مصحف أميرالمؤمنين علي عليه السلام بين المنزل والمفسّر

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار البراق
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-466-047-1
الصفحات: ١٩٢

المحورالأول :

هل مصحف الإمام علي عليه‌السلام يختلف عن (المصحف

الإمام) (١) أم لا؟

__________________

(١) (المصحف الإمام) هو اصطلاح اطلق على المصحف الذي كان يقرأ به عثمان ، أو المرسل إلى الأمصار في عهده.

٢١
٢٢

قبل كلّ شيء لابد من توضيح أمر مهم يتعلق بجمع القرآن وإن كنّأ قد بيّناه في كتابنا (جمع القرآن) ، ملخصه :

من المعلوم أنّ رسول الله كان له كتبة يكتبون الوحي عنه ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يسرع بتدوين ما ينزل عليه فيدعوا فلاناً وفلاناً لكي يكتبوا عنه وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يأخذ تلك الصحف منهم للاحتفاظ بها ، مع سماحه لهم بالاستنساخ عنها ، وقد بقيت تلك النسخ في بيت رسول الله وخلف فراشه ، قال المحاسبي في فهم السنن ما نصّه :

«كتابة القرآن ليست بمحدثة ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأمر بكتابته ، ولكنّه كان مُفرّقاً في الرقاع ، والأكتاف ، والعُسُب ، فإنّما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعاً ، وكان ذلك بمنزلة أوراقٍ وُجدت في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها القرآن منتشراً ، فجمعها جامع وربطها بخيط ، حتّى لا يضيع منها شيء» (١).

__________________

(١) مناهل العرفان ١ : ١٨٠ / باب جمع القرآن على عهد أبي بكر رضي الله عنه (ونحن ناقشنا بعض فقرات كلام المحاسبي في كتابنا (جمع القرآن) فراجع).

٢٣

وقال الزرقاني في مناهل العرفان : وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يدلّهم على موضع المكتوب من سورته ، فيكتبونه فيما يسهل عليه من العسب واللخاف والرقاع وقطع الأديم وعظام الكتف والأضلاع ثمّ يوضع المكتوب في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وروى القمّي في تفسيره بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ ، القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس ، فخذوه واجمعوه ، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة. فانطلق عليٌّ عليه‌السلام فجمعه في ثوبٍ أصفر ، ثمّ ختم عليه في بيته ، وقال : لا أرتدي حتّى أجمعه. فإنّه كان الرجل لَيَأتيه فيخرج إليه بغير رداء ، حتّى جمعه» (٢).

إذن نسخة الأصل كانت موجودة عند رسول الله وفي بيته ، فمن ورثها من بعده؟ وعند مَن بقيت؟ هل هي عند زوجاته أم عند بنته الوحيدة فاطمة الزهراء؟

الجواب : لم نسمع أحداً من نساء النبي قد ادعت أنّها قد حازت نسخة رسول الله أو أنّ تلك النسخة كانت موجودةً عندها إلّا ما جاء في رسالة عثمان إلى الأمصار وفيه : «... فأرسلتُ إلى عائشة أُمّ المؤمنين أن ترسل إليَّ بالأَدَم الذي فيه القرآن الذي كُتب عن فم رسول الله حين أوحاه الله إلى جبريل وأوحاه جبريل إلى محمّد وأنزله عليه ...» (٣).

__________________

(١) مناهل العرفان ١ : ١٧٢.

(٢) تفسير القمّي ٢ : ٤٥١ ـ عنه : بحار الأنوار ٨٩ : ٤٨ / ح ٧.

(٣) تاريخ المدينة لابن شبة ٢ : ١٢٠ / ح ١٧٢٢.

٢٤

فلو صحّ اختصاص عائشة بمصحفٍ دون غيرها من نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلماذا لا نراها تنقل عنه شيئاً حينما كانت تُسأل عن بعض المسائل الفقهية؟!

