الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

علم الأصول ، فلو رأيت أنّ الجنب يمسّ آية الكرسي ، فقلت له ، لا يمسّنّ آيات القرآن محدث ، يكون دليلا على أنّ الجنب يحرم عليه مسّ القرآن على الإطلاق.

وأمّا منزلة هارون من موسى ، فيكفي في بيانها قوله سبحانه ـ حكاية عن موسى ـ : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (١) فجاء الجواب :

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٢).

إنّ من تتبّع سيرة النبي يجده يصوّر عليّا وهارون كالفرقدين في السماء ، والعينين في الوجه ، لا يمتاز أحدهما في أمّته عن الآخر في أمته بشيء ما ، ومن ذلك :

أ ـ إنّ النبي سمّى أبناء علي كأسماء أبناء هارون ، فسمّاهم حسنا وحسينا ومحسنا ، وقال : إنّما سمّيتهم بأسماء ولد هارون : «شبّر ، وشبير ، ومشبر» (٣).

ب ـ إنّ النبي اتّخذ عليّا أخاه ، وآثره بذلك على من سواه ، تحقيقا لعموم الشّبه بين منازل الهارونيّين من أخويهما ، وحرصا على أن لا يكون ثمة من فارق بينهما. وقد آخى بين أصحابه ، فجاء عليّ عليه‌السلام وقال : آخيت بين أصحابك ، ولم تؤاخ بيني وبين أحد؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت أخي في الدنيا والآخرة (٤).

ج ـ أمر بسد أبواب الصحابة من المسجد ، تنزيها له عن الجنب والجنابة ، لكنه أبقى باب علي عليه‌السلام ، وأباح له عن الله تعالى ، أن يدخل المسجد جنبا ، كما كان هذا مباحا لهارون ، فدلّل ذلك على عموم المشابهة بين الهارونيّين

__________________

(١) لاحظ سورة طه : الآيات ٢٩ ـ ٣٢ وقوله : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) يدل على اشتراك هارون مع موسى في النبوة كما يدل عليه قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (سورة مريم : الآية ٥٣) ، ولأجل ذلك استثناها النبي من منزلة هارون من موسى.

(٢) سورة طه : الآية ٣٦.

(٣) مستدرك الحاكم ، ج ٣ ، ص ١٦٥ و ١٦٨.

(٤) سنن الترمذي ، ج ٥ ، ص ٦٣٦ ، الحديث ٣٧٢٠. ومستدرك الحاكم ، ج ٣ ، ص ١٤.

٨١

عليهما‌السلام ، كما قال ابن عباس : «وسدّ رسول الله أبواب المسجد غير باب علي ، فكان يدخل المسجد جنبا ، وهو طريقه ليس له طريق غيره» (١).

* * *

ج ـ حديث «الغدير»

حديث الغدير ، حديث الولاية الكبرى ، حديث إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الرب تعالى. وهو حديث نزل به كتاب الله المبين ، وتواترت به السنّة النبوية ، وتواصلت حلقات أسانيده منذ عهد الصحابة والتابعين إلى اليوم الحاضر ، وقد صبّ شعراء الإسلام واقعة الغدير ، في قوالب الشعر ، وهو من أحسن ما أثار قرائحهم الشعرية وإليك فيما يلي حاصل تلك الواقعة ، وخطبة النبي الأكرم فيها :

أجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الخروج إلى الحج في السنة العاشرة من الهجرة ، وأذّن في الناس بذلك ، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به حجته ، تلك الحجة التي سميت بحجة الوداع ، وحجة الإسلام ، وحجة البلاغ ، وحجة الكمال ، وحجة التمام (٢) ، ولم يحج غيرها منذ هاجر إلى أن توفّاه الله سبحانه. واشترك معه جموع لا يعلم عددها إلّا الله ، وأقلّ ما قيل إنّه خرج معه تسعون ألفا ، وأمّا الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك ، كالمقيمين بمكة ، والذين أتوا من اليمن. فلما قضى مناسكه وانصرف ، راجعا إلى المدينة ، ومعه من كان من الجموع المذكورات ، ووصل إلى غدير «خم» من الجحفة ، التي تتشعب فيها

__________________

(١) حديث «سدّ الأبواب كلّها إلّا باب علي» ، من الأحاديث المتضافرة المنقولة عن لفيف من الصحابة ، منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب ، لاحظ مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٢٦. ومنهم أبوه عمر بن الخطاب ، لاحظ مستدرك الحاكم ، ج ٣ ، ص ١٢٥. ومن أراد التبسّط في أسانيده فعليه بالغدير ، ج ٣ ، ص ٢٠٢ ـ ٢١٥. والمراجعات ، المراجعة ٣٤.

(٢) تسميتها بالبلاغ وبالتمام والكمال ، لنزول قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). وقوله سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) سورة المائدة : الآيتان ٦٧ و ٣ في ذلك الحج.

٨٢

طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، وذلك يوم الخميس ، الثامن عشر من ذي الحجة ، نزل جبرئيل الأمين عن الله تعالى بقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (١) ، وكان أوائل القوم قريبين من الجحفة ، فأمر رسول الله أن يرد من تقدم منهم ، ويحبس من تأخّر عنهم ، حتى إذا أخذ القوم منازلهم ، نودي بالصلاة ، صلاة الظهر ، فصلّى بالناس ، وكان يوما حارا ، يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء ، فلما انصرف من صلاته ، قام خطيبا وسط القوم على أقتاب الإبل ، وأسمع الجميع رافعا عقيرته ، فقال :

«الحمد لله ، ونستعينه ، ونؤمن به ، ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن أضلّ ولا مضلّ لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، أمّا بعد :

أيّها الناس ، إنّي أوشك أن ادعى فأجبت ، وإنّي مسئول وأنتم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون»؟.

