الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

هذا وذاك ، وغيرهما ممّا لم نذكره ، وجاء في الحديث والتاريخ ، يعرب عن أنّ التعليم الغيبي لا يختصّ بالأنبياء ، وأنّ هناك رجالا صالحين ، يحملون علوم النبوة ويحتضنونها بفضل من الله سبحانه ، لغاية قدسية هي إبلاغ الأمّة الغاية من الكمال ، وإيصاد الثغرات الهائلة التي تخلفها رحلة النبي.

الإشكال الثاني

إذا شهد التاريخ ، والمحاسبات الاجتماعية ، بعدم استيفاء النبي لمهمة التشريع ، فما معنى قوله سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١)؟.

الجواب

إنّ السؤال مبني على تفسير الدين بالأحكام الشرعية ، وحمل الإكمال على بيانها. وذلك غير صحيح لوجوه :

الأول ـ إنّ كثيرا من المفسّرين ، فسّروا اليوم ، بيوم عرفة ، من عام حجة الوداع (٢). ومن المعلوم أنّ هناك روايات كثيرة لا يستهان بها عددا تدلّ على نزول أحكام وفرائض بعد ذلك اليوم ، منها أحكام الكلالة ، المذكورة في آخر سورة النساء (٣) ، ومنها آيات الربا (٤) ، حتى روي عن عمر أنّه قال في خطبة خطبها : «ومن آخر القرآن نزولا آية الربا ، وإنّه مات رسول الله ولم يبيّنه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم» (٥). وروى البخاري في الصحيح ، عن ابن عباس ،

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٣.

(٢) لاحظ تفسير الطبري ، ج ٦ ، ص ٥٤ ، تفسير الرازي ، ج ٣ ، ص ٣٦٨.

(٣) سورة النساء : الآية ١٧٦.

(٤) سورة البقرة : الآيات ٢٧٥ ـ ٢٧٨.

(٥) الدر المنثور ، للسيوطي ، ج ١ ، ص ٣٦٥. ولاحظ تفسير الرازي ، ج ٢ ، ص ٣٧٤ ، ط مصر في ثمانية أجزاء.

٤١

قال : «آخر آية أنزلها الله على رسوله ، آية الربا» (١) ، وغير ذلك من الروايات.

الثاني ـ إنّ تفسير الدين بالأحكام ، وإكمالها بالبيان وأنّه تحقق في يوم عرفة من عام حجّ الوداع ، لا ينسجم مع سائر فقرات الآية ، فإنّ الآية تخبر عن يوم تحققت فيه أمور ثلاثة : يأس الكفار من دين المسلمين ، وإكمال الدين وإتمام النعمة.

توضيح ذلك إنّه إن أراد من الكفار ، كفار العرب ، القاطنين في الجزيرة ، فالإسلام كان قد عمّهم يوم ذاك ، ولم يكن فيهم من يتظاهر بغير الإسلام ، فمن هؤلاء الكفار اليائسون؟ فإنّ سورة البراءة ، وتلاوتها يوم عيد الأضحى ، في العام التاسع للهجرة ، صارت سببا لنفوذ الإسلام في كل أصقاع الجزيرة ، ورفض الشرك ونبذ عبادة الأوثان ، رغبة أو رهبة ، ولم يبق مشرك إلّا وقد كسر صنمه ، ولا عابد وثن إلّا وقد تحوّل إلى عبادة الله تعالى طمعا أو خوفا ، فلم يبق هناك كافر يئس من دين المسلمين.

وإن أراد سائر الكفار من الأمم ، من العرب وغيرهم ، فلم يكونوا يائسين يومئذ من الظهور على المسلمين.

فعلينا أن نتفحص عن يوم تتحقق فيه هذه الأمور الثلاثة ، كما سيبين.

الثالث ـ إنّ ما ذكر لا ينسجم مع ما رواه عدّة من المحدثين من نزولها يوم الثامن عشر من ذي الحجة ، في السنة العاشرة للهجرة ، عند ما نصب النبي عليّا للولاية ، وقال : «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» (٢).

ويعرب عن صحة ذلك ما ذكره الرازي ، قال : «قال أصحاب الآثار إنّه

__________________

(١) الدر المنثور للسيوطي ، ج ١ ، ص ٣٦٥.

(٢) لاحظ في الوقوف على مصادر نزول الآية يوم الغدير ، كتاب الغدير ، ج ١ ، ص ٢٣٠ ـ ٢٣٨ ، وقد رواه عن ستة عشر محدثا ، منهم أبو جعفر الطيري ، وابن مردويه الأصفهاني ، وأبو نعيم الأصفهاني ، والخطيب البغدادي ، وأبو سعيد السجستاني ، وأبو الحسن المغازلي ، وأبو القاسم الحسكاني ، وابن عساكر الدمشقي ، وأخطب الخطباء الخوارزمي ، وغيرهم من أعاظم المحدثين.

