الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

النار غدوّا وعشيا (١) ، لأنهما راجعان إلى الحياة البرزخية. والتنعيم او التعذيب فيهما ، غيرهما في الآخرة.

الوجه الثاني : الآيات الصريحة في كونهما مخلوقين ، كقوله سبحانه : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٢) وكقوله في حقّ الجنّة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٣) ، و (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (٤) ، و (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٥) وفي حق النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٦) و (بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٧). وحملها على التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي مبالغة في تحققه ، مثل : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٨) و (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) (٩) ، يحتاج إلى دليل (١٠).

وهذا الاستدلال أمتن من سابقه ، ومع ذلك فالاعتقاد بكونهما مخلوقتين الآن يتوقف على كون دلالتهما على المقصود قطعية ، وهو غير حاصل ، لما عرفت من الاحتمال الآخر(١١).

نعم ، بعض هذه الآيات لا يحتمل إلا المعنى الأول ، مثل قوله : (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) ، إذ لم ير التعبير عن الشيء الذي سيتحقق غدا ، بالجملة الاسمية.

__________________

(١) سورة غافر : الآية ٤٦.

(٢) سورة النجم : الآيات ١٣ ـ ١٥.

(٣) سورة آل عمران : الآية ١٣٣.

(٤) سورة الحديد : الآية ٢١.

(٥) سورة الشعراء : الآية ٩٠.

(٦) سورة آل عمران : الآية ١٣١.

(٧) سورة الشعراء : الآية ٩١.

(٨) سورة الكهف : الآية ٩٩.

(٩) سورة الأعراف : الآية ٤٤.

(١٠) شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٢١٨ و ٢١٩.

(١١) وقد اعتمد على هذا الاحتمال السيد الرضى في حقائق التأويل ص ٢٤٧ ، وقال : إنّ التعبير بالفعل الماضي ، لصحته وتحقق وقوعه ، وكأنه قد كان ، فعبّر عنه بعبارة الكائن الواقع.

٤٢١

الوجه الثالث : إنّ الله تعالى رغّب المكلّفين بالجنّة ، ورهّبهم بالنار ، فكيف يصح الترغيب بجنة لم يخلقها ، والترهيب بنار لم يخلقها (١).

وهذا الوجه ضعيف جدا ، لأنّ الجنّة الموصوفة ، لمّا كانت مقدورة له تعالى ، ومثلها النار ، صحّ الترغيب والترهيب ، كما رغب المكلفين في ثواب لم يوجد بعد ، لأنّ وعده صادق وأمره واقع (٢).

نعم ، هناك روايات لا يمكن العدول عنها ، لتضافرها روى الصدوق في الأمالي والتوحيد عن الهروي ، قال : قلت : للرضا عليه‌السلام : يا بن رسول الله ، أخبرني عن الجنّة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟ فقال : نعم ، وإنّ رسول الله قد دخل الجنة ورأى النار ، لما عرج به إلى السماء. قال : فقلت له : فإنّ قوما يقولون إنّهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين. فقال عليه‌السلام : ما أولئك منّا ولا نحن منهم ، من أنكر خلق الجنة والنار ، فقد كذّب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذّبنا(٣).

أدلة النافين لخلقهما

استدل النافون لخلقهما بوجوه :

١ ـ إنّ خلق الجنة والنار قبل يوم الجزاء ، عبث ، لا يليق بالحكيم تعالى.

٢ ـ إنّهما لو خلقتا لهلكتا ، لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٤) واللازم باطل ، للإجماع على دوامهما ، وللنصوص الشاهدة بدوام أكل الجنة وظلّها.

٣ ـ إنّهما لو وجدتا الآن فإما في هذا العالم ، أو في عالم آخر ، وكلاهما باطل ، أمّا الأوّل فلأنه لا يتصور في أفلاكه ، لامتناع الخرق والالتئام عليها ،

__________________

(١) حقائق التأويل ، ص ٢٤٨.

(٢) المصدر السابق نفسه.

(٣) حق اليقين ، للسيد شبر ، ج ٢ ، ص ٢٠٤.

(٤) سورة القصص : الآية ٨٨.

٤٢٢

ولامتناع حصول العنصريات فيها ، ولأنّها لا تسع جنّة عرضها كعرض السماء والأرض.

وأما الثاني ، بأن يكونا فوق محدد الجهات (١) ، فلأنّه يلزم أن يكون في اللامكان مكان ، وفي اللاجهة جهة (٢).

