الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

الشورى ملزما للأمّة ، ليس لهم التخلّف عنه؟ أو يكون بمنزلة الترشيح ، حتى تعطي الأمّة رأيها فيه؟ وما هو دليل كل منهما؟.

هذه الأسئلة كلّها ، لا تجد لها جوابا في الكتاب والسنّة ولا في كتب المتكلمين ، ولو كانت مبدأ للحكم لما كان السكوت عنها سائغا ، بل لكان على عاتق التشريع الإسلامي الإجابة عليها ، وإضاءة طرقها (١).

* * *

__________________

(١) يقول طه حسين : «ولو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب (نظام الشورى) لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك وما يدعون ، دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف» (الخلافة والإمامة : ص ٢٧١).

ويقول الشيخ عبد الكريم الخطيب : «ينظر البعض إليه على أنّ تعيين الإمام بالشورى نواة صالحة لأول تجربة ، وأنّ الأيام كفيلة بأن تنميها ، وتستكمل ما يبدو فيها من نقص ، فلم تكن الأحوال التي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث.

وينظر بعض آخر إلى هذا الأسلوب بأنّه أسلوب بدائي عالج أهمّ مشكلة في الحياة ، وقد كان لهذا الأسلوب أثره في تعطيل القوى المفكرة للبحث عن أسلوب آخر من أساليب الحكم التي جربتها الأمم». (الخلافة والإمامة : ص ٢٧٢).

ومعنى ما ذكره الخطيب ، أنّ قضية الشورى كانت مجرد تجربة ، ولم تكن قانونا إسلاميا أخذ به ، وكانت في هذه القضية نقائص وعيوب ، تركت آثارا سيئة على الفكر الإسلامي.

وفي المقام شبهة ، يتشدق بها بعض المتعصبين ، نذكرها ونجيب عليها في ملحق خاص آخر الكتاب ، لاحظ الملحق رقم (١).

٦١

الأمر التاسع

هل البيعة أساس الحكم؟

البيعة مصدر بايع ، لأنّ المبايع يجعل حياته وأمواله. بالبيعة ، تحت اختيار من يبايعه ، ويتعهد المبايع (بالفتح) في المقابل ـ على أن يسعى في إصلاح حال المبايع (بالكسر) وتدبير شئونه بصورة صحيحة ، وكأنّهما يقومان بعملية تجارية ، إذ يتعهد كل واحد منهما تجاه الآخر بعمل شيء للآخر ، قال ابن خلدون : «إنّ البيعة هي العهد على الطاعة ، كأنّ البائع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أموره وأمور المسلمين ، ويطيعه فيما يكلفه ، وكانوا إذا بايعوا الأمير ، جعلوا أيديهم في يده تأكيدا ، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري.

البيعة قبل الإسلام وبعده

كانت البيعة من تقاليد العرب قبل الإسلام وسننهم ، وليس من مبتكراته ، بل أمضاها وجعلها من العقود اللازمة التي يجب العمل بها ، ويحرم نقضها. فقد بايع أهل المدينة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة الحادية عشر ، والثانية عشر من البعثة ، في العقبة ، بمنى (١) ، بايعوه على عادتهم قبل الإسلام ، حيث كانوا يبايعون زعماءهم.

__________________

(١) لاحظ سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٤٣١ و ٤٣٨.

٦٢

وأمّا بعد الهجرة ، فمرّة بايعه الصحابة في غزوة الحديبية ، وسميت بيعة الرضوان ، لقوله سبحانه : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١).

وأخرى بايعته الصحابيات في مكة المكرمة بعد فتحها ، وعنه يحكي قوله سبحانه : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ...)(٢).

إذا عرفت ذلك فلنعطف نظر الباحث إلى نكات :

الأولى ـ إنّ بيعة المسلمين للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم تعن الاعتراف بزعامة الرسول ورئاسته ، فضلا عن نصبه وتعيينه ، بل إنّ المبايعين ، بعد أن آمنوا بنبوة النبي واعترفوا بقيادته وزعامته ، أرادوا أن يصبّوا ما يلازم ذلك الإيمان ، من الالتزام بأوامر الرسول ، في قالب البيعة ، فكانت البيعة صورة عملية للالتزام النفسي بأوامر النبي ، بعد الإقرار بنبوته ، وزعامته. فكأنّ النبي الأكرم يقول : «فإن آمنتم بي فبايعوني على أن تطيعوني ، وتصلّوا وتزكّوا ، وأن تدفعوا عني العدو حتى الموت ، ولا تفروا من الحرب».

