مصحف أميرالمؤمنين علي عليه السلام بين المنزل والمفسّر

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار البراق
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-466-047-1
الصفحات: ١٩٢

المحور الثالث :

الجواب عن شبهتين

١٢١
١٢٢

الشبهة الأولى :

كيف يمكن تصحيح نسبة هذه النسخة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ونحن نرى في آخرها مكتوب : كتبه عليُّ بن أبو طالب خلافاً لقواعد العربية.

قال البلاذري في الفتوح بعد نقله كتاب رسول الله لأهل نجران :

وقال يحيى بن آدم ، وقد رأيت كتاباً في أيدي النجرانيين كانت نسخته شبيهة بهذه النسخة وفي أسفله : كتب علي بن أبوطالب ولا أدري ما أقول فيه (١).

كما أنّه عليه‌السلام كتب في تبوك وإيلة : وكتب علي بن أبو طالب في سنة تسع (٢).

قال ابن كثير في (فضائل القرآن) : بعد ذكره رواية الأشعث عن محمد بن سيرين :

__________________

(١) فتوح البلدان : ٧٧.

(٢) فتوح البلدان : ٧٢.

١٢٣

قلت : وهذا الذي قاله أبو بكر أظهر واللهُ أعلم ، فإنّ عليّاً لم يُنقَل عنه مصحف ـ على ما قيل ـ ولا غير ذلك ، ولكن توجد مصاحف على الوضع العثماني يقال إنّها بخط عليّ ـ رضي الله عنه ـ وفي ذلك نظر ، قال في بعضها (كتبه علي بن أبو طالب) وهذا لحن من الكلام ، وعليّ ـ رضي الله عنه ـ من أبعد الناس عن ذلك ، فإنّه كما هو المشهور عنه هو أول من وضع علم النحو ـ فيما رواه عنه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي (١).

فإذا ورد مثل هذا الإشكال على ما كتبه الامام علي ، فما الجواب؟

الجواب :

أولاً : نحن لا نسلم بأنّ هذه النسخة هي التي كتبها الإمام عليّ ، كما لا نستبعد أن تكون بعض تلك النسخ هي ـ كما قاله ابن كثير ـ موضوعة عليه من قبل اليهود أو المجوس ، أو من قبل النفعيين للارتزاق ، أو من قبل الأمويين وأتباع عثمان لتصحيح الشبهة الواردة من وجود اللحن في القرآن على لسان عثمان.

ثانياً : قد يصحّ القول (علي بن أبوطالب) على الحكاية ، وذلك أنّ (أبو طالب) عَلَم في محلّ جر للإضافة ، وهذا غير اللحن الذي أشار إليه سعيد بن

__________________

(١) فضائل القرآن : ٨٨.

١٢٤

جبير وعائشة وابن عباس وغيرهم في القرآن (١) ، بل هو مثل ما رواه الخطابي في (غريب الحديث) ، وابن الأثير في (النهاية) ، والزمخشري في (الفائق) في حديث وائل بن حجر : من محمد رسول الله إلى المهاجر بن أبو أمية (٢).

قال الخطابي في (غريب القرآن) : وقوله (إلى المهاجر بن أبو أمية) فقد كان حقه في الإعراب أن يقال : ابن أبي أمية ، لأنّه مضاف إلى أبيه ، ولكن لاشتهاره ترك على حاله كما قيل علي بن أبو طالب (٣).

فقال ابن الأثير في (النهاية) : حقه أن يقول ابن أبي أمية ، ولكنّه لاشتهاره بالكنية ولم يكن له إسم معروف غيره لم يجر كما قيل علي بن أبو طالب (٤).

قال الزمخشري في (الفائق) : أبو أمية ترك في حال الجر على لفظه في حال الرفع ، لأنّه اشتهر بذلك وعرف ، فجرى مجرى المثل الذي لا يغيّر ، وكذلك قولهم : علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان (٥).

