الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

والجواب : إنّ المراد من قوله سبحانه : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) ، ليس أنّه هو الشفيع دون غيره ، إذ من الواضح أنّه سبحانه لا يشفع لأحد عند الغير ، بل المراد أنّه المالك لمقام الشفاعة دون غيره ، فليس في الوجود من يملك المغفرة والشفاعة وغيرهما مما هو من شئونه سبحانه ، غيره.

ولكن هذا لا ينافي أن يملكها الغير بتمليك منه سبحانه ، وفي طول ملكه ، كما هو صريح قوله سبحانه : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١) ، فإن الاستثناء في قوله : (إِلَّا) يرجع إلى قوله : (لا يَمْلِكُ). فتكون النتيجة أنّه يملك من شهد بالحق ، الشفاعة ، لكن بتمليك منه سبحانه : فهو المالك بالأصالة ، وغيره مالك بالتمليك والعرض.

وليس هذا مختصا بالشفاعة المصطلحة بل الشفاعة التكوينية أيضا كذلك ، لأن الأثر الطبيعي لجميع الأسباب التكوينية ، يرجع إليها لكن بتسبيب منه سبحانه ، فلو لا أنّه جعل النار حارة ، والشمس مضيئة ، والقمر نورا ، لا تجد فيها تلك الآثار.

الوجه الخامس :

إنّ طلب الشفاعة من الميت أمر باطل.

والجواب : إنّ هذا آخر سهم في كنانة القائلين بحرمة طلب الشفاعة من أولياء الله الصالحين ، والإشكال ناجم من عدم التعرف على مقام الأولياء في كتاب الله الحكيم. وقد عرفت أنّ القرآن يصرّح بحياة جموع كثيرة من الشهداء وغيرهم ، كما عرفت أنّ يصرح بكون النبي شهيدا على الأمة في قوله سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢). فهل تعقل الشهادة بدون الحياة ، والاطلاع على ما يجري بينهم من الأمور ، من كفر وإيمان وطاعة وعصيان؟. فلو كان النبي ميّتا كسائر الأموات ، فما معنى التسليم

__________________

(١) سورة الزخرف : الآية ٨٦.

(٢) سورة النساء : الآية ٤١.

٣٦١

عليه في كل صباح ومساء ، وفي تشهد كل صلاة : «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»؟ وما معنى خطابه ب «عليك»؟. وحمل ذلك على الشعار الخالي والتحية الجوفاء ، تأويل بلا دليل.

وأما قوله سبحانه في حقّ الموتى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (١) فهو لا يدلّ إلا على أنّ الأموات المدفونين في القبور ، لا يسمعوه ولا يفهموه ، وأنّهم كالجماد ، ولذلك شبّه المشركين بهم في عدم التعقل ، وهو أمر غير منازع فيه ، فإنّ الأبدان بعد الموت ، جمادات محضة ، من غير فرق بين جسد النبي وغيره.

غير أنّ المؤمنين لا يطلبون الشفاعة من أجساد الصالحين وأبدانهم ، بل يطلبونها من أرواحهم المقدسة الحية عند الله سبحانه ، بأبدان برزخية.

فالزائر القائل : «يا محمّد اشفع لي عند الله» ، لا يشير إلى جسده ، بل إلى روحه الزكية ، غير أنّ الوقوف عند قبره الشريف يدفع له استعدادا لأن يتصل بروحه ويخاطبها.

إلى هنا تم عرض الإشكالات الضئيلة التي أستدل بها على تحريم طلب الشفاعة من الأولياء ، والإجابة عليها بما لا يدع مجالا بعدها للشك في الجواز.

* * *

__________________

(١) سورة النمل : الآية ٨٠.

٣٦٢

مباحث المعاد

(١٦) الإحباط والتكفير

الإحباط في اللغة ، بمعنى الإبطال ، يقال : أحبط عمل الكافر ، أي أبطله (١).

والكفر بمعنى الستر والتغطية ، يقال لمن غطّى درعه بثوب : قد كفّر درعه ، والمكفّر ، الرجل المتغطّي بسلاحه ، ويقال للزارع كافر ، لأنه يغطي الحب بتراب الأرض. قال الله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) (٢). والكفر ضد الإيمان ، سمي بذلك لأنه تغطية الحق (٣).

والمراد من الحبط هو سقوط ثواب العمل الصالح بالمعصية المتأخرة ، كما أنّ المراد من التكفير هو سقوط الذنوب المتقدمة ، بالطاعة المتأخرة.