٤٢

لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يعمّر بعد نزولها إلّا أحدا وثمانين يوما أو اثنين وثمانين يوما ، ولم يحصل بعدها زيادة ولا نسخ وتبديل البتة. وكان ذلك جاريا مجرى إخبار النبي عن قرب وفاته ، وذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزا» (١).

وما ذكره يؤيّد كون النزول يوم الغدير ، أعني يوم الثامن عشر من ذي الحجة ، لأنّه لو فرض كون الشهور الثلاثة (ذي الحجة ، ومحرم ، وصفر) ناقصة ، لكانت وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد واحد وثمانين يوما ، ولو كان الشهران (محرم وصفر) ناقصان ، لا نطبق على الاثنين والثمانين ، كل ذلك بملاحظة ما اتّفقت عليه كلمة الجمهور من أنّ النبي توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول.

والعجب أنّ الرازي غفل عن هذه الملازمة ، وأنّه لا يجتمع مع نزولها يوم عرفة.

فعلى ذلك لا يصحّ تفسير الدين بالأحكام ، ولا الإكمال بالبيان. وفي ضوء ذلك يمكن أن يقال إنّ المراد من الدين هو أصوله ، والمراد من الإكمال ، تثبيت أركانه ، وترسيخ قواعده ، وذلك أنّ الكفار ، خصوصا المستسلمين منهم ، كانوا يتربصون بالنبي الدوائر ، فإنّهم كانوا ينظرون إلى دعوته بأنّها ملك في صورة النبوة ، وسلطنة في ثوب الرسالة ، فإن مات أو قتل ، ينقطع أثره ويموت ذكره ، كما هو المشهور عادة ، من حال السلاطين ، وكان الكفار يعيشون هذه الأحكام والأماني التي تعطيهم الرجاء في إطفاء نور الدين ، وعفّ آثاره عبر الأيام.

غير أنّ ظهور الإسلام ، تدريجيا ، وغلبته على الكفار والمشركين ، بدّد أحلامهم بالخيبة ، فيئسوا من التغلّب على النبي ودعوته ، فلم يبق لهم إلّا حلم واحد ، وهو أنّه لا عقب له يخلفه في أمره ، فيموت دينه بموته. وكان هذا الحلم يتغلغل في أنفسهم ، إلّا أنّ الخيبة عمّتهم لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة

__________________

(١) تفسير الرازي ، ج ٣ ، ص ٣٦٩.

٤٣

القيام بشخص النبي الأكرم إلى مرحلة القيام بشخص آخر مثالي يقوم مقامه ، فعند ذلك تحققت الأمور الثلاثة : يئسوا من زوال الدين ، بعد موته ، وكمل الدين بتنصيب من يحمل وظائف النبي ، وتمّت نعمة الهداية إلى أهداف الرسالة بالوصي القائم مقامه.

فالمراد من إكمال الدين ، تحوّله من وصف الحدوث إلى وصف البقاء ، وكان ذلك العمل ، ردّا لما يحكيه سبحانه عن الكفار بقوله : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١). ولعلّ المراد من قوله : (يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) ، هو ما حدث في ذلك اليوم.

وعلى ذلك ، فتنسجم الجمل الثلاث ، ويرتبط بعضها ببعض ، فالدين الذي أكمله الله اليوم ، والنعمة التي أتمّها الله اليوم ، أمر واحد بحسب الحقيقة ، وهو الذي كان يطمع فيه الكفار ، ويخشاهم فيه المؤمنون ، فآيسهم الله منه ، وأكمله وأتمّه ، ونهاهم عن الخشية منهم ، وقال : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) (٢).

* * *

هذه هي حقيقة الإمامة ، والإمام عند الشيعة ، وبذلك يعلم اختلاف ما يتبنونه مع ما هو المعروف عند أهل السنّة ، ومن المعلوم أنّ كلّا من المعنيين يستدعي لنفسه شروطا خاصّة ، والشروط عند الشيعة الإمامية أكثر ممّا اتّفقت عليه كلمة أهل السنّة ، أهمها إحاطته بأصول الشريعة وفروعها ، والمعرفة التامّة بكتاب الله ، وسنّة نبيّه ، وقدرته على دفع الشبهات ، وصيانة الدين ، يكون كلامه هو القول الفصل بين الأمّة ، ولا تفترق هذه الشروط عن كونه معصوما ، لا يضلّ في تعليم الأمّة.

قال الشيخ الرئيس ابن سينا في لزوم نصب الإمام من جانب النبي : «ثم إنّ هذا الشخص الذي هو النبي ، ليس ممّا يتكرر وجود مثله في كل وقت ، فإنّ

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٠٩

(٢) سورة المائدة : الآية ٣.

٤٤

المادة التي تقبل كمال مثله ، تقع في قليل من الأمزجة ، فيجب لا محالة أن يكون النبي قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في أمور المصالح الإنسانية ، تدبيرا عظيما» (١).

* * *

__________________

(١) الشفاء ، ج ٢ ، الفن الثالث عشر في الإلهيات ، المقالة العاشرة ، الفصل الثالث ، ص ٥٥٨.