قالوا : «نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت ، وجهدت ، فجزاك الله خيرا».

قال : «ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ ، وناره حقّ ، وأنّ الموت حق ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور»؟.

قالوا : «بلى نشهد بذلك».

قال : «اللهم اشهد». ثم قال : «أيّها الناس ، ألا تسمعون؟».

قالوا : «نعم».

قال : فإنّي فرط على الحوض (٢) ، فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين».

فنادى مناد : «وما الثّقلان يا رسول الله؟».

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٦٧.

(٢) أي متقدّمكم إليه.

٨٣

قال : «الثّقل الأكبر ، كتاب الله ، والآخر الأصغر ، عترتي ، وإنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا».

ثم أخذ بيد علي فرفعها ، حتى رؤي بياض آباطهما ، وعرفه القوم أجمعون ، فقال : «أيّها الناس ، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟».

قالوا : «الله ورسوله أعلم».

قال : «إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم.

فمن كنت مولاه ، فعليّ مولاه ـ يقولها ثلاث مرات ـ ثم قال : اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».

ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الآية ، فقال رسول الله : «الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي ، والولاية لعلي من بعدي».

ثم أخذ الناس يهنئون عليّا ، وممّن هنّأه في مقدم الصحابة الشيخان أبو بكر وعمر ، كل يقول : بخ بخ ، لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ، ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وقال حسان ، ائذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتا ، فقال : قل على بركة الله ، فقام حسانا ، فقال :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ واسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم ونبيّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التّعاميا

إلهك مولانا وأنت نبيّنا

ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

٨٤

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعى اللهمّ وال وليّه

وكن للذي عادى عليّا معاديا

فلمّا سمع النبي أبياته قال : «لا تزال يا حسّان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك» (١).

هذا مجمل الحديث ، في واقعة الغدير ، وقد أصفقت الأمّة على نقله ، فلا نجد حديثا يبلغ درجته في التواتر والتضافر ، ولا في الاهتمام نظما ونثرا.

والاحتجاج به على إمامة عليّ عليه‌السلام يتحقق ببيان الأمور التالية :

الأمر الأول : البلاغ الرسمي للولاية

إنّ النبي الأكرم أشاد بولاية علي ووصايته ، في حديث يوم الدار ، في مجتمع محدود ، لا يربو عددهم الأربعين. كما أشاد بخلافته عند توجّهه إلى تبوك ، أمام جماعة من الصحابة والمهاجرين ، وكان هذا وذاك ، وغيرهما ممّا صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في ظروف مختلفة ، حول ولاية الإمام ، تهيئة للأذهان ، للإعلان الرسمي لهذه الولاية أمام الجموع الهائلة ، ليقف عليها القريب والبعيد ، والحاضر والبادي ، فقام بإبلاغ ذلك في ذلك المحتشد العظيم ، وأخذ منهم الإقرار والاعتراف ، وهنّأ الصحابة عليّا عليه‌السلام ، بهذه المكرمة الإلهية ، فكان هذا إعلانا رسميا ، للأمّة جمعاء ، لا يصحّ لأحد إنكاره ، والتغاضي عنه. وسيوافيك دلالة الحديث بوجه واضح لا يدع لقائل كلمة ، ولا لمجادل شبهة.

* * *

__________________

(١) هذا من أعلام النبوة ، فقد علم أنّه سوف ينحرف عن إمام الهدى في أخريات أيّامه ، فعلّق دعاءه على ظرف استمراره في نصرته. وقد نقل هذه الأبيات عن حسان بن ثابت عدّة من أعلام المؤرخين والمحدّثين ، وإن حذف من ديوانه ، فحرّفت الكلم عن مواضعها ، ولعب بديوانه كما لعب بكثير من الدواوين ، كديوان الفرزدق ، وديوان كميت ، وديوان أبي فراس ، وديوان كشاجم ، التي حذفت منها ما يرجع إلى مدح أهل البيت ورثائهم.

لاحظ الغدير ، ج ٢ ، ص ٣٤ ـ ٤٢.

٨٥

الأمر الثاني : سند الحديث وتواتره

إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة من عصر الرسول الأكرم إلى يومنا هذا ، يقف عليه من سبر كتب الحديث والتاريخ والسّير والكلام والتفسير وغيرها. وما ربما يصدر من كلمات حول الحديث من أنّه من أحاديث الآحاد ، فهو كلام صدر من المغرضين ورماة القول على عواهنه ، من غير تدبّر وتثبت.

إنّ كتب الإمامية في الحديث وغيره ، مفعمة بإثبات قصة الغدير والاحتجاج بمؤداها. فمن مسانيد معنعنة إلى منبثق أنوار النبوة ، إلى مراسيل أرسلها المؤلفون إرسال المسلّم ، وحذفوا أسانيدها لتسالم الفريقين.