يلاحظ على الأول أنّ الحكم بالعبثية يتوقف على العلم القطعي بعدم ترتب غرض عليه ، ومن أين لنا بهذا العلم؟.

ويلاحظ على الثاني أنّه ليس المراد من (هالِكٌ) هو تحقق انعدامه وبطلان وجوده ، بل المراد أنّ كل شيء هالك في نفسه ، باطل في ذاته ، لا حقيقة له إلا ما كان عنده مما أفاضه الله عليه. والحقيقة الثابتة في الواقع التي ليست هالكة باطلة من الأشياء هي صفاته الكريمة ، وآياته الدالة عليها فيهما جميعها ثابتة بثبوت الذات المقدسة ، هذا بناء على كون المراد بالهالك في الآية ، الهالك بالفعل.

وأما إذا أريد من الهالك ما يستقبله الهلاك والفناء ، بناء على ما قيل من أنّ اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال ، فهلاك الأشياء ليس بمعنى البطلان المطلق بعد الوجود ، بأن لا يبقى منها أثر ، فإنّ صريح كتاب الله ينفيه ، فإن آياته تدل على أنّ كل شيء مرجعه إلى الله وأنّه المنتهى وإليه الرجعى ، وهو الذي يبدئ الخلق ثم يعيده.

وإنّما المراد بالهلاك على هذا الوجه ، تبدّل نشأة الوجود ، والرجوع إلى الله ، المعبر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة ، والتلبس بالعود بعد البدء ، وهذا إنما يشمل ما كان موجودا بوجود بدني دنيوي ، وأما نفس الدار الآخرة ، وما هو موجود بوجود أخروي كالجنة والنار ، فلا يتصف بالهلاك بهذا المعنى. قال سبحانه : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (٣).

__________________

(١) محدّد الجهات عبارة عن الفلك التاسع ، وهو الفلك الأطلس الذي كان يعتقد به بطلميوس ويقول ليس فوقه خلاء ولا ملاء.

(٢) لاحظ هذه الوجوه الثلاثة في شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٢١٩.

(٣) سورة النحل : الآية ٩٦.

٤٢٣

وقال سبحانه : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (١). وقال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) (٢). وكذا اللوح المحفوظ ، كما قال سبحانه : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٣). فهذه الآيات تعرب عن عدم شمول الآية إلا لما له وجود دنيوي ، فيتبدل إلى وجود أخروي ، لا ما كان موجودا بوجود أخروي من بدء الأمر.

ويلاحظ على الثالث أنّه مبني على التصوير البطلميوسي للعالم ، وقد أبطل العلم أصله ، فيبطل ما فرع عليه ، فإن الكون وسيع إلى حد لا تحيط به الأرقام والأعداد النجومية.

وعلى ذلك يمكن أن تكون الجنة والنار في ذلك الفضاء الواسع الذي لا يحيط بسعته إلا الله سبحانه ، وليس علينا تعيين مكانهما بالدقة ، كيف والله سبحانه يقول : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٤) ، فلمّا كان المراد من جنة المأوى ، الجنة الموعودة ، فهي عند سدرة المنتهى ، وقد سئل ابن عباس عن سدرة المنتهى ، فقال : «إليها ينتهي علم كل عالم ، وما وراءها لا يعلمه إلّا الله» (٥). فإذا كانت سدرة المنتهى هي منتهى علم البشر ، فلن يصل علمهم إلى الجنة الموعودة التي هي عندها ، ولا يمكن لأحد تعيين مكانها ، بل غاية ما يمكن قوله هو أنّهما مخلوقتان موجودتان في هذا الكون غير المتناهي طولا وعرضا.

وأما قوله سبحانه : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (٦) ، فليس المراد من العرض فيه ما يضاد الطول ، بل هو بمعنى السعة ، والآية بصدد بيان سعة الجنة كما لا يخفى.

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ١٩٨.

(٢) سورة الحجر : الآية ٢١.

(٣) سورة ق : الآية ٤.

(٤) سورة النجم : الآيتان ١٤ ـ ١٥.

(٥) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ١٢٥.

(٦) سورة الحديد : الآية ٢١.

٤٢٤

نعم ، يستفاد من ظاهرها أنّها ليست في السماء التي يراد منها السيارات والكواكب والمجرّات الظاهرة. وممّا يؤيد ذلك أنّ النظام السمائي السائد على الكون المشاهد ، يتلاشى عند قيام القيامة لقوله سبحانه : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (١) فلو كانت الجنة والنار فيها ، للزم تلاشيهما واندثارهما عند قيام القيامة.