٤٥

الأمر السابع

المصالح العامة ، وصيغة الحكومة بعد النبي

يسود بين المسلمين ، في صيغة الحكومة وقيادة الأمّة بعد النبي ، رأيان واتجاهان :

الأول : أنّ صيغة الحكومة صيغة التنصيب ، وأنّ الإمام بعد النبي يعين عن طريق الرسول بأمر من الله سبحانه.

الثاني : تفويض الأمر إلى اختيار الأمّة ، وانتخابها بشكل من الأشكال التي ستوافيك.

والبحث في المقام : يرجع إلى محاسبة مصالح الأمّة الإسلامية آنذاك ، فهل كانت تقتضي تحقيق النظرية الأولى ، وهي نظرية النصّ على شخص أو أشخاص معينين ، أو تقتضي ترك مسألة الخلافة إلى رأي الأمّة؟.

والحقّ أنّ هنا أمورا تدلّ على أنّ مصلحة الأمّة آنذاك ، كانت تتطلب تنصيب الإمام والقائد الذي يخلف النبي ، وتعيينه بلسانه في حياته ، وكان في ترك هذا رمي للأمّة أمام أكبر المخاطر ، وإليك بيان تلك الأمور :

الأول : الأمة الإسلامية والخطر الثلاثي

إنّ الدولة الإسلامية ، التي أسسها النبي الأكرم صلوات الله عليه ، كانت

٤٦

محاصرة حال وفاة النبي من جهتي الشمال والشرق ، بأكبر امبراطوريتين عرفهما تاريخ تلك الفترة ، وكانتا على جانب كبير من القوة والبأس ، وهما الروم وإيران ؛ هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل ، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من وطأة مؤامرات المنافقين الذين كانوا يشكّلون جبهة عدوانية داخلية ، أشبه بما يسمّى بالطابور الخامس.

ويكفي في خطورة إمبراطورية إيران أنّه كتب ملكها إلى عامله باليمن ـ بعد ما وصلت إليه رسالة النبي تدعوه إلى الإسلام والتسليم ، ومزّقها ـ : «ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز ، رجلين من عندك ، جلدين ، فليأتياني به» (١).

وكفى في خطورة موقف الإمبراطورية البيزنطية ، أنّه وقعت اشتباكات عديدة بينها وبين المسلمين في السنة الثامنة للهجرة ، منها غزوة مؤتة التي قتل فيها قادة الجيش الإسلامي وهم جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحه ، ورجع الجيش الإسلامي من تلك الواقعة منهزما ، وقد أثارت هزيمتهم في هذه المعركة ، واستشهاد القادة الثلاثة ، نقمة شديدة في نفوس المسلمين تجاه الروم ، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرم بنفسه على رأس الجيش الإسلامي إلى تبوك في السنة التاسعة لمقابلة الجيوش البيزنطية ولكنه لم يلق أحدا ، فأقام في تبوك أياما ثم رجع إلى المدينة ، ولم يكتف بهذا بل جهّز جيشا في أخريات أيّامه بقيادة أسامة بن زيد ، لمواجهة جيوش الروم.

وأمّا خطر المنافقين ، فحدّث عنه ولا حرج ، هؤلاء أسلموا بألسنتهم دون قلوبهم ، وأضمروا للمسلمين كلّ سوء ، وكانوا يتحينون الفرص لإضعاف الدولة الإسلامية ، بإثارة الفتن الداخلية ، كما كانوا يتربصون الدوائر لاغتيال النبي وقتله (٢).

__________________

(١) الكامل ، للجزري ، ج ٢ ، ص ١٤٥.

(٢) لاحظ التفاسير ، في تفسير قوله سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) ـ

٤٧

ولقد انبرى القرآن الكريم لفضح المنافقين والتشهير بخططهم ضدّ الدين والنبي ، في العديد من السور القرآنية مثل البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والأحزاب ، ومحمد ، والفتح ، والمجادلة ، والحديد ، والحشر ، وقد نزلت في حقّهم سورة خاصة باسم المنافقين.

إنّ اهتمام القرآن بالتعرّض للمنافقين المعاصرين للنبي ، المتواجدين بين الصحابة ، أدلّ دليل على أنّهم كانوا قوّة كبيرة ويشكون جماعة وافرة ، ويلعبون دورا خبيثا ، خطيرا في تعكير الصف ، وإفساح المجال لأعداء الإسلام ، بحيث لو لا قيادة النبي الحكيمة ، لقضوا على كيان الدين ، وأطاحوا بصرحه.

ويكفي في ذلك قوله سبحانه : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (١).

وقد كان محتملا ومترقّبا أن يتحد هذا المثلث الخطير (الفرس ، الروم ، المنافقون) ، لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره ، بعد وفاة النبي.

