت مررت بعير بنى فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطّوه فكشفت غطاءه وشربت ما فيه وغطّيت عليه كما كان ، وآية ذلك أن عيرهم الآن (١١) يصوب (١٢) من البيضاء (١٣) ثنيّة (١٤) التنعيم (١٥) ، يقدمها جمل

__________________

(١) ـ اكذب : الكذب B (٢) ـ هذا : + قال فى هذاB (٣) ـ العيان ... فهو رد : ـ B (٤) وان : ان C (٥) ـ أيضا : ـ A (٦) مثال : مثل C (٧) ـ يسألونه : يسألون C (٨) ـ حس : حسن BC ـ (٩) فندلهم : فدلهم C (١٠) فلما : فماBC ـ (١١) ـ الآن : لان BC ـ (١٢) يصوب : يضرب BC ـ (١٣) البيضاء : البيض C (١٤) ثنية : شبه C (١٥) التنعيم : الشعيم BC ـ

٢٢٢

أورق (١) عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء. فابتدر القوم الثنيّة (٢) فأول ما لقيهم الجمل كما وصفه وسألوهم عن الاناء فأخبروهم أنّهم (٣) وضعوه مملوء وغطّوا عليه وأنّهم لما هبّوا وجدوه فارغا مغطا. وسألوا القوم الآخرين وهم بمكّة عن خبر البعير الّذي ندلّهم (٤) فقالوا : ندلّنا بعير ، فسمعنا صوت (٥) رجل يدعونا إليه فأخذناه. فهذه من دلالاته (٦) التى نطق بها القرآن. ولما نزل (٧) ذلك سمعه المشركون ، وسمعوا هذه القصّة منه ، وطالبوه بذلك ؛ فكان حديثها ما ذكرناه (٨) والقرآن ينطق بأنّ ذلك كان بمحضر منهم.

ومن (٩) ذلك حديث انشقاق القمر وذلك أنّ أبا جهل قال لرسول الله (ص) أن كنت نبيّا فأت بآية كما آتت بها الرّسل لنؤمن لك ، فأت بآية من السّماء لا من الأرض! فدعا (ص) ربّه فانشقّ القمر والنقى طرفاه على جبل (١٠) أبى قبيس. فقال أبو جهل : يا معشر قريش إنّ محمّدا قد سحر القمر فانظروا من (١١) يقدم عليكم من النّواحى هل رأوا ما رأيتم؟ فكان من يقدم عليهم يحدثهم بانشقاق القمر. فقال أبو جهل. هذا سحر (١٢) ذاهب فى الدّنيا. فأنزل الله عزوجل : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) فهذا ما نطق به القرآن ؛ ولو لم يكن ذلك لطالبوه ولقالوا أين هذا الّذي تدّعى من انشقاق القمر ولكنهم شاهدوه ورأوه ، ويصحّح (١٣) ذلك قوله : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ، فهذا يدل أنه قد كان وأنّهم قالوا إنّه سحر مستمر (١٤) لما رأوه

__________________

(١) ـ اورق : ورق B (٢) الثنية : إليه C (٣) ـ انهم : الهم B (٤) ـ ندلهم : يدلهم C (٥) ـ صوت : صورت B (٦) دلالاته : دلالةB ، دلالته C (٧) ـ نزل : نزلت C (٨) ذكرناه : ذكرناB (٩) ـ من : مثل B (١٠) ـ جبل : ـ C (١١) ـ من : ما من B (١٢) ـ سحر : + وB (١٣) ـ يصحح : يصح B (١٤) ـ فهذا ... مستمر : ـ B

٢٢٣

منشقّا ؛ وقالوا عند ذلك هو من السّحر ، هذا سحر من سحره وحيلة من حيله. وهذه القصّة كانت بمكّة قبل الهجرة وأعداؤه متوافرون يتطلّبون (١) عليه العثرات. وهذه السّورة مكيّة والقرآن لا يقع فيه تغيير وتبديل وزيادة ونقصان وليست سبيله سبيل الخبر الّذي ادّعا الملحد أنّه نقله واحد واثنان وثلاثة ، وأنّه يجوز عليه التّواطؤ ؛ لأنّ الّذي نزل به القرآن سمعه الكافرون كما سمعه المسلمون ، ونطق بهذه القصص بمشهد من كفّار قريش وغيرهم من العرب ومن أهل الكتاب ، ثم ظهرت حقيقتها بعد نزول القرآن ، وظهر صدق محمّد (ص) فيها ؛ ثم القرآن نقلته الأمّة بأسرها ، ولم يقع فيه زيادة ونقصان. فهذا أوكد من أن يقدر أحد على إنكاره إلّا أن يجحده على معرفة ويقين أو مكابرة أو يقول إنّه سحر وكهانة ، كما قاله (٢) من شاهد هذه الآيات ، أو (٣) يكون جاهلا أحمق مثل الشّيخ الّذي ذكرنا قوله فى شأن عائشة وحديث الجمل ؛ وإلّا فمن (٤) يقدر أن ينكر حديث غلبة فارس على الجزيرة ، ثم غلبة الرّوم بعد ذلك (٥) ، فيقول : إنّ هذا لم يكن أو ينكر حديث غزوة بدر أو يقدر أن يقول إنّ هذا الّذي نطق به القرآن فى هذه القصص هو شيء قد زيد فيه. ومن ردّ هذا فقد ردّ العيان ونعوذ بالله من الكفر والطغيان.