وبعبارة أخرى : إنّ الإحباط في عرف المتكلمين عبارة عن إبطال الحسنة بعدم ترتب ما يتوقع منها عليها ، ويقال التكفير وهو إسقاط السيّئة بعدم جريان مقتضاها عليها ، فهو في المعصية نقيض الإحباط في الطاعة. ولنقدّم الكلام في الإحباط أوّلا.

__________________

(١) المقاييس ، ج ٢ ، مادة حبط ، ص ١٢٩.

(٢) سورة الحديد : الآية ٢٠.

(٣) المقاييس ، ج ٥ ، مادة كفر ، ص ١٩١.

٣٦٣

أولا : الإحباط

المعروف عن الإمامية ، والأشاعرة هو أنّه لا تحابط بين المعاصي والطاعات والثواب والعقاب ، والمعروف عن جماعة من المعتزلة ، كالجبائيّين وغيرهما هو التحابط (١).

قال التفتازاني : «لا خلاف في أنّ من آمن بعد الكفر والمعاصي فهو من أهل الجنة بمنزلة من لا معصية له ، ومن كفر بعد الإيمان والعمل الصالح ، فهو من أهل النار بمنزلة من لا حسنة له ، وإنما الكلام فيمن آمن وعمل صالحا وآخر سيئا ، واستمرّ على الطاعات والكبائر ، كما يشاهد من الناس ، فعندنا مآله إلى الجنة ولو بعد النار ، واستحقاقه للثواب والعقاب ، بمقتضى الوعد والوعيد ، من غير حبوط. والمشهور من مذهب المعتزلة أنّه من أهل الخلود في النار إذا مات قبل التوبة ، فأشكل عليهم الأمر في إيمانه وطاعته وما يثبت من استحقاقاته ، أين طارت؟ وكيف زالت؟ فقالوا بحبوط الطاعات ، ومالوا إلى أنّ السيئات يذهبن الحسنات» (٢).

أقول : اشتهر بين المتكلمين أنّ المعتزلة يقولون بالإحباط والتكفير ، وأما الأشاعرة والإمامية فهم يذهبون إلى خلافهم. غير أنّ هنا مشكلة ، وهي أن نفيهما على الإطلاق يخالف ما هو مسلّم عند المسلمين ، من أنّ الإيمان يكفّر الكفر ، ويدخل المؤمن الجنّة خالدا فيها ، وأنّ الكفر يحبط الإيمان ويخلد الكافر في النار. وهذا النوع من الإحباط والتكفير مما أصفقت عليه الأمّة ، ومع ذلك كيف يمكن نفيهما في مذهب الأشاعرة والإمامية؟ ولأجل ذلك ، يجب الدقة في فهم مرادهما من نفيهما على الإطلاق ، وسوف يتبين الحال في هذين المجالين ، وأنّ ما ينفونه منهما لا ينافي ظواهر الآيات والأخبار.

__________________

(١) أوائل المقالات ، ص ٥٧.

(٢) شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٢٣٢ ، ويظهر من القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ، ص ٦٢٤ ، أن القول بالإحباط والتكفير خيرة مشايخ المعتزلة ، وإنما خالف منهم القليل مثل عبّاد بن سليمان الصيمري.

٣٦٤

هذا ، وإنّ القائلين بالإحباط اختلفوا في كيفيته ، فمنهم من قال بأن الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة ، وتمحوها بالكليّة ، من دون أن يكون لها تأثير في تقليل الإساءة ، وهو المحكي عن أبي علي الجبائي.

ومنهم من قال بأن الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة ولكنه يؤثر في تقليل الإساءة ، فينقص الإحسان من الإساءة ، فيجزى العبد بالمقدار الباقي بعد التنقيص ، وهو المنسوب إلى أبي هاشم.

وهناك قول آخر في الإحباط ، وهو عجيب جدا حكاه التفتازاني في شرح المقاصد ، وهو أنّ الإساءة المتأخرة تحبط جميع الطاعات وإن كانت الإساءة أقل منها ، قال : حتى ذهب الجمهور منهم إلى أنّ الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات (١).

وعلى هذا ففي الإحباط أقوال ثلاثة :

١ ـ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة من دون تأثير في تقليل الإساءة.

٢ ـ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة ، مع تأثير الإحسان في تقليل الإساءة.

٣ ـ أنّ الإساءة المتأخرة عن الطاعات ، تبطل جميع الطاعات من دون ملاحظة القلّة والكثرة.

إذا عرفت موضع النزاع في كلام القوم ، فلننقل أدلة الطرفين :

أدلة نفاة الإحباط

استدل النافون بوجهين : عقلي ونقلي.

أما الوجه العقلي ، فهو أنّ القول بالإحباط يستلزم الظلم ، لأن من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر ، يكون بمنزلة من لم يحسن. وإن كان إحسانه أكثر ،

__________________

(١) شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٢٣٢.