وأمّا المحدثون وغيرهم من أهل السنّة فلا يتأخرون عن الإمامية في نقل الحديث والبخوع لصحته ، والركون إليه ، والتصحيح له ، والإذعان بتواتره إلّا شذّاذ تنكبوا عن الطريقة ، وقد ألّف غير واحد من علماء الإسلام كتبا مستقلة ، فلم يقنعهم إخراجه بأسانيد مبثوثة في الكتب ، فدوّنوا ما انتهى إليهم من أسانيده ، وضبطوا ما صحّ لديهم من طرقه ، كل ذلك حرصا على كلاءة متنه من الدثور ، وعن تطرق يد التحريف إليه ، منهم أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، صاحب التاريخ والتفسير المعروفين (ت ٢٢٤ ـ م ٣١٠) ، وأبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني المعروف بابن عقدة (م ٣٣٣) ، وأبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سالم التميمي البغدادي (م ٣٥٥) وغيرهم (١).

ولأجل إيقاف القارئ على اهتمام الصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين ، والعلماء ، والأدباء ، والفقهاء ، بنقل الحديث وضبط أسانيده ، نذكر عدد رواته في كل قرن على وجه الإجمال ونحيل التفصيل إلى الكتب المعدّة لذلك.

١ ـ روى الحديث من الصحابة ١١٠ صحابيا ، وطبع الحال يستدعي أن يكون رواته أضعاف المذكورين ، لأنّ السامعين الوعاة له كانوا مائة ألف ، أو يزيدون.

__________________

(١) ذكر شيخنا الحجة العلامة الأميني ، أسماء المؤلفين وخصوصيات كتبهم ، في الجزء الأول ، من غديره ، ص ١٥٢ ـ ١٥٧.

٨٦

٢ ـ رواه من التابعين ٨٤ تابعيا.

وأما عدّة الرواة من العلماء والمحدثين فنذكرها على ترتيب القرون.

٣ ـ عدد من رواه في القرن الثاني :

٥٦ عالما ومحدّثا.

٤ ـ عدد من رواه في القرن الثالث :

٩٢ عالما ومحدّثا.

٥ ـ عدد من رواه في القرن الرابع :

٤٣ عالما ومحدّثا.

٦ ـ عدد من رواه في القرن الخامس :

٢٤ عالما ومحدّثا.

٧ ـ عدد من رواه في القرن السادس :

٢٠ عالما ومحدّثا.

٨ ـ عدد من رواه في القرن السابع :

٢٠ عالما ومحدّثا.

٩ ـ عدد من رواه في القرن الثامن :

١٩ عالما ومحدّثا.

١٠ ـ عدد من رواه في القرن التاسع :

١٦ عالما ومحدّثا.

١١ ـ عدد من رواه في القرن العاشر :

١٤ عالما ومحدّثا.

١٢ ـ عدد من رواه في القرن الحادي عشر :

١٢ عالما ومحدّثا.

١٣ ـ عدد من رواه في القرن الثاني عشر :

١٣ عالما ومحدّثا.

١٤ ـ عدد من رواه في القرن الثالث عشر :

١٢ عالما ومحدّثا.

١٥ ـ عدد من رواه في القرن الرابع عشر :

١٩ عالما ومحدّثا.

وقد أغنانا المؤلفون في الغدير عن إراءة مصادره ومراجعه ، وكفاك في ذلك كتب لمة كبيرة من أعلام الطائفة :

منهم العلّامة السيد هاشم البحراني (م ١١٠٧) مؤلف غاية المرام.

ومنهم السيد مير حامد حسين الهندي اللكهنوئي (م ١٣٠٦) ، ذكر حديث الغدير ، وطرقه ، وتواتره ، ومفاده في مجلدين ضخمين في ألف وثمان مائة صحيفة ، وهما من مجلدات كتابه الكبير «العبقات» ، فقد أتمّ الله به الحجة ، وأوضح المحجة ، وكتابه العبقات كتاب جليل ، فاح أريجه بين لابتي العالم ، وطبق حديثه المشرق والمغرب.

ومنهم العلامة المتتبع المحقق الفذّ الشيخ عبد الحسين النجفي (ت ١٣٢٠ ـ م ١٣٩٠) في كتابه الفريد «الغدير» ، وبعين الله ، إنّ كتابه هذا هو المعجز

٨٧

المبين ، ومن حسنات الدهر الخالدة ، جزاه الله خير الجزاء (١).

* * *

الأمر الثالث ـ دلالة الحديث

إنّ دلالة الحديث على إمامة مولانا أمير المؤمنين ، دلالة واضحة ، لم يشك فيها أي عربي صميم ، عصر نزول الحديث وبعده إلى قرون ، ولم يفهموا من لفظة المولى سوى معنى الإمامة ، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء إلى أن ولّد الدهر إمام المشككين ، فجاء بتشكيكات ، كسائر تشكيكاته ، التي تاب منها عند احتضاره (٢).

والدلالة مركزة على أن لفظ المولى نصّ فيما نثبته من الإمامة بالوضع اللغوي ، أو بالقرائن المحتفة به. وعلى كلا التقديرين ، يكون الحديث حجة قاطعة في الإمامة ، ونحن نسلك كلا الطريقين.

الطريق الأول ـ الدلالة بالوضع اللغوي

إنّ «مفعل» ـ هنا ـ بمعنى «أفعل» ، ولفظ «مولى» أريد منه هنا الأولى ، سواء أقلنا إنّه المعنى الوحيد ـ كما سيوافيك ـ أو أحد معانيه ، كما في قوله سبحانه : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٣).

والمفسّرون للآية على فريقين منهم من حصر التفسير بأنّها أولى بكم ، ومنهم

__________________

(١) ومن أراد التبسط فعليه الرجوع إلى ما ذكرنا من المصادر ، وإلى كتاب «المراجعات» لمصلح الدين ، السيد شرف الدين العاملي رحمه‌الله.