والهدف عندئذ من البيعة لم يكن هو الاعتراف بمنصب المبايع ، وانتخابه وتعيينه لمقام الحكومة والولاية ، بل كانت لأجل التأكيد العملي على الالتزام بلوازم الإيمان السابق عليه ، وهذا بارز في البيعة الثانية للأنصار في منى ، وبيعة الصحابة في غزوة الحديبية.

الثانية ـ إنّ البيعة ميثاق بين شخصين ، تندرج تحت قوله سبحانه : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (٣).

وعقد بين المبايعين ، فتندرج تحت قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) سورة الفتح : الآية ١٨.

(٢) سورة الممتحنة : الآية ١٢.

(٣) سورة الإسراء : الآية ٣٤.

٦٣

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١).

يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، من الحث على البيعة : «وأمّا حقي عليكم ، فالوفاء بالبيعة ، والنصيحة في المشهد ، والمغيب ، والإجابة حين أدعوكم ، والطاعة حين آمركم» (٢).

الثالثة ـ إنّه ليس هناك دليل شرعي على أنّ مجرّد البيعة ، بغضّ النظر عن المواصفات والضوابط الآتية ، طريق إلى تعيين الخليفة والإمام ، وإنّما يتعيّن بها ، إذا كان المبايع ، واجدا للصفات اللازمة في الإمام.

الرابعة ـ الظاهر أنّ البيعة ليست طريقا لتعيين الحاكم وانتخاب القائد ، وإنّما يتعين الحاكم بالمقاولة وتصويت الجماعة الحاضرين ، ثم يصبّ ذلك الانتخاب في قالب الحسّ بالبيعة والصفق ، وكأنّ البيعة تأكيد لما التزموا ، وتجسيد لما أضمروه أو تقاولوه. وعلى فرض كونها طريقا لتعيين الحاكم ، فهي إحدى الطرق لا الطريق الوحيد ، فلو علم رضا الأمّة بحكومة فرد وزعامة شخص عن غير طريق البيعة ، وأبرزت رضاها بطريق من الطرق ، لكفى ذلك في كونه قائدا لازم الطاعة ، لأنّه أشبه بالعقد والعهد.

الخامسة ـ إنّ التصويت الشعبي أو بيعة الجماعة الحاضرين إنّما يعدّ طريقا لتعيين الحاكم إذا لم يكن هناك نصّ من الرسول على تنصيب شخص للزعامة ، وإلّا تكون البيعة رفضا للنصّ ، واجتهادا في مقابلة.

السادسة ـ إنّ البيعة الكاملة من الصحابة الحاضرين في المدينة ، لم تتحقق في واحد من الخلفاء الأربعة ، إلّا في علي ، فقد بايعه المهاجرون والأنصار ، إلّا نفر قليل لا يتجاوز خمسة أشخاص ، هم سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وحسّان بن ثابت ، وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة ، والباقون أصفقوا

__________________

(١) سورة المائدة : الآية الأولى.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٣٤.

٦٤

على يده بالبيعة والطاعة ، وإن نكث من نكث ، ونقض من نقض ، فيما بعد ، وشقّ عصا الأمّة.

هذا وإنّ البيعة تحتاج إلى دراسة مبسوطة ، موضوعا وحكما في ضوء الكتاب والسنّة ، ومنهج الكتاب لا يقتضي التوسّع أزيد ممّا ذكرنا (١).

* * *

__________________

(١) لاحظ للتبسط : بحار الأنوار ، ج ٢ ، كتاب العلم ، الباب ٣٣. وأيضا : ج ٢٧ ، كتاب الإمامة ، الباب ٣.

٦٥

الأمر العاشر

تصوّر النبي الأكرم للقيادة بعده

إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول الأكرم ، تدلّ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعتبر أمر القيادة بعده ، مسألة إلهية ، وحقا خاصّا لله جلّ جلاله ، فالله سبحانه هو الذي له أن يعين القائد ، وينصب خليفة الرسول ، ولا نجد في كل ما نقل عن النبي ما يدلّ على إرجاء الأمر إلى تشاور الأمّة ، أو اختيار أهل الحلّ والعقد ، أو بيعة الصحابة الحاضرين ، أو غير ذلك ، ويكفي في ذلك الشاهدين التاليين :

١ ـ لما دعا الرسول الأكرم بني عامر إلى الإسلام وقد جاءوا في موسم الحج إلى مكة ، قال رئيسهم : «أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك»؟.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الأمر إلى الله ، يضعه حيث يشاء» (١).

