الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

عدولا يستدر بهم الغمام ويؤتمر بهم في العقائد والشرائع ، وغير ذلك من مجالات الاقتداء.

٢ ـ إن السنة المتضافرة عن النبي الأكرم ، على ارتداد الصحابة بعده ، تردّ كون كل واحد منهم نجما لا معا يقتدى به. ومؤلفوا الصحاح ، وإن أفردوا أبوابا في فضائل الصحابة ، إلّا أنّهم لم يفردوا بابا بل ولا عنوانا في مثالبهم ، وإنما لجئوا إلى إقحام ما ورد من النبي في هذا المجال ، في أبواب أخر سترا لمثالبهم ، فذكرها البخاري في الجزء التاسع من صحيحه في باب الفتن ، وأدرجها ابن الأثير في جامعه في أبواب القيامة عند البحث عن الحوض. كل ذلك سترا لأفعالهم وأوصافهم غير المرضية.

ولكن الصبح لا يخفى على ذي عيني ، ففيما أوردوا من الأحاديث في هاتيك الأبواب شاهد على أنّ صحابة النبي لم يكونوا مرضيين بل أنّ كثيرا منهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى.

روى البخاري ومسلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ـ أو قال : من أمتي ـ فيحلئون عن الحوض ، فأقول : «يا ربّ ، أصحابي». فيقول : «إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، أنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى».

وفي بعض النصوص أنّ الناجي منهم ليس إلا همل النعم ، وهو كناية عن العدد القليل.

هذا قليل من كثير ، ذكرناه ، وكفى في تنديد النبي بهم قوله : «سحقا سحقا لمن بدّل بعدي» (١).

٣ ـ إنّ التاريخ المتواتر يشهد على ظهور الفسق من الصحابة في حياة النبي وبعده ، وهذا الوليد بن عقبة نزل في حقه قوله سبحانه : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (٢) ويشهد التاريخ على أنّه شرب الخمر ، وقام ليصلي بالناس صلاة

__________________

(١) لاحظ في الوقوف على هذه الأحاديث ، جامع الأصول ، لابن الأثير ، ج ١١ ، كتاب الحوض ، في ورود الناس عليه ، ص ١٢٠ ـ ١٢١.

(٢) سورة الحجرات : الآية ٦.

٤٤١

الفجر ، فصلى أربع ركعات ، وكان يقول في ركوعه وسجوده : اشربي واسقيني. ثم قاء في المحراب ، ثم سلّم ، وقال : هل أزيدكم إلى آخر ما ذكروه (١).

وهذا البخاري يروي مشاجرة سعد بن معاد ، سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج ، في قضية الإفك ، فقد قال سعد بن عبادة لابن عمه : كذبت لعمرو الله. وأجابه ابن العم بقوله : كذبت لعمرو الله ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين (٢).

أوّلا تعجب أنّ هؤلاء يصف بعضهم بعضا بالكذب والنفاق ، ونحن نقول إنهم عدول صلحاء. والإنسان على نفسه بصيرة.

إنّ الحروب الدائرة بين الصحابة أنفسهم لأقوى دليل على أنهم ليسوا جميعا على الحق ، فقد ثاروا على عثمان بن عفان وأجهزوا عليه. فكيف يمكن أن يكون القاتل والمقتول كلاهما على الحق والعدالة.

وهذا هو طلحة وذاك الزبير ، جهّزا جيشا جرارا لمحاربة الإمام ، وأعانتهما عائشة ، التي أمرت مع سائر نساء النبي بالقرار في بيوتهن وعدم الظهور والبروز.

وهذا خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، الباغي على الإمام المفترض الطاعة بالنص أوّلا ، وبيعة المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ثانيا ، فاهدر دماء كثيرة لا يحصيها إلّا الله سبحانه.

ومن العذر التافه تبرير أعمالهم الإجرامية بأنهم كانوا مجتهدين في أعمالهم وأفعالهم ، مع أنه لا قيمة للاجتهاد أمام النص وإجماع الأمة ، ولو كان لهذا الاجتهاد قيمة ، لما وجدت على أديم الأرض مجرما غير معذور ، ولا جانيا غير مجتهد ؛ (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (٣).

هذا قدامه بن مظعون ، صحابي بدري شرب الخمر ، وأقام عليه عمر

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ٤٢ ، وأسد الغابة ، ج ٥ ، ص ١٩٠.

(٢) صحيح البخاري ، ج ٥ ، ص ١١٨ في تفسير سورة النور.

(٣) سورة الكهف : الآية ٥.

٤٤٢

الحد (١).

وهؤلاء الصحابة الذين خضبوا وجه الأرض بالدماء ، فاقرأ تاريخ بسر بن أرطاة ، فإنه قتل مئات من المسلمين ، وما نقم منهم إلا أنّهم كانوا يحبون علي بن أبي طالب ، ولم يكتف بذلك حتى قتل طفلين لعبيد الله بن عباس (٢).