فمع هذا الخطر المحيق الداهم ، ما هي وظيفة القائد الحكيم الذي أرسى قواعد دينه على تضحيات عظيمة ، فهل المصلحة كانت تقتضي تنصيب قائد حكيم عارف بأحكام القيادة ووظائفها حتى يجتمع المسلمون تحت رايته ، ويكونوا صفا واحدا في مقابل ذاك الخطر ، أو أنّ المصلحة العامة تقتضي تفويض الأمر إلى الأمّة ، حتى يختاروا لأنّفسهم أميرا ، مع أنّ من المعلوم أن ترك الأمر إلى الأمّة في ذلك الوقت الحرج ، يلازم الشغب والاختلاف والتنافس الذي لم يكن لصالح الإسلام والمسلمين ، في الوقت الذي يعانون فيه من وفاة النبي؟.

فاقض ما أنت قاض.

__________________

ـ (سورة التوبة : الآية ٦٥) ، وكان المنافقون قد حاولوا اغتيال النبي الأكرم في العقبة ، عند عودته من تبوك.

(١) سورة التوبة : الآية ٤٨.

٤٨

الثاني ـ الحياة القبلية تمنع من الاتفاق على قائد

من أبرز ما كان يتميز به المجتمع العربي في حياة النبي الأكرم ، هو حياة النظام القبلي ، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتل ـ في ذلك المجتمع ـ مكانة كبرى.

وقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية قبل الإسلام وبعده ، وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات ، وتنشد القصائد ، وتبنى الأمجاد ، كما كانت هي منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات.

إنّ التاريخ يشهد لنا كيف كاد التنازع القبلي في قضية بناء الكعبة المشرّفة ، ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية ، أن يؤدي إلى الاختلاف ، فالصراع الدموي ، والاقتتال المرير ، لو لا تدخل النبي الأكرم (١).

وقد سعى النبي الأكرم ، سعيا حثيثا ، لمحو الروح القبلية ، وإذابة الفوارق العشائرية ، وجمع تلك المتشتتات في بوتقة الإيمان الموحّد ، ولكن لم يكن من الممكن أن ينقلب النظام القبلي في مدة ثلاث وعشرين عاما إلى نظام موحد إسلامي ، لا يرى للانتساب إلى القبيلة فخرا ، سوى التعرّف والتعريف (٢).

والشواهد على تغلغل العصبيات القبلية في نفوس أكثر الصحابة ، كثيرة ، ويكفي في ذلك ما ورد في غزوة بني المصطلق ، حيث تنازع مهاجري مع أنصاريّ ، فصرخ الأنصاري : «يا معشر الأنصار» ، وصرخ الآخر : «يا معشر المهاجرين». ولما سمع النبي هذه الكلمات قال : «دعوها فإنّها دعوى ميتة». ولو لا قيادته الحكيمة ، لخضّب وجه الأرض بدماء المسلمين من المهاجرين والأنصار (٣).

وما نقله ابن هشام من أن شعث بن قيس ، وكان شيخا من اليهود ، مرّ

__________________

(١) قد ذكرنا هذه القضية فيما تقدم.

(٢) إشارة إلى قوله سبحانه : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) (سورة الحجرات : الآية ١٣)

(٣) صحيح البخاري ، ج ٥ ، ص ١١٩ ، باب غزوة بني المصطلق.

٤٩

ذات يوم على نفر من أصحاب الرسول ، من الأوس والخزرج ، فرآهم يتحدثون ، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم ، فأمر فتى شابا من اليهود ، كان معهم ، فقال له : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، ففعل الشاب ذلك ، فأثّر كيد ذلك اليهودي الماكر في نفوس الأخوة من المسلمين ، فغضب الفريقان ، وانتضوا أسلحتهم للقتال ، فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين ، وقال : «يا معشر المسلمين ، الله ، الله ، أبدعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر»؟ (١).

ومن ذلك الذي يدلّ على تعمّق رواسب القبلية في النفوس ، ما ذكره الشيخ البخاري في صحيحه ، في قصة الإفك ، قال : «قال النبي وهو على المنبر : «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلّا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا ، وما يدخل على أهلي إلّا معي».

قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت عائشة : فقام رجل من الخزرج ، وهو سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج ـ قالت عائشة ، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية ـ فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر والله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقال أسيد بن حضير ، وهو ابن عمّ سعد بن معاذ ، لسعد بن عبادة : كذبت لعمر والله ، لتقتلنّه ، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

__________________

(١) السيرة النبوية ، ج ١ ، ص ٥٥٥.

٥٠

قالت عائشة : فصار الحيّان (الأوس والخزرج) حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قائم على المنبر ، ولم يزل رسول الله ، يخفضهم (أي يهدئهم) حتى سكتوا» (١).

ولا يقل شاهدا على وجود هذه الرواسب في نفوس الكثيرين منهم ، ما ظهر منهم في يوم السقيفة من روح القبلية ، ونزعة التعصّب ، وتبودل بينهم من الشتم والضرب ، وإليك نقل القصة عن لسان عمر ، قال : «فقال ممثل الأنصار (سعد بن عبادة) :

أما بعد فنحن أنصار الله ، وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين ، رهط منا ، وقد دفت دافة من قومكم (أي جاء جماعة ببطء) وإذا هم يريدون أن يختارونا (يدفعونا) من أصلنا ، ويغصبونا الأمر.