فلو كان أمر الخلافة بيد الأمّة ، لكان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول : الأمر إلى الأمّة ، أو إلى أهل الحلّ والعقد ، أو ما يشابه ذلك. فتفويض الأمر إلى الله سبحانه ، ظاهر في كونها كالنبوة ، يضعها سبحانه حيث يشاء ، قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)(٢). فاللّسان في الموردين واحد.

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ، ج ٢ ، ص ٤٢٤.

(٢) سورة الأنعام : الآية ١٢٤.

٦٦

٢ ـ بعث النبي الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سليط بن عمرو العامري ، إلى ملك اليمامة ، «هوزة بن علي الحنفي» ، الذي كان نصرانيا ، يدعوه إلى الإسلام ، وكتب معه كتابا ، فقدم على ملك اليمامة ، فأنزله وحباه ، وكتب إلى النبي ، يقول : «ما أحسن ما تدعوا إليه ، وأجمله ، وأنا شاعر قومي وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني ، فاجعل لي بعض الأمر ، أتّبعك». فقدم سليط على النبي بكتابه ، فلما قرأ عليه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو سألني سيابة من الأرض ما فعلته. باد ، وباد ما في يده» (١). وفي نقل آخر : «أرسل هوزة إلى النبي وفدا يقول له ، إن جعل له الأمر من بعده ، أسلم ، وصار إليه ، ونصره ، وإلّا قصد حربه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ، ولا كرامة ، اللهم اكفنيه»(٢).

فلو كانت القيادة بعد النبي ، قيادة دستورية انتخابية ، وكان للشعب الإسلامي منه حظ ، لكان على النبي إجابة السائل بشكل آخر ، وهو أنّ الأمر من بعدي ، يرجع إلى أمّتي ، والمؤمنين بي ، ولكنك ترى أنّه وقف في وجهه بقسوة وشدّة كما هو ظاهر.

* * *

__________________

(١) الطبقات الكبرى ، لابن سعد ، ج ١ ، ص ٢٦٢.

(٢) الكامل في التاريخ ، لابن الأثير ، ص ١٤٦.

٦٧

الأمر الحادي عشر

تصوّر الصحابة للخلافة بعد النبي

إنّ المتتبع في تاريخ الخلفاء الذين تعاقبوا على مسند الحكومة ، يرى بوضوح أنّهم كانوا يتّبعون الطريقة الانتصابية لا الانتخابية ، بالتشاور أو البيعة ، أو غير ذلك من المفاهيم التي حدثت في أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين ، وإليك الشواهد.

١ ـ إنّ خلافة عمر تمّت بتعيين من أبي بكر ، وليس هذا خافيا على أحد. روى ابن قتيبة الدينوري ، أنّ أبا بكر دعا عثمان بن عفان ، فقال : أكتب عهدي ، فكتب عثمان :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة ، آخر عهده في الدنيا ، نازحا عنها ... إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ، فإن تروه عدل فيكم ، ظنّي به ورجائي فيه ، وإن بدّل وغيّر ، فالخير أردت ..» ثم ختم الكتاب ودفعه ، ودخل عليه المهاجرون والأنصار حين بلغهم أنّه استخلف عمر (١).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ، ج ١ ، ص ١٨. ورواه ابن سعد في طبقاته الكبرى ، ج ٣ ، ص ٢٠٠ ، وابن الأثير في تاريخه «الكامل» ، ج ٢ ، ص ٢٩٢ باختلاف يسير وقد نقل موضوع استخلاف أبي بكر لعمر ، عدّة من أعلام التاريخ والحديث ، والكل يتحد جوهرا ، وأنّ التنصيب صدر من الخليفة الأول.

٦٨

٢ ـ إنّ استخلاف عثمان تمّ عن طريق شورى عين أعضاءها عمر بن الخطاب ، يقول التاريخ : دعا عمر عليّا ، وعثمان وسعدا ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وطلحة ، فقال : «إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس ، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها ، واختاروا منكم رجلا ، فإذا متّ فتشاوروا ثلاثة أيام ، وليصلب الناس صهيبا ، ولا يأتي اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير» (١).

فلو كانت صيغة الحكومة هي انتخاب القائد عن طريق المشورة باجتماع الأمّة ، أو بالبيعة ، فما معنى انتخاب الخليفتين بهذين الطريقين؟.

٣ ـ لما اغتيل عمر بن الخطاب. وأحسّ بالموت ، أرسل ابنه عبد الله إلى عائشة ، واستأذن منها أن يدفن في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر ، فأتاها عبد الله ، فأعلمها ، فقالت : نعم ، وكرامة. ثم قالت : يا بني ، أبلغ عمر سلامي وقل له ، لا تدع أمّة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ، ولا تدعهم بعدك هملا ، فإنّي أخشى عليهم الفتنة ، فأتاه ، فأعلمه» (٢).