٣٦٥

يكون بمنزلة من لم يسئ. وإن تساويا يكون مساويا لمن يصدر عنه أحدهما ، وهو نفس الظلم(١).

يلاحظ عليه : إنّ الإحباط إنما يعدّ ظلما ، ويشمله هذا الدليل ، إذا كان الأكثر من الإساءة مؤثرا في سقوط الأقل من الطاعة بالكلية ، من دون أن تؤثر الطاعة القليلة في تقليل الإساءة الكثيرة ، كما عليه أبو علي الجبائي. وأما على القول بالموازنة ، كما هو المحكي عن ابنه أبي هاشم ، فلا يلزم الظلم ، وصورته أن يأتي المكلّف بطاعة استحق عليها عشرة أجزاء من الثواب ، وبمعصية استحق عليها عشرين جزء من العقاب ، فلو قلنا بأنّه يحسن من الله سبحانه أن يفعل به عشرين جزء من العقاب ، ولا يكون لما استحقه من الطاعة أيّ تأثير ، للزم منه الظلم. وأما إذا قلنا بأنه يقبح من الله تعالى ذلك ، ولا يحسن منه أن يفعل به من العقاب إلا عشرة أجزاء ، وأما العشرة الأخرى فإنها تسقط بالثواب الذي استحقه على ما أتي به من الطاعة ، فلا يلزم ذلك.

يقول القاضي عبد الجبار ، بعد نقل مذهب أبي هاشم : «ولعمري إنه القول اللائق بالله تعالى ، دون ما يقوله أبو علي ، والذي يدل على صحته هو أنّ المكلّف أتى بالطاعات على الحد الذي أمر به ، وعلى الحد الذي لو أتى به منفردا عن المعصية لكان يستحق عليها الثواب ، فيجب أن يستحق عليها الثواب ، وإن دنّسها بالمعصية ، إلا أنّه لا يمكن والحالة هذه أن يوفر عليه ، على الحد الذي يستحقه ، لاستحالته ، فلا مانع من أن يزول من العقاب بمقداره ، لأنّ دفع الضرر كالنفع في أنّه مما يعد في المنافع».

ثم قال : «فأمّا على مذهب أبي علي فيلزم أن لا يكون قد رأى صاحب الكبيرة ، شيئا مما أتى به من الطاعات ، وقد نصّ الله تعالى على خلافه» (٢).

والأولى أن يستدلّ على بطلان الإحباط بأنه يستلزم خلف الوعد إذا كان الوعد منجزا ، كما هو في محل النزاع ، وأما إذا كان مشروطا بعدم لحوق العصيان

__________________

(١) كشف المراد ، ص ٢٦٠.

(٢) شرح الأصول الخمسة ، ص ٦٢٩.

٣٦٦

به ، فهو خارج عن محل البحث. هذا ، من غير فرق بين قول الوالد والولد ، والقول الثالث الذي هو في غاية الإفراط.

وأما الوجه النقلي ، فقوله سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً ، يَرَهُ) (١).

يلاحظ عليه : إنّ الاستدلال بالآية إنما يتم على القولين الأول والثالث حيث لا يكون للإحسان القليل دور ، وأما على القول الثاني ، فالآية قابلة للانطباق عليه ، لأنه إذا كان للإحسان القليل تأثير في تقليل الإساءة الكثيرة ، فهو نحو رؤية له ، لأن دفع المضرة كالنّفع في أنّه مما يعدّ منفعة. وهذا كما إذا ربح إنسان في تجارة ، قليلا ، وخسر في تجارة أخرى أكثر ، فأدّى بعض ديونه من الربح القليل.

نعم ، الظاهر من الآية ، رؤية جزاء الخير ، وهو بالقول بعدم الإحباط ، ألصق وأطبق.

سؤال وجوابه

السؤال : لو كان القول بالإحباط مستلزما للظلم ، أو كان مستلزما لخلف الوعد ، فما هو المخلص فيما يدل على حبط العمل ، في غير مورد من الآيات التي ورد فيها أنّ الكفر والارتداد ، والشرك والإساءة إلى النبي وغيرها مما يحبط الحسنات (٢). ما هو الجواب عن هذه الآيات؟ وما هو تفسيرها؟.

الجواب : إنّ القائلين ببطلان الإحباط يفسرون الآيات بأن الاستحقاق في مواردها كان مشروطا بعدم لحوق العصيان بالطاعات ، فإذا عصى الإنسان ولم يحقق الشرط ، انكشف عدم الاستحقاق.