بل لماذا لا تستشهد بمصحفها وما فيه من الآيات في المسائل الخلاقيّة الواقعة بينها وبين نساء النبيّ الأُخْرَيات اللاتي كنّ يخطِّئنها في مسألة رضاع الكبير (١) وأمثاله؟!

على أنّها ادّعت بأنّه أُنزل من القرآن (عشر رضعات معلومات يُحرمن) ، ثم نُسخَت تلك بخمس معلومات ، فتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهنّ فيما يُقرأ من القرآن.

فلماذا لا تريهنّ تلك الآية في مصحفها لحلّ الاختلاف؟ بل تكتفي عائشة بدعواها أنّ شاةً أو داجناً أكلت تلك الآية التي كانت تحت سريرها!!

أيّ قرآنٍ هذا تعنيه عائشة؟! هل هو القرآن الذي أُخذ عن فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أنّه القرآن الذي جمعه زيد بأمر عثمان وأشرك اسمها فيه مع اسم حفصة ، أو أنّه قرآنٌ ثالث؟!

فلو كان القرآن المكتوب عندها هو الذي أُخذ عن فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي أوحاه الله إلى جبرئيل عليه‌السلام ، والذي كان يعرضه الرسول على جبرئيل كلّ عام ، فهل هناك من مبرّر لكي تأمر مولاها أن يضيف جملةً جديدة ـ لم تكن في المصحف الرائج ـ ، وهي جملة (وصلاة العصر)؟

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ٦٢٦ / ١٩٤٧ ، سنن البيهقي الكبرى ٧ : ٤٥٩ / ح ١٥٤٢٦ ، مسند الشاميّين ٤ : ١٩١ / ح ٣٠٧٩.

٢٥

فقد أخرج مسلم بسنده عن أبي يونس مولى عائشة أنّه قال : أمرَتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً ، وقالت : إذا بلغتَ هذه الآية فآذنّي : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى) ، فلمّا بلغتُها آذنتُها ، فأملت عليّ : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى) وصلاة العصر (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)).

بل كيف يكون المصحف الرائج مأخوذاً من فم رسول الله وليس فيه جملة (وصلاة العصر)؟

أو كيف يأخذ عثمان المصحف من حفصة أيضاً ، وهل من مبرر لذلك ، بعد ان كان عنده مصحف عائشة؟ بل كيف يمكن تصوّر إعطاء عائشة مصحفها لعثمان وهي على خلاف معه؟

وهل أنّ مصحف حفصة ـ الذي جمعه زيد ـ يضاهي مصحف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

كلّ هذه القرائن تشير إلى أنّ أحد الشخصين (عائشة أو عثمان) كان كاذباً في نقله لهذا الخبر.

إذ لو صحّ وجود هذا المصحف عند عائشة فلماذا لا تعطيها لأبيها ابي بكر أو لعمر ، أو لماذا لا يأخذه أبوبكر منها وهي ابنته حتّى يأتي عثمان ليأخذ مصحفها مع مصحف غيرها.

المهم وحسبما سيتّضح بعد قليل أنّ أمر القرآن وجمعه يرتبط أولاً بالله جلّ جلاله ثم بمن جاء من قبله : من ملك مقرّب أو نبي مرسل ـ أو وصي باعتقاد

٢٦

الإمامية ـ. مع التأكيد على أن ترتيب آيات سور القرآن توقيفي وقد حُفظ هذا الترتيب بعد اللقاء الثنائي بين جبريل الأمين والنبي محمّد في بيت رسول الله وعند بنته فاطمة الزهراء والإمام علي كما أنّه كان محفوظاً في صدور المؤمنين وكانوا يقرأون به في صلواتهم ، وأنّ الإمام جمع المصحف ـ من الصحف الموجودة في البيت ومما كان عنده والذي كتبه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بين الدفتين ووحّد شكله.