فقال أبو بكر (٢) : أمّا ما ذكرتم فيكم من خير ، فأنتم له أصل ولن تعرف العرب هذا الأمر ، إلّا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا.

ثم قال قائل من الأنصار : «أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، منّا أمير ومنكم أمير ، يا معشر قريش». قال عمر : فكثر اللغط وارتفعت الأصوات ، حتى تخوفت الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، قال : فقلت : قتل الله سعد بن عبادة» (٣).

ولم يقتصر إختلاف الأمّة على ما جرى في السقيفة ، بل جرت بين الأنصار والمهاجرين مشاجرات كلامية وشعرية وهجائية ، هاجم كلّ الفريق الآخر ، بأنواع الهجاء ، نقلها المؤرخون ولا يعجبني نقل كلمهم (٤).

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٥ ، ص ١١٩ ، باب غزوة بني المصطلق.

(٢) لم يكن يوم السقيفة من المهاجرين إلّا خمسة أشخاص ، ولأجل ذلك لم نصف القائل بممثل المهاجرين.

(٣) السيرة النبوية ، ج ٢ ، ص ٦٥٩ ـ ٦٦٠. وإنّما بايعه الأوس من الأنصار ، وأما الخزرجيون ، فقد خرجوا غير مبايعين لأحد.

(٤) لاحظ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج ٦ ، ص ١٧ ـ ٣٨ ط مصر.

٥١

وما ذكرناه غيض من فيض ممّا جرى بين الصحابة من المنازعات والخلافات الناشئة من روح القبلية ، والتعصّب العشائري.

أفهل يجوز في منطق العقل ترك هذا المجتمع ، الغارق في نزاعاته العصبية ، دون نصب قائد ، يكون نصبه قاطعا لدابر الاختلاف ، ومانعا من مأساة التمزّق والتفرق؟ فاقض ما أنت قاض.

وهاهنا محاسبة ثالثة لا تقلّ عن العاملين السابقين في استلزامها كون المصلحة تقتضي نصب القائد ، لا تفويض الأمر إلى المسلمين أنفسهم ، وهي ما يلي :

الثالث ـ الصحابة ومدى الوعي الديني

إنّ الأمّة الإسلامية ـ كما يدلّ عليه التاريخ ـ لم تبلغ في القدرة على تدبير أمورها. وإدارة شئونها حدّ الاكتفاء الذاتي الذي لا تحتاج معه إلى نصب قائد لها من جانب الله سبحانه. وقد كان عدم بلوغهم هذا الحدّ أمرا طبيعيا لأنّه من غير الممكن تربية أمّة كانت متوغلة في العادات الوحشية ، والعلاقات الجاهلية ، والنهوض بها إلى حدّ تصير أمّة كاملة تدفع عن نفسها تلك الرواسب ، وتستغني عن نصب القائد المحنّك ، والرئيس المدبّر ، بل هي تقدر على تشخيص مصالحها في هذا المجال.

إنّ إعداد مثل هذه الجماعة ، ومثل هذه الأمّة ، لا تتم في العادة إلّا بعد انقضاء جيل أو جيلين ، وبعد مرور زمن طويل يكفي لتغلغل التربية الإسلامية إلى أعماق تلك الأمّة ، بحيث تختلط مفاهيم الدين بدمها وعروقها ، وتتمكن منها العقيدة إلى درجة تحفظها من التذبذب والتراجع إلى الوراء.

ويكفيك شاهدا على هذا ، معركة أحد ، فقد هرب المسلمون ـ إلّا قليل ـ من ساحة المعركة عند ما أذيع نبأ قتل النبي من جانب الأعداء ، ولاذ بعضهم بالجبل ، بل فكّر بعضهم بالتفاوض مع المشركين ، حتى أتاهم أحد المقاتلين ووبّخهم على فرارهم وتخاذلهم وترددهم قائلا : «إن كان محمد قد مات ، فربّ

٥٢

محمد حي ، قوموا ودافعوا عن دينه» (١) وفي هذا نزل قوله سبحانه : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (٢).

ويقول سبحانه في شأن من ذهبوا يفتشون عن ملجأ لهم فرارا من الموت : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ، يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ، يَقُولُونَ : هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) (٣).

ولم تكن واقعة أحد وحيدة في نسجها ، بل كانت غزوة حنين على منوالها في التقهقر والفرار عن ساحة الحرب ، يقول ابن هشام عن جابر :

استقبلنا وادي حنين ، وانحدرنا في واد من أودية تهامة ، وكان العدو قد سبقونا إلى الوادي وكمنوا لنا في شعابه واحنائه ، ومضائقه ، وقد شدّوا علينا شدّة رجل واحد ، وانهزم الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد. وانحاز رسول الله ذات اليمين وهو يقول : أين ، أيها الناس؟ هلموا إليّ ، أنا رسول الله. فانطلق الناس ، إلّا أنّه بقي مع رسول الله نفر من المهاجرين والأنصار ، فلما انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله من جفاة أهل مكة الهزيمة ، تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : «لا تنتهي هزيمتهم دون البحر» ، وإنّ الأزلام لمعه في كنانته. وصرخ جبلة بن الحنبل : «ألا لبطل السّحر» (٤).