ويمكن أن يقال بأن الاستحقاق في بدء صدور الطاعات لم يكن مشروطا

__________________

(١) سورة الزلزلة : الآية ٧.

(٢) سنذكرها في آخر البحث.

٣٦٧

بعدم لحوق العصيان ، بل كان استقرار الاستحقاق في مستقبل الأيام ، هو المشروط بعدم لحوق المعصية ، فإذا فقد الشرط ، فقد استقرار الاستحقاق واستمراره.

يقول الشيخ الطوسي في تفسير قوله سبحانه : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١) : «معناه أنّها صارت بمنزلة ما لم يكن ، لإيقاعهم إياها على خلاف الوجه المأمور به ، وليس المراد أنّهم استحقوا عليها الثواب ثم انحبطت ، لأن الإحباط ـ عندنا ـ باطل على هذا الوجه» (٢).

ويقول الطّبرسي في تفسير قوله سبحانه : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣) : «وفي قوله : (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ، هنا دلالة على أن حبوط الأعمال لا يترتب على ثبوت الثواب ، فإن الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب ، وإنما يكون له عمل في الظاهر لو لا كفره لكان يستحق الثواب عليه ، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط ، فهو حقيقة معناه» (٤).

ويقول في تفسير قوله سبحانه : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ، حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) (٥).

«أي ضاعت أعمالهم التي عملوها لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به ، وبطل ما أظهروه من الإيمان ، لأنّه لم يوافق باطنهم ظاهرهم ، فلم يستحقوا به الثواب» (٦).

وبما ذكره الطبرسي يظهر جواب سؤال آخر ، وهو أنه إذا كان الاستحقاق

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢١٧.

(٢) التبيان ، ج ٢ ، ص ٢٠٨ ، ولاحظ مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٣١٣.

(٣) سورة المائدة : الآية ٥.

(٤) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ١٦٣.

(٥) سورة المائدة : الآية ٥٣.

(٦) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٢٠٧.

٣٦٨

مشروطا بعدم صدور العصيان ، فإذا صدر يكشف عن عدم الاستحقاق أبدا ، فكيف يطلق عليه الإحباط ، وما الإحباط إلا الإبطال والإسقاط ، ولم يكن هناك شيء حتى يبطل أو يسقط؟

وذلك لأن نفس العمل في الظاهر سبب ومقتض ، فالإبطال والإسقاط كما يصدقان مع وجود العلة التامة ، فهكذا يصدقان مع وجود جزء العلة وسببها ومقتضيها ، وهذا كمن ملك أرضا صالحة للزراعة فأحدث فيها ما أفقدها هذه الصلاحية.

وبعبارة أخرى : إنّ الموت على الكفر ، وإن كان يبطل ثواب جميع الأعمال ، لكن ليس هذا بالإحباط ، بل باشتراط الموافاة على الإيمان في استحقاق الثواب على القول بالاستحقاق ، وفي الوعد بالثواب على القول بعدم الاستحقاق. وهكذا القول في المعاصي التي ورد أنها حابطة لبعض الحسنات من غير قول بالحبط ، بل يكون الاستحقاق أو الوعد مشروطا بعدم صدور تلك المعصية.

نعم ، هذا التفسير إنما نحتاج إليه في جانب الإحباط ، وأما في جانب التكفير فلا حاجة إليه ، بل لنا أن نقول إنّ التوبة والأعمال المكفّرة يذهبان العقاب المكتوب على المعاصي من دون حاجة إلى القول بكون الاستحقاق مشروطا بالموافاة على الكفر ، لجواز تفضّله سبحانه بالعفو.

هذا ، ولا يصح القول بالإحباط والتكفير في كل المعاصي ، بل يجب علينا تتبّع النصوص ، فكلّ معصية وردت في الكتاب أو في الآثار الصحيحة أنها ذاهبة أو منقصة لثواب جميع الحسنات أو بعضها ، نقول بالإحباط فيها على التفسير الذي ذكرناه. وهكذا في جانب التكفير فلا يمكن لنا أن نقول إنّ كل حسنة تذهب السيئة إلّا بالنص.

إلى هنا تم بيان دليل النافين للإحباط على الوجه اللائق بكلامهم ، والإجابة عليه.

٣٦٩

أدلة مثبتي الإحباط

استدل القاضي على ثبوت الإحباط بوجه عقلي فقال : «قد ثبت أنّ الثواب والعقاب يستحقان على طريق الدوام ، فلا يخلو المكلّف إما أن يستحق الثواب فيثاب ، أو يستحق العقاب فيعاقب ، أو لا يستحق الثواب ولا العقاب ، فلا يثاب ولا يعاقب ، أو يستحق الثواب والعقاب ، فيثاب ويعاقب دفعة واحدة ، أو يؤثر الأكثر في الأقل على ما نقوله.