(٢) لاحظ دائرة المعارف ، لفريد وجدي ، ج ٤ ، ص ١٤٩ ، وفيها أنّه قال : «وأمّا ما استكثرت من إيراد السؤالات ، فإنّي ما أردت إلّا تكثير البحث وتشحيذ الخاطر ، والاعتماد في الكلّ على الله تعالى».

(٣) سورة الحديد : الآية ١٥.

٨٨

من جعله أحد المعاني ، وهؤلاء أئمة العربية ، عرفوا أنّ هذا المعنى من معاني اللفظ اللغوية ، ولولاه لما صحّ لهم تفسيره به ، يقول الخازن : «هي مولاكم ، أي وليّكم ، وقيل أولى بكم ، لما أسلفتم من الذنوب ، والمعنى : هي التي تلي عليكم ، لأنّها ملكت أمركم وأسلمتم إليها ، فهي أولى بكم من كل شيء» (١). وقد نقل كون المولى بمعنى الأولى ، الرازي في تفسيره عن الكلبي النسّابة (م ١٤٦) والفرّاء (م ٢٠٧) (٢) وأبو عبيدة معمّر بن المثنى البصري (م ٢١٠) ، والأخفش الأوسط (م ٢١٨) (٣) ، ونهاية العقول (٤).

واستشهد أبو عبيدة ببيت لبيد :

فقدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها

حتى أنّ البخاري ، صاحب الصحيح ، في قسم التفسير منه ، فسّره ب «أولى»(٥).

نعم هنا شبهة ذكرها الرازي في تفسيره ، حسب أنّها تصادم دلالة الحديث على الولاية الكبرى للإمام عليّ عليه‌السلام ، فقال في تفسير قوله سبحانه : (هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) : «لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة ، لصحّ استعمال كلّ واحد منهما في مكان الآخر ، فيجب أن يقال : هذا مولى من فلان ، ولمّا بطل ذلك ، علمنا أنّ الذي قالوه معنى ، وليس بتفسير».

وقال في نهاية العقول : «لو كان المولى يجيء بمعنى الأولى ، لصحّ أن يقرن بأحدهما ، كلّما يصحّ قرنه بالآخر ، لكنه ليس كذلك ، فامتنع كون المولى بمعنى الأولى ، مع أنّه لا يقال : هو مولى من فلان ، ولا يصحّ أن يقال : «هو أولى» بدون من».

__________________

(١) تفسير الخازن ، نقلا عن الغدير ، ج ١ ، ص ٣٤١.

(٢) معاني القرآن ، للفراء ، ج ٣ ، ص ١٣٤.

(٣) لاحظ جميع ذلك في تفسير الرازي ، ج ٨ ، ص ٩٣.

(٤) نهاية العقول ، للرازي ، أيضا.

(٥) صحيح البخاري ، ج ٧ ، ص ٢٤٠.

٨٩

يلاحظ عليه : قد فات الرازي أنّ اتّحاد المعنى أو الترادف بين الألفاظ ، إنّما يقع في جوهريات المعاني لا عوارضها الحادثة من أنحاء التركيب ، وتصاريف الألفاظ ، وصيغها. مثلا : الاختلاف الحاصل بين المولى والأولى ، بلزوم مصاحبة الثاني بالباء (أولى به) ، وتجرّد الأول منه ، إنّما حصل من ناحية صيغة افعل من هذه المادة ، كما أنّ مصاحبة «من» ، هي مقتضى تلك الصيغة مطلقا ، إذن مفاد «فلان أولى بفلان» ، و «فلان مولى فلان» ، واحد ، حيث يراد به «الأولى به من غيره» ، ويشهد لذلك أنّ «افعل» بنفسه ، يستعمل مضافا إلى المثنّى والجمع ، أو ضمير هما بغير أداة ، فيقال : زيد أفضل الرجلين ، أو أفضلهما ، وأفضل القوم وأفضلهم ، ولا يستعمل كذلك إذا كان ما بعده مفردا ، فلا يقال : زيد أفضل عمرو ، وإنّما يقال هو أفضل منه ، ولا يرتاب عاقل في اتّحاد المعنى في الجميع.

قال الأزهري في باب التفضيل : «إنّ صحة وقوع المرادف موقع مرادفه ، إنّما يكون إذا لم يمنع من ذلك مانع ، وهاهنا منع مانع ، وهو الاستعمال ، فإنّ اسم التفضيل ، لا يصاحب من حروف الجر إلّا «من» خاصة ، وقد تحذف مع مجرورها للعلم بها نحو : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١)». (٢)

ثمّ إنّ الرازي اختار أنّ المولى في الحديث بمعنى «الناصر» ، مع أنّ ما أورده على القول بأنّه بمعنى «الأولى» ، وارد عليه ، فلا يقال في اللغة العربية ، «هو مولى دين الله» ، مكان «ناصر» ، ولا يصحّ تبديل قوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٣). إلى «من مواليّ إلى الله» ، أو تبديل قول الحواريين : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) (٤) إلى «نحن موالي الله».

هذه الحالة مطّردة في كثير من المترادفات التي جمعها الرّماني (م ٣٨٤) في تأليف مفرد ، مع أنّ اختلاف الكيفية حاكم عليها أيضا ، مثلا يقال : عندي

__________________

(١) سورة الأعلى : الآية ١٧.