٤ ـ إنّ عبد الله بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته ، فقال : «إنّي سمعت الناس يقولون مقالة ، فآليت أن أقولها لك ، وزعموا أنّك غير مستخلف ، وأنّه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثم جاءك وتركها ، لرأيت أن قد ضيّع ، فرعاية الناس أشد» (٣).

٥ ـ قدم معاوية المدينة لأخذ البيعة من أهلها لابنه يزيد ، فاجتمع مع عدّة من الصحابة ، وأرسل إلى عبد الله بن عمر ، فأتاه ، وخلا به ، وكلّمه بكلام ، وقال : إنّي كرهت أن أدع أمّة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها» (٤).

هذه النصوص التي حفظها التاريخ ، صدفة ـ وكم لها من نظائر ـ تدلّ على أنّ انتخاب الخليفة عن طريق أهل الحلّ والعقد ، والأنصار والمهاجرين ، وأخيرا

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، ج ٣ ، ص ٣٥ ، أنظر باقي الواقعة.

(٢) الإمامة والسياسة ، ج ١ ، ص ٣٢.

(٣) حلية الأولياء ، ج ١ ، ص ٤٤.

(٤) الإمامة والسياسة ، ج ١ ، ص ١٦٨.

٦٩

الاستفتاء الشعبي ، لم يكن له أصل في منطق الصحابة ، وإنّما اخترعت هذه الألفاظ في فترة خاصة ، في مقابل خلافة الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

ثم إنّ هاهنا أمرا بديعا يجب إلفات نظر الباحث إليه وهو إنّه إذا كان ترك الأمّة بلا راع ، أمرا غير صحيح في منطق العقل ، أو كان ترك تعيين القائد كترك الضأن بلا راع لها ، فكيف يجوز لهؤلاء أن ينسبوا إلى النبي أنّه ترك الأمّة بلا راع ، وودعهم بعده هملا ، يخشى عليهم الفتنة. فكأنّ هؤلاء كانوا أعطف على الأمّة من النبي الأكرم ، وأحنّ على مصالحها منه؟ إنّ هذا ممّا يقضي منه العجب.

غير أنّ كلّ من كتب في الإمامة ، وواجه هذا التاريخ المسلّم ، حاول تصحيح هذه التنصيبات بأنّ تعيين القائد السابق ، الإمام اللاحق ، أحد طرق انعقاد الإمامة ، ولكن هؤلاء قد جمعوا بين المختلفين ، فتارة يعترفون بالتنصيب ، وأخرى بالانتخاب ، وبعبارة أخرى : يعترفون بكفاية رأي واحد من الأمّة تارة ، ويشترطون تصويت الشعب ، أو الصحابة ، ثانيا.

* * *

٧٠

الأمر الثاني عشر

صيغة القيادة في الشرائع السابقة

المتبع بين الأنبياء السالفين هو تسليم أمر من قاموا بهدايتهم ، إلى خلفاء صالحين لائقين ، ليتسنى لتلك الأمم في ظل الرعاية والتربية الصحيحة ، التي يتولاها الأوصياء ، أن يستمروا في طريق التكامل والرشد.

نعم ، كان كثير من الأوصياء أنبياء ، ولكن بعضا منهم كانوا أوصياء خاصين ، وهذا يعرب عن أنّ مسألة القيادة والزعامة كانت من الأهمية والخطورة ، إلى حدّ لم يترك أمرها إلى اختيار الناس ونظرهم ، بل كانت تعهد على مدى التاريخ إلى رجال أكفاء ، يعيّنون بالاسم والشخص ، لأنّ تركه يؤدّي إلى الاختلاف والفرقة والفتنة ، وكانت القيادة يتوارثها ، في الغالب أفراد من سلالة الأنبياء والرسل ، خلفا عن سلف ، وإليك بعض الآيات المشعرة بذلك.

قال سبحانه مخاطبا إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ، قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ، قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١) وليس المراد من الإمامة هنا النبوة ، كما زعمه بعض المفسّرين ، لأنّه إنّما جعله إماما بعد ما كان نبيّا ورسولا ، بشهادة أنّه يطلب هذا المقام لذرّيته ، وإنّما صار ذا ذرّية ، بعد ما كبر وهرم ، قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) (٢). وقد كان نبيّا قبل

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٤.

(٢) سورة إبراهيم : الآية ٣٩.