وقال الخفاجي في شرح كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من محمد رسول الله إلى المهاجر بن أبو أمية ... وقوله : (ابن أبو أمية) كذا صحّت روايته بحكاية أول أحواله وأشرفها كما يقال علي بن أبو طالب ، قال التجاني : وقريش لا تغيّر الأب ، فتجعله بالواو

__________________

(١) حسبما وضحناه في كتابنا «جمع القرآن» ٢ : ٢٥١ و ٢٥٢.

(٢) النهاية ١ : ٢٠ ، الفائق ١ : ١٤ في حرف الهمزة مع الباء.

(٣) غريب الحديث للخطابي ١ : ١٥٢.

(٤) النهاية ١ : ٢٠ باب الهمزة مع الباء.

(٥) الفائق ١ : ١٤ باب الهمزة مع الباء.

١٢٥

في أحواله الثلاثة ، وحكاه أبو زيد عن الأصمعي في نوادره فليس بلحن كما يقولون : يا زيد ، فهذه لغة خاصة ... (١).

وقال الكتاني في (التراتيب الإدارية) : تنبيه ، ما سبق من عيون التواريخ ، من (وكتب علي بن أبو طالب) كذلك رأيته في سمط اللال بخط مؤلّفه ، ونحوه رأى بعينه ابن فضل العمري كما سبق عن المسالك والممالك له من : (وشهد عتيق بن أبو قحافة وكتب علي بن أبو طالب).

وقد ذكر ابن سلطان في (شرح الشفاء) في مبحث فصاحته عليه‌السلام : أنّ ابن أبي زيد حكى في نوادره عن الأصمعي عن يحيى بن عمر : أنّ قريش كانت لا تغيّر تلفظ الأب في الكنية تجعله مرفوعاً في كل وجه من الجر والنصب والرفع ، أي كما يقال : علي بن أبو طالب ، وقرأ : تبت يدا أبو لهب ... (٢).

وقال ابن ميثم البحراني في شرح النهج : ومن حلف له عليه‌السلام كتبه بين ربيعة واليمن ، جاء فيه : ... وفي رواية كتب علي بن أبو طالب وهي المشهورة عنه عليه‌السلام ، ووجها أنّه جعل هذه الكنية علماً منزلة لفظ واحدة لا يتغير إعرابها (٣).

وقال الصفدي في الوافي بالوفيات : وبعضهم يكتب علي بن أبو طالب ويلفظ (أبي) بالياء (٤).

__________________

(١) نسيم الرياض ١ : ٤٠٥ وشرح القاري بهامشه.

(٢) التراتيب الإدارية ١ : ١٥٥.

(٣) شرح النهج ٥ : ٢٣٢.

(٤) الوافي بالوَفيّات ١ : ٥١ الفصل السادس في الهجاء.

١٢٦

وقال المسعودي في ترجمة عبد المطلب : وقد تُنوزع في اسم أبي طالب ، فمنهم من رأي أنّ اسمه عبد مناف على ما وصفنا ، ومنهم من رأى أن كنيته اسمه ، وأنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتب في كتاب النبيّ ليهود خيبر بإملاء النبي : وكتب علي بن أبو طالب باسقاط الألف ، فكأنّه لوقوعه بين العلمين سقط الألف من ابن (١).

وقال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن : وربما كان للرجل الإسم والكنية ، فغلبت الكنية على الاسم فلم يعرف إلّا بها كأبي سفيان وأبي طالب وأبي ذر وأبي هريرة ، ولذلك كانوا يكتبون علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان ، لأنّ الكنية بكمالها صارت إسماً وخط كلّ حرف الرفع ما لم ينصبه أو يجره حرف من الأدوات أو الأفعال فكأنّه حين كنّى قيل أبو طالب ثمّ ترك ذلك كهيئة وجعل الاسمان واحداً (٢).

وقال الدكتور حميد الله حيدرآبادي : رأيت في جنوب سلع مكتوباً : أنا علي بن أبو طالب.

وقال السيد جعفر بحر العلوم الطباطبائي في (تحفة العالم في شرح خطبة المعالم) وعند كلامه عن أولاد الإمام موسى بن جعفر :

... وأمّا أحمد بن موسى ... المدفون بشيراز ... وفي سنة ١٢٤٣ هـ جعل

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ١٣٢.