(٢) التصريح ، لخالد بن عبد الله الأزهري ، باب أفعل التفضيل.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٥٢.

(٤) الآية السابقة نفسها.

٩٠

درهم غير جيد ، ولا يصحّ أن يقال : عندي درهم إلّا جيد ، كما هو السائد في كلمة «هل» و «همزة الاستفهام» ، فإنّهما بمعنى واحد ، ولكن يفترقان بفروق ثلاثة ، أو خمسة ، أو ستة.

ولما كان الإشكال ضئيلا ، قال النيسابوري ، في تفسيره ـ بعد نقل كلام الرازي ، إلى قوله : وحينئذ يسقط الاستدلال به ـ : «قلت : وفي هذا الإسقاط بحث لا يخفى»(١).

ولما وقف التفتازاني على تمامية دلالة الحديث على الإمامة ، حاول رمي الحديث بعدم التواتر ، قال ـ في دلالة الحديث ـ : ««المولى» قد يراد به المعتق ، والمعتق ، والحليف ، والجار ، وابن العم ، والناصر ، والأولى بالتصرف ، قال الله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) ، أي أولى بكم ، ذكره أبو عبيدة ، وقال النبي : «أيّما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن مولاها» ، أي الأولى بها ، والمالك لتدبير أمرها ، ومثله في الشعر كثير. وبالجملة استعمال المولى بمعنى المتولي ، والمالك للأمر ، والأولى بالتصرف ، شائع في كلام العرب ، منقول عن كثير من أئمة اللغة ، والمراد أنّه اسم لهذا المعنى ، لا صفة بمنزلة الأولى ليعترض بأنّه ليس من صيغة اسم التفضيل ، وأنّه لا يستعمل استعماله ، وينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى ، ليطابق صدر الحديث ، ولأنّه لا وجه للخمسة الأول ، وهو ظاهر ، ولا للسادس لظهوره ، وعدم احتياجه إلى البيان وجمع الناس لأجله». إلى أن قال : «ولا خفاء في أنّ الولاية بالناس ، والتولّي ، والمالكية لتدبير أمرهم ، والتصرّف فيهم ، بمنزلة النبي ، وهو معنى الإمامة» (٢).

هذا من غير فرق بين تفسير مفعل ب أفعل ، أي المولى بمعنى أولى ، أو تفسيره بفعيل ، أي الولي ، وقد نصّ على ذلك أئمة العربية منهم الفراء في تفسيره ، وأبو العباس المبرّد ، قالا : «الولي والمولى ، بمعنى في لغة العرب واحد» (٣).

__________________

(١) تفسير النيسابوري ، تفسير سورة الحديد.

(٢) شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٢٩٠.

(٣) لاحظ معاني القرآن للفراء ، ج ٣ ، ص ١٢٤ ، والغدير ج ١ ، ص ٣٦١.

٩١

قال في الصحاح : والولي كل من ولي أمر واحد ، فهو وليّه ، وقول الشاعر :

هم المولى وإن جنفوا علينا

وإنّا من لقائهم لزور (١)

وقال في النهاية : «وكلّ من ولي أمرا أو قام به فهو مولاه ووليه» (٢).

وقال الفيروزآبادي ، في قاموسه : «المولى : المالك ، والعبد ، والمعتق ، والولي ، والربّ» (٣).

واستشهد الزبيدي في تاج العروس ، على كون مولى بمعنى ولي ، بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أيّما امرأة أنكحت بغير إذن مولاها ...» (٤).

ليس للمولى إلّا معنى واحد

إنّ السابر في كتب اللغة يرى أنّهم يذكرون في تفسير «المولى» أمورا ، يبدو أنّها معان مختلفة له ، مثلا يقول صاحب القاموس : «المولى : المالك ، والعبد ، والمعتق ، والمعتق ، والصاحب ، والقريب كابن العم ونحوه ، والجار ، والحليف ، والابن ، والعمّ ، والنّزيل ، والشّريك ، وابن الأخت ، والوليّ ، والربّ ، والناصر ، والمنعم ، والمنعم عليه ، والمحبّ ، والتابع ، والصّهر» (٥).

والحق أنّه ليس للمولى إلّا معنى واحد وهو الأولى بالشيء ، وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في كل مورد من موارده ، والاشتراك معنوي ، وهو الأولى من الاشتراك اللفظي المستدعي لألفاظ كثيرة غير معلومة بنصّ ثابت ، والمنفية بالأصل المحكّم ، وهذه النظرية أبدعها ابن البطريق الحلّي (ت ٥٣٣ ـ

__________________

(١) الصحاح ، ج ٦ ، مادة «ولى» ، ص ٢٥٢٩.

(٢) النهاية لابن الأثير ، ج ٥ ، ص ٢٢٨.

(٣) القاموس المحيط ، مادة «ولى» ، ج ٤ ، ص ٤٠١.

(٤) تاج العروس ، ج ١٠ ، ص ٣٩٩.

(٥) القاموس ، ج ٤ ، ص ٤٠١.

٩٢

م ٦٠٠) (١).

وهذا المعنى الواحد ، وهو الأولى بالشيء جامع لهاتيك المعاني جمعاء ، ومأخوذ في كلّ منها بنوع من العناية ، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلّا بمناسبة لهذا المعنى :

١ ـ فالمالك أولى بكلاءة مماليكه ، وأمرهم ، والتصرف فيهم.

٢ ـ والعبد أولى بالانقياد لمولاه من غيره.

٣ ـ والمعتق (بالكسر) أولى بالتفضيل على من أعتقه من غيره.