ويمكن أن يقال إنّ الجنة والنار كسائر الموجودات الإمكانية ، تتكاملان وتتسعان ، ويؤيّده ما روي عن النبي أنّه قال : «ليلة أسري بي ، مرّ بي إبراهيم ، فقال : مر أمّتك أن يكثروا من غرس الجنة ، فإن أرضها واسعة وتربتها طيبة ، قلت : وما غرس الجنة قال : لا حول ولا قوة إلا بالله» (٢).

هذا كله على القول بأنّ الجنة والنار حسب ظواهر الكتاب ، موجودتان في الخارج ، مع قطع النظر عن أعمال المكلف ، وأنّهما معدّتان للمطيع والعاصي ، وأما على القول بأنّه ليس لهما وراء عمل الإنسان حقيقة ، وأن الجنة والنار عبارة عن تجسم عمل الإنسان بصورة حسنة وبهيّة ، أو قبيحة ومرعبة ، فالجنة والنار موجودتان واقعا بوجودهما المناسب في الدار الآخرة ، وإن كان الإنسان ، لأجل كونه محاطا بهذه الظروف الدنيوية ، غير قادر على رؤيتهما ، وإلا فالعمل ، سواء كان صالحا أو طالحا ، قد تحقق وله وجودان وتمثّلان ، وكلّ موجود في ظرفه.

* * *

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآية ١٠٤.

(٢) سفينة البحار ، مادة غرس ، ج ٢ ، ص ٣١٢.

٤٢٥
٤٢٦

الخاتمة

* التّقيّة في الكتاب والسّنّة

* عدالة الصحابة في الكتاب والسّنّة

* الشيعة واتهامهم بالقول بتحريف القرآن

* المتعة في الكتاب والسّنّة

٤٢٧

الخاتمة

قد تعرفت فيما تقدم على المسائل الرئيسية المطروحة في علم الكلام الإسلامي ، ووقفت على الحق القراح الذي يدعمه العقل ويثبته الكتاب والسنة المطهرة ، وهناك بعض المسائل التي لم تزل الشيعة الإمامية ، تزدرى بها ، وتهاجم أو تتّهم بالاعتقاد بها ، وهي :

١ ـ البداء.

٢ ـ الرجعة.

٣ ـ التقية.

٤ ـ عدم الاعتراف بعدالة جميع الصحابة.

٥ ـ الاتهام بالقول بتحريف القرآن.

٦ ـ المتعة.

وقد قدّمنا البحث عن البداء في الجزء الأول من الكتاب (١) ، وعن الرجعة في مباحث المعاد (٢) ، وفيما يلي نتعرض إلى بقية هذه المسائل ، وإن كان بعضها (المتعة) من المسائل الفقهية التي لا تمت إلى المسائل الكلامية بصلة ، ولكن نذكرها رجاء الستر عن وجه الحق ، وتقريب الخطى بين المسلمين.

__________________

(١) الإلهيات ، ج ١ ، الفصل الخامس ، ص ٥٦٣ ـ ٥٩٣.

(٢) لاحظ ص ٢٨٩ من هذا الجزء.

٤٢٨

مباحث الخاتمة

(١) التقيّة في الكتاب والسّنة

إنّ مما يشنع به على الشيعة ويزدرى به عليهم ، قولهم بالتقية وعملهم بها في أحايين وظروف خاصة. ولكن المشنعين لم يقفوا على مغزاها. ولو تثبّتوا في الأمر ، وتريثوا في الحكم ، ورجعوا إلى كتاب الله وسنّة رسوله ، وسألوا أهل الذكر ، لوقفوا على أنها مما تحكم به ضرورة العقل ونص الكتاب والسنة.

إنّ هاهنا أمرين مختلفين ربما يخلط الجاهل أحدهما بالآخر ، وهما :

١ ـ النفاق.

٢ ـ التقية.

وقد ضربوهما بسهم واحد ، وأعطوهما حكما واحدا فقالوا إن التقية فرع من النفاق تجلّى في الشيعة باسم التقية. ولو رجعوا إلى الكتاب العزيز لعرفوا أنّه بينما يندد بالنفاق والمنافقين ويقول : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) (١) ، ويقول : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (٢) ، يحرّض على التقية في ظروف خاصة ويقول : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ٩٧.

(٢) سورة النساء : الآية ١٤٥.

٤٢٩

ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ ، إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ، وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(١).

