مصحف أميرالمؤمنين علي عليه السلام بين المنزل والمفسّر

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار البراق
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-466-047-1
الصفحات: ١٩٢

وعليه فلا يمكن تصور خطأ جبرئيل الأمين أو خطأ رسول الله في القراءة والإقراء ، كما لا يمكن تصور عدم معرفة أمثال ابن مسعود للقراءة الصحيحة لان رسول الله لا يغوي أحداً حينما يوصي بابن مسعود وقراءته ، إذن القراءة الصحيحة هي موجودة ضمن قراءة الامام علي وابن مسعود وأبي ، هذا عن الأمر الشفهي والإقرائي.

أما المرحلة الرابعة ـ وهي الكتابة ـ فكان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام هو الوحيد الذي ضبط المتلوَّ لفظاً كتابةً وأنّه هو الذي نقل المتنَ الشفهي ، إلى نصٍّ مدوَّنٍ كتبيّ طبقاً لأصول العربية.

وبذلك يكون الله ورسوله وجبرئيل الأمين وأمير المؤمنين عليّ ـ وبجنبهم الصحابة الذين ورد فيهم النص في جلالة قدرهم في القرآن ـ هم الذين حَفِظوا هذا القرآن من التحريف ، وهو معنى قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنهُ) وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وذلك لدقّتهم وتثبّتهم في ضبطه لفظاً وكتابة.

بخلاف عثمان الذي قيل عنه بأنّه جامع القرآن وكان من الذين تلقّوا القرآن مع ابن مسعود وابي وعلي وعرضوه على رسول الله (١) وامثال ذلك.

فعثمان اشتهر عنه بأنّه رأى في القرآن المجموع على عهده لحناً فلم يسعَ

__________________

(١) انظر معرفة القرًاء الكبار للذهبي ١ : ٢٤ / ١ ، الطبقة الأولى الذين عرضوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٦١

لرفعه فكان عليه اولا ان يباشر هو بجمع القرآن لا ان يحيله الى لجنة ، وإذا كان قد شاهد لحنا في القرآن من قبل لجنته فكان عليه أن يرفعه هو بنفسه لا أن يتركه لمن يأتي من بعده ، فهو لم يرفعه ولم يُرجع الأمر إلى لجنة أخرى من الصحابة ـ كالذي أقرأهم وأقرّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمثال ابن مسعود وأُبي بن كعب والإمام علي وأبي الدرداء كما يقولون ـ كلّ ذلك للتدقيق فيه ورفع اللحن عنه ، بل ترك الأمر للعرب كلّ العرب أن يقوّموه (١)! وفي نص آخر : (فوجد فيها حروفاً من اللحن فقال : لا تغيّروها ، فإنّ العرب ستغيرها) (٢). لماذا لا يرفع اللحن بنفسه إن كان قد تلقى القراءة من رسول الله والآن يشاهد بنفسه وجود اللحن فيه ولم يكن قد أخبره آخر به؟

أليس هذا الموقف من عثمان جعل الشكَّ يسري من بعض المواضع ـ التي كان قد شاهدها ـ إلى كلّ القرآن.

وعليه فكلام عثمان هو الذي أعطى المشروعية لأمثال الحجّاج بن يوسف الثقفي قديماً ، وأبي بكر البغدادي الداعشي وأمثاله حديثاً أن يغيّروا في القرآن المجيد.

أقوال العلماء في ذلك

والآن لنرجع إلى موضوع مصحف الإمام علي المفسر وأقوال الأعلام فيه ،

__________________

(١) تاريخ المدينة ٢ : ١٢٩ / ١٧٦٢ ، وانظر ما كتبناه بهذا الصدد في جمع القرآن ٢ : ٢٥٣.

(٢) الاتقان ١ : ٥٣٦ / ٣٤٨٣ عن ابن الأنباري في المصاحف ، مناهل العرفان ١ : ٢٦٧.

٦٢

وكذا ما قيل في الزيادات التفسيرية المنقولة عن الصحابة :

قال الآلوسي في (روح المعاني) : ...... وقيل كان جمعاً بصورة أخرى لغرض أخرى ، ويؤيّده أنّه قد كُتب فيه الناسخ والمنسوخ ، فهو ككتاب علم (١).