ولا يجوز أن لا يستحق الثواب ولا العقاب ، فإن ذلك خلاف ما اتفقت عليه الأمّة. ولا أن يستحق الثواب والعقاب معا فيكون مثابا ومعاقبا دفعة واحدة ، لأن ذلك مستحيل ، والمستحيل مما لا يستحق ...

فلا يصح إلا ما ذكرناه من أن الأقل يسقط بالأكثر. وهذا هو الذي يقوله الشيخان أبو علي وأبو هاشم ولا يختلفان فيه ، وإنّما الخلاف بينهما في كيفية ذلك (١).

يلاحظ عليه : إنّه مبني على أنّ استحقاق العقاب على وجه الدوام ، وهو مبني على أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار ، وبما أنّ الأساس باطل ، فيبطل ما بني عليه ، فلا دليل على دوام استحقاق العقاب. وعلى ذلك فالحصر غير حاصر ، وإنّ هنا شقا سادسا ترك في كلامه ، وهو أنّه يستحق الثواب والعقاب معا لكن لا دفعة واحدة ، بل يعاقب مدة ثم يخرج من النار فيثاب بالجنة على ما عليه جمهور المسلمين.

وقد نقل القاضي عبد الجبار ، وجها عقليا آخر للإحباط عن الشيخ أبي علي وأجاب عنه ، فلاحظ (٢).

__________________

(١) شرح الأصول الخمسة ، ص ٦٢٥. وترك تعليل الوجه الأول (وهو أن يستحق الثواب فقط والثاني (وهو أن يستحق العقاب فقط) ، لوضوحه.

(٢) شرح الأصول الخمسة ، ص ٦٣٠ ـ ٦٣١ ، وحاصل هذا الدليل أنّ المكلّف ، بارتكاب الكبيرة تخرج نفسه من صلاحية استحقاق الثواب. وهو كما ترى دعوى بلا دليل ، إذ لا دليل على أنّ كل معصية لها هذا الشأن ، وليست كل معصية كالكفر والارتداد والنفاق.

٣٧٠

تحليل لمسألة الإحباط

وهاهنا تحليل آخر للمسألة وهو أنّ في الثواب والعقاب أقوال :

١ ـ الثواب والعقاب في الآخرة من قبيل الأمور الوضعية الجعلية كجعل الأجرة للعامل ، والعقاب للمتخلّف في هذه النشأة.

٢ ـ الثواب والعقاب في الآخرة مخلوقان لنفس الإنسان حسب الملكات التي اكتسبها في هذه الدنيا ، بحيث لا يمكن لصاحب هذه الملكة ، السكون والهدوء إلا بفعل ما يناسبها.

٣ ـ الثواب والعقاب في الآخرة عبارة عن تمثّل العمل في الآخرة وتجلّيه فيها بوجوده الأخروي من دون أن يكون للنفس دور في تلك الحياة ، في تحلى هذه الأعمال بتلك الصور ، بل هي من ملازمات وجود الإنسان المحشور.

فلو قلنا بالوجه الأول ، كان لما نقلناه من نفاة الحبط (من أنّ الاستحقاق أو استمراره مشروط بعدم الإتيان بالمعصية) وجه حسن ، لأن الأمور الوضعية ، رفعها ووضعها ، وتبسيطها ، وتضييقها ، بيد المقنّن والمشرّع. وعندئذ يجمع بين حكم العقل ، بلزوم الوفاء بالوعد ، وما دلّ من الآيات على وجود الإحباط في موارد مختلفة ، كما سيوافيك.

وقد عرفت حاصل الجمع ، وهو أن إطلاق الإحباط ليس لإبطال استحقاق الإنسان الثواب ، بل لم يكن مستحقا من رأس ، لعدم تحقق شرط الثواب. وأما مصحح تسميته بالإحباط فقد عرفته أيضا ، وهو أن ظاهر العمل كان يحكي عن الثواب وكان جزء علة له.

ولو قلنا بالوجه الثاني ، وحاصله أن الملكات الحسنة والسيّئة التي تعدّ فعليات للنفس ، تحصل بسبب الحسنات والسيّئات التي كانت تصدر من النفس. فإذا قامت بفعل الحسنات ، تحصل فيها صورة معنوية ، مقتضية لخلق الثواب. كما أنّه إذا صدر منها سيئة ، تقوم بها صورة معنوية تصلح لأن تكون مبدأ لخلق العقاب. وبما أنّ الإنسان في معرض التحول والتغيير من حيث الملكات النفسانية ، حسب ما يفعل من الحسنات والسيئات ، فإنّ من الممكن بطلان

٣٧١

صورة موجودة في النفس وتبدّلها إلى صورة غيرها ما دامت تعيش في هذه النشأة الدنيوية.