__________________

(١) ـ يتطلبون : يطلبون B (٢) ـ قاله : قال C (٣) أو : وB (٤) ـ فمن : + اين C (٥) ـ ذلك : ـ B

٢٢٤

الباب السّادس

٢٢٥
٢٢٦

فى شأن القرآن

قد ذكرنا بعض دلائل محمّد (ص) كما اشترطنا دون ذكر الجميع لأنها كثيرة جدّا ، ولم نشرح قصة كلّ دلائله ولا ذكرنا حديثها بكماله ، بل اختصرنا واقتصرنا على تلك (١) النّكت. ولسنا نحتج بها على الملحدين إذ كانت أمورا (٢) قد مضت ، وان كان منها ما هو (٣) شبه العيان على حسب ما قلنا من حديث (٤) غلبة الرّوم وانشقاق القمر وغير ذلك ، ومنها ما تنطق به كتب الأنبياء وهى فى يدى أهل الذّمة ، ولكنّا نقول فى جواب قول الملحد فى شأن القرآن وما طالب به محمد (ص) العرب أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عنه.

(١) فقال الملحد : إنكم تدّعون أن المعجزة قائمة موجودة وهى القرآن وتقولون من أنكر ذلك فليأت بمثله. ثم قال : إن أردتم بمثله فى الوجوه (٥) التى يتفاضل بها الكلام ، فعلينا أن نأتيكم

__________________

(١) ـ تلك : ذلك BC ـ (٢) ـ امورا : امورBC ـ (٣) هو : هى BC ـ (٤) ـ من حديث : ـ B (٥) ـ الوجوه : وجوه B

٢٢٧

بألف مثله من كلام البلغاء والفصحاء والسّجعاء والشّعراء وما (١) هو أطلق منه ألفاظا وأشدّ اختصارا فى المعانى وأبلغ أداء وعبارة وأشكل سجعا. فان لم ترضوا (٢) بذلك ، فانّا (٣) نطالبكم بالمثل الّذي تطالبون به. ثم قال على أثر هذا الكلام : قد والله تعجّبنا من قولهم فى كلام هو (٤) فى حكاية أساطير الاولين ، مملوّ (٥) مع ذلك تناقضا من غير أن تكون فيه فائدة أو بيّنة على شيء ، ثم يقولون : فأتوا بمثل هذا ؛ هذا قول الملحد ،

ونحن نقول :

انّ الملحد لم يخط (٦) سنّة من تقدّمه من أهل الكفر والضّلالة (٧) حين قالوا : قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ، ان هذا الّا اساطير الاوّلين. فهكذا قال الملحد مثل قولهم حذو النّعل بالنّعل والقذّة بالقذّة ؛ ولكنّه قال ولم يفعل ولا يقدر أمثاله من الملحدين أن يفعلوا. وما مثله فى هذا القول الا كمن يقول : إنّى (٨) أخلق مثل السّماوات والارض ثم لا يقدر أن يخلق ؛ وقوله جنون (٩) يضحك منه ، لأنّ السّماوات والارض الله خلقها ، ولا يقدر على مثل خلقها (١٠) غيره. وكذلك القرآن الله أنزله ، ولا يقدر أن يأتى بمثله غيره (١١). وفيه من المعجز نحو ما فى خلق السّماوات والارض وسوف نكشف (١٢) عن ذلك ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) ـ وما : ماC (٢) ـ ترضوا : يرضواA (٣) فانا : فاماA (٤) ـ هو : وهوA (٥) مملو : مملواBC ، علواA (٦) ـ يخط : يخطى C (٧) الضلالة : الضلال C (٨) ـ انى : اى A (٩) ـ جنون : ـ AB ، + ان يجب A ، يجب ان B (١٠) ـ خلقها : خلقهماB (١١) ولا يقدر ... غيره : ـ B (١٢) ـ نكشف : ـ A