وقال السيّد الخوئي : إنّ وجود مصحف لأمير المؤمنين عليه‌السلام يغاير القرآن الموجود في ترتيب السور ممّا لا ينبغي الشكّ فيه ...

كما أنّ اشتمال قرآنه عليه‌السلام على زيادات ليست من القرآن الموجود وإن كان صحيحاً إلّا أنّه لا دلالة في ذلك على أنّ هذه الزيادات كانت من القرآن (٢).

وقال العلّامة الطباطبائي في (الميزان) : وكذا الروايات الواردة عن أمير المؤمنين وسائر الأئمّة من ذرّيته عليهم‌السلام في أنّ ما بأيدي الناس قرآن نازل من عند الله سبحانه وإن كان غير ما ألّفه عليّ عليه‌السلام من المصحف ولم يُشرِكوه عليه‌السلام في التأليف في زمن أبي بكر ولا في زمن عثمان ، ومن هذا الباب قولهم عليهم‌السلام لشيعتهم : «اقرؤوا كما قرأ الناس» (٣).

وقال الشيخ المفيد : وقد قال جماعة من أهل الإمامة : إنّه لم ينقص من كلمة ، ولا آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله (٤).

__________________

(١) روح المعاني ١ : ٢٢.

(٢) البيان للسيد الخوئي : ٢٢٣.

(٣) تفسير الميزان ١٢ : ١٠٨.

(٤) تفسير الشيخ المفيد : ٣٥١ ، أوائل المقالات : ٨١ وقال ما يقارب هذا القول الفيض الكاشاني في تفسيره.

٦٣

هذا عن مصحف الإمام علي فاقرأ ما يقوله الباقلاني عن بقية الصحابة : ولا يجوز أن يضاف إلى عبد الله بن مسعود أو إلى أبي بن كعب أو زيد أو عثمان أو علي أو واحد من ولده أو عترته جحدُ آية أو حرف من كتاب الله وتغييره أو قراءته على خلاف الوجه المرسوم في مصحف الجماعة بأخبار الآحاد ، إنّ ذلك لا يحلّ ولا يسمع بل لا تصلح إضافته إلى أدنى المؤمنين في عصرنا فضلاً عن إضافته إلى رجلٍ من الصحابة (١).

وبهذا فقد اتّضح لك أنّ ظاهرة وجود تفسير للصحابي بجنب آيات القرآن كان شائعاً في عصر الصحابة ، وأنّه ليس بدعاً من القول ، وأنّ عمل الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام لم يخرج من هذه الكلية ، بل كان له السهم الاوفر ، لكنّه عليه‌السلام ميّز بين المجموعتين ، فجعل كل آية أُنزلت على محمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله بسمة القرآن النازل في مجموعة ، وما جاء في تفسيرها وتأويلها في مجموعة ثانية أخرى.

بعض مميزات مصحف الإمام علي عليه‌السلام المفسَّر

وبهذا فقد عرفنا أنّ الإمام عليه‌السلام قد بيّن في نسخته الثانية من المصحف ـ أي المفسَّر ـ مرادين :

النص والدلالة ، أي أنه جمع بين متن القرآن المنزل وتفسيره وتأويله ، وذلك حينما رأى إعراض الأمّة عنه وتوجّهم إلى من لم يعيّنهم الله تعالى أئمةً وخلفاء على الناس ، فأراد أن يؤرّخ للنّاس ما سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك الأحداث

__________________

(١) البرهان للزركشي ٢ : ١٢٧ ، عن القاضي الباقلاني.

٦٤

وما سيجري عليه وعلى الأُمّة من بعده ، رافعاً بذلك الإجمال الموجود في بعض الأمور ، وأنّ ضرورة العمل الوقائعي آنذاك كانت تدعوه إلى أن يقدّم المنسوخ على الناسخ ، والمكّيَّ على المدني ، وجعل المحكم بجنب المتشابه ، لأنه كتب نسخته طبقاً لتسلسل الوقائع والأحداث التاريخية يوماً فيوماً ، وما سمع من رسول الله من تفسيره وتأويله.