(٢) تأويل مشكل القرآن : ٢٥٧ باب الكناية والتعريض ط ٢ دار التراث القاهرة.

١٢٧

السلطان فتح علي شاه القاجاري عليه مشبّكاً من الفضة الخالصة ، ويوجد على قبره نصف قرآن بقطع البياض بالخطّ الكوفي الجيد على ورق من رقّ الغزال ، ونصفه الآخر بذلك الخطّ في مكتبة الرضا عليه‌السلام ، وفي آخره : (كتبه علي بن أبو طالب) ، فلذلك كان الاعتقاد بأنّه خطّه عليه‌السلام ، وأورد بعض أنّ مخترع علم النحو لا يكتب المجرور مرفوعاً.

والذي ببالي أنّ غير واحد من النحاة ، وأهل العربية صرّح : بأنّ الأب والإبن إذا صارا علمين يعامل معهما الأعلام الشخصية في أحكامها ، وصرّح بذلك صاحب (التصريح).

وقال أبو البقاء في آخر كتابه (الكلّيات) : ومما جرى مجرى المثل الذي لا يغيّر : (علي بن أبو طالب) حتّى ترك في حالي النصب والجر على لفظه في حالة الرفع؛ لأنّ اشتهر في ذلك ، وكذلك معاوية بن أبي سفيان ، وأبو أمية ، انتهى.

وظني القوي : أنّ القرآن بخطّ علي عليه‌السلام لا يوجد إلّا عند الحجّة (١) صلوات الله عليه ، وأنّ القرآن المُدعى كونه بخطّه عليه‌السلام هو علي بن أبي طالب المغربي ، وكان معروفاً بحسن الخط الكوفي ، ونظير هذا القرآن بذلك الرقم بعينه يوجد في مصر في مقام رأس الحسين عليه‌السلام ، كما ذكرنا : أنّه كان يوجد نظيره أيضاً في المرقد العلوي المرتضوي ، وأنّه احترق فيما احترق (٢).

__________________

(١) نعم ذلك هو المصحف الوقائعي الذي وضحناه هنا وفي كتابنا جمع القرآن وهو غير قرآن التلاوة الذي نحن بصدد بيانه هنا.

(٢) تحفة العالم في شرح خطبة المعالم ٢ : ٥٥.

١٢٨

وقال السيد أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبة المتوفى سنة ٨٢٨ هجرية في كتابه (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب) :

ففي اسم أبي طالب ونسبه :

أما اسمه ، فقيل : إنّه عمران ، وهي رواية ضعيفة رواها أبو بكر محمد بن عبد الله العبسي الطرسوسي النسّابة.

وقيل : اسمه كنية ، ويُروى ذلك عن أبي علي ، محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن جعفر الأعرج بن عبد الله بن جعفر ـ قتيل الحَرّة ـ ابن أبي القاسم محمد بن علي بن أبي طالب النسابة ، وله : مبسوط في علم النسب ، وزعم أنّه رأى خط أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وفي آخره : (كتب علي بن أبو طالب).

وقد كان بالمشهد الشريف الغروي مصحف في ثلاث مجلدات بخط أمير المؤمنين عليه‌السلام احترق حين احترق المشهد سنة خمس وخمسين وسبعمائة ، يقال أنّه كان في آخره : وكتب علي بن أبو طالب.

ولكن حدّثني السيد النقيب السعيد تاج أبو عبد الله محمد بن القاسم بن معيّة الحسني النسابة ، وجدي لأمي المولى الشيخ العلامة فخر الدين أبو جعفر محمد بن الحسين بن حديد الأسدي رحمه الله ، أنّ الذي كان في آخر ذلك المصحف علي بن أبي طالب ، ولكن الياء مشتبهة بالواو في الخط الكوفي الذي كان يكتبه علي عليه‌السلام.

١٢٩

وقد رأيت أنا مصحفاً بالمذار في مشهد عبيد الله بن علي بخط أمير المؤمنين عليه‌السلام في مجلد واحد في آخره بعد تمام كتابة القرآن المجيد : (بسم الله الرحمن الرحيم ، كتبه علي بن أبي طالب) ، ولكنّ الواو تشتبه بالياء في ذلك الخط ، كما حكياه لي عن المصحف بالمشهد الغروي ، واتصل بي بعد ذلك أنّ مشهد عبيد الله احترق واحترق المصحف الذي فيه (١).