٧١

أن يرزق ولدا ، بشهادة نزول الملائكة عليه (١). بل المراد هو الإمامة المتمثلة في الحاكمية والقيادة ، فدعا إبراهيم أن يجعل الله تعالى هذا المقام في ذرّيته ، على النحو الذي جعله فيه (بالتنصيب) ، ولم يردّه سبحانه ، وما أنكره عليه ، بل أخبره بأنها لا تنال الظالمين منهم.

قال سبحانه ـ حاكيا عن موسى عليه‌السلام ـ : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي) (٢). فطلب موسى عليه‌السلام أن يكون أخاه هارون مساعدا ومعينا له في القيادة ، فقبله سبحانه ، وأعطاه مضافا إلى الوزارة ، النبوة. ويؤيّد ذلك تاريخ الأنبياء ، فقد كانوا ينصّون على الخلفاء من بعدهم بصورة الوصاية ، وقد ذكر المؤرخون قائمة أوصيائهم ، فراجع (٣).

هذه هي الطريقة المألوفة في الشرائع السابقة ، ولا دليل على الانحراف عنها ، ولا صارف عن الأخذ بها ، بل نجد في السنّة ما يدلّ على أنّ كل ما جرى على الأمم السابقة ، يجري على هذه الأمّة إلّا ما استثني (٤).

ويدلّ على ذلك بصراحة لا تقبل جدلا ، ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

«كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنّه لا نبي بعدي ، وسيكون بعدي خلفاء يكثرون» (٥).

وظاهر الحديث أنّ استخلاف الخلفاء في الأمّة الإسلامية ، كاستخلاف

__________________

(١) لاحظ سورة الحجر : الآيات ٥١ ـ ٦٠.

(٢) سورة طه : الآيتان ٢٩ و ٣٠.

(٣) لاحظ إثبات الوصية ، للمسعودي ، مؤلّف مروج الذهب (م ٣٤٥).

(٤) روى أحمد في مسنده ، ج ٣ ، ص ٨٤ ، عن أبي سعيد الخدري ، أنّ رسول الله (ص) قال : «لتتّبعنّ سنن الذين من قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم». ورواه غيره من أصحاب الصحاح والسنن.

(٥) جامع الأصول لابن أثير الجزري ، الفصل الثاني ، فيمن تصح إمامته وإمارته ، ص ٤٤٣ ، أخرجه البخاري ومسلم.

٧٢

الأنبياء في الأمم السالفة ، ومن المعلوم أنّ الاستخلاف كان هناك بالتنصيص ، فيجب أن يكون هنا بالتنصيص كذلك.

* * *

إذا تعرفت على هذه الأمور الاثني عشر ، فاعلم أنّ هذه المقدمات تعرب عن كون صيغة الحكومة بعد النبي هي صيغة التنصيص ، والتنصيب ، لا غير ، لا بالطرق التي تقدمت عند البحث عمّا تنعقد به الإمامة عند أهل السنّة ، وإليك البيان :

١ ـ قد عرفت أنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة في الأمّة ، لا مناص عن سدّها بواحد من أبناء الأمّة ، وأنّ هذه الفراغات لا تسدّ بفرد عادي ، له من المؤهلات والكفاءات العلمية ، ما لا يتجاوز عن حدود ما لغيره من أفراد الأمّة ، بل يجب أن يكون له كفاءة وصلاحية توازن كفاءات النبي ومؤهلاته ، ويكون مستودعا لعلوم النبي ، واقعا تحت عناية الله تبارك وتعالى وكفالته.

ومن المعلوم أنّ التعرّف على هذا الفرد ليس ميسّرا من طريق الانتخاب بالشورى أو بالبيعة ، بل يعرف بتعيين من الله سبحانه عن طريق النبي الأكرم ، نظير أوصياء سائر الأنبياء.

٢ ـ كما عرفت أنّ الدولة الإسلامية الفتية كانت مهددة في أخريات أيام النبي ، حال وفاته ، بأعداء داخليين وخارجيين. أمّا الداخليون ، فهم المنافقون الذين كانوا يتربصون بها الدوائر ، وأمّا الخارجيون ، فدولتا الروم والفرس ، فمقتضى المصلحة العامة في تلك الظروف الحرجة ، تعيين الإمام والخليفة بعده ، لئلا تترك الدولة بعد وفاته عرضة للاختلاف ، وبالتالي تمكّن أعدائها منها ، خصوصا إذا لاحظنا أنّ حياة العرب حينذاك في عاصمة الإسلام وخارجها ، كانت حياة قبلية ، والتعصبات العشائرية لا تزال متغلغلة في نفوسهم ، وترك الأمر إلى مجتمع هذا حالة ، يؤدّي إلى التشاغب والاختلاف وبالتالي إلى القتل والدمار.

