الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

الأمر الثاني : الشفاعة في السّنة.

لقد اهتم الحديث النبوي ، وحديث العترة الطاهرة بأمر الشفاعة وحدودها وشرائطها وأسبابها وموانعها ، اهتماما بالغا لا يوجد له مثيل إلا في موضوعات خاصة تتمتع بالأهمية القصوى. وإذا لاحظ المتتبع ، الصحاح والمسانيد والجوامع الحديثية فإنه يقف على جمهرة كبيرة من الأحاديث الواردة في الشفاعة ، تدفع به إلى الإذعان بأنّها من الأصول المسلّمة في الشريعة الإسلامية ، ونحن نذكر النذر اليسير منها.

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لكل نبي دعوة مستجابة. فتعجّل كلّ نبيّ دعوته ، وإنّي اختبأت دعوتي ، شفاعة لأمتي ، وهي نائلة من مات منهم لا يشرك بالله شيئا» (١).

٢ ـ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أعطيت خمسا ، وأعطيت الشفاعة ، فادخرتها لأمتي ، فهي لمن لا يشرك بالله» (٢).

٣ ـ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» (٣).

٤ ـ وقال عليّ عليه‌السلام : «ثلاثة يشفعون إلى الله عزوجل فيشفّعون : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء» (٤).

٥ ـ وقال الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما‌السلام في كلام له : «اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد ، وشرّف بنيانه ، وعظّم برهانه ، وثقّل ميزانه وتقبّل شفاعته» (٥).

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ١ ، ص ١٣٠. وصحيح البخاري ، ج ٨ ، ص ٣٣ ، وج ٩ ، ص ١٧٠. وغير ذلك من المصادر.

(٢) صحيح البخاري ، ج ١ ، ص ٤٢ ، وص ١١٩. ومسند أحمد ، ج ١ ، ص ٣٠١.

(٣) «من لا يحضره الفقيه» للصدوق ، ج ٣ ، ص ٣٧٦

(٤) «الخصال» ، للصدوق ، ص ١٤٢.

(٥) الصحيفة السجادية ، الدعاء الثاني والأربعون. ومن أراد التبسط فعليه الرجوع إلى المصادر التالية :

٣٤١

الأمر الثالث : حقيقة الشفاعة وأقسامها

للشفاعة أصل واحد يدل على مقارنة الشيئين ، من ذلك الشفع ، خلاف الوتر ، تقول كان فردا فشفّعته (١).

فإذا كان مقوّم الشفاعة ، انضمام شيء إلى شيء في مقام التأثير ، فهي تنقسم الى الأقسام التالية :

شفاعة تكوينية ، شفاعة قيادية ، وشفاعة مصطلحة بين الناس.

١ ـ الشفاعة التكوينية

قد عرفت في مباحث التوحيد أنّ المظاهر الكونية ، بحكم أنّها ممكنة الوجود ، غير مستقلة في ذاتها ، ولكنها مع ذلك قائمة على أساس علل ومعاليل سائدة فيها.

وعلى ضوء ذلك فتأثير كل ظاهرة كونية في أثرها ، ومعلولها ، بإذنه سبحانه ، ولا يتحقق إلّا مقترنا به ، ولأجل ذلك سمّى سبحانه السبب الكوني ، شفيعا ، لأنّ تأثيره مشروط بأن يكون إذنه سبحانه منضما إليه ، فيؤثّران معا. يقول سبحانه : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢) والمراد من الشفيع هو الأسباب والعلل المادية الواقعة في طريق وجود الأشياء وتحقّقها. وإنّما سميت العلة شفيعا ، لأجل أنّ تأثيرها يتوقف على إذنه سبحانه ، فهي مشفوعة إلى إذنه ، حتى تؤثّر وتعطي ما تعطي.

__________________

كنز العمال ، ج ٤ ، ص ٦٣٨ ـ ٦٤٠. التاج الجامع للأصول ، ج ٥ ، ص ٣٤٨ ـ ٣٦٠. بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ٢٩ ـ ٦٣ ، وقد أورد أحاديث الشفاعة في غير هذا الجزاء أيضا. وقد جمع الأستاذ دام ظله القسط الأوفر من أحاديث الشفاعة في موسوعته القرآنية : «مفاهيم القرآن» ج ٤ ، ص ٢٨٧ ـ ٣١١.