نعم ، إنّ الإمام أكّد بأنّه جمع كلّ ما سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن تنزيلاً وتأويلاً وقد جمع ذلك على نحوين آيات آيات ، ناسخه ومنسوخه تنزيله وتأويله آيات آيات (١) وسورة وسورة (٢) قائلاً : (جمعته بتنزيله وتأويله ، مُحكمه ومتشابهه) ، والجمع الأخير هو الذي عناه ابن سيرين في قوله : فطلبتُ ما أُلِّف فأعياني ، ولم أقدر عليه ، ولو أصبته كان فيه علم كثير (٣) ، ومحمّد بن جزي الكلبي في قوله : «لو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير» (٤).

أجل أنّه قدّم (المفسَّر) لهم ، ليعرّفهم تاريخهم ، ولكي يثبت لهم حقّه وحقّ عترته ، وليُطْلع المسلمين على الآيات النازلة فيه وفي أهل بيته ، ولكي يبيّن الحقائق الدينية على وجهها الحق للناس.

__________________

(١) كما في المصحف المفسر.

(٢) كما في قرآن التلاوة.

(٣) فضائل القرآن للمستغفري ١ : ٣٥٨ / ح ٤٢٠.

(٤) التسهيل لعلوم التنزيل ١ : ٤.

٦٥

كما إنّه أراد بعمله هذا أن يتعرّف الآخرون على أسماء من نزلت فيهم الآيات عند قراءتهم لها ، أي إنّه أراد أن يعرّفهم بأنّ هؤلاء مَن هم؟ وأين كانوا؟ وأين صاروا؟ وما هي الآيات والسور التي نزلت فيهم؟. لأنّه كان يعلم بان الآيات أين نزلت ، وفيمن نزلت إلّا أنّ الناس لم يعرفوا قدره ولم يقبلوا منه ذلك ، ولو عرفوا حقّه وقدره لكان عندهم علم كثير وأجوبة كثيرة لمسائلهم وحلول لمشاكلهم ، نعم لو قَبِل الصحابة ذلك المصحف لما وقعت هذه الاختلافات الفقهية التي نراها اليوم والانقسامات التي أدت إلى تفكيك الأمة وتجزئتها.

وقد جاء هذا المعنى في احتجاج الإمام علي عليه‌السلام على الزنديق :

... وقد احضروا الكتاب كملاً مشتملاً على التأويل والتنزيل والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ ، لم يسقط منه حرف ألف ولا لام ، فلمّا وقفوا على ما بيّنه الله من أسماء أهل الحقّ والباطل ، وأنّ ذلك إن اُظْهِر نَقَض ما عهدوه ، قالوا : لاحاجة لنا فيه ، نحن مستغنون عنه بما عندنا. وكذلك قال : (فَنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا قبئس مايشترون) دفعهم الاضطرار بورود المسائل عليهم اما لايعلمون تأويله إلى جمعه وتأليفه ... (١).

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٣٨٣ ، بحار الأنوار٩٠ : ١٢٥.

٦٦

من أسباب رد مصحف الإمام

نعم ، إنّ الحكّام الخلفاء تركوا الأخذ بالمصحف المفسّر ، لأنهم كانوا يخافون من تعرّف الآخرين على أسماء المنافقين منهم ، والوقوف على أحقّية أهل البيت ، من خلال ما جمعه الإمام علي عليه‌السلام من إملاءات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوميات الدعوة الاسلامية (١).

لذلك كانوا لا يريدون أن يستجيبوا لشرط الإمام بأن يكون هو عليه‌السلام مع القرآن يفسّره لهم ويحكم وفقه ، في حين أنّ الإمام اشترط عليهم ذلك لاعتقاده بأنّ الكتاب والعترة لا يفترقان (٢).