وغير ذلك من الأحداث والوقائع التي كشفت عن عدم تغلغل الإيمان والعقيدة في قلوب الأكثرية منهم.

نعم كان بينهم رجال صالحون ، يضحون في سبيل العقيدة ، بأنفس النفائس ، وأثمن الأموال ، غير أنّ البحث مركز على دراسة وضع المجتمع

__________________

(١) سيرة ابن هشام : ج ٢ ، ص ٨٣.

(٢) سورة آل عمران : الآية ١٤٤.

(٣) سورة آل عمران : الآية ١٥٤.

(٤) سيرة ابن هشام : ج ٢ ، ص ٤٤٨.

٥٣

الإسلامي ككل ، لا من حيث اشتماله على أفراد لا يدرك شأوهم في الفضيلة والصلاح.

ولعلّ الباحث يتخيل أنّهم انقلبوا بعد رحلة الرسول إلى مجتمع ديني لا يتخطون سبيل الدين قيد أنملة ، ولكن ما ورد في الصحاح والمسانيد من ارتداد أمّة كبيرة من الصحابة ، يؤيّد ما ذكرناه من عدم رسوخ العقيدة والإيمان في قلوبهم ، ولا مجال لذكر جميع الروايات ، إنّما نكتفي بواحدة منها ونحيل البقية إلى الباحث الكريم :

روى البخاري في تفسير قوله سبحانه : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) (١) قال : خطب رسول الله فقال : ألا وإنّه يجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) فيقال إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ما فارقتهم (٢).

إنّ دراسة هذه الأمور الثلاثة ، يرشدنا إلى أنّ القائد الحكيم ، الذي مرّت عليه هذه الأوضاع والأحوال وعاينها عن كثب ، عليه أن يستخلف قائدا للأمّة لما في هذا التنصيب من مصلحة ، وقطع لدابر الاختلاف ، وجمع لشمل الأمّة. وهذا بخلاف ما لو ترك الأمر إلى المسلمين أنفسهم ، ففيه من الأخطار ما صوّرناه.

إنّ القائد الحكيم هو من يعتني بالأوضاع الاجتماعية لأمّته ، ويلاحظ

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ١١٧.

(٢) صحيح البخاري ، ج ٣ ، ص ٨٥. وصحيح مسلم ، كتاب الجنة ونعيمها ، ومسند الإمام أحمد ، ج ١ ، ص ٢٣٥.

إنّ الروايات الدالّة على ارتداد الصحابة بعد رحلة النبي الأكرم ، كثيرة جدا ، لا يمكن حملها على نفر أو اثنين منهم ، بل لا يصحّ في تفسيرها إلّا حملها على أمة كبيرة منهم ، فلاحظ ما ورد في هذا المجال : جامع الأصول لابن الأثير ، ج ١١ ، كتاب الحوض ، الفرع الثاني في ورود الناس عليه ، الأحاديث ٧٩٦٩ ـ ٧٩٨٠.

٥٤

الظروف المحيطة بها ، ويرسم على ضوئها ما يراه صالحا لمستقبلها ، وقد عرفت أنّ مقتضى هذه الظروف هو تعيين القائد والمدبّر ، لا دفع الأمر إلى الأمّة.

وإلى ما ذكرنا ينظر قول حكيم الإسلام الشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا في حقّ الإمام :

«والاستخلاف بالنصّ أصوب ، فإن ذلك لا يؤدّي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف» (١).

* * *

وحصيلة الكلام أنّ النظر إلى لزوم ملئ الفراغات الهائلة التي تخلفها رحلة النبي الأكرم ومحاسبة مصالح الأمّة آنذاك ، لا يدع شكّا في أنّ صيغة الحكومة بعد النبي ، إنّما هي صيغة التنصيب ، لا ترك الأمر إلى الأمّة واختيار الإمام بطريق من الطرق التي سنشير إليها.

هذا ، مع قطع النظر عن النصوص التي تعيّن النظرية الأولى بوضوح ، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد قام بنصب الوصيّ خضوعا لأمر الله أوّلا ، ورعاية للمصالح التشريعية ثانيا ، واهتماما بمصالح الإسلام والمسلمين ثالثا ، فإلى الملتقى في مورد هذه النصوص.

* * *

__________________

(١) الشفاء ، الفن الثالث عشر في الإلهيات ، المقالة العاشرة ، الفصل الخامس ، ص ٥٦٤.