(١) المقاييس ، ج ٣ ، ص ٢٠١.

(٢) سورة يونس : الآية ٣.

٣٤٢

فالآية خارجة عن الشفاعة المصطلحة بين علماء الكلام ، والقرائن الموجودة في نفس الآية تصدّنا عن حملها إلا على هذا القسم من الشفاعة ، وقد عرفت أنّ الشفاعة خلاف الوتر ، وأنّه يصح في صدقها ، انضمام شيء إلى شيء.

٢ ـ الشفاعة القيادية

والمراد من هذا الصنف هو قيام الأنبياء والأولياء والأئمة والعلماء ، والكتب السماوية مقام الشفيع ، والشفاعة للبشر لتخليصهم من عواقب أعمالهم وسيئات أفعالهم.

والفرق بين هذه الشفاعة والشفاعة المصطلحة أنّ الثانية توجب رفع العذاب عن العبد بعد استحقاقه له ، وهذه توجب أن لا يقع العبد في عداد العصاة ، حتى يستحق العقاب. فالأولى من قبيل الرفع ، والثانية من قبيل الدفع. وعلى ذلك فقيادة الأنبياء والأئمة ، تقوم مقام الشفيع والشفاعة في تجنيب العبد من الوقوع في المعاصي والمهالك.

فالشفاعة بهذا المعنى ، مثلها مثل الوقاية في الطبابة ، كما أنّ الشفاعة المصطلحة مثلها مثل المداواة بعد إصابة المرض.

وليس إطلاق الشفاعة بهذا المعنى إطلاقا مجازيا ، كيف وقد شهد بذلك القرآن والأخبار.

قال سبحانه : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ ، لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١).

والضمير المجرور في (بِهِ) يرجع إلى القرآن ، ومن المعلوم أنّ ظرف شفاعة القرآن ، هو الحياة الدنيوية. فإن هدايته تتحقق فيها ، وإن كانت نتائجها تظهر في الحياة الأخروية ، فمن عمل بالقرآن قاده إلى الجنة.

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٥١.

٣٤٣

يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فإنه شافع مشفّع» (١).

فالشفاعة هنا بنفس معناها اللغوي ، وذلك أنّ المكلّف يضم هداية القرآن وتوجيهات الأنبياء والأئمة ، إلى إرادته وسعيه ، فيفوز بالسعادة الأخروية.

وهذا غير الشفاعة المصطلحة فإنّ ظرفها هو الحياة الأخروية ، فبين الشفاعتين بون بعيد.

٣ ـ الشفاعة المصطلحة

حقيقة هذه الشفاعة لا تعني إلا أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده ، وليس هذا بأمر غريب فكما أنّ الهداية الإلهية التي هي من فيوضه سبحانه ، تصل إلى عباده في هذه الدنيا عن طريق أنبيائه وكتبه ، فهكذا تصل مغفرته سبحانه إلى المذنبين والعصاة من عباده ، يوم القيامة ، عن ذلك الطريق ولا بعد في أن يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم القيامة ، عن طريق عباده ، فإنه سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سببا لذلك وقال :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٢).

وتتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق ، وبخاصة دعاء الصالحين ، من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة والمعلول ، ولا تنحصر العلة في المحسوس منها ، فإنّ في الكون مؤثرات خارجة عن إحساسنا وحواسنا ، بل قد تكون بعيدة عن تفكيرنا ، وإليه يشير قوله سبحانه : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٣).

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ص ٢٣٨.

(٢) سورة النساء : الآية ٦٤ ولاحظ يوسف : الآية ٩٧ و ٩٨ ، التوبة : الآية ١٠٣.

(٣) سورة النازعات : الآية ٥.

٣٤٤

وبالإمعان فيما ذكرنا من وقوع الدعاء في سلسلة العلل ، تقدر على إرجاع الشفاعة المصطلحة إلى قسم من الشفاعة التكوينية بمعنى تأثير دعاء النبي في جلب المغفرة.

* * *

الأمر الرابع ـ مبررات الشفاعة

ربما يقال : إذا كان المنقذ الوحيد للإنسان يوم القيامة ، هو عمله الصالح ، كما هو صريح قوله سبحانه : (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) (١) ، فلما ذا جعلت الشفاعة وسيلة للمغفرة؟.