فقوله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) ، استثناء من أهم الأحوال ، أي إنّ ترك موالات الكافرين حتم على المؤمنين في كل حال ، إلا في حال الخوف من شيء يتّقونه منهم ، فللمؤمنين حينئذ أن يوالوهم بقدر ما يتّقى به ذلك الشيء ، لأنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.

والاستثناء منقطع ، فإنّ التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولّي ظاهرا ، من غير عقد القلب على الحب والولاية ، ليس من التولّي في شيء. لأنّ الخوف والحبّ أمران قلبيّان ، ومتنافيان أثرا في القلب ، فكيف يمكن اجتماعهما. فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع.

فلو كانت التقية من فروع النفاق ، فلما ذا دعا إليها الكتاب الحكيم؟.

روى السيوطي في الدرّ المنثور قال : أخرج ابن إسحاق وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، قال : كان الحجّاج بن عمرو ، حليف كعب الأشرف ، ابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد ، وقد بطنوا بنفر من الأنصار ، ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير ، وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء النفر من اليهود ، واحذروا مباطنتهم لا يفتنونكم عن دينكم. فأبى أولئك النفر ، فأنزل الله فيهم : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ) إلى قوله (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).

وقال سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣). فترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرها ، ومجاراة الكافرين خوفا

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٢٨.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ١٦.

(٣) سورة النحل : الآية ١٠٦.

٤٣٠

منهم بشرط أن يكون القلب مطمئنا بالإيمان. فلو كانت مداراة الكافرين في بعض الظروف نفاقا ، فلم رخّصه الإسلام وأباحه ، وقد اتفق المفسرون على أنّ الآية نزلت في جماعة أكرهوا على الكفر ، وهم عمّار وأبوه ياسر وأمّه سميّة ، وقتل أبو عمار وأمّة ، وأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه. ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله ، فقال قوم كفر عمار ، فقال صلوات الله عليه وآله : «كلّا ، إنّ عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه». وجاء عمار إلى رسول الله وهو يبكي ، فقال : «ما وراءك»؟ فقال : «شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير». فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» فنزلت الآية (١).

نعم ، شذت عن المسلمين جماعة الخوارج فمنعوا التقية في الدين مطلقا ، وإن أكره المؤمن وخاف القتل ، زاعمين أنّ الدين لا يقدّم عليه شيء (٢).

وما ذكروه اجتهاد في مقابل النص ، فإنّ الآية تصرح بأنّ من نطق بكلمة الكفر مكرها ، وقاية لنفسه من الهلاك ، لا شارحا بالكفر صدرا ، ولا مستحسنا للحياة الدنيا على الآخرة ، لا يكون كافر بل يعذّر ، كما عذّر الصحابي الذي قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أنّي رسول الله ، قال : نعم ، فتركه ، وقتل رفيقه الذي سأله هذا السؤال ورفضه (٣).

كيف ، وربما يترتب على التقية ومجاراة أعداء الدين ومخالفي الحق ، حفظ مصالح الإسلام والمسلمين. وبذلك يظهر الفرق بين النفاق والتقية ، فإن بين الأمرين فرقا جوهريا لا يخلط أحدهما بالآخر.

إنّ التقية والنفاق يختلفان من وجهين ، وربما يكون الفرق أكثر من ذلك ، ولكن نكتفي بهما :

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٣٨٨ ، ونقله غير واحد من المفسرين.

(٢) المنار ، ج ٣ ، ص ٢٨٠.

(٣) المصدر السابق ، ص ٢٨١.

٤٣١

١ ـ اختلافهما من حيث المبادي النفسية

إنّ المتقي مؤمن بالله سبحانه وكتبه ورسله ، غير أنّه يرى صلاح دينه ودنياه في عدم التظاهر بما آمن به ، والتظاهر بخلافه في بعض الأحايين. ولكن المنافق هو من يبطن الكفر ، وعدم الإيمان بالله سبحانه ، وكتبه ، ورسله ، أو ما دونها من المبادي الدينية ، ولكنه يتظاهر بالإيمان حتى يتخيّل المؤمنون أنّه منهم.

وهذا مؤمن آل فرعون ، يكتم إيمانه ، تقية من قومه ، وربما يتظاهر بأنّه على دين قومه ، ولكنه بهذا الغطاء يخدم دينه ونبيّه ، فيرشد قومه إلى رصانة دينه ، ببيان بليغ صادر عن رجل محايد ، كما يخدم نبي زمانه بإبلاغه مؤامرة قومه للفتك به ، وتظهر تلك الحقيقة في الآيتين التاليتين :

قال تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ : أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (١).