٤ ـ أن تشبيه الصحابة بالنجوم ، وأن الاقتداء بكل واحد منهم سبب للاهتداء ، يعرب عن أنّ القائل يعتمد في ذلك على الذكر الحكيم ، فإنّه سبحانه قال : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (٣). ولكن شتان ما بين المشبه والمشبه به ، إذ ليس كل نجم هاديا للضالّ ، وإلا لقال تعالى : «وبالنجوم هم يهتدون». فأيّ معنى ـ عندئذ ـ لهذا التشبيه.

٥ ـ إنّ هذا الحديث موضوع على لسان النبي الأكرم ، وصرّح بذلك جماعة من أعلام أهل السّنة.

قال أبو حيان الأندلسي ـ في معرض ردّه على الزمخشري الذي أورد هذا الحديث ـ وقوله : «وقد رضي رسول الله لأمّته إتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم في قوله : أصحابي كالنجوم الخ» ، لم يقل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو حديث موضوع لا يصح بوجه عن رسول الله».

ثم نقل قول الحافظ ابن حزم في رسالته في إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد ، ما نصه : «وهذا خبر مكذوب باطل لم يصح قطّ».

ثم نقل عن البزاز صاحب المسند قوله : وهذا كلام لم يصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشرع بالطعن في سنده (٤).

ورد ابن قيم هذا الحديث وضعف أسانيده وقال ردا على من استدل في

__________________

(١) أسد الغابة ، ج ٤ ، ص ١٩٩.

(٢) الغارات ، للثقفي ، ج ٢ ، ص ٥٩١ ـ ٦٢٨ ، تاريخ اليعقوبي ، ج ١ ، ص ١٨٦ ـ ١٨٩ ، الكامل ، ج ٣ ، ص ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٣) سورة النحل : الآية ١٦.

(٤) لاحظ جميع ذلك في تفسير البحر المحيط ، ج ٥ ، ص ٥٢٨.

٤٤٣

صحة التقليد ، بهذا الحديث : كيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي يهتدى بها وقلّدتم من هم دونهم بمراتب كثيرة ، فكان تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلى» (١)؟.

وقال الذهبي في جعفر بن عبد الواحد ، ومن بلاياه ، عن وهب بن جرير ، عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيء منه اهتدى» (٢).

كلمة الإمام زين العابدين في الصحابة

إنّ الشيعة ، تبعا للدلائل المتقدمة ، واقتداء بأئمتهم ، يقدّسون الصحابة الذين عملوا بكتاب الله سبحانه وسنة نبيه ، ولم يتجاوز وهما ، كما أنّهم يتبرءون ممن خالف كتاب الله وسنة رسوله ، وفي هذا المقام كلمة مباركة للإمام زين العابدين قال في دعاء له :

«اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته ، وانتصروا به ، ومن كانوا منطوين على محبته ، يرجون تجارة لن تبور في مودّته ، والذين هجرتهم العشائر. إذا تعلّقوا بعروته ، وانتفت منهم القربات ، إذا سكنوا في ظل قرابته ، فلا تنس اللهم ما تركوا لك وفيك ، وأرضهم من رضوانك ، وبما حاشوا الخلق عليك ، وكانوا مع رسولك ، دعاة لك إليك. واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم ، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم. اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا» (٣).

__________________

(١) لاحظ أعلام الموقعين ، ج ٢ ، ص ٢٢٣.

(٢) ميزان الاعتدال ، للذهبي ، ج ١ ، ص ٤١٣.

(٣) الصحيفة السجادية الدعاء الرابع مع شرح «في ظلال الصحيفة السجادية» ، ص ٥٥ ـ ٥٦.

٤٤٤

تحليل الاستدلال بآيتين على عدالة الصحابة

وربما يستدل على عدالة الصحابة بآيتين :

الأولى : قوله سبحانه : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١) فإنّ ظاهره أنّه سبحانه رضى عنهم ، والرضا آية كونهم مطيعين غير خارجين عن الطاعة ، وليس للعدالة معنى إلا ذلك.

ويلاحظ عليه : أولا : إنّ الآية نزلت في حق من بايع النبي تحت الشجرة في غزوة الحديبية ، لا في حق جميع الصحابة ، وقد كانوا في ذاك اليوم ألفا وأربعمائة.

أخرج مسلم وابن جرير وابن مردويه عن جابر رضي الله عنه ، قال : «كنّا يوم الحديبية ، ألفا وأربعمائة ، فبايعناه ، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة ، وهي سمرة ، وقال بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت» (٢). فاقصى ما يثبته الحديث هو رضاه سبحانه عن العدد المحدود. وأين هو من رضاه سبحانه عن الآلاف المؤلفة من الصحابة.

وثانيا : إنّ ظرف الرضا مذكور في الآية ، وهو وقت البيعة حيث يقول : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ) ، ومن المعلوم أنّ الرضا في ظرف خاص لا يدل على الرضا بعده إلا إذا ثبت أنّهم بقوا على الحالات التي كانوا عليها ، وهو غير ثابت. وإثباته بالاستصحاب ، أوهن من بيت العنكبوت.