كما يجب التأكيد عليه بأنّ القرآن الذي هو بأيدينا والذي نسمّيه بـ «قرآن التلاوة» هو واحد عند جميع المسلمين ولا خلاف فيه ، لأنّه كلام الله الذي أراده لأمّته أن يقرؤوا به في صلاتهم ، لأنّ الله سبحانه بعد أن أنزله على قلب النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إيحائياً دفعة واحدة ، أنزله مفرّقاً طبقاً للحوادث الواقعة ، ولكي نقرّب الفكرة علينا التمثيل له من واقعنا المعاصر لأنّه منهج قرآني قد علّمنا به سبحانه ، وقد ضرب الله الأمثال في القرآن كما أنّه جاء في كلام رسول الله وأهل البيت لأنّ أكثر الناس يغلب عليهم الجهة الحسيّة وأنّ المثل يؤتى به لتقريب الفكرة للمخاطب وتفهيمه سواء كان التمثيل بشيء صغير كالبعوضة أو بالمثل الأعلى الذين هم آل البيت كما جاء في الزيارة الجامعة ، وعليه فمن خلال هذه النكتة نقول : من المعلوم أنّ الإقدام على أيّ عمل لابد أن يسبقه مخطط ومنهج يسير على وفقه وفيه يتضح معالم الفكرة عموماً ، فالمهندس مثلاً قبل أن يبدأ بالبناء عليه أن يرسم المخطط وما يريده في هذه المساحة من الأرض من قاعات استقبال وطعام وغرف نوم ومرافق أخرى ، فبعض المرافق قد تكمل في المشروع قبل الأخرى ،

٢٧

وقد تغيّر بعض المواقع إلى أماكن أخرى ، لكنّ المهم إنّ مساحة القاعات والغرف تبقى كما هي دون زيادة أو نقصان ، فالنزول الدفعي بمنزلة الماكت والمخطط للمشروع وقد جيء به ربّ العالمين قبل البدء بالتشريع ومعناه أنّ القرآن سيؤلّف من ١١٤ سورة ، يكون بعضها أكبر من الأخرى وهي تشغل هذا الحيز الرباني ، المهم أنّ كلّ سورة هي معروفة عند النبي بدءها بالبسملة وختمها بالآية الكذائية وبعد هذا فلا ضير أن ينتهج عثمان في تنظيم مصحفه بالطوال ثمّ بالمئين والختم بالقصار أو أن يبدأ الإمام علي مصحفه بالسور المكيّة ثمّ المدنية الأوّل منها فالأوّل أو أن يبدأ ابن مسعود مصحفه بالحواميم ثم ... المهم أن ينتهي الكل إلى نتيجة واحدة وهو عدم سقوط آية أو سورة من الكتاب العزيز ، لأنّا قد أثبتنا عدم توقيفية ترتيب السور ، أمّا الآيات فهي توقيفية.

إذن الله سبحانه جاء بالماكت ورسم المخطط قبل البدء بالتشريع لكن هذا لا يعني بأنّ المشروع قد تمّ بمجيء الماكت بل أنّه في بداياته ، فسبحانه كان ينظر إلى الوقائع وما يجب أن يتخلله من الآيات وعظ وقصص ، وأنّه سبحانه كان ينزلها بقدر معلوم ثمّ يأمر جبرئيل الأمين والصادق الأمين أن يجمعاه في كلّ عام ، فكان جبرئيل يأتي رسول الله في رمضان من كلّ سنة يعارضه ما نزل عليه من القرآن فيها كي يرجعا النازل منجّما إلى ترتيب ما أراده الله في اللوح المحفوظ والنازل دفعة واحداً أيضاً ، وهو معنى قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ). وقوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ).

٢٨

نعم إنّا ومعنا غيرنا (١) لا ننكر بأن هناك ترتيب آخر للقرآن عند الإمام علي ألفّه لغرض آخر طبقاً للوقائع والحوادث ، أعني للعلم والتاريخ والتفسير ، وذاك ليس بقرآن الذكر والتلاوة ، بل هو مصحف لحفظ الحوادث ولشأن النزول ولتثبيت الوقائع كما نزّلت تاريخياً ويومياً ، أي أنّه بمثابة تدوين لافادات الأستاذ يومياً من قبل التلميذ ، أي هناك متن وشرح يومي للمواضيع المطروحة.