وقد قال النسّابة الشيخ محمّد حسين كتابدار (١٠٩٨ هـ) أحد خدام الحرم العلوي والقائمين على الخزانة الغروية وفي تعليقاته علي كتاب (عمدة الطالب) :

أقول : هذا المصحف الذي ذكره السيد النقيب أنه خط أمير المؤمنيين عليه‌السلام وهو في المشهد الغروي وهو المصحف الموجود في هذا الوقت في الخزانة الشريفة وقد احترق الكثير منه ولم يبق إلا مجلّداً واحداً وهذا المجلد حواشيه كلها محروقة ولم يذهب من المتن إلا قليلاً والله أعلم (٢).

بهذا فقد عرفت بأنّ النسخة التي كانت في المشهد الغروي في ثلاث مجلدات كانت قد احترقت حينما احترق المشهد في عام ٧٥٥ هجرية ، والنسخة التي

__________________

(١) عمدة الطالب : ٢٠ ـ ٢١.

(٢) مجلة مخطوطاتنا العدد الأوّل لسنة ٢٠١٤ م ١٤٣٥ هـ الصفحة ١٢٦ تعليقات محمد حسين كتابدار على كتاب عمدة الطالب تحقيق وتعليق الدكتور علي خضير حجي.

١٣٠

بايدينا لا تتفق مع التي شاهدها وعناها الشيخ كتابدار ، لان تلك ثلث القران والتي بأيدينا هي قران شبه كامل ، لكنها قد تتفق مع نسخة المذار.

نعم قد تكون النسخة التي شاهدها الشيخ كتابدار والتي حكاها ابن عنبة عن النسابة بن معية الحسني وجده لأمه محمّد بن الحسين بن حديد الأسديهي موجوده في الخزانة الغروية لكنها لم تكن نسختنا ، قد تصحّ النسبة إلى الإمام ، وقد لا تصح؟ وأخيراً فنحن نتوقف في إثبات هذه النسخة أو نفيها إلى الإمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب ، لأنّ القول بأيٍّ من الأمرين يحتاج إلى دليل مقنع ، وهو غير متوفر لدينا الآن.

الشبهة الثانية

كيف تصح نسبة هذه النسخة أو غيرها من النسخ إلى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أو للأئمّة الأطهار ، والمشهور عن الإمام أنّ نسخته كانت تختلف مع نسخة عثمان بن عفان في الترتيب ، وأنّه كتب القرآن (كما أُنزل) : المكي قبل المدني ، والمنسوخ قبل الناسخ ، والأوّل فالأوّل ، وقد جاء هذا المعني على لسانه عليه‌السلام إذ قال : هذا كتاب الله وقد ألّفتُه كما أمرني وأوصاني رسول الله كما أُنزل (١).

__________________

(١) كتاب الوصية للمسعودي : ١٢٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٨ : ٣٠٨.

١٣١

وفي رواية أبي رافع : فألّفه كما أنزله الله وكان به عالماً (١) ، وفي ما رواه ابن الضريس عن عِكْرِمة ، قال محمد بن سيرين : فقلت له : ألّفوه كما أُنزِل ، الأوّل فالأوّل؟ قال عكرمة : لو اجتمعت الإنس والجِنّ على أن يُؤلّفوه ذلك التأليف ما استطاعوا (٢) ، قال محمد : وأراه صادقاً.

وقال الشيخ المفيد (ت ٤١٣ هـ) : وقد جمع أمير المؤمنين القرآنَ المُنزَلَ مِن أوّله إلى آخره ، وألّفه بحسب ما وجب من تأليفه ، فقدّم المكيَّ على المدنيّ ، والمنسوخ على الناسخ ، ووضع كل شيءٍ في محله (٣).

فما هو المراد والمقصود من ترتيب المصحف حسب النزول؟ أو ما قاله رسول الله والأئمّة من اهل بيته في جمع الإمام للقرآن وأنّه كان (كما أُنزل).