وليس هذا مختصا بهؤلاء ، فإن الإيمان والأعمال الصالحة ، إنما تفيد إذا لم يرتكب الإنسان ما يبطل أثرهما ، سواء أقلنا بالإحباط أو لا.

وثالثا : إنه سبحانه يقول في نفس السورة : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ، يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما

__________________

(١) سورة الفتح : الآية ١٨.

(٢) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٧٤.

٤٤٥

عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١).

وهذا يعرب عن أنّ بعض المبايعين كانوا على مظنة النكث بما عاهدوا وبايعوا عليه ، وأن البعض الآخر كانوا على مظنة الوفاء به وإلا فلو كان الوفاء معلوما منهم ، فما معنى هذا الترديد. وليست الآية خطابا قانونيا حتى يقال إنها من قبيل إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، بل قضية خارجية مختصة بأناس معينين.

ورابعا : إنّ السّنّة تدل على أنّ نزول السكينة كان مختصا بمن علم منه الوفاء ، وبالتالي يكون الرضا أيضا مخصوصا بهم.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) ، قال : إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء» (٢).

وخامسا : إنّ الرضا تعلق بالمؤمنين. ومن المعلوم أنّه بايع النبي في غزوة الحديبية جماعة من المنافقين أيضا ، بلا خلاف. وبما أنهم كانوا مختلطين غير متميزين فلا يحكم على كل واحد بالرضا والعدالة ، إلّا إذا ثبت أنه مؤمن غير منافق.

وكيف يمكن أن يكون للآية عموم أفرادي وأزماني يعمّ جميع المبايعين إلى آخر أعمالهم ، مع أنّ طلحة والزبير ممن بايعا بيعة الرضوان ، وقد وقع منهما من قتال عليّ ما خرجا به عن الإيمان وفسقا عند جمع من المسلمين ، كالمعتزلة ومن جرى مجراهم ، ولم يمنع وقوع الرضا في تلك الحال من وقوع المعصية فيما بعد ، فما ذا الذي يمنع من مثل ذلك في غيرهم (٣).

الآية الثانية : قوله سبحانه : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ، يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي

__________________

(١) سورة الفتح : الآية ١٠.

(٢) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٧٣.

(٣) لاحظ التبيان ، ج ٩ ، ص ٣٢٩.

٤٤٦

الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ، وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (١).

والاستدلال مركّز على قوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) ، وهم موصوفون بأوصاف سبعة : ١ ـ أشداء على الكفار ، ٢ ـ رحماء بينهم ، ٣ ـ تراهم ركعا ، ٤ ـ سجدا ، ٥ ـ يبتغون فضلا من الله ، ٦ ـ ورضوانا ، ٧ ـ سيماهم في وجوههم من أثر السجود.

وكأنّ المستدل يستظهر من الآية أنّها بصدد بيان أنّ كل من كان مع النبي كان على هذه الصفات السبع التي لا تنفك عن العدالة ، وأنّ مضمونها قضية خارجية راجعة إلى الجماعة التي كان الزمان والمكان يجمعانهم والنبي الأكرم.

يلاحظ عليه : أولا : إنّ الآية على خلاف المقصود أدلّ ، فإنها ، وإن كانت قضية خبرية بظاهرها ، ولكنها بمعنى الإنشاء ، فهي بصدد أمر من كان معه على أن يكونوا بهذه الصفات ، وهذا نحو قولك : «ولدي يصلي» ، فهو بمعنى : «صلّ يا ولد» فالآية تزيّف منطق من يدّعون أن الصحابة مصونون عن كل قبيح ، فهم لصحبتهم الرسول ، نبراس منير ، لأنّ الآية تحمل صورة رائعة عن سيرة الذين كانوا مع الرسول وأنّهم يجب أن يكونوا على هذه الصفات السبع ، فيكونون في سلبيّتهم (أشداء على الكفار) مثل سلبيّته ، وإيجابيتهم بينهم أنفسهم (رحماء بينهم) كإيجابيّته ، وهكذا سائر صفاتهم من الركوع والسجود وابتغاء الفضل والرضوان. والآية وإن كانت نازلة في حق جماعة خاصة كانوا مع الرسول ، ولكنها ليست قضية خبرية ، بل تحمل قضية إنشائية ، وطلبا وإيجابا منهم لأن يكونوا على هذه الصفات السبع.

ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه يخصص وعد المغفرة وإعطاء الأجر العظيم. بعدة منهم ، ويقول في آخر الآية : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً). وهذا التبعيض والتخصيص إيعاز إلى أنّ هذه

__________________

(١) سورة الفتح : الآية ٢٩.

٤٤٧

الصفات السبع ، ربما تتحقق في صورها وظواهرها دون حقيقتها وواقعيتها التي هي الإيمان بالله والعمل الصالح.