٤ ـ والمعتق (بالفتح) أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه ويشكره.

٥ ـ والصاحب ، أولى بأن يؤدّي حقوق الصحبة من غيره.

٦ ـ والقريب ، هو أولى بأمر القريبين منه ، والدفاع عنهم ، والسعي وراء صالحهم.

٧ ـ والجار ، أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار كلّها من البعداء.

٨ ـ والحليف ، أولى بالنهوض بحفظ من حالفه ، ودفع عادية الجور عنه.

٩ ـ والابن أولى الناس بالطاعة لأبيه والخضوع له.

١٠ ـ والعمّ ، أولى بكلاءة ابن أخيه ، والحنان عليه ، وهو القائم مقام والده.

١١ ـ والنّزيل ، أولى بتقدير من آوى إليهم ولجأ إلى ساحتهم ، وأمن في جوارهم.

١٢ ـ والشريك أولى برعاية حقوق الشركة وحفظ صاحبه عن الإضرار.

١٣ ـ وابن الأخت ، أولى الناس بالخضوع لخاله الذي هو شقيق أمه.

١٤ ـ والولي ، أولى بأن يراعي مصالح المولّى عليه.

١٥ ـ والناصر ، أولى بالدفاع عمّن التزم بنصرته.

١٦ ـ والربّ ، أولى بخلقه من أي قاهر عليهم.

__________________

(١) عمدة عيون صحاح الأخبار ، لابن البطريق ، ص ١١٤ ـ ١١٥.

٩٣

١٧ ـ والمنعم (بالكسر) أولى بالفضل على من أنعم عليه ، وأن يتبع الحسنة بالحسنة.

١٨ ـ والمنعم عليه ، أولى بشكر منعمه من غيره.

١٩ ـ والمحب ، أولى بالدفاع عمّن أحبّه ٢٠ ـ والتابع ، أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه.

٢١ ـ والصهر ، أولى بأن يرعى حقوق من صاهره ، فشدّ بهم أزره ، وقوي أمره.

إلى غير ذلك من المعاني التي هي أشبه بموارد الاستعمال. والأولوية مأخوذة فيها بنوع من العناية.

إلى هنا قد ظهر أنّ المولى في الحديث الشريف بمعنى الأولى ، أو بمعنى الولي ، وأنّ ما ذكر للمولى من المعاني المختلفة ، فليس من قبيل المعاني المختلفة ، حتى يحتاج تفسير المولى بالأولى إلى قرينة معيّنة ، بل من قبيل المصاديق.

هذا كلّه في الطريق الأول.

الطريق الثاني ـ الدلالة بالقرائن

إنّ القرائن الحافة بالحديث تدلّ على أنّ المراد من المولى هو الأولى أو الولي ، وهي على قسمين : قرائن حالية وقرائن مقالية :

والمراد من الأولى ، ما احتف به الكلام الصادر من النبي الأكرم ، من ظروف زمانية ومكانية. والمراد من الثانية ما يتصل بالكلام نفسه من الجمل والعبارات.

أمّا القرائن الحالية ، فبيانها بكلمة جامعة أنا لو فرضنا أنّ لفظ المولى مشترك بين المعاني التي تلوناها عليك ، إلّا أنّه لا يمكن إرادة غيره في المقام ، إمّا لاستلزامه الكفر ، كما إذا أريد منه الرب.

أو الكذب ، كما إذا أريد منه العم ، والابن ، وابن الأخت ، والمعتق ،

٩٤

والمعتق ، والعبد ، والمالك ، والتابع ، والمنعم عليه ، والشّريك ، والحليف ، وهو واضح لمن تدبر فيه.

وأمّا الصاحب ، والجار ، والنزيل ، والصّهر ، والقريب ، فلا يمكن إرادة شيء من هذه المعاني ، لسخافته ، لا سيما في هذا المحتشد الرهيب ، وفي أثناء المسير ، ورمضاء الهجير ، وقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بحبس المتقدم في السير ، ومنع التالي منه ، في محلّ ليس صالحا للنزول ، غير أنّ الوحي الإلهي ، حبسه هناك ، فيكون صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عقد هذا المحتفل ، والناس قد أنهكتهم وعثاء السفر ، وحرّ الهجير ، وحراجة الموقف ، حتى أنّ أحدهم ليضع طرفا من ردائه تحت قدميه ، وطرفا فوق رأسه ، فيرقى هنالك منبر الأهداج ، ويعلمهم عن الله تعالى بأنّه من كان هو صلى‌الله‌عليه‌وآله مصاحبا أو جارا أو نزيلا عنده ، أو صهرا أو قريبا له ، فعليّ كذلك!!.

وأمّا المنعم ، فلا ملازمة بين أن يكون كلّ من أنعم عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعليّ منعم عليه.

وأمّا الناصر والمحب ، فسواء كان كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إخبارا أو إنشاء ، فاحتمالان ساقطان ، إذ ليسا بأمر مجهول عندهم ، لم يسبقه التبليغ حتى يأمر به في تلك الساعة ، ويحبس له الجماهير ، ويعقد له ذلك المنتدى الرهيب ، في موقف حرج ، لا قرار فيه.

فلم يبق من المعاني إلّا الولي ، والأولى به ، والمراد منه المتصرف في الأمر ومتوليه. ذكر الرازي في تفسير قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ) (١) ، قال : قال القفال : «هو مولاكم ، سيّدكم والمتصرّف فيكم» (٢).