وهل أنّ ذلك هو بيان للمراد الحقيقي الذي اراده الله تعالى ، وأنّه عليه‌السلام جمع ما أنزله الله على رسوله من دون زيادة أو نقصان؟

أو أنّه بيان لجمع الايات ايةً اية طبقا للوقائع والحوادث؟ أو أنّه بيان إلى ترتيب السور أولاً فالأول ـ : المكية قبل المدنية.

فلو كان هذا فلا يتطابق مع ترتيب المصحف الرائج اليوم الذي يبدأ بالطوال ثمّ بالمَئين وأخيراً يختم بالقصار ، فما هو الجواب؟

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٣٢٠ ، فصل في المسابقة بالعلم ، وعنه في بحار الأنوار ٨٩ : ٥٢.

(٢) فضائل القرآن : ٣٥ / ٢١ و ٢٢.

(٣) المسائل السروية : ٧٩.

١٣٢

الجواب :

أولاً : نحن قلنا سابقاً بأنّا لا نقطع بصحة نسبة هذه النسخة أو غيرها إلى الإمام حتّى يَرد هذا الإشكال وامثاله ، بل نذهب إلى أنّها منسوبة إليه عليه‌السلام ، ومثله هو قولنا في النسخ المنسوبة الاخرى إلى الأئمّة الأطهار الموجودة في المكتبات العامة العالمية.

ثانياً : لم يثبت في خبر صحيح عن الأئمّة الأطهار من آل البيت عليهم‌السلام بأنّ نسخة الإمام من المصحف الشريف للتلاوة قد رتب بترتيب آخر غير الترتيب الحالي نعم اشتهر ذلك ، وهذا القول لا يضاد القول بوجود نسخة أخرى للإمام رتبها بترتيب اخر حسبما قاله الالوسي (١) والذي عبرنا عنه بالمصحف الوقائعي اليومي او المفسر ، والأخير كان للعلم وشأن النزول حسبما جاء في كلام ابن سيرين وغيره.

كما أنا لا ننكر وجود نسخ أخرى منسوبة إلى الصحابة قد رتّبت خلافاً لترتيب المصحف العثماني ، كنسخة أُبيّ بن كعب وابن مسعود (٢). لكن هذا لا يعني شيئا ولا يضر بالقرآن الكريم لأن تقديم بعض السور وتأخير بعضها الآخر في المصحف لا يضاد أصل القرآن حسبما وضحنا سابقاً.

__________________

(١) تفسير الآلوسي ١ : ٢٢ ، وفيه : وقيل : كان جمعاً بصورة أخرى لغرض آخر.

(٢) انظر الاتقان ١ : ١٧١ / ٨٠٧ ، مناهل العرفان ١ : ٢٤٤ ، أسرار ترتيب القرآن : ٦٨ وغير ذلك.

١٣٣

قال ابن حجر في ترجمة عقبة بن عامر : ... قلت : قال أبو سعيد بن يونس : كان قارئاً عالماً بالفرائض والفقه ، فصيح اللسان شاعراً كاتباً ، وكانت له السابقة والهجرة ، وهو أحد من جمع القرآن ، ومصحفه بمصر إلى الآن على غير التأليف الذي في مصحف عثمان ، وفي آخره بخطه : وكتبه عقبة بن عامر بيده (١).

إذن الاختلاف في ترتيب السور لا يخدش في حجية القرآن أو يدعوا إلى القول بتحريفه ، لأنّ اختلاف ترتيب المصاحف لا يعني التحريف بل يثبت عدم التوقيفية فيه.

ويمكننا أن نعد من تلك الأخبار الدالة على عدم التوقيفية في السور رواية اليعقوبي في تاريخه :

وروي بعضهم أنّ علي بن أبي طالب كان جمعه لما قبض رسول الله واتي به يحمله على جمل ، فقال : هذا القرآن قدجمعته وكان قد جزّأه سبعة اجزاء.