٢٢٨

(٢) ثم قال : وأيم الله لو وجب أن يكون كتاب حجّة ، لكانت كتب أصول الهندسة والمجسطي الّذي (١) يؤدّى الى معرفة حركات الفلك والكواكب ونحو كتب المنطق وكتب (٢) الطّب التى فيها علوم مصلحة الأبدان ، أولى بالحجّة ممّا لا يفيد نفعا ولا ضرّا ولا يكشف مستورا ـ يعنى به القرآن العظيم ـ وقال أيضا : من (٣) ذا يعجز عن تأليف الخرافات بلا بيان ولا برهان الا دعاوى أنّ ذلك حجة ، وهذا باب إذا دعا إليه الخصم سلّمناه وتركناه وما قد حل به من سكرة (٤) الغفلة (٥) والهوى ، مع ما أنّا نأتيه بأفضل منه من الشّعر الجيّد والخطب البليغة والرّسائل البديعة ، مما هو أفصح وأطلق وأسجع منه ؛ وهذه (٦) معانى تفاضل الكلام فى ذاته. فأما تفاضل الكلام على الكتاب فلامور كثيرة فيها (٧) منافع كثيرة ، وليس فى القرآن شيء من ذلك (٨) الفضل ، إنّما هو فى باب الكلام والقرآن خلو من هذه التى ذكرناها.

هذا قول (٩) الملحد لعنه الله واحتجاجه وطعنه على القرآن الّذي هو كتاب محمّد (ص) ومعجزته وكلام الله عزوجل ، وجهله بما فيه من (١٠) الأمور العظيمة التى (١١) : «لئن اجتمعت الانس والجنّ على أن يأتوا بمثله لعجزوا عنه ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، كما قال الله عزوجل. ونحن

__________________

(١) ـ الّذي : الله B (٢) ـ المنطق والكتب : ـ A (٣) ـ من : وماC (٤) ـ سكرة : سكرBC ـ (٥) الغفلة : العقل C (٦) ـ هذه : هذاB (٧) ـ فيها : وليس فى A (٨) ـ ذلك : ـ B (٩) ـ قول : فعل C (١٠) ـ من : ومن B (١١) ـ التى : الّذي B

٢٢٩

نكشف عن حقيقة ما فى القرآن من الأمور الجليلة (١) والمعجز العظيم ببرهان واضح ، ليعلم من هو على مذهب الملحد ، أنّه ليس فى العالم معجز أكثر منه ولا دلالة أكبر منه ، وليعرف الملحدون أنّ القرآن هو عظيم الشأن رفيع البنيان واضح البرهان ، وأنّه نور ساطع لمن استضاء به ، ودليل هاد لمن عرفه ، وحجّة قاهرة لمن خاصم به ، وعلم زاهر (٢) لمن وعاه (٣) ، وحكمة بالغة لمن نطق به ، وحبل وثيق لمن تعلق به ، وفوز ونجاة لمن آمن (٤) به ، وأنّ نفعه للانام أعظم ، ومقداره أجلّ من أن يقاس بالمجسطى وكتب الهندسة والطب والمنطق والنّجوم التى (٥) ذكرها الملحد وجعلها نظائر للقرآن ، بل فضّلها عليه لضعف عقله وعمى قلبه وقلة معرفته ولضلالته (٦) ولغلبة هواه ؛ وندع (٧) الاحتجاج على الملحد بالآيات (٨) والمعجزات التى جاءت عن الأنبياء (ع) وعن محمّد (ص) على حسب ما اشترطناه (٩) ، الا بالقرآن العظيم ، ولما فيه من الدّلائل الواضحة القائمة فى العالم ، وإن جحدها الملحدون. فليس هم بألوم فى جحودهم الآيات التى مضت أيّامها من الذين شاهدوا تلك العجائب فردّوها. إنّما يلامون على ما بلوا به (١٠) من العمى والضّلال والانكار للمعجز العظيم الّذي هو فى القرآن. لأنّه شاهد قائم فى العالم ، وقبوله لمن عبر (١١) ألزم منه لمن مضى ، والحجة عليهم أوكد لأنّ برهانه يزداد على مرّ الأيّام إيضاحا.

(٣) فأمّا المعجزات التى قد مضت ، فانّهم لا يلامون على دفعها ، لأنّ الذين شاهدوها ورأوها بأبصارهم وسمعوها (١٢) بآذانهم وباشروها بأنفسهم ،

__________________

(١) ـ الجليلة : الجليةC (٢) ـ زاهر : ـ A (٣) وعاه : دعاه B (٤) ـ آمن : آمرA (٥) ـ التى : والتى A (٦) ـ لضلالته : ضلالته A ، ضلالةC (٧) ـ ندع : نبتدع B (٨) بالآيات : والآيات AC ـ (٩) ـ اشترطناه : شرحناه B (١٠) ـ به : ـ C (١١) ـ عبر : غيرA ، غبرBC ـ (١٢) ـ سمعوها : سمعواA