فتعين أنّ المراد بالمولى : المتصرّف ، الذي قيّضه الله سبحانه لان يتّبع ، ويكون إماما ، فيهدي البشر إلى سنن النجاة ، فهو أولى من غيره بأنحاء التصرف

__________________

(١) سورة الحج : الآية ٧٨.

(٢) تفسير الرازي ، ج ٦ ، ص ٢١.

٩٥

في المجتمع الإنساني ، فليس هو إلا نبي مبعوث أو إمام مفترض الطاعة منصوص به من قبله تعالى ، بأمر إلهي ، لا يبارحه في أقواله وأفعاله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).

وأمّا القرائن المقالية : فمتعددة تثبت أيضا أنّ المولى بمعنى الأولى بالشيء أو بمعنى الولي ، إذا تنازلنا إلى أنّه أحد معانيه ، وأنّه من المشترك اللفظي ، وأمّا على القول بأنّه ليس للمولى إلّا معنى واحد ، كما أوضحناه ، فلا حاجة لذكر القرائن إلّا تأكيدا.

القرينة الأولى : صدر الحديث ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألست أولى بكم من أنفسكم» ، أو ما يؤدّي مؤدّاه من ألفاظ متقاربة ، ثم فرّع على ذلك قوله : «فمن كنت مولاه فعليّ مولاه». وقد روى هذا الصدر من حفاظ أهل السنّة ، ما يربو على أربع وستين عالما(٢).

فإنّ هذا الصدر يعيّن أنّ المراد من المولى هو الأولى ، ولا وجه للتفكيك المخل.

القرينة الثانية : ذيل الحديث ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه» ، وفي جملة من طرق الحديث قوله : وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، أو ما يؤدّي مؤدّاه ، فلو أريد منه غير الأولى بالتصرف ، فما معنى هذا التطويل ، فإنّه لا يلتئم ذكر هذا الدعاء إلّا بتنصيب علي مقاما شامخا ، يؤهله لهذا الدعاء.

القرينة الثالثة : أخذ الشهادة من الناس ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، وأنّ حجته حقّ الخ». فإنّ وقوع قوله : «من كنت مولاه» ، في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة ، يحقق كون المراد ، الإمامة ، الملازمة للأولوية على الناس.

__________________

(١) سورة النجم : الآيتان ٣ و ٤.

(٢) لاحظ نقولهم ، في كتاب الغدير ، ج ١ ، موزعين حسب قرونهم.

٩٦

القرينة الرابعة : التكبير على إكمال الدين ، حيث لم يتفرقوا بعد كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى نزل أمين وحي الله بقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (الآية) ، فقال رسول الله : «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، والولاية لعلي من بعدي ، فأي معنى يكمل به الدين ، وتتم به النعم ، ويرضى به الربّ في عداد الرسالة ، غير الإمامة التي بها تمام الرسالة ، وكمال نشرها وتوطيد دعائمها.

القرينة الخامسة : نعي النبي وفاته إلى الناس ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كأنّي دعيت فأجبت». وفي نقل : «إنّه يوشك أن ادعى» ، أو ما يقرر ذلك ، وهذا يعطي أنّ النبي قد بقيت من تبليغه مهمة ، يحذر أن يدركه الأجل قبل الإشادة بها ، وهي تعرب عن كون ما أشاد به في هذا المحتشد ، تبليغ أمر مهم ، يخاف فوته ، وليس هو إلّا الإمامة.

أضف إليه أنّه يعرب بذلك عن أنّه سوف يرحل من بين أظهرهم ، فيحصل بعده فراغ هائل ، وأنّه يسدّ بتنصيب عليّ في مقام الولاية.

القرينة السادسة : التهنئة ، جاء في ذيل الحديث ، وأخرجه الطبري في كتاب «الولاية» عن زيد بن أرقم ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : «معاشر الناس ، قولوا : أعطيناك على ذلك عهدا عن أنفسنا ، وميثاقا بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهالينا ، لا نبغي بذلك بدلا ، وأنت شهيد علينا ، وكفى بالله شهيدا ، قولوا ما قلت لكم ، وسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين ، وقولوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، فإنّ الله يعلم كلّ صوت ، وخائنة كل نفس ، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) قولوا ما يرضي الله عنكم ، فإن تكفروا ، فإنّ الله غنيّ عنكم».

القرينة السابعة : الأمر بإبلاغ الغائبين : وقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر خطبته بأن يبلّغ الشاهد الغائب ، فما معنى هذا التأكيد ، إذا لم يكن هناك مهمة لم تتح الفرص لتبليغها على نطاق واسع ، ولا عرفته جماهير المسلمين ، وما هي إلّا الإمامة.

٩٧

وغير ذلك من القرائن التي استقصاها شيخنا المتتبع في غديره (١).

حديث الغدير ورجالات الأدب

شاء المولى سبحانه أن يبقى حديث الغدير على مرّ العصور والأيام ، حجة على المسلمين في التعرّف على مستقرّ الولاية الكبرى بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقيّض المولى سبحانه ، رجالات الأدب ، وأساتذة الشعر ، فنظموا تلك المأثرة النبوية الخالدة ، وصبّوها في قوالب أشعارهم ، وقرائضهم ، فترى أنّهم ـ وهم أساتذة اللغة وبواقع الأدب ـ يعبّرون عنه بكلمات صريحة في الإمامة ، أو الخلافة. وقبل كل شاهد نذكر بيت الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال :

وأوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غدير خمّ

ثم بعده حسان بن ثابت ، الذي حضر مشهد الغدير ، وقد تقدّم ذكر أبياته.