وثانيا : إنّه يمكن أن يراد من قوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) ، غير المعية الزمانية والمكانية ، حتى يقال بأنّها مختصة بصحابته المعاصرين ، منحسرة عمن بعده من التابعين ، وأتباعهم إلى يوم الدين ، وإنّما يراد الذين معه في رسالته الإلهية تصديقا وإيمانا وتطبيقا ، ومعه في حملها كما حملها ، ومعه في جهاده وصبره كما جاهد وصبر.

وعند ذلك تعم الآية الأمة الإسلامية جميعا ، إلى يوم الدين ، وتكون أجنبية عن مسألة عدالة الصحابة ، وتعرب عن أنّ من كان مع الرسول يجب أن يكون بهذه الصفات والسمات ، ومع الإيمان والعمل الصالح.

وثالثا : إنّ الاستدلال لا يكتمل إلا بجمع الآيات الواردة في شأن الصحابة حتى يستظهر من الجميع ما هو مقصوده سبحانه وقد عرفت أنّ آيات كثيرة تندد بأقسام عشرة من صحابة النبي والذين كانوا معه ، وأنّهم كانوا بين معلوم النفاق ومخفيّه ، ومشرفين على شفير هاوية الارتداد ، إلى غير ذلك من الأقسام ، ومع ذلك كيف يمكن الاستدلال بآية وتناسي الآيات الأخر. كل ذلك يعرب عن أنّ المفسر لا يصح له اتخاذ موقف حاسم في موضوع واحد إلا بملاحظة جميع الآيات التي لها صلة به.

* * *

٤٤٨

مباحث الخاتمة

(٣) الشيعة واتهامهم بتحريف القرآن

إنّ القرآن الكريم أحد الثقلين الذين تركهما النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الأمة الإسلامية وحث على التمسك بهما ، وأنّهما لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض ، وقد كتب سبحانه على نفسه حفظه وصيانته وقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفع ، وما حل مصدّق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار» (٢).

وقال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «إنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش ، والهادي الذي لا يضلّ» (٣).

وقال عليه‌السلام : «ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقده ، ومنهاجا لا يضل نهجه ... وفرقانا لا يخمد برهانه» (٤).

بل إنّ أئمة الشيعة جعلوا موافقة القرآن ومخالفته ميزانا لتمييز الحديث

__________________

(١) سورة الحجر : الآية ٩.

(٢) الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٣٨.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٦.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٨.

٤٤٩

الصحيح من الباطل ، قال الصادق عليه‌السلام : «ما لم يوافق من الحديث القرآن ، فهو زخرف»(١).

ومع ذلك كله اتّهمت الشيعة ـ اغترارا ببعض الروايات الواردة في جوامعهم الحديثية ـ بالقول بتحريف القرآن ونقصانه ، غير أنّ أقطاب الشيعة وأكابرهم رفضوا تلك الأحاديث كما رفضوا الأحاديث التي رواها أهل السنة في مجال تحريف القرآن ، وصرّحوا بصيانة القرآن عن كل نقصان وزيادة وتحريف. ونحن نكتفي فيما يلي بذكر بعض النصوص لأعلام الإمامية ، الواردة في هذا المجال :

١ ـ قال الصدوق (م ٣٨١) : «اعتقادنا في القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيّه ، هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ، ومن نسب إلينا أنّا نقول إنه أكثر من ذلك فهو كاذب» (٢).

٢ ـ وقال الشيخ المفيد (م ٤١٣) : «قد قال جماعة من أهل الإمامة إنه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان ثبتا في مصحف أمير المؤمنين من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله وذلك ثابتا منزلا وإن لم يكن من جملة كلام الله الذي هو المعجز ، وقد يسمى تأويل القرآن قرآنا.

قال تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٣) ، فسمّى تأويل القرآن قرآنا. وعندي أنّ هذا القول أشبه بمقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل ، والله أسأل توفيقه للصواب وأما الزيادة فمقطوع على فسادها» (٤).

٣ ـ وقال الشيخ الطوسي (م ٤٦٠) : أمّا الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضا لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها وأما النقصان منه ، فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر في الروايات .. إلى أن قال : ورواياتنا متناصرة بالحث على

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، كتاب فضل العلم ، باب الأخذ بالسنة ، الحديث ٤.

(٢) عقائد الصدوق ، ص ٩٣ من النسخة الحجرية الملحقة بشرح الباب الحادي عشر.

(٣) سورة طه : الآية ١١٤.

(٤) أوائل المقالات ، ص ٥٥.

٤٥٠

قراءته والتمسك بما فيه وردّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه ، وعرضها عليه ، فما وافقه عمل به ، وما خالفه تجنّب ولم يلتفت إليه» (١).

٤ ـ قال الطبرسي مؤلف مجمع البيان (م ٥٤٨) : «فأما الزيادة فمجمع على بطلانها ، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشويه أهل السنة أنّ في القرآن نقصانا والصحيح من مذهبنا خلافه وهو الذي نصره المرتضى قدس الله روحه ، واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات ، وذكر في مواضع أنّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب ، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرناه ، لأن القرآن معجزة النبوّة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا ومنقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد (٢).