٢٣٠

دفعوها وكفروا بها ونسبوا الأنبياء (ع) إلى السّحر فيما ظهر لهم من بعد أن طالبوا بها الرّسل (ع) ، فلمّا أتوا بها جحدوها وقالوا هذا سحر مبين ، وهذا ساحر كذّاب. فمنهم من عاجلته نقمة ربّه ، ومنهم من أملى لهم ليزدادوا إثما وقد باءوا كلّهم خاسرين لدنياهم وأخراهم (١) ؛ كما سأل أصحاب صالح (ع) أن يخرج لهم من الصّخرة ناقة تمخض ؛ فخرجت ، ونتجت سقيا (٢) ، كما حكى الله عزوجل عنهم فى قولهم لصالح : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.) ثم عقروها (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وحديثها مشهور (٣) عند أهل الملل وعند غيرهم ، لأنّ العرب من أهل الجاهلية كانوا يعرفون شأن النّاقة والعذاب (٤) الّذي نزل على القوم الذين (٥) عقروها حتى رغا (٦) السّغب (٧) وحديث الوفد الذين خرجوا الى مكّة يدعون الله أن يصرف عنهم العذاب ؛ وذلك مشهور فى أشعار الجاهليّين (٨) الذين لم يكن لهم كتاب ولا إيمان كما قال زهير وهو جاهلى :

فتنتج لكم غلمان أشأم كلّهم (٩)

كأحمر (١٠) عاد ، ثمّ ترضع فتفطم

يعنى بأحمر عاد عاقر النّاقة ؛ لأنّهم ضربوا المثل به فى الشّوم (١١) وقال ابن احمر وهو محضرميّ يذكر القيل (١٢) الّذي (و) وفد الى مكة مع قوم

__________________

(١) ـ اخراهم : آخرهم A (٢) ـ سقيا : سقباABC (٣) ـ مشهورة : مشهورABC (٤) ـ والعذاب : ـ B (٥) الذين : الّذي BC ـ (٦) ـ رغا : دغاBC ـ (٧) السغب : السقب AC ، لسبقته B (٨) ـ الجاهليين : الجاهلين A (٩) ـ كلهم : كلهاC (١٠) : كاحمر : كماحمرB (١١) ـ الشوم : الثوم A (١٢) ـ القيل : الفيل AC

٢٣١

عاد ليدعوا الله أن يصرف عنهم العذاب فشربوا (١) ولهوا حتى نزل العذاب على قومهم

كشراب قيل (٢) عن مطيّته

ولكلّ أمر واقع قدر

ومثل حديث موسى (ع) لما سأله فرعون أن يكشف عنه وعن قومه ما نزل بهم من أنواع العذاب ، فلما كشف الله عنهم العذاب نكثوا وكفروا ، كما حكى الله عزوجل عنهم فقال : (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ (٤) لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ (٥) هُمْ (٦) بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (٣) فكان هذا دأبه ودأب موسى ، فلما نزلت آية من الجراد والقمل وغير ذلك ، سأل أن يكشف (٧) عنهم ، ثم نكثوا وكفروا ، ثم فزع إلى السّحرة وجمعهم ، وكان ذلك زمان السّحر. فلما حضروا ورأوا فعل موسى (ع) علم السّحرة أنّه ليس من جنس السّحر الّذي يستعمله السّحرة ، لأنّهم (٨) كانوا من (٩) العلماء بالسّحر وعرفوا صدق قوله وأثّر فى أنفسهم فعل موسى وقوة الوحى فآمنوا واعترفوا بنبوّته : فهدّدهم فرعون (١٠) وأوعدهم بالقتل والصّلب وقطع الأيدى والأرجل فلم يرجعوا من ذلك (١١) يقينا منهم بأنّ فعل موسى ليس بسحر ، و «قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والّذي فطرنا فاقض ما أنت قاض» ولم يؤمن بما أظهر (١٢) موسى من أمر العصا (١٣) وغيره من المعجزات الّا السّحرة (١٤) ؛ لما قد ذكرنا أنّهم كانوا معدن السّحر وعرفوا

__________________

(١) ـ فشربوا : وشربواB (٢) ـ قيل : القيل B (٣) ـ عهد عندك : عهدك B (٤) لئن ... الرجز : ـ C (٥) ـ الرجز الى اجل : الراجل B (٦) اجل هم : اجلهم A (٧) ـ يكشف : يكشفهاBC ـ (٨) ـ لانهم : كانهم A (٩) من : ـ C (١٠) ـ فعل موسى ... فرعون : ـ A (١١) ـ من ذلك : وذلك A (١٢) ـ اظهر : ظهرBC ـ (١٣) العصا : العصرB (١٤) ـ السحر : السحرةC

٢٣٢

أن فعله ليس بسحر. فاما (١) فرعون وقومه الذين جهلوا ذلك ، فلم (٢) يزدادوا (٣) إلّا طغيانا وكفرا وعتوّا واستكبارا ودفعوا تلك (٤) الآيات التى عاينوها وقالوا (٥) هو سحر ، وقالوا إنّ موسى كبيرهم الّذي علمهم السّحر. وهكذا فعل سائر الأمم بأنبيائهم ، كما فعلوا بعيسى حتى أحيا لهم الموتى وعمل (٦) تلك الجرائح العظيمة وعاينوها ، فقالوا : هذا سحر.