ويقول أيضا : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ، قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢).

٢ ـ اختلافهما من حيث الغايات والأغراض

إنّ مستعمل التقية لا يهدف من استعمالها ، إلا صيانة نفسه عن الأذى والقتل ، وعرضه عن الهتك ، وماله عن النّهب ، أو ما يؤول إليها بالنتيجة. فلو كان هناك طمأنينة بالنسبة إلى ما يرجع إليه من هذه الأمور ، لما استعمل التقية ، ولا لجأ إليها. حتى أنّ التقية لأجل التحابب والتوادد ، ترجع غايتها إلى درء الشر عن النفس والنفيس.

__________________

(١) سورة غافر : الآية ٢٨.

(٢) سورة القصص : الآية ٢٠. وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون على ما في التفاسير.

٤٣٢

وأما المنافق فإنما يلجأ إلى النفاق ، لا لتلك الغايات المقدّسة ، وإنما يريد أن يتدخل في شئون المسلمين ، ويقلب ظهر المجن عليهم في الظروف القاسية أو يشترك معهم في المناصب ، والمقامات والغنائم والأموال وغير ذلك مما تلتذ به النفوس الحريصة ، ولأجل ذلك يعدّ سبحانه عبد الله بن أبيّ وأنصار حزبه من المنافقين وإن تظاهروا بالإيمان. يقول سبحانه: (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١).

ويقول سبحانه : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢).

سؤال وجواب

أما السؤال ، فهو : إنّ الآيتين راجعتان إلى تقيّة المسلم من الكافر ، ولكن الشيعة تتقي إخوانهم المسلمين ، فكيف يستدل بهما على صحة عملهم؟.

وأما الجواب ، فهو : إنّ الآيتين وإن كانتا لا تشملان تقية المسلم من أخيه المسلم بالدلالة اللفظية ، ولكنهما تشملان غير مورد هما بنفس الملاك الذي سوّغ تقية المسلم من الكافر فإن وجه تشريع التقية هو صيانة النفس والعرض والمال من الهلاك والدمار ، فإن كان هذا الملاك موجودا في غير مورد الآية فيجوز ، أخذا بوحدة المناط. وقد كان عمل الشيعة على التقية منذ تغلّب معاوية على الأمة ، وابتزازه الإمرة عليها بغير رضا منها ، وصار يتلاعب بالشريعة الإسلامية حسب أهوائه ، وجعل يتتبع شيعة علي ويقتلهم تحت كل حجر ومدر ، ويأخذ على الظنة والتهمة. وسارت على طريقته العوجاء الدولة المروانية ، ثم العباسية ، فزادتا في الطين بلة ، وفي الطنبور نغمة. هذا وذاك ، اضطر الشيعة إلى كتمان أمرها تارة ، والتظاهر به أخرى ، زنة ما تقتضيه مناصرة الحق ، ومكافحة الضلال ، وما يحصل به إتمام الحجة.

__________________

(١) سورة المنافقون : الآية ١.

(٢) سورة التوبة : الآية ٩٨.

٤٣٣

التقية المحرّمة

إن التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة ، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال ، ربما تحرم إذا ترتب عليها مفسدة أعظم ، كهدم الدين وخفاء الحقيقة عن الأجبال الآتية ، وتسلط الأعداء على شئون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم. ولأجل ذلك نرى أنّ كثيرا من عظماء الشيعة وأكابرهم رفضوا التقية في بعض الأحايين وتهيؤا للشّنق على حبال الجور ، والصلب على أخشاب الظلم. وكلّ ممن استعمل التقية ورفضها ، له الحسنى ، وكلّ عمل بوظيفته التي عينتها ظروفه.

إنّ التاريخ يحكي لنا عن الكثير من رجالات الشيعة الذين سحقوا التقية تحت أقدامهم ، وقدّموا هياكلهم المقدسة قرابين للحق ، منهم شهداء مرج عذراء ، وقائدهم الصحابي العظيم الذي أنهكته العبادة والورع ، حجر بن عدي الكندي ، الذي كان من قادة الجيوش الإسلامية الفاتحة للشام.