فالجزء الأوّل : البقرة ، وسورة يوسف ، والعنكبوت ، والروم ، ولقمان ، وحم السجدة ، والذاريات ، وهل أتى على الإنسان ، والم تنزيل السجدة ، والنازعات ، وإذا الشمس كُوِّرت ، وإذا السماء انفطَرَت ، وإذا السماء انشقّت ، وسبِّح اسمَ رَبِّك الأعلى ، ولم يكن ، فذلك جزء البقرة ثمانماءة وست وثمانون آية ، وهو خمس عشرة سورة.

والجزء الثاني : آل عمران ، وهود ، والحجّ ، والحِجر ، والأحزاب ، والدخان ،

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٤ : ١٠٤ / ٤٤٠ ، غريب الحديث لأبي عبيد ٤ : ١٠٤.

١٣٤

والرحمن ، والحاقّة ، وسأَلَ سائل ، وعَبَس وتولى ، والشمس والضُّحى ، وإنّا أنزَلْناه ، وإذا زُلزِلَت ، ووَيلٌ لِكلِّ هُمزة ، وألم تَرَ كيف ، ولإيلاف قريش ، فذلك جزء آل عمران ثمانمائة وست وثمانون آية ، وهو ستّ عشرة سورة.

الجزء الثالث : النساء ، والنحل ، والمؤمنون ، ويس ، وحم عسق ، والواقعة ، وتبارك المُلك ، ويا أيُّها المدَّثِّر ، وأرأيتّ ، وتَبَّت ، وقُلْ هُوَ اللهُ أَحَد ، والعصر ، والقارعة ، والسماءِ ذاتِ البروج ، والتينِ والزيتون ، وطس النمل ، فذلك جزء النساء ثمانمائة وستّ وثمانون آية ، وهو ستّ عشرة سورة.

الجزء الرابع : المائدة ، ويونس ، ومريم ، وطسم الشعراء ، والزخرف ، والحُجُرات ، وق والقرآنِ المجيد ، واقتَرَبت الساعة ، والمُمْتَحنة ، والسماء والطارق ، ولا أُقسم بهذا البلد ، وألَم نَشرَحْ لَك ، والعاديات ، وإنّا أعطيناك الكوثر ، وقل يا أيُّها الكافرون ، فذلك جزء المائدة ثمانمائة وستّ وثمانون آية ، وهو خمس عشرة سورة.

الجزء الخامس : الأنعام ، وسبحان ، واقترب ، والفرقان ، وحم المؤمن ، والمجادلة ، والحشر ، والجمعة ، والمنافقون ، ون والقلم ، وإنّا أرسلنا نوحاً ، وقل أوحي إليّ ، والمرسلات ، والضحى ، وألهاكُم ، فذلك جزء الأنعام ثمانمائة وستّ وثمانون آية ، وهو ستّ عشرة سورة.

الجزء السادس : الأعراف ، وإبراهيم ، والكهف ، والنور ، وص ، والزمر ، والشريعة ، والذين كفروا ، والحديد ، والمُزَّمِّل ، ولا أُقسم بيومِ القيامة ، وعمَّ يتساءلُون ، والغاشية ، والفجر ، والليل إذا يَغشى ، وإذا جاء نَصرُ الله ، فذلك جزء

١٣٥

الأعراف ثمانمائة وستّ وثمانون آية ، وهو ستّ عشرة سورة.

الجزء السابع : الأنفال ، وبراءة ، وطه ، والملائكة ، والصّافّات ، والأحقاف ، والفتح ، والطُّور ، والنجم ، والصفّ ، والتغابن ، والطلاق ، والمطفّفين ، والمعوِّذتين ، فذلك جزء الأنفال ثمانمائة وستّ وثمانون آية ، وهو خمس عشرة سورة (١).

فرواية اليعقوبي مرسلة لقوله : (وروى بعضهم) وان ترتيب سور القرآن فيه مخالف لترتيب القرآن على تاريخ نزوله.

فقد يكون هذا الترتيب قبل توحيد شكل المصحف على جنس واحد ، من قبل الامام اذ كان كبيرا ومدونا على عهد رسول الله على اشكال مختلفة من الكتف والعسف واللخاف وامثاله.