نعم ، تقف الحركة ويبطل التحول عند موافاة الموت ، فعند ذلك تثبت لها الصور بلا تغيير أصلا.

فلو قلنا بهذا الوجه ، كان الإحباط على وفق القاعدة ، لأنّ الجزاء في الآخرة ، إذا كان فعل النفس وإيجادها ، فهو يتبع الصورة الأخيرة للنفس ، التي اكتسبتها قبل الموت. فإن كانت صورة معنوية مناسبة للثواب فالنفس منعّمة في الثواب من دون مقابلة بالعقاب ، لأن الصورة المناسبة للعقاب قد بطلت بصورة أخرى. وإذا انعكست الصورة ، انعكس الحكم.

وأما لو قلنا بالوجه الثالث ، وهو تجسّم الأعمال وتمثلها في الآخرة بالوجود المماثل لها ، فالقول بعدم الإحباط هو الموافق للقاعدة ، إذ لا معنى للإبطال ، في النشأة الأخرى.

غير أن الكلام كلّه في انحصار الثواب والعقاب بهذين الوجهين الأخيرين ، وقد عرفت في الجزء الأول أنّ المتشرع لا يتجرأ على القول بذلك (١).

عوامل الإحباط وأسبابه

البحث عن عوامل الإحباط وأسبابه ، بحث نقلي يتوقف على السبر والفحص في الكتاب والسنة ، ونكتفي في المقام بما جاء في الكتاب العزيز.

١ ـ الارتداد بعد الإسلام

قال سبحانه : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢).

__________________

(١) لاحظ «الإلهيات» ج ١ ، ص ٢٩٩.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢١٧.

٣٧٢

٢ ـ الشرك المقارن بالعمل

يقول سبحانه : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) (١).

وقد كان المشركون يزعمون أنّ العمل الصالح بنفسه موجب للثواب ، غير أنّ القرآن شطب على هذه العقيدة ، وصرّح بأن الثواب يترتب على العمل الصالح ، إذا صدر من فاعل مؤمن.

ولأجل ذلك أتبع الآية السابقة بقوله : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٢).

٣ ـ كراهة ما أنزل الله

قال سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٣).

٤ ـ الكفر

٥ ـ الصّدّ عن سبيل الله

٦ ـ مجادلة الرسول ومشاقّته

وقد جاءت هذه العوامل الثلاثة في قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ)(٤).

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ١٧.

(٢) سورة التوبة : الآية ١٨.

(٣) سورة محمد : الآيتان ٨ و ٩.

(٤) سورة محمد : الآية ٣٢. ولاحظ في عامل الكفر ، سورة التوبة : الآية ٦٩.

٣٧٣

وهل كل منها عامل مستقل ، أو أنّ هنا عاملا واحدا هو الكفر ، ويكون حينئذ الصّدّ عن سبيل الله ومشاقّة الرسول من آثار الكفر ، فهم كفروا ، فصدوا وشاقوا؟.

تظهر الثمرة فيما لو صدّ إنسان عن سبيل الله لأغراض دنيوية ، أو شاقّ الرسول لحالة نفسانية مع اعتقاده التام بنبوة ذاك الرسول وقبح عمل نفسه. فلو قلنا باستقلال كل منهما في الحبط ، يحبط عمله ، وإلا فلا. وبما أن الآية ليست في مقام البيان ، بل تحكي عمل قوم كانت لهم هذه الشئون فلا يمكن استظهار استقلال كل منها في الحبط. نعم ، يمكن القول بالاستقلال من باب الأولوية ، وذلك أنّه إذا كان رفع الصوت فوق صوت النبي من عوامل الإحباط كما سيأتي ، فكيف لا يكون الصّدّ والقتل من عوامله؟.

٧ ـ قتل الأنبياء

٨ ـ قتل الآمرين بالقسط من الناس

قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (١).

٩ ـ إساءة الأدب مع النبي

قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٢).

وربما يتصور أنّ رفع الصوت ليس عاملا مستقلا في الإحباط ، بل هو

__________________

(١) آل عمران : الآيتان ٢١ و ٢٢.

(٢) سورة الحجرات : الآية ٢.

٣٧٤

كاشف عن كفر الرافع. ولكنه احتمال ضعيف ، لأن الآية تخاطب المؤمنين به بقولها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

نعم ، لا يمكن الالتزام بأنّ كل إساءة بالنسبة إلى النبي تحبط الأعمال الصالحة (١) ، إلا إذا كانت هتكا في نظر العامة ، وتحقيرا له في أوساط المسلمين ، كما هو الظاهر من أسباب نزول الآية.