أضف إلى ذلك أنّ الوعي الديني لم يكن راسخا في قلوب أكثر الصحابة ، وإن كان القليل منهم قد بلغ القمة ، وصاروا مثلا عليا للفضل والفضيلة ، وقد

٧٣

عرفت دليل قلّة الوعي الديني ، بفرارهم في بعض الغزوات.

٣ ـ كما عرفت أنّه لو كان أساس الحكم على غير وجه التنصيب ، لكان على النبي الأكرم بيان أسسه وأصوله وفروعه ، وشرائط الإمام ، وما تنعقد به الإمامة ، مع أنّ النبي سكت عن ذلك ولم ينبس منه بكلمة ، فليس في الصحاح والمسانيد أحاديث أو حديث عن النبي حول أساس الحكم ، أفيصحّ لنا أن نتهم النبي بأنّه بلّغ أبسط الأمور وأيسرها ، التي تقع في الدرجة الأخيرة من الأهمية في حياة الإنسان ، وسكت عن عظائم الأمور ومهمّاتها التي تتوقف عليها حياة الأمّة.

كل ذلك يعرب عن أنّ سكوته لأجل أنّ أساس الحكم هو التنصيب ، ونصب الإمام يغني عن البحث حول أساس الحكم وشروطه ، لأنّ الإمام المنصوب يكون ميزانا للحق ، ومعيارا للتعرّف على أساس الحكم وشروطه ؛ «وكلّ الصّيد في جوف الفراء» (١).

٤ ـ كما عرفت أنّ تصوّر النبي للخلافة في عصره ، هو إيكالها إلى الله سبحانه ، وأنّه تعامل معها معاملة الرسالة ، وأنّه عرّفها بنفس ما عرّف به الله سبحانه الرسالة ، «يضعها حيث شاء».

٥ ـ كما عرفت أنّ تصوّر الصحابة ، وسيرتهم في الخلافة هي سيرة التنصيب ، وقد كان ترك التنصيب ، في نظرهم ، إهمالا لأمر الأمّة ، وتركا لها بلا راع فريسة للذئاب ، والأعداء ، وبذلك استتبّ الأمر لعمر بيد أبي بكر ، ولعثمان بيد عمر ، وهكذا توالت السيرة في الأمويين من الخلفاء ، وشذّت عنها خلافة علي حيث استتبت له ببيعة المهاجرين والأنصار.

٦ ـ كما عرفت أنّ صيغة القيادة في الشرائع السابقة كانت هي التنصيب ، وكان الأوصياء ينصبون من طريق الأنبياء.

٧ ـ كما أنّك عرفت أنّه لا دليل على كون أساس الحكم هو الشورى أو البيعة بألوانهما المختلفة.

__________________

(١) مثل يضرب.

٧٤

كل ذلك يعرب عن أنّ القائد الحكيم ، بأمر من الله سبحانه ، سلك مسلكا ، ونهج منهجا ، يطابق هذه الأصول والمقدمات ، وما خالفها قدر شعرة ، وعيّن القائد بعده في حياته ، وأعلنه للأمّة في موسم أو مواسم.

هذا ما يوصلنا إليه السبر والتقسيم والمحاسبة في الأمور الاجتماعية والسياسية ، فيجب علينا عندئذ الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، لنقف ونتعرّف على ذلك القائد المنصوب ، ونذعن ـ بالتالي ـ بأنّ عمل النبي كان موافقا لهذه الأصول العقلائية التي تقدمت ، وهذا ما يوافيك في البحوث التالية.

* * *

٧٥

البحث الأول :

السنّة النبوية وتنصيب علي للإمامة

إنّ من أحاط علما بسيرة النبي في تأسيس دولة الإسلام ، وتشريع أحكامها وتمهيد قواعدها ، يجد علي بن أبي طالب وزير رسول الله في أمره ، وظهيره على عدوه ، وعيبة علمه ، ووارث حكمه ، ووليّ عهده ، وصاحب الأمر من بعده. ومن وقف على أقوال النبي وأفعاله في حلّه وترحاله ، يجد نصوصه في ذلك متواترة متوالية ، من مبدأ أمره إلى منتهى عمره ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإليك البيان.