ومنهم ميثم التمار ، ورشيد الهجري ، وعبد الله بن يقطر ، الذين شنقهم ابن زياد في كناسة الكوفة ، هؤلاء والمئات من أمثالهم هانت عليهم نفوسهم العزيزة في سبيل الحق ، ونطحوا صخرة الباطل ، وما عرفوا أين زرعت التقية وأين واديها ، بل وجدوا العمل بها حراما ، ولو سكتوا وعملوا بالتقية ، لضاعت التقية من الدين ، وأصبح دين الإسلام دين معاوية ويزيد ، وزياد وابن زياد ، دين المكر ، ودين الغدر ، ودين النفاق ، ودين الخداع ، دين كل رذيلة ، وأين هو من دين الإسلام الحق ، الذي هو دين كل فضيلة ، أولئك هم أضاحي الإسلام وقرابين الحق.

وفوق أولئك ، إمام الشيعة ، أبو الشهداء الحسين وأصحابه الذي هم سادة الشهداء ، وقادة أهل الإباء.

خزاية التاريخ

كيف لا يتّقي شيعة عليّ في أيام حكومة الأمويين ، وهذا معاوية كتب إلى

٤٣٤

عماله في جميع الآفاق : «أنظروا إلى من أقيمت عليه البيّنة أنّه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه». وشفع ذلك بنسخة أخرى فيها : «من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره». فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة.

روى أبو الحسن علي بن محمد المدائني قال : قامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر ، يلعنون عليا ويبرءون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة عليّ ، فاستعمل عليهم زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنه كان منهم أيام علي عليه‌السلام ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم» (١).

وهناك رسالة قيّمة لأبي الشهداء ، الحسين بن علي عليه‌السلام حول الدماء الجارية والنفوس المقتولة بيد ابن أبي سفيان ، بذنب أنّهم شيعة علي ومحبوه ، رسالة تعدّ من أوثق المصادر التاريخية ومما جاء فيها :

«ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فقتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكّدة ، جرأة على الله واستخفافا بعهده»؟

«أولست بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة ، فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم نزلت من سقف الجبال»؟

«أولست قاتل الحضرمي (٢) الذي كتب إليك فيه زياد : إنّه على دين عليّ كرم الله وجهه ، ودين علي هو دين ابن عمه صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولو لا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ٣ ، ص ١٥.

(٢) يعني شريك بن شداد الحضرمي ، كان من أصحاب حجر الذين بعث بهم زياد إلى معاوية وقتل مع حجر.

٤٣٥

رحلة الشتاء ورحلة الصيف ، فوضعها الله عنكم بنا ، منّة عليكم» (١).

نعم ، الرزية كل الرزية تقية المسلم من المسلم ، وخوف الأخ من أخيه ، ولو لا الظلم الذي أوردته طائفة منهم على الأخرى ، لما احتاجت إلى التقية ، فلا ذنب للشيعة حينئذ. ولو سادت الحرية في العالم الإسلامي على الطوائف الإسلامية كلها ، لما كان هناك وجه لتقية الأخ من الأخ ، ولكن للأسف إنّ السلطة رأت أنّ مصالحها لا تقوم إلا بالضغط على الشيعة ليتركوا عقيدتهم وعملهم ويذوبوا في الطوائف الإسلامية الأخرى ، فما ذنب الشيعة عندئذ من أنّ تتّقي السلطة وجلاوزتها وتتظاهر على خلاف ما تعتقد لئلا يقتلوا أو يصلبوا ، أو تهتك أعراضهم أو تنهب أموالهم.

وكم شهدت أوساط الشيعة من مجازر عامة بيد السلطات الغاشمة ، فقتل الآلاف منهم بلا ذنب إلا اتّباعهم لأئمة أهل بيت نبي الإسلام ، واقتفائهم آثارهم. ونكتفي من ذلك بكلمة موجزة ـ لكي لا نخرج عن موضوع البحث ـ تصوّر جانبا من تلك الجرائم الفظيعة.

لم يفتأ شيخ الشيعة ، أبو جعفر الطوسي ، إمام عصره وعزيز مصره بغداد ، حتى ثارت القلاقل وحدثت الفتن بين الشيعة والسنة ، ولم تزل تنجم وتخبو بين الفينة والفينة ، حتى اتسع نطاقها بأمر طغرل بك أول القادة السلجوقيين ، فورد بغداد ، عام ٤٤٧ ، وشنّ على الشيعة حملة شعواء وأمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر ، وزير بهاء الدولة البويهي ، وكانت من دور العلم المهمة في بغداد ، بناها هذا الوزير في محلة بين السورين ، في الكرخ ، عام ٣٨١ ، على مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون الرشيد. وكانت مهمة للغاية فقد جمع فيها هذا الوزير ما تفرّق من كتب فارس والعراق واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم ، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ، ومهام الأسفار ، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين قال ابن الجوزي في حوادث سنة ٤٤٨ : «وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره» ، ثم قال في حوادث سنة ٤٤٩ : «وفي

__________________

(١) الغدير ، ج ١٠ ، ص ١٦٠ ـ ١٦١ لاحظ المصدر هناك.