وبهذا فقد عرفت بأنّ المصحف المُفسَّرُ هو غير المصحف المُجرَّد في ترتيبه وإضافاته ، وإنّ الإمام عليه‌السلام قدّم المفسَّر للقوم ـ دون المجرَّد ـ مع علمه بعدم استجابتهم للأَخذ به ، وذلك لصعوبة ما جاء فيه من حقائق تحرج الآخرين ، ولوجود علوم خاصّة بالإمام لا يمكنهم فهمها كما هي إلّا بواسطته ، لأنها من ودائع النبوّة ، لكنه قدّمها لهم إتماماً للحجّة عليهم ليس إلّا.

أمّا المصحف المجرّد عن التفسير ، فبقي عنده لفترة من الزمن ولم يقدمه للشيخين ، ذلك لأُنس الصحابة بالقرآن وقراءتهم لسوره ، ولقرب عهدهم

__________________

(١) انظر الاحتجاج للطبرسي ١ : ٢٢٥ رواية أبي ذر الغفاري.

(٢) إثبات الوصية : ١٢٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٨ : ٣٠٧ / ٤٠.

٦٧

بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعدم شيوع ظاهرة الاختلاف في القراءات آنذاك ، وقد قلنا بأنّه يوجد في بعض الأخبار ما يشير إلى أنّه عليه‌السلام قدّمه لهم لكنهم ردوه بدعوى أنّ عندهم مثلَه (١).

وقيل إنّه قدّم المصحف المجرد لعثمان متأخراً لما رأى اشتداد الخلاف بين الصحابة عن طريق حُذَيفة كي يعتمده ، رافعاً من خلال عمله هذا الاختلاف الحادث بينهم بسبب منهجية الشيخين في جمع القرآن ، وهذا الكلام قريب إلى ما قاله السيد ابن طاووس حسبما سيأتي كلامه لاحقاً.

إذن الإمام لا ينكر قرآنية القرآن ، لكن الكلام في الطريقة والمنهجية التي جمعوا القرآن على ضوءه ، فجاء في كتاب سُلَيم :

إنّ طلحة بن عبيد الله سأل الإمام عليّاً عليه‌السلام بقوله : فأخبرني عما كتبه عمر وعثمان ، أقرآنٌ كلّه أم فيه ما ليس بقرآن؟

قال عليه‌السلام : بل هو قرآن كلّه ، إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنة ، فإنّ فيه حجّتَنا وبيان أمرنا وحقّنا ، وفرض طاعتنا ، فقال طلحة : أمّا إذا كان قرآناً فحسبي ... (٢)

__________________

(١) ففي المناقب ١ : ٣٢٠ في المسابقة بالعلم : أنّه آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلّا للصلاة حتى يؤلّف القرآن ويجمعه. فانقطع عنهم مدّةً إلى أن جمعه ، ثمّ خرج إليهم به في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد .... فقام إليه الثاني فقال له : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله ، فلا حاجة لنا فيكما! فحمل عليه‌السلام الكتاب وعاد بعد أن ألزمهم الحُجّة ، وعنه في بحار الأنوار ٤٠ : ١٥٥.

(٢) كتاب سليم : ٢١٢.

٦٨

وبذلك فالإمام يقبل بأنّ المكتوب والمدوّن هو قرآن ولا اعتراض له على ذلك ، وإن اختلفت قراءته مع قراءة المصحف ، وأنّ ذلك الاختلاف لا يدعو إلى التعريض به أو التشكيك بالقرآن الكريم ، وهكذا هو حال اختلاف قراءات الصحابة فيما بينهم فهو لا يوجب التعريض بالقرآن الكريم.

والأهم من كل ذلك أنّ الإمام عليه‌السلام كان لا يرتضي الجهر بالمخالفة ولا يجيز تعميق الاختلاف بين قراءة مصحفه وبين المصحف الرائج ، أو تعميق الاختلاف بين قراءات الصحابة وبين القراءة الرائجة ، بل كان يؤكّد هو وأولاده على لزوم القراءة بما يقرأ به النّاس ، لأنّ المخالفة والجهر بها يفتح باب النزاع والتخاصم بين الصحابة ، ثم بعد ذلك يستمر الاختلاف بين الناس الآخرين الى اخر الزمان ، وهذا ما لا يرتضيه الإمام عليه‌السلام.