أ ـ حديث بدء الدعوة

أخرج الطبري وغيره ، بسنده ، عن علي بن أبي طالب ، أنّه لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال لي : يا عليّ ، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فضقت بذلك ذرعا ، وعرفت أنّي متى أباديهم بهذا الأمر ، أرى منهم ما أكره ، فصمّدت عليه حتى جاءني جبرئيل ، فقال : يا محمد ، إنّك إن لا تفعل ما تؤمر به ، يعذّبك ربّك ، فاصنع (يا علي) لنا صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسا من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلّمهم وأبلّغهم ما أمرت به ، ففعلت ما أمرني به ، ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون

__________________

(١) سورة الشعراء : الآية ٢١٤.

٧٦

رجلا ، يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعمامه ... إلى أن قال : فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ، ثم قال (النبي) : أسقهم. فجئتهم بذلك العس ، فشربوا حتى رووا منه جميعا ، ثم تكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : يا بني عبد المطلب ، إنّي والله ما أعلم شابا في العرب ، جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعا ، وقلت : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ، ثم قال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوه.

وفي رواية أخرى قال ذلك القول ثلاث مرات ، كلّ ذلك أقوم إليه فيقول : اجلس(١).

ودلالة الحديث على الخلافة لعلي والوصاية له ، لا تحتاج إلى بيان ، وهذا إن

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٦٣ ـ ٦٤. ورجال السند كلّهم ثقات إلّا أبو مريم عبد الغفار بن القاسم ، فقد ضعّفه القوم ، ليس ذلك إلّا لتشيعه ، فقد أثنى عليه ابن عقدة وأطراه ، وبالغ في مدحه ، كما في لسان الميزان ، ج ٤ ، ص ٤٣ وأسند إليه.

وأخرجه بهذا اللفظ أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي ، في كتابه نقض العثمانية ، على ما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ١٣ ، ص ٢٤٤ ، وقال : «إنّه روي في الخبر الصحيح» ، وابن الأثير في الكامل ، ج ٢ ، ص ٢٤ ، وأبو الفداء عماد الدين الدمشقي ، في تاريخه : ج ٣ ، ص ٤٠. والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره ، ص ٣٩٠. وغيرهم من الحفّاظ وأساتذة الحديث وأئمة الأثر ، والمراجع في الجرح والتعديل ، ولم يقذف أحد منهم الحديث بضعف أو غمز لمكان أبي مريم في أسناده.

على أنّه أخرجه الإمام أحمد في مسنده في غير مورد ، فرواه في الجزء الأول ، ص ١٥٩ عن عفان عن أبي عوانة عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ، عن ربيعة بن ناجز ، ورجال السند كلّهم ثقات. كما أخرجه في الجزء الأول ، ص ١١١ ، بسند رجاله كلّهم من رجال الصحاح بلا كلام ، وهم شريك ، والعمش ، والمنهال ، وعباد.

وللحديث صور مختلفة رواها عدّة من الحفاظ ، فمن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى المصادر التالية : الغدير ، ج ٢ ، ص ٢٧٨ ـ ٢٨٩. غاية المرام ، للسيد البحراني ، المقصد الثاني ، الباب ١٥ و ١٦. وتعاليق إحقاق الحق ، ج ٤ ، ص ٦٦ ـ ٧٠. والمراجعات ، المراجعة ٢٠ ، والمراجعة ٢٢ ، وقد تكلم في إسناد الحديث في المتن وتعاليقه بما لا يدع للمريب شكا.

٧٧

دلّ على شيء ، فإنّما يدلّ على أنّ النبوة والإمامة كانتا متعاقدتين بعقد واحد ، تتجليان معا ، ولا تتخلفان.

كتمان الحقائق

إنّ من العجب أنّ أناسا يدّعون أنّهم حفظة الحديث وعيبة آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كتموا الحقائق وارتكبوا جنايات في نقل الآثار ، وإليك نبذة من هؤلاء.

١ ـ رأينا أنّ الطّبري في تاريخه ، نقل قول النبي على الوجه التالي :

ـ «فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم». كما نقل قوله الآخر :

ـ «إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوه».

ولكنه في تفسيره ، لم يعجبه نقل الحقيقة ، لمخالفتها لما يبطنه من العقيدة ، فقال مكان الجملتين : «فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي وكذا وكذا».

ـ «إنّ هذا أخي وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوه» (١).

٢ ـ إنّ الحافظ أبا الفداء ابن كثير (م ٧٧٤) ، ذكر الحديث في تاريخه على النصّ الذي رواه الطبري في تفسيره ، مع أنّه وضع تاريخه ، على منوال تاريخ الطبري ، ولكن لم يعجبه نقله من تاريخه ، واعتمد على التفسير الذي كنى عن نصّ رسول الله بالوصاية والخلافة لعلي (٢).