٤٣٦

صفر هذه السنة كبست دارة أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ ، وأخذ ما وجد من دفاتره وكرسي يجلس عليه للكلام ، وأخرج إلى الكرخ ، وأضيف إليه ثلاث سناجيق بيض كان الزوار من أهل الكرخ يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة ، وأحرق الجميع» (١).

هذا غيض من فيض ، ونزر من كثير ، حول اضطهاد الشيعة وقتلهم ، وهتك أعراضهم ، جئنا به ليقف القارئ على أنّ لجوء الشيعة إلى هذا الأصل لم يكن إلا لظروف قاسية مرت عليهم ، وهي بعد سائدة ، فما ذنب الشيعة إذا أرادوا صيانة أنفسهم وأعراضهم وأموالهم؟.

بالله عليكم أيّها الاخوان ، لو كنتم انتم مكان الشيعة ، وكنتم تواجهون هذه الأحداث المؤلمة ، هل كنتم تسلكون غير هذا المسلك ، وهل كنتم تضنون بالنفس والنفيس ، أو كنتم تهدون دماءكم وتهتكون أعراضكم وتبيدون أموالكم؟

أظن أنّ من يملك شيئا من العقل والإنصاف يحكم بالثاني ، إلا إذا كان هناك مصلحة أهم منها ، وتوقف إعلاء الحق وإبطال الباطل على التضحية ، وهو أمر آخر خارج عن الموضوع. وبعد هذا كله ، أفيصح أن يقال إنّ التقية نفاق؟ (٢).

* * *

__________________

(١) الحادثة مذكورة في أكثر الكتب التاريخية التي تعرضت لحوادث عامي ٤٤٧ و ٤٤٨ للهجرة. وقد ذكرها شيخنا الطهراني في مقدمة «التبيان» ، ص ٥.

(٢) نعم ، هنا بحث آخر وهو أنّه إذا عمل الشيعي على مقتضى التقية ، كما إذا غسل رجليه مكان مسحهما أو سجد على غير ما يصح عليه السجود ، كالسجاجيد ، فكيف يحكم بصحة عمله مع أنّه لم يمتثل ما على ذمته. وهذه مسألة فقهية ، لها بحثها ، وإجمال الجواب أنّ أدلة التقية حاكمة على الأدلة الواقعية ، موسعة لها في ظروفها كالتيمم في مواقع فقد الماء ، فإجزاؤهما من باب واحد ، والتفصيل يطلب من محله.

٤٣٧

مباحث الخاتمة

(٢) عدالة الصحابة في الكتاب والسنة

المشهور بين أهل السنة عدالة الصحابة جميعا ، قال ابن عبد البر : «تثبت عدالة جميعهم» (١).

وقال ابن الأثير : «والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلا في الجرح والتعديل ، فإنّهم كلّهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح» (٢).

وقال الحافظ ابن حجر : «اتفق أهل السنة على أنّ الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة» (٣).

هذه بعض كلمات القوم ، وقد زعموا أنّ من يتتبع أحوال الصحابة لجرحهم ، أو تعديلهم ، فإنما يريدوا أن يجرحوا شهود المسلمين ليبطلوا الكتاب والسنة.

غير أنّ الشيعة الإمامية ، عن بكرة أبيهم ، على أنّ الصحابة كسائر الرواة ، فيهم العدول وغير العدول ، وأنّ كون الرجل صحابيا لا يكفي في الحكم بالعدالة ، بل يجب تتبع أحواله حتى يوقف على وثاقته.

__________________

(١) الاستيعاب ، ج ١ ، ص ٢ ، في هامش الإصابة.

(٢) أسد الغابة ، ج ١ ، ص ٣.

(٣) الإصابة ، ج ١ ، ص ١٧.

٤٣٨

والدليل الوحيد للقوم هو ما رووه عن النبي الأكرم أنّه قال : «مثل أصحابي كالنجوم بأيّهم اهتديتم اقتديتم» (١).

ولكن الاستدلال بالحديث باطل من وجوه :

١ ـ إنّ نصوص الكتاب تردّ صحة الاهتداء بكل صحابي أدرك النبي ، فإنّه يقسمهم إلى طائفتين ، طائفة صالحة عادلة ، مرفوعة المقام والمكانة ، وهؤلاء وصفوا بالسابقين الأوّلين ، المبايعين تحت الشجرة ، وغير ذلك (٢).