هؤلاء هم أعلام الشيعة في القرون السابقة من ثالثها إلى سادسها ، ويكفي ذلك في إثبات أنّ نسبة التحريف إلى الشيعة ظلم وعدوان.

وأما المتأخرون فحدّث عنه ولا حرج فهم بين مصرّح بصيانة القرآن عن التحريف ، إلى باسط القول في هذا المجال ، إلى مؤلّف أفرده بالتأليف.

ونختم المقالة بكلمة قيمة للأستاذ الأكبر الإمام الخميني قال : «إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه ، قراءة وكتابة ، يقف على بطلان تلك المزعمة (التحريف) ، وأنّه لا ينبغي أن يركن إليها ذو مسكة ، وما ورد فيه من الأخبار ، بين ضعيف لا يستدل به ، إلى مجعول تلوح منه أمارات الجعل إلى غريب يقضي منه العجب ، إلى صحيح ، يدل على أن مضمونه تأويل الكتاب وتفسيره ، إلى غير ذلك من الأقسام التي يحتاج بيان المراد منها إلى تأليف

__________________

(١) التبيان ، ج ١ ، ص ٣.

(٢) مجمع البيان ، المقدمة ، الفن الخامس ، ولاحظ بقية كلامه.

٤٥١

كتاب حافل ، ولو لا خوف الخروج عن طور البحث لأوضحنا لك أنّ الكتاب هو عين ما بين الدفتين وأنّ الاختلاف في القراءة ليس إلّا أمرا حديثا لا صلة له لما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين» (١).

تحريف القرآن في روايات الفريقين

روى الفريقان روايات في تحريف القرآن ، وقد قام أخيرا أحد المصريين بتأليف كتابا اسماه «الفرقان» ، ملأه بكثير من هذه الروايات. كما أنّ المحدث النوري ألف كتابا باسم «فصل الخطاب» أودع فيه روايات التحريف ، وليس هذا وذاك أوّل من نقل روايات التحريف ، بل هي مبثوثة في كتب التفسير والحديث. وهذا هو القرطبي يقول في تفسير سورة الأحزاب : أخرج أبو عبيد في الفضائل ، وابن مردويه ، وابن الأنباري عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي مائتي آية ، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلّا على ما هو الآن» (٢)

وهذا هو البخاري ، يروى عن عمر قوله : «لو لا أن يقول الناس إنّ عمر زاد في كتاب الله ، لكتبت آية الرجم بيدي» (٣).

وغير ذلك من الروايات التي نقل قسما منها السيوطي في الإتقان (٤).

ومع ذلك فنحن نجلّ علماء السنّة ومحققيهم عن نسبة التحريف إليهم ، ولا يصح الاستدلال بالرواية على العقيدة ، ونقول مثل هذا في حق الشيعة ، وقد تعرفت على كلمات الأعاظم منهم في العصور المتقدمة ، وعرفت أنّ الشيخ المفيد يحمل هذه الروايات على أنّها تفسير للقرآن ، وأنّ ما يدلّ على التحريف بالدلالة المطابقية يضرب به عرض الجدار.

__________________

(١) تهذيب الأصول ، تقريرا لأبحاث الإمام الخميني في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٩٦.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ١٤ ، ص ١١٣ ، ولاحظ الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ١٨٠.

(٣) صحيح البخاري ، ج ٩ ، باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء ، ص ٦٩ ، ط مصر.

(٤) الإتقان ، ج ٢ ، ص ٣٠.

٤٥٢

إنّ المحقق الأستاذ الشيخ جواد البلاغي تدارس الروايات ، فخرج بهذه النتيجة وهي أنّ القسم الوافر منها يرجع أسانيده إلى بضعة أشخاص وصفوا في علم الرجال بالصفات التالية:

١ ـ ضعيف القول ، فاسد المذهب ، مجفو الرواية.

٢ ـ مضطرب الحديث والمذهب ، يعرف حديثه وينكر ، ويروي عن الضعفاء.

٣ ـ كذاب متّهم ، لا تستحل رواية حديث واحد من أحاديثه.

٤ ـ غال كذّاب.

٥ ـ ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعوّل عليه ومن الكذابين.

٦ ـ فاسد الرواية يرمى بالغلو.

ومن المعلوم أنّ رواية هؤلاء لا تجدي شيئا ، وإن كثرت وعالت ، وأمّا المراسيل فهي مأخوذة من تلك المسانيد.

هذا بعض القول في تنزيه الشيعة بل المسلمين عامة عن وصمة التحريف ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الرسائل المؤلفة في هذا الموضوع (١).

* * *

__________________

(١) لاحظ مقدمة تفسير آلاء الرحمن للعلامة البلاغي ، ج ١ ، ص ٢٦. وتفسير الميزان ، ج ١٢ ، ص ١٠٦ ، ١٣٧ ، وتفسير البيان للمحقق الخوئي ، ص ٢١٥ ـ ٢٥٤. وإظهار الحق للعلامة الهندي ، ج ٢ ، ص ١٢٨ ، فإن فيها كفاية وغنى لطالب الحق.