توضيح ذلك :

والكلام عن هذا الموضوع يتّضح من خلال عدة مقدّمات :

المقدمة الأولى : نزول القرآن الكريم على مرحلتين

المرحلة الأولى : نزوله الدفعيّ جملةً واحدةً من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور أو إلى بيت العزّة في سماء الدنيا ، أو على قلب النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله جملةً في شهر رمضان في ليلة القدر لفظاً ومعنىً ، لقوله تعالى : (إِنَّا أنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَهذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) (٣) ، وقوله عزّ وجل : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) (٤) ، وقوله :

__________________

(١) كالآلوسي في تفسير روح المعاني ١ : ٢٢.

(٢) سورة القدر : ١.

(٣) سورة الأنعام : ٩٢.

(٤). سورة الدخان : ٣.

٢٩

(وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) (١) ، وقوله : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ‏ الْقرآن هُدىً لِلنَّاسِ) (٢) ، وأمثال ذلك ، وهو ما اصطلحنا عليه بالنزول «الإيحائي» ، ومعناه : أنّ الله أراد أن يخبر رسوله منذ البداية ما سيؤول إليه أمر التشريع والقرآن في النهاية. أي أنّ الله أراد أن يعلمه بأنّه العالم بكلّ شيء وعلى الرسول أن يصل إلى ذلك باليقين والوجدان ، أي أنّ القرآن سيكون إقرائياً وتشريعياً للمسلمين بعد أن يثبت الله فؤاد النبي (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) (مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) أو قل بأنّه سبحانه قدّم الماكت والمخطط منذ البداية وعلى الرسول السير والفقه.

المرحلة الثانية : النزول التدريجيّ على ما قضت به حكمة البارئ وفْق الحاجة والأحداث والمبرّرات ، طوال عشرين عاماً أو ثلاثة وعشرين عاماً ـ على خلافٍ في مدّة إقامته صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة ، هل هي عشر سنوات ، أو ثلاث عشرة سنة؟ أمّا إقامته في المدينة فعشر سنين بالاتّفاق.

والنزول التدريجي يكون على انحاء ، قد تنزل آية آية من سور مختلفة ، وقد تنزل خمس آيات أو عشر آيات معاً من سورة واحدة ، وقد تنزل سورة كاملة مثل سورة الأنعام لقوله عزّ وجلّ : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٠٥.

(٢) سورة البقرة : ١٨٥.

٣٠

وَمَا نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١) ، وقوله عزّ من قائل : (وَقرآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) (٢) وقوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) (٣) وقوله تعالى : (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هٰذِهِ إِيمَاناً) (٤) وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ ...) (٥) وأمثالها.

وممّا يدلّ على النزول التدريجيّ أيضاً قوله سبحانه : (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنهُ) (٦) ، وقوله تعالى : (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (٧) ، وقوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٨) ، وقوله تعالى : (وَلاَتَعْجَلْ بِالْقرآن مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِي

__________________

(١) سورة الحِجر : ٢١ وكلمة (شَيء) يشمل القرآن وغيره.

(٢) سورة الإسراء : ١٠٦.

(٣) سورة النور : ١.

(٤) سورة التوبة : ١٢٦.

(٥) سورة محمد : ٢٠.

(٦) سورة القيامة : ١٦ و١٧.

(٧) سورة هود : ١.

(٨) سورة الفرقان : ٣٢ ، ٣٣.

٣١

عِلْماً) (١) ، وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقرآن تَنزِيلاً) (٢) ، ونظائرها كثيرةً في القرآن المجيد. وهذا ما نسمّيه بالتنزيل (الإقرائي).