إذن فالقرآن المتداول اليوم هو بمتنه واحدعند جميع المسلمين ، فلا ترى مسلماً يختلف مع غيره في حجّيته ، سنياً كان أو شيعياً ، علوياً أو وهابياً ، حلولياً أو اتحادياً ، لأنّه قرآن الله وقرآن رسوله وقرآن جميع الصحابة ، وهوالقرآن الذي يقرأ به الجميع ، والذي رُتّب على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجُمع بيد وصيّه عليه‌السلام ، وأنّ حجّيّته عندنا جاءت بالتواتر لا بالشاهدَين ، ولاهتمام النبيّ والمسلمين به.

وأنّ الاختلاف في القراءات لم يؤثّر شيئاً على مادّته وهيئته ، لأنّ أصل القرآن متواتر ، والاختلاف في كيفيّة قراءته لايعارض تواتر أصله ، فهو حجّة عندنا وعند غيرنا ، ونقرأ به في صلواتنا.

فلا يصحّ إقصاء بعضنا البعض الآخر عنه بهذه الذريعة أو تلك ، فنحن لا

٦٩

نقبل ما يقوله البعض بأنّ هذا هو قرآن عثمان وقرآن زيد دون غيرهما من الصحابة كابن مسعود والإمام عليّ بن أبي طالب ، أو ما يقوله الآخر هذا قرآن السنة وذاك قرآن الشيعة ، فهذا كلام باطل ، إذ أجمع الصحابة على قرآنية هذا القرآن مند عهد رسول الله إلى يومنا هذا وهو يقرأ به اليوم ابن الشيخ وعثيمين والسيد الخوئي والسيد الخميني ، وقبل كل ذلك أنّ رسول الله كان يقرأ بآياته وسوره ، كما أنّ أصحابه وأهل بيته كانوا يقرؤون به ويحتجون به في مباحثهم ، وقد جرت السيرة على الأخذ به واعتماده في كل العصور والبلدان رغم كل الصعاب.

فهو ليس ما جمعه عثمان وزيد كما يقولون ، بل إن الاخيرينِ قرّرا وتبنّيا ما تواترت عليه الأمة. وبنظرنا هو نفس المصحف الذي كان يُقرأ به رسول الله الناسَ على مكث ، وهو نفس القرآن الذي كان يَقرأ به الناس على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاتهم ، في ليلهم ونهارهم ـ بشئ من الاختلاف في القراءة ـ لا غير.

وعليه ، فإن قيل إنّ مصحف عثمان هو غير القرآن المتواتر عند المسلمين على عهد رسول الله ، فحينئذ لا يمكن الاعتماد عليه ولا حجية له عندنا ولا عند غيرنا من المسلمين ، لأنّه مجموع ومرتب بيد غير معصوم بعد ثلاثة عقود من وفاة رسول الله وبشاهدين غيرمعصومين وغير معتمدين.

أمّا لوقيل بأنّ مصحف عثمان هو المجموع على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله وترتيبه والمأخوذ من فمه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيقال حينئذ لماذا لا يعدّونه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويجعلونه لعثمان؟

بل لماذا يؤكّدون على لزوم التعبد بالرسم العثماني ، وما يعني هذا الكلام من

٧٠

قبلهم؟ وهل يعنون به عثمان بن عفان ام عثمان طه.

بل عند من بقي ذلك المصحف النبوي؟ هل كان عند زوجته عائشة؟ أو عند بنته الوحيدة فاطمة الزهراء وصهره الإمام علي بن أبي طالب؟ والأهم من كلّ ذلك : لماذا أُبعد الإمام علي عليه‌السلام وابن مسعود ومُعاذ بن جبل وأُبي بن كعب وغيرهم من كبار الصحابة القرّاء عن جمع القرآن؟ وخص الخلفاء الثلاثة بجمعه؟ إنّه سؤال يبحث عن جواب.