١٠ ـ الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة

قال سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

ويمكن أن يقال إنّ الإقبال على الدنيا بهذا النحو الذي جاء في الآية ، يساوق الكفر ، أو يساوق ترك الفرائض ، والتوغل في الموبقات ، فتكون إرادة الحياة الدنيا وزينتها إشارة إلى العامل الواقعي.

١١ ـ إنكار الآخرة

قال سبحانه : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ ، حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) (٣).

وهو فرع من فروع الكفر وليس عاملا مستقلا.

١٢ ـ النفاق

قال سبحانه : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً* .... أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ

__________________

(١) كالغضب في محضره صلوات الله عليه وآله.

(٢) سورة هود : الآيتان ١٥ و ١٦.

(٣) سورة الأعراف : الآية ١٤٧. ولاحظ سورة الكهف : الآية ١٠٥.

٣٧٥

عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١).

وقوله : (لِإِخْوانِهِمْ) ، يدل على أنّهم لم يكونوا مؤمنين بل كانوا منافقين. ويصرّح به قوله : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا). وعلى ذلك فيرجع النفاق إلى عامل الكفر وعدم الإيمان ، وليس سببا مستقلا.

هذه هي أبرز أسباب الإحباط في الذكر الحكيم ، وقد عرفت إمكان إدغام البعض في البعض. وعلى كل تقدير فالإحباط هنا هو بطلان أثر المقتضى ، لا إبطال أثر ثابت بالفعل ، كما تقدم.

* * *

ثانيا : التكفير

التكفير هو إسقاط ذنوب المعاصي المتقدمة بثواب الطاعات المتأخرة ، وهو لا يعدّ ظلما ، لأن العقاب حق للمولى ، وإسقاط الحق ليس ظلما بل إحسان ، وقد عرفت أنّ خلف الوعيد ليس بقبيح وإنما القبيح خلف الوعد. فلأجل ذلك لا حاجة إلى تقييد استحقاق العقاب أو استمرار استحقاقه ، بعدم تعقّب الطاعات. بل الاستحقاق واستمراره ثابتان ، غير أنّ المولى سبحانه ، تفضّلا منه ، عفى عن عبده لفعله الطاعات.

قال سبحانه : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٢).

وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٣).

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآيتان ١٨ و ١٩.

(٢) سورة النساء : الآية ٣١.

(٣) سورة الأنفال : الآية ٢٩.

٣٧٦

وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) (١).

ولا يمكن استفادة الإطلاق من هذه الآيات ، وأنّ كل معصية تكفّر ، لأنها بصدد بيان تشريع التكفير ، وأما شروطه وبيان المعاصي التي تكفّر دون غيرها ، فلا يستفاد منها. وإنما الظاهر من الآية الأولى هو اشتراط تكفير الذنوب الصغيرة باجتناب الكبيرة منها ، ومن الآية الثانية ، اشتراط تكفير السيئات بالتقوى ، ومن الثالثة ، تكفير السيئات للذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزّل على الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روى الكراجكي ، بسنده عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : «وإن كان عليه فضل ، وهو من أهل التقوى ، ولم يشرك بالله تعالى ، واتقى الشرك به ، فهو من أهل المغفرة ، يغفر الله له برحمته إن شاء ويتفضل عليه بعفوه» (٢).

* * *

__________________

(١) سورة محمد (ص) : الآية ٢.

(٢) البحار ، ج ٥ ، ص ٣٣٤ ، ح ٢.

٣٧٧

مباحث المعاد

(١٧) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(١)

لا خلاف بين الأمة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير أنّ القاضي عبد الجبار ، نسب إلى شرذمة من الإمامية عدم وجوبهما (٢). والنسبة في غير محلها ، فإنهم عن بكرة أبيهم ، مقتفون للكتاب والسنة. وصريح الآيات وأحاديث العترة الطاهرة على الوجوب.

روى جابر بن عبد الله الأنصاري ، عن أبي جعفر الباقر ، أنه قال :

«إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ، ومنهاج الصلحاء ، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتؤمن المذاهب ، وتحل المكاسب ، وترد المظالم ، وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر» (٣).

وأما كلمة المحققين ، فيكفي في ذلك مراجعة كتبهم الكلامية والفقهية (٤).

__________________

(١) وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأحكام الفرعية الفقهية ، غير أنّ القوم بحثوا عنه في الكتب الكلامية لأنه من الأحكام الاجتماعية التي لها دور أساسي في تطوير المجتمع وسوقه إلى الصلاح ، ونحن اقتفينا أثرهم في هذا المقام.