فالتنزيل منجماً ـ من هذه السورة وتلك ـ لا يمكنه أن يصير قرآناً متلواً إلا بعد عرضه على النازل من اللوح المحفوظ وترتيبه ومطابقته معه (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) ، والجهلة من الناس كانوا لا يرتضون ذلك من رسول الله ويعتبرونه كذباً وافترائاً من الرسول على الله لتقديمه المتأخر وتأخيره المتقدّم في قرآن التلاوة لأنّهم كانوا لا يعلمون بأنّ القرآن كان قد نزل على الرسول دفعةً واحدة وهو يعلم بترتيب الآيات في السور (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) وبذلك يكون النبي محمّد وجبرئيل الأمين هما العالمان بالتنزيل والترتيب وهما اللذان أشرفا على جمع القرآن وتأليفه وترتيبه كما أراده الله شيئاً فشيئاً ، بخلاف ما اشتهر عند الجمهور من عدم جمع القرآن على عهد رسول الله وتركه لمن بعده من الخلفاء ، فهذا الكلام من قبل الآخرين باطل بنظرنا ويحدث خللاً في حجيّة القرآن لأنّ ليس لأحد غير المعصوم أن يجمع القرآن ، ولا أدري ماذا يعني بالجمع عندهم هل هو جمع ترتيب أم جمع حيازة؟ فإذا أرادوا بقولهم أنّ الخلفاء جمعوه جمع ترتيب فمن هم حتّى يجمعوه جمع ترتيب

__________________

(١) سورة طه : ١١٤.

(٢) سورة الإنسان : ٢٣.

٣٢

إنّ ذلك ليس من مهامهم بل هو من وظائف رسول الله وجبريل الأمين لا غير ، وإن قالوا جمع حيازة فهو موجود عند الصحابة ولا فضيلة لهذا الجمع ، وعليه فحجيّة القرآن جاءت بالتواتر لا بالبيّنة والشهود ، لأنّ العادة تقتضي بفوات شيء على المتصدّي ـ في أي عمل ما ـ إن كان جامعه غير معصوم ، فلو تصدّي غير المعصوم لجمع ديوان شاعر أو أقوال عالم مثلاً فلا وثوق بعدم النقيصة في عمله أو عدم حدوث الخلل في جمعه وضبطه ، لأنّه إنسان خطّاء ، ولأجل هذا نرى عثمان يعترف بحدوث خلل في عمل لجنته حسبما رواه عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ، قال : لما فرغ من المصحف أُتي به عثمان فنظر فيه ، فقال : أحسنتم وأجملتم أرى شيئاً من لحن سنقيمه بألسنتنا (١).

وعن عكرمة قال قلت لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفاً من اللحن لا تغيّروها فإنّ العرب ستغيّرها ، أو قال : ستغيّرها بألستنها لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد هذه الحروف (٢).

وروي عن سعيد بن الجبير أنّه روى عن ابن عباس قوله في آية : إنّما هي خطأ من الكاتب (٣).

وفي آخر عن ابن عباس أنّه قال عن آية في سورة الرعد أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس.

__________________

(١) تاريخ المدينة ٢ : ١٢٩ / ح ١٦٧٣.

(٢) الإتقان ١ : ٥٣٦ / ح ٣٤٨٣.

(٣) الإتقان ١ : ٥٤٢ / ح ٣٤٩٩.

٣٣

وجاء عن عائشة أنّها قالت في آية : إنّ الكاتب قد أخطأ ، وفي آخر عنها : أكلته الشاة.

وقبل كلّ ذلك روي عن عمر أنّه قال بسقوط آية الرجم الشيخ والشيخ من القرآن ولو أمكنه لأضافها فيه لقوله : «لكتبتها بيدي» إلى غيرها من النصوص المشيرة على وقوع النقيصة في القرآن ، وهي مقولة خطيرة لا نقبلها ونردّها ، وقد أكّدنا على بطلانها في كتابنا «جمع القرآن».

نعم انهم بمنهجيتهم الخاطئة هذه كانوا يوصلون الامة إلى تحريف القرآن لكن الله صان كتابه العزيز بإقراء الرسول امته القرآن على مكث بحيث لا يمكن لأحد أن يزيد أو ينقص فيه.