٤٥٣

مباحث الخاتمة

(٤) المتعة في الكتاب والسنة

حقيقة نكاح المتعة ، تزويج المرأة الحرة الكاملة ، إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية ، بمهر مسمى ، إلى أجل مسمى ، بالرضا والاتفاق ، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق. ويجب عليها مع الدخول بها ـ إذا لم تكن يائسة ـ أن تعتد عدة الطلاق إذا كانت ممن تحيض ، وإلّا فبخمسة وأربعين يوما. وولد المتعة ، ذكرا كان أو أنثى يلحق بالأب ، ولا يدعى إلّا له ، وله من الإرث ، ما أوصانا الله به سبحانه في آية المواريث من أنّ للذكر مثل حظّ الأنثيين ، كما يرث من الأم ، وتشمله جميع العمومات الواردة في الأبناء والآباء والأمهات ، وكذا العمومات الواردة في الأخوة والأخوات ، والأعمام والعمّات.

وبالجملة المتمتع بها زوجة حقيقة ، وولدها ولد حقيقة ، ولا فرق بين هذا الزواج والزواج الدائم ، إلّا أنّه لا توارث بين الزوجين ولا قسم ولا نفقة لها ، كما أنّ له العزل عنها ، وهذه الفوارق الجزئية ، فوارق في الأحكام لا في الماهية ، والماهية واحدة ، غير أنّ أحدهما مؤقّت والآخر غير مؤقت ، وأنّ الأول ينتهي بانتهاء الوقت ، والثاني ينفصم بالطلاق أو بالفسخ.

وقد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرع هذا النكاح في دين الإسلام في صدره ، ولا يشك أحد ولا يتردد في أصل مشروعيته ، وإنّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.

٤٥٤

وأوضح دليل على مشروعيته في صدر الإسلام ، نهى عمر عنها حيث قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله حلالا ، وأنا أحرّمهما ، وأعاقب عليهما : إحداهما متعة النساء ... والأخرى متعة الحج (١). فإنّ النهي إمّا كان اجتهادا من عمر كما هو ظاهر كلامه ، أو كان مستندا إلى نصّ من رسول الله كما وجّه به كلامه. وعلى كلا التقديرين ، يدلّ على جوازه في فترة خاصة ، وهذا واضح لمن ألّم بفقه المذاهب الإسلامية.

والأصل في ذلك قوله سبحانه : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ، إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ) (٢) غَيْرَ مُسافِحِينَ ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣).

دلالة الآية على المتعة

وقد ذكرت أمّة كبيرة من أهل الحديث والتفسير نزول الآية في مورد المتعة ، أو جعلوا نزولها فيها أقوى الاحتمالين نشير إلى بعضهم :

١ ـ إمام الحنابلة أحمد بن حنبل (م ٢٤١) في مسنده (٤).

٢ ـ أبو جعفر الطبري (م ٣١٠) في تفسيره (٥).

٣ ـ أبو بكر الجصّاص الحنفي (م ٣٧٠) في أحكام القرآن (٦).

__________________

(١) سنن البيهقي ، ج ٧ ، ص ٢٠٦.

(٢) المراد من الإحصان هو إحصان التعفف لا إحصان التزوّج. أي متعففين لا متزوجين ومن فسّره بإحصان التزوّج فقد أخطأ. ويشهد لما ذكرنا من التفسير قوله : (غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي غير زانين.

(٣) سورة النساء : الآيتان ٢٣ و ٢٤.

(٤) مسند أحمد ، ج ٤ ، ص ٤٣٦.

(٥) تفسير الطبري ، ج ٥ ، ص ٩.

(٦) أحكام القرآن ، ج ٢ ، ص ١٧٨.

٤٥٥

٤ ـ أبو بكر البيهقي (م ٤٥٨) في السنن الكبرى (١).

٥ ـ محمود بن عمر الزمخشري (م ٥٣٨) في الكشّاف (٢).

٦ ـ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي (م ٥٦٧) في تفسيره (٣).

٧ ـ أبو عبد الله فخر الدين الرازي الشافعي (م ٦٠٦) في تفسيره (٤).

٨ ـ أبو الخير القاضي البيضاوي (م ٦٨٥) في تفسيره (٥).

٩ ـ علاء الدين البغدادي (م ٧٤١) في تفسيره (٦).

١٠ ـ الحافظ عماد الدين ابن كثير الدمشقي (م ٧٤٥) في تفسيره (٧).

١١ ـ جلال الدين السيوطي (م ٩١١) في الدر المنثور (٨).

١٢ ـ أبو السعود العمادي الحنفي (م ٩٨٢) في تفسيره (٩).

١٣ ـ القاضي الشوكاني (م ١٢٥٠) في تفسيره (١٠).

١٤ ـ شهاب الدين السيد محمود الآلوسي البغدادي (م ١٢٧٠) في تفسيره (١١).