ألم يكن التركيز على اسم عثمان وإبعاد الآخرين من الصحابة فيه شيء من الإجحاف بحقّهم ، وخصوصاً بحقّ الذين عرضوا قراءتهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وورد فيهم نص يؤكد جلالة ‌قدرهم في القرآن على وجه الخصوص؟

خلاصة القول : إنّ مصحف الإمام عليّ عليه‌السلام (المجرد) لا يختلف عن بقية المصاحف الموجودة عند الصحابة ، وحتّى أنه كان لا يختلف مع المصحف الذي كان يقرأ به عثمان على وجه الخصوص ـ إلّا في القراءة في بعض الأحيان ـ لأنّه مصحف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان قد أقره الله لأمته في كلّ عام (١).

وقد ورد عن الإمام الزيدي الهادي يحيى بن الحسين وفيه : ما حدثني أبي عن أبيه ، أنّه قال : قرأت مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عند عجوز مسنة ، من ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فوجدته مكتوباً أجزاء ، بخطوط مختلفة ، في أسفل جزء منها مكتوب : وكتب علي بن أبي

__________________

(١) من خلال رسوله الامين وجبرئيل.

٧١

طالب ، وفي أسفل آخر : وكتب عمار بن ياسر ، وفي آخر وكتب المقداد ، وفي آخر : وكتب سلمان الفارسي ، وفي آخر : وكتب أبوذر الغفاري ، كأنّهم تعاونوا على كتابته ، قال جدي القاسم بن بن إبراهيم صلوات الله عليه : فقرأته فإذا هو هذا القرآن الذي في أيدي الناس حرفاً حرفاً ، لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً ، غير أن مكان : (قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ) (١) ؛ اقتلوا الذين يلونكم من الكفار وقرأت فيه المعوذتين (٢).

ويؤيد هذا الكلام وأنّ القرآن هو واحد عند الجميع ما جاء عن ابن عباس وغيره بان المصاحف على عهد رسول الله لم تكن تباع بل كان الصحابي يأتي بورقه الى مسجد النبي فيجلس هذا الصحابي ويكتب شيئا ثم يقوم ويأتي الصحابي الثاني فيكتب شيئا ويقوم ، كلّ ذلك احتسابا عند الله.

اجل نحن قد أشرنا في كتابنا (جمع القرآن) بأنّ الإمام عليّاً قد أوصل مصحفه المجرد إلى عثمان عن طريق حذيفة حينما وقف الإمام على اختلاف الأمّة فيه بعد الشيخين ، وعدم قبولهم بما جُمع على عهد الخلفاء الثلاثة بواسطة زيد.

فقدّم الإمام مصحفه المجرد كي يُعتَمد ، مع علمه بعدم التصريح باسمه وباسم رسول الله وتسجيلهم ذلك المصحف باسم عائشة أو زيد أو عثمان نفسه ، ولا ضير في ذلك ، لأنّ تصريح عثمان في اعتماده على نسخة عائشه ـ إنْ كانت

__________________

(١) التوبة : ١٢٣.

(٢) مجموع الرسائل المطبوع مؤخراً بتحقيق الذراحي ، انظر المكتبة الزيدية الشاملة.

٧٢

هناك نسخة موجودة لها ـ خير لعثمان من التصريح باسم الإمام علي عليه‌السلام والقول بأنّه أخذ ذلك من الإمام علي عليه‌السلام.

نعم قد نُسِب المصحف الحالي إلى عثمان ، لأنّه كان الحاكم الظاهري للمسلمين يومذاك ، والأمصار كانت تابعة إليه ، فمن الطبيعي أن يُسمّى المصحف باسمه وهو يشبه ما نشاهده اليوم في المصحف الرائج ، فإنّه يُعرَف باسم (مصحف فهد بن عبد العزيز) مع أنّه ليس له أي ربط به ، فلا هو من القرّاء حتّى تُضبط القراءة على قراءته ، ولا هو من العلماء حتّى يؤخَذ بقوله ويُعمَل برأيه ، كلّ ما في الأمر أنه الحاكم الذي تبنّى طبعه ونشره ، وهذا الكلام يشبه ما نريد قوله في عثمان فهو الذي أشاعه ونشره. وقد سبقنا إلى هذا القول السيد ابن طاووس في (سعد السعود) (١) باضافة شيء ، وهو اعادة عثمان جمع القرآن وفق مصحف الإمام علي إذ نقل عن كتاب محمد بن منصور المقري قوله :