وهكذا فعلوا بمحمد (ص) كانوا يطالبونه (٧) الآيات ؛ وكلّما رأوا آية ، قالوا هذا سحر ، كما (٨) قالوا لما انشقّ القمر : (هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ). ثم عاندوه وطالبوه بأمور (٩) عظيمة فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) (١٠) فكانوا يسألونه هذه الآيات (١١) العظام. فقال الله عزوجل : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) أى أنّ هذه القوّة هى لله (١٢) عزوجل ، ولا يقدر أن يأتى بشيء منها إلّا ما يؤيّده الله به ، وأنّه يفعل ما يؤمر به. فان أعطاه الله آية أظهرها ، وإلّا لم (١٣) يسألها ؛ لأنّ الله عزوجل قد كان أعلمه أنّهم لا يؤمنون بالآيات وينسبونه إلى السّحر ، فقال عزوجل : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وقال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وأعلمه عزوجل أنّ سبيله سبيل من تقدّمه من الأنبياء (ع) ، فقال : «قالوا

__________________

(١) فاما : فلماA (٢) فلم : لم ABC (٣) يزدادوا : يزدادC (٤) ـ تلك : ـ C (٥) وقالوا : قالواB (٦) ـ عمل : علم C (٧) ـ يطالبونه : يطالبون BC ـ (٨) ـ قالوا ... كما : ـ B (٩) ـ بامور : يا نورA (١٠) لك : ـ C (١١) ـ الآيات : الاوابدC (١٢) ـ لله : الله B (١٣) ـ لم : لمن : C

٢٣٣

لو لا اوتى مثل ما اوتى موسى؟ او لم يكفروا بما اوتى موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا انّا بكل كافرون». ومثل هذا فى القرآن كثير ممّا يدلّ أن الذين شاهدوا الآيات والمعجزات من الأنبياء (ع) لم يؤمنوا بها ونسبوها إلى (١) السّحر وسمّوا الأنبياء سحرة ، فكيف يؤمن الملحدون بآيات محمّد (ص) التى مضت (٢) ، ولم يعاينوها ، ولا يقرون بأنّ لها حقيقة ، ويزعمون أنّها لا تصحّ شهادة لأهل الشّريعة.

(٤) ولكنا نحتج عليهم بما هو قائم فى (٣) العالم من معجز (٤) محمد (ص) مشهور واضح وبرهانه معه ، يشهد أنّه ليس من فعل السحرة ، وأنّه ليس فى وسع المخلوقين أن يأتوا بمثله ولا يقدر على دفعه الّا معاند ؛ لأنّ فعل السّحرة يبطل ولا يثبت فى العالم ، ومعجز محمّد (ص) الّذي هو القرآن ، قد خلد على الدّهر ، ويزداد قوّة على مرور الأيام. وسوف نكشف عن البرهان ، فيه ليعلم (٥) الملحدون أنّ الأمر (٦) كما دعا إليه (ص) العرب حين قالوا : «لو نشاء لقلنا مثل هذا» فقال الله عزوجل ردّا عليهم : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧)) ثم خفف المطالبة فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثم عرّفهم عجزهم ، فقال : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) : فقوله (فان لم تفعلوا) يعنى أنّهم لم يفعلوا ما ادّعوا ان يأتوا بمثله ، وقوله (ولن تفعلوا) أى لا تفعلون فيما (٨) بعد

__________________

(١) ـ الى : ـ A (٢) ـ مضت : قضت C (٣) ـ فى : بماB (٤) معجز : المعجرB (٥) ـ ليعلم : ليعلمواC (٦) الامر : الاB (٧) ـ قل : + لو لاB (٨) ـ فيما : فماC

٢٣٤

أبدا. ثم عرّفهم أنّ ذلك ليس (١) فى وسع الخلائق ، فقال : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). وقد (٢) قدّمنا القول إن الملحد لم يخطى سنّة من تقدّمه حين زعم أنّه يأتى (٣) بألف مثله ، فانّه (٤) لم يحصل من هذه الدّعوى (٥) على أكثر (٦) من أن صارفى جملة من ذكره الله حيث يقول : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٧)).