وينتهي نقل هؤلاء إلى أناس أمثال ابن عباس وأبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود ، وعمران بن حصين ، وحبيب بن أبي ثابت وسعيد بن جبير ، وقتادة ومجاهد ، كما أنّ ناقل هذه الروايات رجال الحديث والتفسير كما عرفت ، فلا يمكن اتهامهم بالوضع والجعل ، هذا حسب أسباب النزول.

__________________

(١) السنن الكبرى ، ج ٧ ، ص ٢٠٥.

(٢) الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٦٠.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ١٣٠.

(٤) مفاتيح الغيب ، ج ٣ ، ص ٢٠٠.

(٥) تفسير البيضاوي ، ج ١ ، ص ٢٦٧.

(٦) تفسير الخازن ، ج ١ ، ص ٣٥٧.

(٧) تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ٧٧٤.

(٨) الدر المنثور ، ج ٢ ، ص ١٤٠.

(٩) هامش تفسير الرازي ، ج ٣ ، ص ٢٥١.

(١٠) تفسير الشوكاني ، ج ١ ، ص ٤١٤.

(١١) روح المعاني ، ج ٥ ، ص ٥.

٤٥٦

ثم إنّ هناك قرائن تؤيّد كون المراد من قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ، نكاح المتعة ، وهي :

١ ـ أنّ جماعة من عظماء الصحابة كعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري وعمران بن حصين ، وابن مسعود وأبي بن كعب ، كانوا يفتون بإباحتها ، ويقرءون الآية هكذا : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) (إلى أجل مسمّى) ، (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ). وهذا صريح في نكاح المتعة ، ومن المعلوم ـ ولا يحتمل غيره ـ أن ليس مرادهم سقوط هذه الجملة من الذكر الحكيم ، بل المراد بيان معنى الآية على نحو التفسير الذي أخذوه من الصادع بالوحي ، ومن أنزل عليه ذلك الكتاب صلى‌الله‌عليه‌وآله. ومن زعم أنّ هذه الجملة عند هؤلاء ، جزء القرآن فقد أخطأ.

٢ ـ إنّ الاستمتاع في الآية ظاهر في هذا النوع من الزواج ، وقد كان معروفا في صدر الإسلام بالمتعة والتمتع ، فلا بد أن يحمل على هذا النوع من النكاح ، لا على المعنى اللغوي الموجود في الزواج الدائم والمنقطع.

٣ ـ إنّ النكاح الدائم قد مرّ تشريعه في صدر السورة حيث قال تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (١) ولا وجه لتكراره. وتوهم أنّ وجه التكرار هو تبيين حكم صداقهن الوارد في قوله : (أُجُورَهُنَ) ، مدفوع بأنّه مرّ بيانه أيضا ، في صدر السورة ، عند قوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) (٢) ، بل جاء بيانه أيضا قبل هذه الآية بقليل ، في قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (٣).

ولا يصحّ جعل هذه الفقرة تأكيدا لقوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ) ، لأنّ الآية السابقة آكد بيانا من هذه الآية.

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٣.

(٢) سورة النساء : الآية ٤.

(٣) سورة النساء : الآية ٢٠.

٤٥٧

٤ ـ إنّ الآية تفرّع وجوب دفع الأجور على الاستمتاع وهو يناسب الزواج المنقطع ، الذي هو المطلوب فيها ، وأمّا المهر في النكاح الدائم فهو يملك بنفس العقد ، غير أنّه لو طلق قبل المسّ يسقط النصف.

٥ ـ ما تضافر نقله عن بعض الصحابة والتابعين من دعوى كون الآية منسوخة ببعض الآيات ، فلو لم تكن الآية واردة في مورد المتعة فما معنى ادعاء النسخ.

وهذه القرائن لا تدع للآية ظهورا إلّا في العقد المنقطع.

ثم إنّ صاحب المنار أصرّ على أنّ المراد من الآية هو النكاح الدائم ، واستدلّ بأنّ المتمتع بالنكاح المؤقت لا يقصد الإحصان دون السافحة ، بل يكون قصده المسافحة ، فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه ، ومنعها من التنقل في دمن الزنا ، فإن لا يكون فيه شيء ما من إحصان المرأة التي تؤجّر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل ، فتكون كما قيل :

كرة حذفت بصوالجة

فتلقفها رجل رجل (١).

يلاحظ عليه أنّه جعل السفاح في قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، بالمعنى اللغوي ، وهو صبّ الماء وسفحه على الأرض ، ومن ثمّ جعل العقد المنقطع مصداقا له ، فصارت الآية ناهية عنه ، وظاهرة في العقد الدائم.

لكن عزب عنه أنّ المراد من السفح هنا ، هو الزنا لا المعنى اللغوي ، والآية تؤكّد على أنّ الطريق المشروع في نيل النساء ومباشرتهن ، هو النكاح لا الزنا ، والزواج لا السفاح ، وتدعو المؤمنين إلى التزوج لا الفجور. فتفسير (غَيْرَ مُسافِحِينَ) بالمعنى اللّغوي ، لا يناسب مفاد الآية.