إذن القرآن المتلو قد تعهّد بجمعه ربّ العالمين عن طريق رسوله (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ، وأنّ رسول الله وجبريل قد أشرفا على ترتيبه وضبطه وإقرائه للأمّة (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) ، ثمّ أرشد رسول الله الأمّة إلى رجال معدودين من أصحابه يعرفون القراءة الصحيحة ويقرؤونه (كما أُنزل) مثل : ابن مسعود ، والإمام علي ، وأبي بن كعب ، وهذا ما سنوضّحه في الصفحات اللاحقة ، وأنّ وجود أمثال هذه الصحابة بين الأمّة هو الذي وقف أمام التحريف لا ما قالوه عنهم بأنّ أحد هؤلاء كان يريد أن يحك المعوذتين والآخر له قرآن غير قرآن المسلمين ، وثالث هو أقرء للمنسوخ ، إنّ هذه الأقوال هي تعريضية بالصحابة يريدون به السمو بضبع عثمان على حساب النيل من الآخرين.

٣٤

المقدمة الثانية : فائدة عرض القرآن على جبرائيل كل عام

ثبت في كتب الحديث والتاريخ بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر ابنته الزهراء بقرب أجله ، وأنّه سيرحل من هذه الدنيا بعد أيام ، لأنّ جبرئيل الأمين عارضه القرآن في ذلك العام مرّتين (١) ، ومفهوم هذا الكلام أنّه كان يعارضه في كل عام مرة واحدة ، فالسؤال : ما هي فائدة تلك العروض المتكررة في كل عام ، مع أنّ الله قد صان رسوله وحفظه من النسيان في قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى) (٢)؟

فلا يتصوّر أنّ اجتماع الملَكَ المبعوث والنبي المرسل في كل عام كان لغواً ، لأنّ ذلك محال ، فهما معصومان ورسولان من قبل الباري جل وعلا ، ولا يفعلان شيئاً إلا لحكمةٍ وأمرٍ رباني ، إذن ما هي الفائدة والحكمة من هذا الاجتماع السنوي؟

لم أقف على جواب لهذا السؤال وكان عليّ أن أتي بجوابٍ له فالذي أذهب إليه هو أنّ الله سبحانه بعد أن أنزل القرآن دفعة واحدة (إيحاءً) أنزله تارة اُخرى (إقراءً) طبقاً للحوادث الواقعة وشأن النزول فيها ، تثبيتاً لقلب النبي المصطفى ، مُفرِّقاً تلك النصوص الوحيانية على شكل آيات (في سور ذوات العدد) أو سور كاملة وهو يؤكّد بأنّ الترتيب النزول هو غير ترتيب التلاوة.

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٩١١ / الباب السابع مسروق عن عائشة عن فاطمة ، مسند أحمد ٦ : ٢٨٢ / ح ٢٦٤٥٦ ، المعجم الكبير ٢٢ : ٤١٦ / ١٠٣٠.

(٢) سورة الأعلى : ٦.

٣٥

فسبحانه أمر رسولَيه ـ الملك جبرئيل الأمين والرسول (محمد) الصادق الأمين ـ باعادة تنظيم تلك الآيات المفرّقة بشكل يتفق مع ترتيب اللوح المحفوظ ، حتّى يتسنّى للنبي أن يقرأها في صلاته لو أراد أن يقرأها ، وقد قلنا بأنّ إرجاع هذه (الآيات الوقائعية) إلى أماكنها في (قرآن التلاوة) كان يحرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمام بعض الجهلة ويدعو الذين لا يعلمون في أمر التشريع كي يتّهمونه بالافتراء والكذب والعياذ بالله ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كان يأتي بالناسخ قبل المنسوخ ، لأنّ الله كان يريدها كذلك في قرآن التلاوة ، في حين أنّ المنسوخ مقدّم تاريخياً وزمانياً على الناسخ وهذا مما كان يوهم الجهلة ويغيضهم بحيث كانوا يتصورون بأن الآيات يجب أن ترتب طبقا لتاريخ النزول لا بما أراده ربّ العالمين.