٥٥

الأمر الثامن

هل الشورى أساس الحكم والخلافة؟

قد تعرفت على الكلمات السابقة التي تعرب عمّا تنعقد به الإمامة عند أهل السنّة ، كما تعرفت على كيفية خلافة الخلفاء ، وأنّ الأول منهم فاز بخمسة أصوات (١) ، وأنّ الثاني أخذ بزمام الحكم بتعيين الخليفة الأول ، وأنّ الثالث استتب له الأمر بشورى سداسية عيّنها نفس الخليفة الثاني. هذا هو واقع الأمر ، ولم يكن في انتخاب هؤلاء ما يقتضيه طبع التشاور من عرض الموضوع على أهل المشورة ، ومناقشة الآراء ، وانتخاب واحد في ضوء الموازين العقلية والاجتماعية والشرعية. وأحسن كلمة تعبّر عن حقيقة هذا النوع من الانتخاب ما ذكره الخليفة الثاني بقوله : «إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، ألا وإنّها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرّها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ، ولا الذي بايعه ، تغرّة أن يقتلا» (٢).

وقد حاول المتجددون من متكلمي أهل السنّة ، صبّ صيغة الحكومة الإسلامية على أساس المشورة بجعله بمنزلة الاستفتاء الشعبي ، بملاحظة أنّه لم يكن

__________________

(١) لاحظ ما نقلناه من كلام الماوردي.

(٢) صحيح البخاري ، ج ٨ ، رجم الحبلى من الزنا إذا احصنت ، ص ١٦٨ ، وطالع بقية كلامه.

ولاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ١ ، ص ١٢٣. وج ٢ ، ص ١٩.

٥٦

من الممكن بعد وفاة النبي مراجعة كل الأفكار واستعلام جميع الآراء في الوطن الإسلامي ، لقلّة وسائل المواصلات ، وفقدان سبل الاتصال المتعارفة اليوم. ولذلك يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب : إنّ الذين بايعوا أوّل خليفة للمسلمين لم يتجاوزوا أهل المدينة ، وربما كان بعض أهل مكة ، وأمّا المسلمون ـ جميعا ـ في الجزيرة العربية ، فلم يشاركوا هذه البيعة ، ولم يشهدوها ، ولم يروا رأيهم ، وإنّما ورد عليهم الخبر بموت النبي مع الخبر باستخلاف أبي بكر(١).

ثم إنّ من مظاهر الاختلاف الواقع في مسألة الشورى ، أنّ القائلين بها اختلفوا على قولين : فمنهم من قال بأنّ انتخاب أهل الشورى ملزم للأمّة ، وهو خبرة الأكثرية ، ومنهم من قال إنّه لا يزيد عن ترشيح له لمنصب الأمّة ، وللأمّة اختياره أو رفضه (٢).

وعلى كل تقدير ، فما دليل هذه النظرية ، أي كون الشورى أساس الحكم ، سواء في الفترة التي تلت رحلة النبي أو في زماننا الحاضر.

استدلوا بآيتين :

الآية الأولى : قوله سبحانه : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٣)فالله سبحانه يأمر نبيّه بالمشاورة ، تعليما للأمّة ، حتى يتشاوروا في مهام الأمور ، ومنها الخلافة.

يلاحظ عليه : أوّلا ـ إنّ الخطاب في الآية متوجّه إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته ، فيأمره سبحانه أن ينتفع من آراء رعيّته ، فأقصى ما يمكن التجاوز به عن الآية ، هو أنّ من وظائف كلّ الحكام التشاور مع الأمّة ، وأمّا أنّ الخلافة بنفس الشورى ، فلا يمكن الاستدلال عليه بهذه الآية.

والآية نظير قول علي عليه‌السلام : «من استبدّ برأيه هلك ، ومن

__________________

(١) الإمامة والخلافة ، ص ٢٤١.

(٢) الشخصية الدولية ، لمحمد كامل ياقوت ، ص ٤٦٣.

(٣) سورة آل عمران : الآية ١٥٩.

٥٧

شاور الرجال في أمورها ، شاركها في عقولها» (١).

وثانيا ـ إنّ المتبادر من الآية هو أنّ التشاور لا يوجب حكما للحاكم ، ولا يلزمه بشيء ، بل هو يقلب وجوه الرأي ويستعرض الأفكار المختلفة ، ثم يأخذ بما هو المفيد في نظره ، وذلك لقوله سبحانه في نفس الآية : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ، المعرب عن أنّ العزم والتصميم والاستنتاج من الآراء والأخذ بما هو الأصلح راجع إلى نفس المشير ، وهذا يتحقق في ظرف يكون هناك مسئول تام الاختيار في استحصال الأفكار والعمل بالنافع منها ، حتى يخاطب بقوله : (فَإِذا عَزَمْتَ) ، وأمّا إذا لم يكن ثمة رئيس ، فلا تنطبق عليه الآية ، إذ ليس في انتخاب الخليفة بين المشيرين من يقوم بدعوة الأفراد للمشورة ، لغاية استعراض آرائهم ، ثم تمحيص أفكارهم ، والأخذ بالنافع منها ، ثم العزم القاطع عليه.

وكل ذلك يعرب عن أنّ الآية ترجع إلى غير مسألة الحكومة وما شابهها. ولأجل ذلك لم نر أحدا من الحاضرين في السقيفة احتجّ بهذه الآية.

الآية الثانية : قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٢).