وأما بعد توحيد شكله على جنس واحد فكان يلزمه أن يُجمع في ثوب وأن يحمله معه بحيث يئط من تحت سيفه ، فإنّ ثبوت هذا الخبر عن ترتيب مصحف الإمام عليّ عليه‌السلام وعدمه لا يخالف انتساب هذه النسخة من المصحف الشريف أو تلك إليه عليه‌السلام ، فقد تكون هذه النسخة هي بخطّه ، لكنّ عثمان رتّبها بترتيبه الخاص ، فهي نسخة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وترتيب عثمان بن عفّان معاً.

وهكذا هو الحال بالنسبة إلى النسخ المنسوبة إلى الأئمّة الأطهار ، فقد

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٥ ـ ١٣٦.

١٣٦

يكونون عليهم‌السلام كتبوها على الترتيب العثماني حفاظاً على وحدة الصفّ الإسلامي في القرآن مع علمهم وعلم الجميع بأنّ السور المكية هي أقدم نزولاً من المدنية لكنهم تعبدوا بهذا الترتيب رعاية للمصلحة العامة.

كما أنّ ما قالوه عن مصحف أُبيّ وابن مسعود واختلاف ترتيبَيهما مع مصحف عثمان ، فهي قد تكون مقولة صحيحة وقد لا تكون صحيحة ، فعلى كلا القولين لا خدش في قرآنية القرآن وانتساب النسخ جميعا لأصحابها.

أجل قد حكى ابن النديم عن الفضل بن شاذان (ت٢٦٠ هـ) قوله : وجدتُ في مصحف عبد الله بن مسعود تأليف سور القرآن على هذا الترتيب : البقرة ، النساء ، آل عمران ، المص ، الأنعام ، المائدة ، يونس ... (١).

وهو يدل على وجود مصحف لابن مسعود في متناول أيدي الناس في القرن الثالث الهجري ، لا يختلف ترتيبه عمّا في أيدي الناس اليوم ، وقد أقرّ نولدكه بوجود نسخ قديمة للمصحف عند المسلمين وهي موحدة الشكل والنص منذ القرون الأولى وذلك من خلال قوله : أمّا واضع الفهرست فيُخبِر أنّه رأى مخطوطاً للقرآن عمره٢٠٠ سنة يعود لابن مسعود (٢).

وقال ابن النديم أيضاً حكايةً عن الفضل بن شاذان : كان تأليف السور في قراءة أُبيّ بن كعب في البصرة في قرية يقال لها قرية الأنصار على رأس فرسخين عند محمد

__________________

(١) الفهرست : ٣٩.

(٢) تاريخ القرآن ٢ : ٢٧٣.

١٣٧

بن عبد الملك الأنصاري ، أخرج إلينا مصحفاً وقال : هو مصحف أُبيّ ، رويناه عن آبائنا ، فنظرت فيه فاستخرجت أوائل السور وخواتيم الرسل وعدد الآي ، فأوّله فاتحة الكتاب ، البقرة ، النساء ، آل عمران ، الأنعام ، الأعراف ، المائدة التي التبست وهي يونس ... (١)

وهذا النص هو الآخر يشير إلى وجود مصحف أُبيّ في البصرة وأنّه كُتب حسب ترتيب المصحف الرائج اليوم بين أيدي المسلمين ، وأنّ ابن شاذان قد شاهده هناك.

كلّ ذلك يؤكّد بأنّ اختلاف ترتيب مصاحف الصحابة إن كان ـ فهو لا يضرّ بأصل القرآن ، وقد كان ذلك طبيعياً في الصدر الأوّل الإسلاميّ ، وهو دليل على عدم توقيفية ترتيب السور في القرآن لا غير.

وبذلك فقد عرفت بأنّ غالب النصوص تشير إلى وحدة ترتيب القرآن عند الصحابة وإن شوهد اختلاف فلا ضير.

ثالثاً : إنّ خبر اليعقوبي لايتّفق مع ما رواه ابن الضريس الذي مرّ آنفاً ، لأنّ ترتيب الاجزاء السبعة ـ التي ذكرها اليعقوبي ـ لا يتّفق مع ترتيبه (كما اُنزل ، الأوّل فالأوّل) ، إذن فماذا تعني تلك الجملة؟ قد يكون جوابه فيما سيأتي.