على أنّا نقول فى جوابه حين زعم أنّ الشّعر والخطب والسّجع وغير ذلك هو مثل القرآن ، أنّه قد أحال فى هذه الدّعوى لأنّ الّذي يجمعه القرآن ، لا يجمعه شيء مما ذكره فى ظاهر اللّفظ دون القوة العظيمة التى هى فيه. فانّ كلّ صنف مما ذكره هو (٨) نوع واحد. فالشّعر هو كلام فصيح موزون بالأعاريض ، وهذه فضيلة لا غير ؛ والخطب البليغة (٩) هى (١٠) فصاحة وإيجاز لفظ لا غير ؛ والسّجع هو كلام فصيح مسجّع لا غير ، الّا ما كان من سجع الكهّان ، فانّه يجمع ذلك (١١) إلى تلك الأسباب التى كانوا يخبرون بها لا غير ؛ والقرآن يجمع هذه المعانى كلّها التى (١٢) هى فى الشعر والخطب البليغة والسجع فى ظاهر الأمر ، دون سائر الأسباب التى يجمعها. ونحن نذكرها ونشرح الحال بها إن شاء الله ، فنقول :

انّ العرب اشتبه عليهم الأمر فيه ، لأنّه جمع هذه المعانى كلّها. فقالوا

__________________

(١) ـ ليس : ـ B (٢) ـ قد : لقدB (٣) ـ يأتوا : يأتى C (٤) فانه : فان B (٥) الدعوى : الدعوةA (٦) اكثر : ـ B (٧) ـ اذ : اذاA (٨) ـ هو : وهوB (٩) ـ البليغة : والبلاغات BC ، البلاغةA (١٠) هى : ـ C (١١) ـ ذلك : ـ C (١٢) يخبرون ... التى : ـ B

٢٣٥

مرّة هو شعر. فشبّهوا السّور بالقصائد ، والآيات بأبيات (١) الشّعراء ؛ كما قالت أمّ جميل بنت حرب بن (٢) أميّة امرأة أبى لهب حمّالة الحطب لما (٣) نزلت سورة «تبّت» (٤) أخذت (٥) فهرا (٦) تريد أن تضرب به رسول الله (ص) وكان جالسا عند الكعبة ومعه أصحابه ، فقالت لهم : قد بلغنى أنّ محمدا (٧) هجانى ، وو الله لو وجدته لضربت بهذا الفهر رأسه وانّى والله لشاعرة (٨) ، ثم قالت (٩)

مذمّما (١٠) عصينا (١١)

ودينه أبينا (١٢)

فقال النبىّ (ص) لو رأتنى لما قالت ما قالت (١٣) ولكن قد أخذ الله ببصرها.

فهكذا مرّة شبّهوه بالشعر ، ومرّة شبّهوه بالخطب البليغة (١٤) لما فيه من ايجاز القول وسهولة الألفاظ وأحكام المعانى ؛ ومرّة شبهوه بسجع الكهّان لما فيه من مشاكلة للسّجع ، ولأنّ الّذي كان يخبر به محمّد (ص) من الأمور الغائبة كان يصحّ ، كما كان الكاهن يسجع بأشياء ثم يقع ذلك الأمر الّذي يخبر به ، كما سجع سطيح الشّامى الكاهن فى أمر الحادثة التى كانت ببلاد العجم ليلة ولد (١٥) رسول الله (ص) من ارتجاس الايوان ورؤيا الموبدان وغير ذلك. فسجع حين سئل عن ذلك ، وأخبر بما يكون من أمر محمّد (ص) فخرج الأمر كما قال ، وحديثه مشهور.

فمن أجل ذلك شبّهوا القرآن بسجع الكهّان وقالوا لرسول الله (ص) هو كاهن كما ذكرنا أنّه كان (١٦) يخبر بأمور غائبة ثم تصحّ (١٧). فاشتبه على العرب أمر القرآن فمرّة قالوا هو شعر ، ومرّة

__________________

(١) ـ بابيات : بآيات B (٢) ـ بن : بنت B (٣) لما : كماB (٤) ـ تبت : بقرةA (٥) اخذت : اخذB (٦) فهرا : فهوA ، فهرB (٧) ـ محمدا : محمدAB (٨) ـ لشاعرة : اشاعرةC (٩) ثم قالت : C (١٠) ـ مذمما : مماC (١١) عصينا : عصيناه C (١٢) ابينا : ابيناه C (١٣) ـ ما قالت : ـ C (١٤) ـ البليغة : البلاغات ABC (١٥) ـ ولد : + فيهاABC (١٦) ـ كان : ـ B (١٧) ـ تصح : يصح B