(٢) شرح الأصول الخمسة : ص ٧٤١.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، الباب الأول ، من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث ٧ ، ص ٣٩٣.

(٤) لاحظ أوائل المقالات ، ص ٩٨ وكشف المراد ، ص ٢٧١ ، ط صيدا.

٣٧٨

١ ـ وجوبهما عقلي أو شرعي

هل يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، عقلا ، أو لا يجبان إلا شرعا؟

القائلون بوجوب اللطف المقرّب يلزمهما القول بوجوبهما عقلا ، لأنّ اللطف ليس إلا تقريب العباد إلى الطاعة وإبعادهم عن المعصية. ومن أوضح ما يحقّق تلك الغاية هو الأمر بالمعروف بعامة مراتبه.

وأورد عليه المحقق الطوسي ما هذا توضيحه :

لو وجبا عقلا على الله تعالى ، فإنّ كل واجب عقلي ، يجب على كل من حصل في حقه وجه الوجوب ، ولو وجب عليه تعالى لكان إما فاعلا لهما ، فكان يلزم وقوع المعروف قطعا ، لأنه تعالى يحمل المكلفين عليه ، وانتفاء المنكر لأنه تعالى يمنع المكلفين عنه ، وهذا خلاف ما هو الواقع في الخارج ، وإما غير فاعل لهما ، فيكون مخلا بالواجب ، وذلك محال ، لما ثبت من حكمته تعالى.

وإلى هذا المعنى أشار هذا المحقق بقوله : «لو كانا واجبين عقلا لزم ما هو خلاف الواقع ، أو الإخلال بحكمته سبحانه» (١).

يلاحظ عليه : إنّ وجوبهما عقلا لا يلازم وجوبهما على الله سبحانه بعامة مراتبهما ، لأنه لو وجب عليه كذلك يلزم الإخلال بالغرض وإبطال التكليف ، وهذا يصد العقل عن إيجابهما على الله سبحانه فيما لو استلزم الإلجاء ، فيكتفى فيهما ببعض المراتب ، كالتبليغ والإنذار مما لا ينافي حرية التكليف ، وهما متحققان.

وإلى ما ذكرنا يشير شيخنا الشهيد الثاني بقوله : «لاستلزام القيام به على هذا الوجه (من وجوبه قولا وفعلا) الإلجاء الممتنع في التكليف ، ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالّه ، خصوصا مع ظهور المانع ، فيكون الواجب في حقه تعالى الإنذار والتخويف بالمخالفة لئلا يبطل التكليف. والمفروض أنّه قد فعل» (٢).

__________________

(١) كشف المراد ، ص ٢٧١ ، ط صيدا.

(٢) الروضة البهية ، ج ١ ، كتاب الجهاد ، الفصل الخامس ، ص ٢٦٢ ، الطبعة الحجرية.

٣٧٩

وهذا صحيح لو كان اللطف المقرب واجبا ، ولكنك عرفت أنّ وجوبه غير ثابت ، وإنما الثابت هو اللطف المحصّل للغرض (١).

٢ ـ شرائط وجوبهما

قد فصّل الفقهاء والمتكلمون الكلام في شرائط وجوبهما ، وإليك بيانها.

أ ـ علم فاعلهما بالمعروف والمنكر.

ب ـ تجويز التأثير ، فلو علم أنهما لا يؤثران لم يجبا.

ج ـ انتفاء المضرّة ، فلو علم أو غلب على ظنه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره ونهيه ، سقط وجوبهما دفعا للضرر.

د ـ تنجّز التكليف في حق المأمور والمنهي ، فلو كان مضطرا إلى أكل الميتة ، لا تكون الحرمة في حقه منجّزة ، فلا يكون فعله حراما ولا منكرا ، وإن كان الحكم في حق الآمر والناهي منجزا.

نعم ، إنّ الشرط الثالث ، أي عدم المضرة ، شرط في موارد خاصة لا مطلقا ، فربما يجب على الآمر والناهي تحمل الضرر وعدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك فيما إذا كانت المصلحة مهمة ، كما لو استلزم سكوته خروج الناس عن الدين ، وتزلزلهم في العقيدة ، فيحرم عليه السكوت ، بل يجب عليه الإصحار بالحقيقة وإن بلغ ما بلغ من ضرب أو شتم أو حبس ، حتى القتل.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا ظهرت البدع في أمتي ، فليظهر العالم علمه وإلا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (٢).

وقال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم» (٣).

__________________

(١) راجع الدليل الخامس من أدلة وجوب بعثة الأنبياء.

(٢) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٦٣.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة الثالثة.

٣٨٠