والجواب عن ذلك : إنّ لتشريع الشفاعة مبررات عدة ، نذكر منها اثنتين :

الأول ـ الحاجة إلى رحمة الله الواسعة حتى مع العمل

إنّ الفوز بالسعادة وإن كان يعتمد على العمل أشد الاعتماد ، غير أنّ صريح الآيات هو أنّ العمل ما لم تنضم إليه رحمة الله الواسعة ، غير كاف في إنقاذ الإنسان من تبعات تقصيره.

قال سبحانه : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٢).

وقال سبحانه : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ)(٣).

__________________

(١) سورة الكهف : الآية ٨٨.

(٢) سورة النحل : الآية ٦١.

(٣) سورة فاطر : الآية ٤٥.

٣٤٥

الثاني ـ الآثار التربوية للشفاعة

بالرغم مما اعترض على الشفاعة من كونها توجب الجرأة ، وتحيي روح التمرد في العصاة والمجرمين ، فإنّ الشفاعة تتسبب في إصلاح سلوك المجرم وإنابته والتخلّي عن التمادي في الطغيان. وتظهر حقيقة الحال إذا لاحظنا مسألة التوبة التي اتفقت الأمة على صحتها ، فإنه لو كان باب التوبة موصدا في وجه العصاة والمذنبين ، واعتقد المجرم بأنّ عصيانه مرة واحدة يخلّده في عذاب الله ، فلا شكّ أنّه يتمادى في اقتراف السيئات باعتقاد أنّ تغييره للوضع الذي هو عليه لن يكون مفيدا في إنقاذه من عذاب الله ، فلا وجه لأن يترك لذات المعاصي. وهذا بخلاف ما إذا وجد الجو مشرقا ، والطريق مفتوحا ، وأيقن أنّ رجوعه يغير مصيره في الآخرة ، فيترك العصيان ويرجع إلى الطاعة.

ومثل التوبة الاعتقاد بالشفاعة المحدودة (أي مع شروط خاصة في المشفوع له) فإذا اعتقد العاصي بأن أولياء الله قد يشفعون في حقه إذا لم يهتك الستر ، ولم يبلغ إلى الحد الذي لا تكون فيه الشفاعة نافعة ، فعند ذلك ، ربما يعيد النظر في مسيره ، ويحاول تطبيق حياته على شرائط الشفاعة ، حتى لا يحرمها.

نعم ، الاعتقاد بالشفاعة المطلقة المحررة من كل قيد ، مرفوض في منطق العقل والقرآن. والمراد من المطلقة هو أنّ الأنبياء يشفعون للإنسان يوم القيامة ، وإن فعل ما فعل ، إذ عند ذلك يستمر ويتمادى في أعماله الإجرامية. وأما الشفاعة المحدودة بشرائط في المشفوع له والشافع ، فلا توجب ذلك.

ومجمل هذه الشروط أن لا يقطع الإنسان جميع علاقاته العبودية مع الله ، ووشائجه الروحية مع الشافعيين ، ولا يصل تمرده إلى حد نسف جسور الارتباط بهم.

* * *

الأمر الخامس ـ شرائط شمول الشفاعة

قد تعرفت على أنّ الشفاعة المشروعة ، هي الشفاعة المحدودة بحدود ،

٣٤٦

وليس أمر الشفاعة فوضى بلا قيد وشرط ، ونحن نذكر بعض شرائطها كما وردت في الروايات.

١ ـ عدم الشرك بالله شيئا

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «شفاعتي نائلة إن شاء الله من مات ولا يشرك بالله شيئا»(١).

٢ ـ شهادة الشهادتين بإخلاص

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلّا الله ، مخلصا ، يصدق قلبه لسانه ، ولسانه قلبه» (٢).

٣ ـ عدم الغشّ

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من غشّ العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي» (٣).

٤ ـ عدم نصب العداء لأهل البيت عليهم‌السلام

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ المؤمن ليشفع لحميمه ، إلا أن يكون ناصبا ، ولو أنّ ناصبا شفع له كل نبي مرسل وملك مقرب ما شفعوا» (٤).

__________________

(١) مسند أحمد : ج ٢ ، ص ٤٢٦.

(٢) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٣٠٧ ، و ٥١٨ ، ولاحظ صحيح البخاري ، ج ١ ، ص ٣٦.