٢٣٦

قالوا هو سجع الكهّان (٢) ومرّة (١) قالوا هو بلاغة وفصاحة ولو شئنا لقلنا مثل هذا (٣). ولما اعيتهم الحيل ولم يدروا من أىّ صنف هو ، اجتمعوا وتشاوروا (٤) فى ذلك وتدبّروا فيه ؛ فانتدب الوليد بن مغيرة المخزومى وكان مبجلا (٥) فيهم ، فقال (٦) : قد تدبّرت كلام محمد وما هو الّا سحر يؤثر ، ألا ترونه كيف يأخذ بقلوب الناس؟! فقالت قريش : صدقت والقول ما قلت ؛ واتّفقوا بعد ذلك على أنّه سحر. وكان هذا التّشبيه عندهم أوكد وأبلغ من سائر ما قالوا فيه (٧) إنّه شعر وخطب وسجع. فأنزل الله عزوجل فى ذلك وفى الوليد بن المغيرة : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) إلى قوله : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) فاستنكفوا واستكبروا وأدبروا عنه وقالوا كيف اختار الله محمّدا من بيننا ، فهلّا اختار عروة بن مسعود الثّقفى ، فانّه اكثر أهل مكّة والطائف مالا وأوفرهم عقلا وأعظمهم جاها؟! ما هذا إلّا سحر!! فانزل الله عزوجل : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ، يعنون به (٨) عروة بن مسعود ، ثم قال : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أى إنّ الله عزوجل يقسم فى خلقه نعمه دينا ودنيا ، فمن شاء رزقه من (٩) أعراض الدّنيا ، ومن شاء اختاره للنبوّة واختصّه برحمته وجعله سببا لرحمته بعباده ، وهو يعلم بحيث يجعل رسالته (١٠) ؛ لأنّه جلّ ذكره أعرف (١١) بنيّات الخلائق ، وليست القسمة إليهم فيختاروا من

__________________

(١) ـ قالوا ... مرة : ـ B (٢) الكهان : ـ C (٣) ـ هذا : ـ A (٤) تشاوروا : شاورواA (٥) ـ مبجلا : سجلاA (٦) فقال : ـ C (٧) ـ فيه : ـ C (٨) ـ به : ـ AB (٩) ـ من : ـ B (١٠) رسالته : رسالاته AC ـ (١١) ـ اعرف : يعرف ABC

٢٣٧

يشاءون (١) ؛ بل الله يخلق ما يشاء ويختار ما كان لم الخيرة ؛ سبحان الله وتعالى عما يشركون. فالقرآن فيه هذه المعانى التى ذكرناها ويجمعها. وسائر كلام العرب كلّ نوع هو (٢) فى فن واحد.

(٥) ثم فى القرآن من الأمور الجليلة التى لا يقوم الدّين والدّنيا وسياسة العالم الّا بها مثل : الدّعاء إلى توحيد الله عزوجل والحثّ على عبادته وتحميده وتسبيحه وتهليله وتمجيده والثّناء عليه بما هو أهله (٣) ، والرّغبة إليه بالدّعاء والتّضرّع والمسألة فى (٤) العفو والمغفرة والرّهبة منه والتّصديق برسله وإثبات طاعتهم والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر والتّرغيب (٥) فى الجنّة والتّرهيب (٦) من النّار والوعد والوعيد والترغيب فى الآخرة ، والزّهد فى الدّنيا ، والبسط من رجاء (٧) أهل التّوحيد (٨) وأهل الايمان به فيما وعدهم الله عزوجل من الرّأفة (٩) بهم ، واجتناب القنوط من غفران الله ، وتخويف أهل الكفر بشدّة (١٠) العقاب وأليم العذاب ، والأمر بمكارم الأخلاق ومعاليها مثل (١١) : صلة الرّحم وبذل المعروف ورعاية الحقوق والوفاء بالذّمّة (١٢) والعهد وبرّ الوالدين والأمر بالإحسان والنّهى عن الفحشاء والمنكر والبغى ، واجتناب الشرّ والأعمال النّجسة والفواحش القذرة ، والأمر بالاقتصاد وترك البخل والتّقتير (١٣) والاسراف ، وإقامة الحدود فى القتل وفى أخذ أموال النّاس بغير حقّها والفساد فى الارض والزّنى والسّرق وغير ذلك ، مما حدّدت فيه الحدود وبيّنت فيه الأحكام ، وقام بها الدّين (١٤) وسياسة الدّنيا ، وأقرّ بنفعها

__________________

(١) ـ يشاءون : يشاءواBC ـ (٢) ـ هو : ـ B (٣) ـ اهله : عليه C (٤) ـ فى : وC (٥) ـ الترغيب : الرغبةC (٦) ـ الترهيب : الرهبةC (٧) ـ رجاء : ـ AC ـ (٨) اهل التوحيد : الموحدين C (٩) ـ الرأفة : الرحمةC (١٠) ـ بشدة : شدةA (١١) ـ مثل : مثله C (١٢) بالذمة : بالذم C (١٣) ـ التقتير : التقيرA (١٤) ـ الدين : الدنياA

٢٣٨

وفضلها العدوّ واعترف به كما اعترف به الولىّ ؛ كما ذكر (١) عن بطريق البطارقة بأرمينية أنّه قال : ما خفى عليّ وجه السّياسة بعد أن سمعت الآية من القرآن «خذ العفو وامر بالعرف (٢) واعرض عن الجاهلين» ولعمرى قد وقف مع كفره بالقرآن حين عرف لطائف المعانى التى فى هذه الآية فى باب السّياسة ومكارم الأخلاق. ولها (٣) فى القرآن نظائر كثيرة فمنها ما خرج على الاختصار والايجاز ، ومنها ما خرج على الشّرح والتّفسير.