(إنّ القرآن جمعه على عهد أبي بكر زيدُ بن ثابت ، وخالفه في ذلك أُبيّ وعبد الله بن مسعود وسالم مولي أبي حذيفة؛ ثم أعاد عثمان جمع المصحف برأي مولانا عليّ بن أبي طالب ، وأخذ عثمان مصحف أبي وعبدالله بن مسعود وسالم (٢) مولي أبي حذيفة

__________________

(١) سعد السعود : ٢٧٨ ، فصل فيما نذكره من كتاب عليه جزء فيه اختلاف المصاحف تأليف أبي جعفر محمد بن منصور.

(٢) أي أنّه أخذ مصاحف معارضيه فغسلها غسلاً حتّى لا يكون بيد الناس مصحف زيد ولا مصحف مخالفيه.

٧٣

فغسلها غسلاً ، وكتب عثمان مصحفاً لنفسه ومصحفاً لأهل المدينة ومصحفاً لأهل مكة ومصحفاً لأهل الكوفة ومصحفاً لأهل البصرة ومصحفاً لأهل الشام).

وعليه فهذا القرآن هو قرآن جميع المسلمين لا خصوص طائفة دون أخرى أو صحابي دون آخر ، وإنّ الشيعة الإمامية لاتختلف عن غيرها في القول بحجّيته ، فهم يقرؤون بآياته وسوره ويستشهدون به في دروسهم وبحوثهم الفقهية والأصولية والعقائدية ، وقد ألّفوا كتباً في تفسيره وعلومه ، وجعلوا الحكم إليه عند تعارض الأخبار ، كل ذلك دلالة منهم على حجيته ومكانته ، وأنّه الأصل الأول في التشريع عندهم.

والصحابة بلا فرق بين الإمام علي وعمر ، وابن مسعود وعثمان ، وأُبيّ بن كعب وأبي الدرداء ، وأبي موسى الأشعري ومعاذ ، كانوا يقبلون بهذا القرآن كانوا يقرءون ويأخذون به ، وكذا هو حال التابعين وتابعي التابعين وأئمّة أهل البيت فالذي يقرأ به أبو حنيفة والشافعي ومالك واحمد لا يختلف كثيراً عمّا يقرأ به الإمام الباقر والإمام الصادق ، فلماذا نراهم يسعون لاقصاء ابن مسعود والإمام علي عن هذا القرآن وجعله خاصاً بعثمان أو زيد؟ مع أنّه قرآن الجميع وان جميع الفرق الإسلامية تعتقد به دون فرق بين هذا أو ذاك.

وعليه فأئمّة أهل البيت قد قبلوا بهذا المصحف وكانوا يتلون فيه ، وهو يعني عدم قبولهم بوقوع التحريف فيه ، لأنّهم كغيرهم لا يسمحون بالقراءة في القرآن المحرَّف ، وإنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام لا نراه يعترض على

٧٤

القرآن الذي رُفع في صفين للتحكيم ، ولم يقل بأنّه محرف لا أقبله ، اعتقاداً منه بصحّته ، وكذا الحال بالنسبة إلى الصديقة فاطمة الزهراء فقد استشهدت في خطبتها بآياته وسوره دلالةً منها على قبولها به.

كما هو حال السبطين الحسن والحسين وغيرهم من أئمة أهل البيت فلا تجد احدا من هؤلاء قد قرأ القرآن في صلاته بقراءة تخالف قراءة الاخرين ، بل إن وحدة نصّه وبقاءه طرياً بليغاً عبر عدة قرون برغم الملابسات يؤكّد إعجازه وعدم تأثره بالمتغيرات.

كما إنّه برغم كثرة طبعاته في البلدان المختلفة والأزمنة المتفاوتة ، واختلاف كتابته ورسم خطه واشكاله في الهند وپاكستان وايران والعراق يؤكّد وحدة نصّه وسلامته من التحريف ، كل ذلك مع الأخذ بنظر الاعتبار لسعي أعداء الإسلام في تشويه صورته والمساس بعظمته لكن القرآن ـ رغم كل الملابسات ـ بقى قرآن الجميع ، والكلام في هذا الموضوع له مجال آخر نتركه لحينه.