(٣) مسند أحمد ، ج ١ ، ص ٧٢ ، المراد من العرب المسلمون ، لأن المسلمين يوم ذاك كانوا منحصرين في العرب.

(٤) ثواب الأعمال ، للصدوق ، ص ٢٥١.

٣٤٧

٥ ـ عدم الاستخفاف بالصلاة

قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام : «لما حضر أبي (الإمام الصادق) قال لي : يا بنيّ ، إنه لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة» (١).

٦ ـ عدم التكذيب بشفاعة رسول الله

قال علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : «قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : من كذّب بشفاعة رسول الله لم تنله» (٢).

وغير ذلك من الشرائط التي يجدها المتتبع في أحاديث الشفاعة من الفريقين.

الأمر السادس ـ ما هو أثر الشفاعة : إسقاط العقاب أو زيادة الثواب؟

لم تكن مسألة الشفاعة فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها ، بل كانت فكرة رائجة بين أمم العالم من قبل ، وخاصة بين الوثنيين واليهود.

نعم ، هذّبها الإسلام من الخرافات ، وقررها على أصول توافق أصول العدل والعقل ، وصحّحها تحت شرائط في الشافع والمشفوع له ، تجر العصاة إلى الطهارة من الذنوب ، ولا توجب فيهم جرأة وجسارة. وغير خفي على من وقف على آراء اليهود والوثنيين في أمر الشفاعة ، وأنّ الشفاعة بينهم كانت رجاء في حط الذنوب وغفران الآثام ، ولأجل ذلك كانوا يقترفون الكبائر ، تعويلا على ذلك الرجاء. وجاء القرآن يرد تلك العقيدة الباعثة إلى الجرأة ، فقال : إنه لا يشفع إنسان إلا بإذنه تعالى وفي حق من ارتضاه سبحانه ، فليس لكم أن تقترفوا الذنوب تعويلا على شفاعة الشفيع ، لأنّ الأمر ليس في أيديهم بل في ملكه سبحانه وقدرته.

__________________

(١) الكافي ، ج ٣ ، ص ٢٧٠. وج ٦ ، ص ٤٠١. والتهذيب ، للطوسي ، ج ٩ ، ص ١٠٧.

(٢) عيون أخبار الرضا ، ج ٢ ، ص ٦٦.

٣٤٨

وعلى ضوء هذا ، إن الشفاعة عند الأمم ، مرفوضها ، ومقبولها ، يراد منها حط الذنوب ، ورفع العقاب ، وهي كذلك في الإسلام ، بلا فرق ، كما يوضحه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (١).

وفي المقابل ذهبت المعتزلة إلى تخصيص آيات الشفاعة بأهل الطاعة ، دون العصاة ، وأن أثرها ينحصر في رفع الدرجة وزيادة الثواب. وما هذا التأويل في آيات الشفاعة إلا لأجل موقف مسبق لهم في مرتكب الكبيرة ، حيث حكموا بخلوده في النار إذا مات بلا توبة ، فلما رأوا أن القول بالشفاعة التي أثرها هو إسقاط العقاب ، ينافي ذلك المبنى ، أوّلوا آيات الله ، فقالوا إنّ أثر الشفاعة إنما هو زيادة الثواب ، ورفع الدرجة. وهذا المقام أحد المقامات التي يؤخذ المعتزلة فيها بالعتاب ، حيث قدّموا النهج على النقل الصريح ، وخالفوا في ذلك جميع المسلمين.

قال القاضي عبد الجبار ، منكرا شمول الشفاعة للعصاة : «إنّ شفاعة الفساق الذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا تتنزل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصد للآخر حتى يقتله ، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هاهنا» (٢).

وما ذكره القاضي ، غفلة منه عن شروط الشفاعة ، فإنّ بعض الذنوب الكبيرة ، تقطع العلائق الإيمانية بالله سبحانه ، كما تقطع الأواصر الروحية مع النبي الأكرم ، فأمثال هؤلاء العصاة لا تشملهم الشفاعة ، وقد تقدم ذكر النصوص الدالة على حرمان طوائف منها.

والعجب أنّ القاضي استدل على أنّ الفاسق لا يخرج من النار بشفاعة النبي ، بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) (٣). وقوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (٤).