وفيه أخبار القرون (٤) الخالية وأنباء القرون الآتية وضرب (٥) الأمثال. فجمع النبي (ص) فى هذا الكتاب من هذه الشرائع والآداب التى قد ذكرناها إلى غير ذلك ممّا يطول به (٦) الشّرح ، بتأييد من الله عزوجل ووحى منه إليه ؛ وهو أمّىّ ، كان لا يقرأ كتابا قبل ذلك ولا يكتبه ، ولم يكن يخالط الملوك والرّؤساء ، ولا كان يختلف إلى العلماء ، والادباء (٧) كما وصفه الله عزوجل فقال : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ.)

وهذا من معجزاته أن (٨) يأتى (صلوات الله عليه) بمثل هذه الأسباب الجليلة الخطيرة ، ويجمعها (٩) فى كتابه ، وهو أمّىّ لم يقرأ ولم يكتب قبل أن أوحى إليه ، فجرى على تلك السّنّة ، ولو أراد أن يكتب لفعل (١٠) ؛ فانّ الّذي أورده فى كتابه من (١١) ذكر حروف المعجم التى لا يعرفها الأميّون يدل على ذلك. فأين الملحد المعتوه حين زعم أنّه ليس فى القرآن

__________________

(١) ـ ذكر : ـ B (٢) ـ بالعرف : بالمعروف A (٣) ـ لها : اماA (٤) ـ القرون : امورA ، الامورC (٥) ضرب : ضروب B (٦) ـ به : ـ ABC (٧) ـ العلماء والادباء : الادباء والعلماءAC ـ (٨) ـ أن : وأن C (٩) ـ يجمعها : تجمعهاC (١٠) ـ لفعل : + مجرى B (١١) من : وA

٢٣٩

فائدة ولا نفع ولا ضر (١) ، ثم قرنه بالمجسطى وكتب الهندسة والطبّ والمنطق وغير ذلك وجعل هذه الكتب نظائر للقرآن ، بل فضّلها عليه ، وأبطل فضائل القرآن. فمن (٢) لم يؤمن بشرائعه وبما فى إقامتها من النّفع الّذي وعد (٣) الله القائمين بها من الثّواب العظيم ، والضّرّ الّذي أوعد التّاركين لها من العذاب الأليم ، كيف عمى عن الّذي فيه من مكارم الأخلاق والأمور الجليلة التى ساس بها الأنام (٤)؟! وكيف لم يتدبّر أمر الكتب التى ذكرها ، التى ليس فيها من التّدبير ما يسوس به الانسان أمر بيته (٥) وأهله وولده ، كما قد قامت سياسة العالم بأحكام القرآن وحدوده؟! فانه ليس فى هذه الكتب إلا آداب (٦) إن تعلّمها (٧) الانسان سمّى متأدّبا بنوع من الأدب (٨) ، وإن لم يتعلّمها (٩) لم يضرّه ذلك شيئا. ولو أنّ إنسانا عاش ألف سنة (١٠) لا يعرف المجسطي واقليدس وكتب الهندسة (١١) والطبّ والمنطق ، ولم يكن منجّما ولا مهندسا (١٢) ولا طبيبا ، لكان مثاله مثال من لا يكون بنّاء ولا خيّاطا ولا حائكا ولا صائغا (١٣) ، ولكان يكفى ذلك ولا يضرّه ترك تعلّمه ذلك والنّظر فيه فى دينه ولا مروءته (١٤). وجميع النّاس لا يستغنون عن أحكام القرآن والشّرائع ، ولا بدّ لكلّ واحد أن ينظر فى شيء منها مقدار ما يكون داخلا فى جملتها ، كما أنّ كلّ مسلم لا بدّ له أن يحفظ سورتين من القرآن ، وكذلك كلّ ملحد (١٥) متستّر (١٦) بالاسلام ، لا بدّ له من ذلك ، وإن ترك ذلك طرفة عين هلك فى أولاه وأخراه (١٧).

__________________

(١) ـ لا نفع ولا ضر : لا ضر ولا نفع B (٢) ـ فمن : فمنه C (٣) ـ وعد : وعدهاB (٤) ـ الانام : للانام C (٥) ـ بيته : دينه C (٦) ـ الا آداب : الآداب B (٧) تعلمها : يتعلمهاB (٨) الادب : الآداب BC ـ (٩) لم يتعلمها : + الانسان B (١٠) ـ سنة : ـ C (١١) ـ الهندسة : ـ AC ـ (١٢) ولا مهندسا : ومهندسا : B (١٣) ـ صائغا : صانعاC (١٤) ـ مروءته : + به C (١٥) ـ ملحد : ـ A (١٦) متستر : مستترB (١٧) ـ أخراه : آخرته AC ـ

٢٤٠