لا يجوز القراءة إلا بعد القرار الرباني

نعم إنّ الشارع المقدس لم يسمح بقراءة تلك الآيات ـ النازلة متفرقة في مناسبات متعددة ـ في الصلاة إلّا بعد جمعها وترتيبها في سورها (وإطارها) الخاص الذي أرده الله وجيء به من اللوح المحفوظ ، ثمّ إقرارها وإمضائها من قِبل رسول الله والملك جبرئيل في شهر رمضان من كل عام ، بأمر من ربّ العالمين على أنّها قرآن تلاوة ، لقوله تعالى : (فَإِذَا قرآناهُ فَاتَّبِعْ قرآنهُ) (١). وهذا الامضاء من قبل الله كان تاكيداً لِما أَنزل ، وتقريراً لما أُجمع ، وتوطيناً لقلوب المسلمين.

__________________

(١) سورة القيامة : ١٨.

٣٦

وعليه فالله سبحانه وتعالى قد يُنزَّل السورة متفرقة ـ في ذوات العدد مقدمة بعضها على الآخر ـ ثم يأمر بجمعها حسب ترتيبه في اللوح المحفوظ ، وقد تنزل السورة كاملةً ثمّ تبدأ الأحداث الواقعة فيها شيئاً فشيئاً ، أي : أنّ جبريل الأمين كان يأتي مرّةً أُخرى إلى النبيّ بالآيات المرتبطة بتلك الوقائع النازلة في تلك السورة ، فيقرأها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على الناس ، فيظهر لهم أنّهم كانوا قد سمعوها قبل هذا التاريخ ، لأنّ الناس عموماً لا يدركون عمق حقائق القرآن ودقائقَه ، وبهذه الطريقة كان يظهر إعجاز القرآن لهم بصورةٍ يفهمونها ، لأنّ الإخبار بالمغيّبات قبل حدوثها دليلٌ على صدوره مِن عند علّام الغيوب ، فلمّا جاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالآيات قبل وقوع الأحداث فهموا بأنّه منزَلٌ من عند الله ، كقوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (١) وقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ) (٢) وأمثالهما.

بلى قد تُنْزَلُ آية آية ثمّ يؤلّف منها سورة سورة طبقاً لما نزل من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور أو على صدر النبي محمد ، وذلك بالتنسيق بين جبرئيل عليه‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يجوز للنبي قراءة الآيات التي علم بوجودها في اللوح المحفوظ قبل وقوعه (٣) ، لأنّ من أهداف النزولمنجَّماً ـ كما قلنا ـ هو

__________________

(١) سورة الروم : ٣.

(٢) سورة الفتح : ٢٧.

(٣) أي نزولها التدريجي الإقرائي ، قال سبحانه : (وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ).

٣٧

تثبيت فؤاد النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) (١) ، فإذا لم تقع الواقعة في الخارج فلا يجوز للنبي البوح بها وقراءتها قبل وقوعها إلّا بأمرٍ خاصّ منه تعالى. بل على الرسول الانتظار إلى وقوعها ، قال سبحانه : (ولاتحرك لسانك لتعجل به إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنهُ * فَإِذَا قرآناهُ فَاتَّبِعْ قرآنهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (٢).

ومثله قوله تعالى : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) (٣) اوقوله تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) (٤) أو قوله تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (٥) أو قوله تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ) (٦) أو قوله تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) (٧) وأمثالها.

ومما يدل على وجود كلّ من الإنزال والتنزيل في الكتاب العزيز والنزول الدفعي والنزول التدريجي هو قوله تعالى : (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (٨).

__________________

(١) سورة الفرقان : ٣٢.

(٢) سورة القيامة : ١٦ ـ ١٩.

(٣) سورة البقرة : ١٤٤.

(٤) سورة البقرة : ١٨٩.

(٥) سورة الإسراء : ٨٥.

(٦) سورة البقرة : ٢١٥ ، ٢١٩.

(٧) سورة الكهف : ٨٣.