ببيان أنّ المصدر (أمر) أضيف إلى الضمير (هم) ، وهو يفيد العموم والشمول لكل أمر ، ومنه الخلافة ، فيعود معنى الآية أنّ شأن المؤمنين في كل مورد ، شورى بينهم.

يلاحظ عليه : إنّ الآية تأمر بالمشورة في الأمور المضافة إلى المؤمنين ، وأمّا أنّ تعيين الخليفة من الأمور المضافة إليهم ، فهو أول الكلام ، والتمسك بالآية في هذا المجال ، تمسّك بالحكم في إثبات موضوعه.

وبعبارة أخرى : إنّ الآية حثّت على الشورى فيما يمتّ إلى شئون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أمورهم ، أمّا كون تعيين الإمام داخلا في

__________________

(١) نهج البلاغة ، قسم الحكم ، الرقم ١٦١.

(٢) سورة الشورى : الآية ٣٨.

٥٨

أمورهم ، فهو أول الكلام ، إذ لا ندري هل هو من شئونهم أو من شئون الله سبحانه ، ولا ندري ، هل هي إمرة وولاية إلهية تتم بنصبه سبحانه وتعيينه ، أو إمرة وولاية شعبية ، يجوز للناس التدخّل فيها. ومع هذا الترديد لا يصحّ التمسّك بالآية.

إجابة عن سؤال

لو لم تكن الشورى أساس الحكم ، فلما ذا استدلّ الإمام علي عليه‌السلام ، على المخالف ، بمبدإ الشورى ، وقال : ـ مخاطبا معاوية ـ : «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليهم ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ ، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماما ، كان ذلك لله رضى»(١).

والجواب : إنّ ابن أبي الحديد المعتزلي هو أوّل من احتجّ بهذه الخطبة على أنّ صيغة الحكومة بعد وفاة النبي مستندة إلى الاختيار ونظام الشورى ، وتبعه من تبعه ، ولكنه غفل عن صدر الرسالة التي تعرب عن أنّ الاستدلال بالشورى من باب الجدل ، خضوعا لقوله سبحانه : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٢) ، فإنّ الإمام عليه‌السلام بدأ رسالته بقوله : «أمّا بعد ، فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنّه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر ...» ، ثم ختمها بقوله : «وإنّ طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردّهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون» (٣).

فالابتداء بالكلام بخلافة الشيخين يعرب عن أنّه في مقام إسكات معاوية

__________________

(١) نهج البلاغة : قسم الكتب ، الرقم ٦.

(٢) سورة النحل : الآية ١٢٥.

(٣) لاحظ وقعة صفين لنصر بن مزاحم (م ٢١٢) ، ص ٢٩ ، ط مصر. وقد حذف الرضي في نهج البلاغة من الرسالة ما لا يهمه ، فإنّ عنايته كانت بالبلاغة فحسب.

٥٩

الذي يعتبر البيعة وجها شرعيا للخلافة ، ولو لا هذا لما كان وجه لذكر خلافة الشيخين ، بل لاستدلّ بنفس الشورى.

ولأجل ذلك يتمّ كلامه بقوله : «فإن اجتمعوا على رجل ..» ، احتجاجا بمعتقد معاوية ، عليه.

* * *

أسئلة حول مبدئية الشورى

من خلال التحليل المتقدم يمكن استخلاص أسئلة حول مبدئية الشورى للحكم ، تزعزع كونها مبدأ له ، وهي :

١ ـ لو كان أساس الحكم هو الشورى ، لوجب على الرسول الأكرم التصريح به ، أوّلا ، وبيان حدوده وخصوصياته ، ثانيا. بأن يبيّن من هم الذين يشتركون في الشورى ، هل هم القراء وحدهم ، أو السياسيون ، أو القادة العسكريون ، أو الجميع ، وما هي شرائط المنتخب ، وأنّه لو حصل هناك اختلاف في الشورى ، فما هو المرجّح ، هل هو كمية الآراء وكثرتها ، أو الرجحان بالكيفية ، وخصوصيات المرشحين وملكاتهم النفسية والمعنوية.

فهل يصحّ سكوت النبي عن الإجابة على هذه الأسئلة التي تتصل بجوهر مسألة الشورى ، وقد جعل الشورى طريقا إلى تعيين الحاكم؟!.

٢ ـ إنّ القوم يعبّرون عن أعضاء الشورى ، بأهل الحلّ والعقد ، ولا يفسّرونه بما يرفع إجماله ، فمن هم أهل الحلّ والعقد؟ وما ذا يحلّون وما ذا يعقدون؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس في أحكام دينهم؟ وهل يشترط حينئذ درجة معينة من الفقه والعلم؟ وما هي تلك الدرجة؟ وبأي ميزان توزن؟ ومن إليه يرجع الأمر في تقديرها؟ أم غيرهم؟. فمن هم؟.

وربما تجد من يبدل كلمة أهل الحلّ والعقد ، ب «الأفراد المسئولين» ، وما هو إلّا وضع كلمة مجملة مكان كلمة مثلها.

٣ ـ وعلى فرض كون الشورى أساس الحكم ، فهل يكون انتخاب أعضاء

٦٠