والعجب أنّه غفل عن أنّ السفح ، بمعنى صبّ الماء ، مشترك بين الدائم والمنقطع والزنا ، فلو أخذ به لم يبق مورد لمقابله ، أعني قوله تعالى : (مُحْصِنِينَ).

__________________

(١) المنار ، ج ٥ ، ص ١٣.

٤٥٨

توضيح ذلك أنّ الآية تحرض على أمر مشروع وهو قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، وتنهى عن مقابله ، الذي يعدّ مفهوما للآية ، فلو قلنا بأنّ المراد من السفح في الآية ، هو صبّ الماء ، وهو مشترك بين الدائم والمنقطع والزنا ، لم يبق لقوله محصنين مصداق ومورد.

وإن خصّ بالزنا ، كما هو الحق ، يدخل الدائم والمنقطع تحت قوله : (مُحْصِنِينَ) ، ويبقى الزنا تحت قوله : (مُسافِحِينَ).

ثم إنّ الإحصان الذي يراد منه التعفف والاجتناب عن الزنا ، يحصل بالدائم والمنقطع معا ، فتخصيصه بالأول غفلة عن حقيقة العقد المنقطع.

وما في آخر كلامه من تشبيه المرأة المتمتع بها ، بكرة تحذف بصوالجة مختلفة ، يتلقاها رجل عن رجل ، جسارة على التشريع الإلهي ، إذ لا شك أنّ النبي الأكرم سوّغ المتعة مدة ، ولو في أمد قصير ، وإنّما اختلفت الأمّة في نسخه وعدمه. وعلى فرض النسخ ، اختلفوا في زمانه ، فهل يصحّ لنا التعبير عن سنّة النبي ، الذي لا يصدر إلّا عن الوحي الإلهي ، بهذا الشعر المبتذل ، وما هو إلّا لضعف البصيرة وقلة المعرفة.

وربما يقال في تخصيص الآية بالنكاح الدائم أنّ الهدف من تشريع النكاح هو تكوين البيت وإيجاد النسل والولد ، وهو يختص بالنكاح الدائم ، دون المتقطع الذي لا يترتب عليه إلّا إرضاء القوة الشهوية ، وصبّ الماء وسفحه.

ولا يخفى أنّه خلط بين الموضوع والفائدة المترتبة عليه ، وما ذكر إنّما هو من قبيل الحكمة ، وليس الحكم دائرا مدارها ، ضرورة أنّ النكاح صحيح وإن لم يكن هناك ذلك الغرض ، كزواج العقيم واليائسة والصغيرة ، بل أغلب المتزوجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلّا قضاء الوطر واستيفاء الشهوة من طريقها المشروع ، ولا يخطر على بالهم طلب النسل أصلا وإن حصل لهم قهرا ، ولا يقدح ذلك في صحة زواجهم.

ومن العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر ، مع أنّها كالدائم قد يقصد منها النسل والخدمة وتدبير المنزل وتربية الأولاد والإرضاع والحضانة.

٤٥٩

ونسأل المانعين الذين يتلقون نكاح المتعة ، مخالفا للحكمة التي لأجلها شرع النكاح ، نسألهم عن الزوجين الذين يتزوجان نكاح دوام ، ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين ، فهل هذا النكاح صحيح أو لا؟ ، لا أظن أنّ فقيها من فقهاء الإسلام ، يمنع ذلك ، وإلّا فقد أفتى بغير دليل ولا برهان. فيتعين الأول ، فأي فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى أنّ المدة مذكورة في الأول ، دون الثاني.

يقول صاحب المنار : «إنّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق ، وإن كان الفقهاء يقولون : إنّ عقد النكاح يكون صحيحا إذا نوى الزوج التوقيت ، ولم يشترطه في صيغة العقد ، ولكن كتمانه إيّاه يعد خداعا وغشّا وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت» (١).

أقول : نحن نفرض أنّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّا ، حتى لا يكون هناك خداع وغشّ ، فهو صحيح بلا إشكال.

الآية غير منسوخة

ثم إنّ جماعة من المفسّرين والمحدّثين بعد ما سلّموا نزول الآية في المتعة ودلالتها على مشروعيتها ، تخلّصوا عن القول بمشروعيتها الناسخة إلى أقوال :

فبين قائل بأنّها منسوخة ببعض الآيات ، وقائل بأنّها منسوخة بالسنة. والقائلون بكونها منسوخة بالقرآن اختلفوا بدورهم في الآيات الناسخة ، كما أنّ القائلين بأنّها نسخت بالسنّة اختلفوا كذلك في زمن النسخ اختلافا كثيرا. وهذه الاختلافات ، مع قرائن من التاريخ والسنّة ، تدلّ على عدم وقوع النسخ :

أ ـ الخلاف في الآيات الناسخة

ممّا يدلّ على عدم نسخ آية المتعة ، خلافهم في الآيات التي نسختها ، إلى أقوال ، لا يفي أيّ منها بالمدّعى :

__________________

(١) المنار ، ج ٣ ، ص ١٧.

٤٦٠