رابعاً : لا يُستبعد أن تكون النصوص المُستدلّ بها على اختلاف ترتيب مصحف الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام مع مصحف عثمان ، وما جاء في كلام

__________________

(١) الفهرست : ٤٠.

١٣٨

العلماء هو إشارة إلى ترتيب المصحف المفسَّر للإمام وأنّه يختلف مع المصحف المجرَّد ، الذي رتبه طبقا لما اراده الله سورةً سورة ، بمعنى ان امير المؤمنين جمع قرآن التلاوة (كما انزل) مقدما السور المكية على السور المدنية خلافا لمنهج عثمان في الترتيب.

كما انه جمع الايات ايةً اية (كما انزلت) لتكون بمثابة يوميات الدعوة الإسلامية ولم يلحظ فيه ترتيب قرآن التلاوة ، فلو قلنا بهذا ، فسيُحلّ التعارض بما يريدون ان يقول به ، لأنّ كلمة (كما أُنزل) (١) أو (كما أنزله الله) (٢) أو (لئن لم تجمعه باتقان لم يجمع أبداً) (٣) وأمثال ذلك يشير إلى التأليف الثاني للإمام ، وأنّ مصحفه يشتمل على العلم وشأن النزول يوماً فيوماً وآية فآية ، وأنّه غير قرآن التلاوة الذي جمع تحت نظر واشراف رسول الله وجبرئيل ، ويؤكّده قول عمر للإمام عليّ عليه‌السلام : إنّ ابن أبي طالب يحسب أنّه ليس عند أحد علمٌ غيره ، فمَن كان يقرأ من القرآن شيئاً فَلْيَأتِنا به ، فكان إذا جاء رجل بقرآن فقرأه ومعه آخر كتبه ، وإلّا لم يكتبه فمَن قال ـ يا معاوية ـ إنّه ضاع من القرآن شيءٍ فقد كذب ، هو عند أهله مجموع محفوظ (٤).

وفي (الاحتجاج) قال عمر : يا ابن أبي طالب ، تحسب أنّ أحداً ليس عنده

__________________

(١) اثبات الوصية للمسعودي : ١٢٣.

(٢) الكافي ٢ : ٦٣٣ / ٢٣.

(٣) الخصال : ٥٧٩ ابواب السبعين وما فوقه.

(٤) كتاب سليم : ٣٦٩.

١٣٩

علم غيرك ، مَن كان يقرأ من القرآن شيئاً فليأتِني به (١).

وعليه فالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب احتفظ في (المصحف المفسر) بيوميّات الدعوة الإسلامية والوقائع التي وقعت فيها ، وما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير الآيات وتأويلها ، وقد جعل ذلك المصحف عند وُلده ، ومعناه : أنّ الإنسان لوقرأ آيات القرآن (كما أُنزل) مرتباً يوماً بعد يوم مع ما جاء في تفسيره عن رب العالمين لوقف على أسرار وعلوم كثيرة هي خافية على الناس ، وحسب تعبير الإمام (لا ألفيتنا فيه مسمين) (٢) لان اية التطهير او المباهلة او غيرها من الايات حينما كانت تنزل كان ينزل معها جبرئيل في تفسيرها وان المقصود من اية التطهير هو الامام علي وفاطمة الزهراء والحسن والحسين.

ومثله ما رواه حبّة العَرني عن أمير المؤمنين قوله : انظرْ إلى شيعتنا بمسجد الكوفة وقد ضربوا الفساطيط يعلّمون الناس القرآن كما أُنزل (٣).

فالامام حينما يأتي يأتي ليعلم الناس على ترتيب النزول ويوميات الدعوة الإسلامية وهذا يكون أصعب ما يكون على من حفظ القرآن (٤) لانه يحفظ القرآن سورة سورة والامام يعلم الناس اية اية ، فقد ينتقل الامام من اية الى اية

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٧.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١١٣ / ٤ ، عن الصادق عليه‌السلام.

(٣) الغيبة للنعماني : ٣٣٣ / ج ٣.

(٤) الارشاد للشيخ المفيد ٢ : ٣٨٦.

١٤٠