٧٥
٧٦

المحورالثاني :

مدى وثاقة واعتبار النسخ المنسوبة إلى أمير

المؤمنين عليّ عليه‌السلام في مكتبات العالم

٧٧
٧٨

الإمام عليّ عليه‌السلام كاتب القرآن

قبل الدخول في هذا المحور لابدّ من التأكيد على عدم وجود خلاف في أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام كان من المدوِّنين والكتبة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد كتب من فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده (١) ، وقد كانت له صحيفة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) طولها سبعون ذراعاً بخطّه وإملاء رسول الله (٣) ، ومعناه : أنّ الإمام كان لا يترك كلَّ ما يسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل يكتب كلَّ ما نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بخطه.

وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أمرعلياً أن يدوّن ما يقوله ، وقال له : أُكتب ما أُملي عليك.

فقال علي عليه‌السلام : يا نبي الله! وتخاف النسيان؟

قال : لست أخاف عليك النسيان ، وقد دعوت الله لك أن يحفظك فلا ينساك ، لكن اكتب لشركائك ، قال : قلت : ومَن شركائي يا نبي الله؟ قال : الأئمّة من وُلدك.

__________________

(١) الكافي ٧ : ١١٣ / ح ٥.

(٢) الكافي ٧ : ٣٢٩ ، رجال النجاشي : ٣٦٠ / ت ٩٦٦ ، الاحتجاج ٢ : ٦ ، بحار الأنوار ٤٤ : ١٠٠.

(٣) الفقيه ٤ : ٤١٨ / ح ٥٩١٤ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٢ / ١ ، بحار الأنوار٤٣ : ٧٩ / ٦٧ ، عن بصائر الدرجات : ١٦٢ / ٢ ، والكافي ١ : ٢٣٨ : ١.

٧٩

وهذا النص وغيره يفهمنا بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يحفظ شريعته ، بواسطة التدوين عند أهل بيته وغيرهم ، لتبقى المدوَّنات ذخراً وتراثاً علميّاً لأجيال المسلمين على مرّ التاريخ.

وعليه فالإمام أمير المؤمنين مضافاً إلى تدوينه : المصحف (المنزل) و (المفسَّر) ، فقد كانت له كتبٌ كثيرة أُخرى : كالجفر والجامعة وكتاب علي ، وقد حُكي عن معاوية قوله :

إنّي شهدت رسول الله أملى على علي بن أبي طالب كتاباً ، وكان يتفقّد مقاطع الكلام كتفقّد المصرم صريمته (١).

ويضاف إليه : أنّ أحداً من المسلمين لم يجرأ على ادّعاء حيازة علم الكتاب كلِّه سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، اذ دعا عليه‌السلام (٢) النّاس لسؤاله عن كتاب الله ، فكان عليه‌السلام يكرّر قوله ـ من أوّل استلامه للخلافة الظاهرية إلى أوان شهادته ـ بأنّه مستعدّ للإجابة عَن جميع الأمور ومن القرآن الكريم على وجه الخصوص ، خلافاً لمن سبقه من الخلفاء ـ كالذي كان يضرب هذا وذاك ، لسؤاله عن بعض الأشياء ، وقد ضرب صبيعاً وجعله وضيعاً بعد أن كان سيداً في قومه بدعوى تعمقه في السؤال عن متشابه القرآن (٣) ـ.

__________________

(١) الصناعتين للعسكري : ٤٣٩ ، الفصل الثاني في ذكر المقاطع.

(٢) بصائر الدرجات : ١٨٧ / ٢٢ ، باب ما عند الأئمّة عليهم‌السلام من سلاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الإمامة والتبصرة : ٥٤ / ح ٣٨ ، الباب ٦.

(٣) انظر سنن الدارمي ١ : ٦٦ / ١٤٤ ، وعنه في الإتقان ٢ : ٩ / ٣٧٧٣.

٨٠