ومنهم قيس بن سعد بن عبادة ، الصحابي العظيم ، يقول :

وعليّ إمامنا وإمام

لسوانا أتى به التنزيل

يوم قال النبيّ من كنت مولاه

فهذا مولاه خطب جليل

ومنهم داهية العرب ، في قصيدته المعروفة ب «الجلجلية» ، يقول فيها معترضا على معاوية :

وكم قد سمعنا من المصطفى

وصايا مخصصة في علي

وفي يوم خمّ رقى منبرا

وبلّغ والصحب لم ترحل

فامنحه إمرة المؤمنين

من الله مستخلف المنحل

وغيرهم من الشعراء الذين يحتجّ بقولهم في الأدب واللغة ، ككميت بن زيد الأسدي المتوفي عام ١٢٦ ، والعبدي الكوفي من شعراء القرن الثاني ، وشيخ

__________________

(١) لاحظ الغدير ، ج ١ ، ص ٣٧٠ ـ ٣٨٣.

٩٨

العربية أبي تمّام ، وغيرهم ممّن يطول بذكرهم المقام (١).

إلى هنا تمّ الكلام حول الحديث متنا وسندا ، وهو يعرب عن حقيقة ناصعة من أجلى الحقائق الدينية ، وهي ثبوت الولاية لعلي بعد النبي ، ولا يرتاب فيها إلّا مغرض لا يرتاد الحقيقة ، أو غافل عن مصادر الحديث (٢).

ثم إنّ هاهنا سؤالين مهمّين ، ربما يدفع البعض بهما حديث الغدير ودلالته ، لا بدّ من ذكرهما ، والإجابة عنهما :

* * *

السؤال الأول : لما ذا أعرض الصحابة عن مدلول حديث الغدير؟

إنّ هاهنا اعتراضا على تواتر حديث الغدير ، أو دلالته على تنصيب عليّ في مقام الولاية والخلافة ، بأنّه لو كان الأمر كذلك ، فلما ذا لم يأخذه الصحابة مقياسا بعد النبي. وليس من الصحيح إجماع الصحابة ، وجمهور الأمّة على ردّ ما بلّغه النبي في ذلك المحتشد العظيم.

والجواب :

إنّ ذلك أقوى مستمسك لمن يريد التخلص من الاعتناق بالنصّ المتواتر الجلي في المقام ، ولكنه لو رجع إلى تاريخ الصحابة ، يرى لهذه الأمور نظائر كثيرة في حياتهم السياسية ، وليكن ترك العمل بحديث الغدير من هذا القبيل. وفيما يلي نذكر نماذج من هذا الاجتهاد المرفوض قبال النصّ.

١ ـ رزية يوم الخميس

كلّ من ألّم بالحديث والتاريخ ، يعرف حديث «رزية يوم الخميس» ،

__________________

(١) من أراد الوقوف على أشعارهم ، فليرجع إلى الغدير بأجزائه.

(٢) لقد استندنا في هذا البحث الضافي إلى كتاب الغدير ، فنقدر جهود شيخنا العلامة الأميني ، المغفور له.

٩٩

الذي رواه الشيخان وغيرهما ، أخرج البخاري عن ابن عباس ، قال : لما حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي : «هلم أكتب لكم كتاب لا تضلّوا بعده أبدا» ، فقال عمر : «إنّ النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله». فاختلف أهل البيت ، فاختصموا ، منهم من يقول : قرّبوا ، يكتب لكم النبي كتابا لن تضلّوا بعده ، ومنهم يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ، قال لهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : قرموا.

قال عبد الله بن مسعود : فكان ابن عباس يقول : «إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم» (١).

٢ ـ سرية أسامة

قد اهتمّ النبي ببعث سرية أسامة بن زيد اهتماما عظيما ، فأمر أصحابه بالتهيؤ لها ، وحثّهم عليها ، ثم عبّأهم بنفسه الزكية ، إرهافا لعزائمهم ، واستنهاضا لهممهم ، فلم يبق أحدا من وجوه المهاجرين والأنصار كأبي بكر ، وعمر ، وأبي عبيدة ، وسعد ، وأمثالهم ، إلّا وقد عبّأه بالجيش ، وكان ذلك لأربع ليال بقين من صفر ، سنة إحدى عشرة للهجرة ، فلما كان يوم الثامن والعشرين من صفر ، بدأ به (صلوات الله عليه وآله) مرض الموت ، فلما أصبح يوم التاسع والعشرين ، ووجدهم مثّاقلين ، خرج إليهم فحضّهم على السير ، وعقد اللواء لأسامة بيده الشريفة ، إرهافا لعزيمتهم ثم قال : «اغز باسم الله ، وفي سبيل

__________________

(١) أخرجه البخاري ، في غير مورد ، لاحظ ج ١ ، باب كتابة العلم ، الحديث ٣ ؛ وج ٤ ، ص ٧٠ ؛ وج ٦ ، ص ١٠ ؛ من النسخة المطبوعة سنة ١٣١٤. والإمام أحمد في مسنده ج ١ ، ص ٣٥٥ ، وفيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : يوم الخميس وما يوم الخميس. ثم نظرت إلى دموعه على خدّيه تحدر كأنّها نظام اللؤلؤ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ائتوني باللوح والدواة ، أو الكتف ، أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا. فقالوا : «رسول الله يهجر»!!.

١٠٠