__________________

(١) سنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ٥٣٧ ، وصحيح الترمذي ، ج ٤ ، ص ٤٥ ، صحيح ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ١٤٤١. مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ٢١٣.

(٢) شرح الأصول الخمسة ، ص ٦٨٨.

(٣) سورة البقرة : الآية ٤٨.

(٤) سورة غافر : الآية ١٨.

٣٤٩

فيلاحظ عليه : أنّ الآيتين راجعتان إلى الكفار ، فالآية الأولى ناظرة إلى نفي الشفاعة التي كان اليهود يتنبونها ، كما هو صريح سياقها ، والآية الثانية ناظرة إلى نفي الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من معبوداتهم ، يقول سبحانه : (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ* تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ* فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (١).

وقال سبحانه : ـ حاكيا قول المجرمين في سقر ـ (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ* فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٢).

* * *

الأمر السابع ـ الإشكالات المثارة حول الشفاعة

هناك إشكالات مثارة حول الشفاعة ، ناشئة من قياس الشفاعة الواردة في الشريعة الإسلامية ، بالشفاعة الرائجة بين الناس ، ولو عرف المستشكلون الاختلاف الماهوي بين الشفاعتين ، لما اجترءوا على إلقاء هذه الشبهات.

الإشكال الأول :

إنّ جميع المعاصي تشترك في هدم الحدود والجرأة على المولى ، فأي معنى لشمول الشفاعة لبعض ألوان الجرائم والمعاصي دون البعض الآخر؟.

والجواب :

إن للجرم مراتب ، كما أنّ المجرمين ، على درجات من النفسيات والروحيات ، فلا يستوي من أحرق منديل أحد عدوانا بمن أحرق مصنعا كبيرا له. وفرق بين شاب ينظر إلى المرأة الأجنبية نظرا ممزوجا بالسوء ، وآخر يعتدي

__________________

(١) سورة الشعراء : الآيات ٩٦ ـ ١٠١.

(٢) سورة المدثر : الآيات ٤٦ ـ ٤٨.

٣٥٠

عليها بالعنف. فإذا اختلف الجرمان ، اختلف المجرمان من حيث النفسانيات والروحيات. وهناك مجرم قد حافظ على روابطه الإيمانية مع الله ، وعلى علاقاته الروحية مع الشفيع ، بحيث لا يعد المجرم غريبا عن كلا المقامين ، ومجرم قد قطع كلتا العلاقتين ، وصار أجنبيا عنهما ، فتشريع الشفاعة في حقّ الأول دون الثاني ، لا يعدّ تفريقا في القانون.

والذي يوضح ذلك أنّ الله سبحانه فرّق بين الذنوب ، فقال بأنّ الشرك لا يغفر ، إلّا مع التوبة ، وأما غيره فيغفر وإن لم تقع التوبة.

قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (١).

وأنت إذا أحطت بما ورد حول الذنوب من العقوبات المختلفة وتقسيمها إلى كبائر وصغائر ، تقف على أنّ قبول الشفاعة ، في حق بعض دون بعض ، ليس ترجيحا بلا مرجّح.

الإشكال الثاني :

إنّ تشريع الشفاعة يجرّ إلى التمادي في العصيان ، واستمرار المجرم في عدوانه ، رجاء غفران ذنوبه بالشفاعة (٢).

والجواب ، أما نقضا :

فبالوعد بالمغفرة ، مع التوبة ، بل حتى مع عدمها ، قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) ، فلو كانت الشفاعة موجبة للتمادي ، فليكن الوعد بالمغفرة مع التوبة بل مع عدمها في غير الشرك موجبا للتمادي ، أيضا. فالجواب هنا ، هو الجواب هناك.

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٤٨.

(٢) دائرة المعارف ، لفريد وجدي ، ج ٥ ، ص ٤٠٢.

٣٥١

وأما حلا

فالإشكال ينبع من تصوّر خاطئ وهو اعتقاد كون الشفاعة مطلقة غير مشروطة بشيء ، فيكون للإنسان عند ذاك أن يفعل ما يريد تعويلا عليها. ولكنك عرفت أنّ الشفاعة محدودة ، وتشمل بعض العباد ، وهم الذين لم تنقطع علاقاتهم بالله سبحانه وبأوليائه ، ومثل هذه الشفاعة لا تبعث على الجرأة ، بل تبعث عملا في نفس العاصي ، وتدفعه إلى الاحتفاظ بعلاقته ولا ينسفها من رأس.