وطائفة غير صالحة ولا عادلة ، بل جامحة على النبي والمسلمين ، وهم بين منافق عرف المسلمون نفاقه (٣) ؛ ومن أخفى نفاقه وتمرّن عليه إلى حد لا يعرفه المسلمون حتى النبي الأكرم (٤) ؛ ومشرف على الارتداد يوم دارت على المسلمين الدوائر ، واشتدت الحرب بينهم وبين قريش (٥) ؛ وفاسق يكذب في إخباره على النبي ، يعرّفه الكتاب بأنّه فاسق لا يقبل قوله(٦) ؛ ومريض القلب قد فقد الثقة بالله ورسوله فهو يؤيّد المنافقين من غير شعور (٧) ؛ وسمّاع للمنافقين يقبل كل ما سمع منهم (٨) ؛ ومولّ في ميدان الحرب أمام الكفار ، لا يصغي لنداء النبي ولا يهمه إلا نفسه (٩) ؛ ومسلم بلسانه دون قلبه فخوطب بأنّ الإيمان لم يدخل في قلبه(١٠) ؛ وجماعة ألّفت قلوبهم بإعطاء الزكاة حتى يتّقى شرهم (١١) ؛ وخالط عملا صالحا بعمل سيّئ (١٢).

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) جامع الأصول ، ج ٩ ، كتاب الفضائل ، ص ٤١٠ ، الحديث ٦٣٥٩.

(٣) لاحظ سورة المنافقون.

(٤) لاحظ سورة التوبة : الآية ١٠٢ ، وسورة الفتح : الآية ١٦ والآية ٢٩.

(٥) سورة التوبة : الآيتان ٤٥ و ٤٦.

(٦) سورة الحجرات : الآية ٦.

(٧) سورة الأحزاب : الآية ١٢.

(٨) سورة التوبة : الآية ٤٧.

(٩) سورة آل عمران : الآية ١٥٤.

(١٠) سورة الحجرات : الآية ١٤.

(١١) سورة التوبة : الآية ٦٠.

(١٢) سورة التوبة : الآية ١٠٢.

٤٣٩

فهذه طوائف عشر من الصحابة الذين يمجدهم أهل السنة بوصف العدالة ، وأنّ في الاقتداء بكل واحد منهم ، الهداية إلى الصراط المستقيم. ولا أظن أنّ من سبر هذه الآيات وأمعن فيها يجرؤ على ذلك الادعاء ، بل سوف يرجع ويقول إنّ كثيرا ممن تشرّفوا بصحبة النبي ، ما عرفوا قدرها ، وكفروا بنعمة الله تبارك وتعالى ، فبدلا من أن يستثمروا هذه النعمة ، فيكونوا في الجبهة والسنام من العدالة ، وخسروا أنفسهم وخسروا غيرهم ممن تبعهم.

إنّ التشرف بصحبة النبي لم يكن بأشدّ ولا أقوى من صحبة امرأة نوح وامرأة لوط لزوجيهما ، فما أغنتاهما عن الله شيئا ، قال سبحانه : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (١).

وإن التشرف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازا وتأثيرا من التشرف بالزواج من النبي وقد قال سبحانه في أزواج النبي : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٢). وليس الخطاب من قبيل إياك أعني واسمعي يا جارة ، بل الخطاب خاص بهنّ بشهادة قوله : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) ، فإن غيرهن لا يضاعف لهن العذاب.

إنّ تأثير الصحبة لم يكن تأثيرا كيميائيا ، كتأثير بعض المواد في تحويل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب ، بل كان تأثيرها تأثيرا شبيها بتأثير المعلم في التلميذ ، والمرشد في المسترشد ، ومن المعلوم أن مثل هذا يؤثّر في جمع من الأمّة لا في كلهم. فمن البعيد جدا أن يكون للصحبة ثورة عارمة في قلب شخصيات الصحابة التي نشأت وترعرعت في العصر الجاهلي ، وتربت على السنن السيئة ، إلى شخصيات تعدّ مثلا للفضل والفضيلة ، من دون أن يشذّ منهم شاذ ، فتصبح الألوف المؤلّفة التي تربو على مائة ألف مع اختلافهم في الأعمار والقابليات ، رجالا

__________________

(١) سورة التحريم : الآية ١٠.

(٢) سورة الأحزاب : الآية ٣٠.

٤٤٠