(٨) سورة هود : ١.

٣٨

وعليه فنحن مأمورون بالتلاوة طبق النازل دفعةً واحدة ـ والذي يعلم به رسول الله ـ لكن ليس كلّ ما يعلم به الرسول صار قرآناً ، بل القرآن يكون قرآناً بعد امضاء ذلك من قِبل ربّ العالمين (فَإِذَا قرآناهُ فَاتَّبِعْ قرآنهُ) أي فإذا قرّرناه بأنّه صار قرآناً فعليك أن تقرأه في صلاتك وأن تثبّته في مصحفك.

لكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلمه بما في اللوح المحفوظ ربما كانت لديه رغبة

في تلاوة الآيات المتبقّية (من أوّل السورة أو وسطها أو آخرها) التي يراد إقرارها لاحقاً من قِبل رب العالمين والتي لم تنزل بعد ، والتي كان من المفترض أن تنزل في العام القادم أو ما بعد القادم ، فجاءه النهي الدستوري في قوله تعالى : (وَلَا تَعْجَلْ بِالقرآن قَبْلَ أنْ يُقضَى إليكَ وَحْيُه وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْماَ) ، وقوله تعالى : (ولا تحرِّكْ بِهِ لسانَكَ لتعجَل به إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنهُ).

وهذا النهي من قبل الباري تعالى لرسوله يُفهم منه وجود دقة في ضبط كلام رب العالمين من قبل المَعصُومَين الأمينَين (١) ، وفوق كلّ ذلك من قِبَل ربّ العالمين ، خلافاً لما انتهجه الخلفاء من منهج خاطيء كان يوصل الأمّة إلى التحريف وإلى الاستخفاف بالقرآن الكريم.

ولو تأمّلت في قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنهُ) وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) لعرفت بأنّ فيهما دلالة واضحة على أن أمر جمع القرآن يرتبط بالله أولاً ، ثمّ بالملك جبرئيل والرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثانياً ، وأخيراً

__________________

(١) جبرئيل الأمين والصادق الأمين.

٣٩

بالوصي علي بن أبي طالب عليه‌السلام لا بغيرهم كما يقولون.

القرآن بين التعبد بالنص والاجتهاد بالرأي!

فإذا كان الصادق الأمين لا يمكنه أن يستعجل بتلاوة القرآن قبل تقرير الباري جلّ وعلا ، فكيف يرضى سبحانه بما قالوه عن جمع القرآن بشاهدَين غير معصومَين وفي زمن الفتنة ـ التي لا يأخذون بأحاديثها ـ على وجه الخصوص؟

بل كيف يجيز الباري قراءة القرآن بأيّ شكل كان على أن لا يجعل آية رحمة آية عذاب! بدعوى أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف على نحو هَلمّ

وتَعال وأقبل وأذهب وأسرع وعجل (١)!! والمؤلّفون اليوم يستاؤون من وجود الأخطاء الطباعية في كتبهم ، فضلاً عن نسبة أشياء إليهم لم يقولوها إنما ما قالوه وادعوه هو استهزاء بالقرآن الكريم الذي هو (لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ).

وبذلك يكون معنى كلامنا أنّ الآيات والسور النازلة على رسول الله في النزول الدفعي (إيحاءً) هي قيد التنفيذ حتّى تصير قرآناً عند المسلمين (إقراءً) كما مرّ عليك سابقاً ما جاء في سورة القيامة (٢).

وبتعبر آخر : إنّ القرآن أُلّف على شكل حوليات بمعنى إنّ الآيات النازلة من رمضان إلى رمضان في قضايا مختلفة كانت تؤلّف كلّ عام طبقاً لما في اللوح المحفوظ وهو معنى قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنهُ) أي إنّ علينا تأليفه طبق

__________________

(١) انظر البرهان للزركشي ١ : ٢٢١ ، شرح مشكل الآثار ٨ : ١٢٧.

(٢) سورة القيامة : ١٦ ـ ١٨.

٤٠