٣ ـ إنّ محمد حسين هيكل ، كتب ما هو خزاية فاضحة في مجال الحديث ، فإنّه كتب الجملة الأولى أعني قول النبي الأكرم : «فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١٩ ، ص ٧٥.

(٢) البداية والنهاية ، الجزء الثالث من المجلد الثاني ، ص ٤٠.

٧٨

وأن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم». وترك من رأس الجملة الثانية التي قالها النبي لعلي.

ولكن هذا المقدار من الاعتراف بالحقيقة ، لم يعجب القشريين من الأزهريين ، فوقع موقع النقد منهم ، وأسقط في الطبعة الثانية من الكتاب كلّ ما يرجع إلى عليّ عليه‌السلام ، دفعا لأمواج اللوم والعتاب (١).

* * *

ب ـ حديث المنزلة

روى أهل السير والتاريخ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خلّف علي بن أبي طالب على أهله في المدينة ، عند توجهه إلى تبوك ، فأرجف به المنافقون ، وقالوا : ما خلّفه إلّا استثقالا له ، وتخوّفا منه ، فلما قال ذلك المنافقون ، أخذ علي بن أبي طالب ، سلام الله عليه ، سلاحه ، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو نازل بالجرف (٢) ، فقال : يا نبيّ الله ، زعم المنافقون أنّك إنّما خلفتني أنّك استثقلتني ، وتخفّفت مني ، فقال : كذبوا ، ولكني خلفتك لما تركت ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبي بعدي؟.

فرجع علي إلى المدينة ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على سفره (٣).

__________________

(١) حياة محمد ، الطبعة الثانية ، سنة ١٣٥٤ ، ص ١٣٩. وعلى هذه الطبعة جاءت الطبعات اللاحقة ، ونسخت الطبعة الأولى وكأنّ الأستاذ لم يكتبها.

(٢) الجرف ، بالضم ثم السكون ، موضع على بعد ثلاثة أميال من المدينة.

(٣) السيرة النبوية ، لابن هشام ، ج ٢ ، ص ٥١٩ ـ ٥٢٠ ، وقد نقله من أصحاب الصحاح : البخاري في غزوة تبوك ، ج ٦ ، ص ٣ ، ط ١٣١٤. ومسلم في فضائل عليّ ، ج ٧ ، ص ١٢٠. وابن ماجة في فضائل أصحاب النبي ، ج ١ ، ص ٥٥ ، ط المطبعة التازية بمصر. والإمام أحمد في مسنده في غير مورد لاحظ ج ١ ، ص ١٧٣ و ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٢ و ١٨٥ و ٣٣٠ وغيرهم من الأثبات الحفاظ ، فلم يشك في صحة سند الحديث إلّا الآمدي ، وليس هو من علم الحديث في حلّ ولا ترحال.

(إذا ما فصّلت عليا قريش

فلا في العير أنت ولا النفير)

٧٩

ومن عجيب القضايا ما رواه مسلم ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ، قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا ، وقال : ما منعك أن تسبّ أبا التراب ، فقال : أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، فلن أسبّه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم. سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه ، فقال له علي : يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان. فقال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبوة بعدي.

وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطينّ الراية رجلا يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله. قال : فتطاولنا لها ، فقال : أدعو لي عليّا ، فأتي به أرمد ، فبصق في عينه ، ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه.

ولما نزلت هذه الآية : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) ، دعا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : «اللهم هؤلاء أهلي» (١).

وأمّا دلالة الحديث على أنّ النبي أفاض على عليّ عليه‌السلام ـ بإذن من الله سبحانه ـ الخلافة والوصاية ، فيكفيك فيها أنّ كلمة «منزلة» اسم جنس أضيف إلى هارون ، وهو يقتضي العموم ، فيدلّ على أنّ كل مقام ومنصب كان ثابتا لهارون فهو أيضا ثابت لعلي ، إلّا ما استثناه ، وهو النبوّة.

على أنّ الاستثناء هو أيضا دليل العموم ، ولو لاه لما كان وجه للاستثناء.

وأمّا ما جاء في صدر الحديث من أنّه خلّفه على أهله ، فلا يكون دليلا على الاختصاص ، لبداهة أنّ المورد لا يكون مخصّصا ، وهو أحد القواعد المسلّمة في

__________________

ـ وما جرّه إلى التشكيك ، غير كون الحديث نصا صريحا في إمامة علي ، فحاول التشكيك للتخلص من هذا الارتباك.

(١) صحيح مسلم ، ج ٧ ، باب فضائل علي بن أبي طالب ، ص ١٢٠ ـ ١٢١.

٨٠