إن الشفاعة التي نطق لها القرآن ، ليست أمرا مطلقا من كل قيد وشرط ، فإنّ الشفاعة مقيّدة بإذنه سبحانه أوّلا ، وكون المشفوع له مرضيا عند الله ثانيا ، وليس من الممكن أن يذعن المجرم بأنّه ممن يشمله أذنه سبحانه ورضاه.

قال سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١).

وقال سبحانه : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٢).

فليس في وسع أحد أن يدّعي أنّه من العباد المرضيين ، ثم يعتمد على ادّعائه ويتمادى في العصيان.

وهناك وجه آخر لكون الشفاعة محدودة ، وهو إبهامها من حيث الجرم ، فلا يعلم أي جرم تشمله الشفاعة وأيّه لا تشمله. كما أنها مبهمة من حيث وقت القيامة ، فللعصاة والطغاة مواقف مختلفة ، وهي مواقف رهيبة ومخيفة تهز القلوب ، ولم يعين وقت الشفاعة.

وهذا الإبهامات الثلاثة ، تصد المجرم عن الاعتماد على الشفاعة ليتمادى في المعصية ، وغاية ما يمكن أن يقال في الشفاعة أنّها بصيص من الرجاء ، ونافذة من الأمل فتحها القرآن في وجه العصاة حتى لا ييأسوا من روح الله.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٥٥.

(٢) سورة الأنبياء : الآية ٢٨.

٣٥٢

الإشكال الثالث :

إنّ الشفاعة لا تتحق إلا بترك الإرادة وفسخها لطلب الشفيع رفع العقاب عن المشفوع له ، من غير فرق بين الحاكم العادل والحاكم الظالم ، غاية الأمر أنّ الحاكم العادل لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغيّر علمه بما كان أراده أو حكم به ، كأن أخطأ ثم عرف الصواب ، ورأى العدل في خلاف ما أراده أو حكم به. وأما الحاكم الظالم ، فهو يقبل الشهادة لكن مع العلم بصواب الحكم الأول وكونه عدلا ، لكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرّب عنده على العدالة ، وكلا النوعين محال على الله ، لأن إرادته تعالى على حسب علمه ، وعلمه أزلي لا يتغير (١).

والجواب :

إن المستشكل لو أمعن في حقيقة الشفاعة التي نطق بها القرآن والأحاديث لما جعل الشفاعة من هذا الباب. بل هي من واد آخر ، ومن باب تغيير الحكم لأجل تغيّر الموضوع. فالخمر ما دام خمرا حرام ، فإذا تبدّل إلى الخل يكون حلالا ، ولا يعدّ الحكم الثاني ناقضا للحكم الأول.

ونظير ذلك العاصي والتائب ، فإن العصيان حالة نفسانية في الإنسان ، فله حكمه الخاص ، كما أنّ التوبة حاكية عن حالة نفسانية مغايرة للحالة الأولى ، فلها حكمها الخاص ، والاختلاف في الحكمين لأجل الاختلاف في الموضوعين ، ولا يعد ذلك تبدّلا في العلم ، بل تبدّلا في المعلوم.

وعلى هذا الأساس ، فالعاصي ـ مجردا عن انضمام الشفاعة إليه ـ محكوم بالعقاب ، ولكنه ـ منضمّة إليه الشفاعة ـ محكوم بحكم آخر من أول الأمر ، واختلاف الحكمين ، لأجل اختلاف الموضوعين في الإطلاق والتقييد.

وإن شئت قلت : إنّ العاصي مجردا عما يمر عليه في البرزخ من العذاب ،

__________________

(١) المنار ، ج ١ ، ص ٣٠٧ ، وقد تبنى مؤلّفه هذا الإشكال وما يليه!!.

٣٥٣

وما يستتبع ذلك العذاب من الصفاء في روحه ، ومجردا عن دعاء الشفيع في حقه ، محكوم بالعقاب. ولكنه ـ منضما إلى الضمائم الثلاث ـ محكوم بالمغفرة.

وعلى ضوء هذا ، يتبين أنّ الشفاعة لا توجب اختلافا في علمه وتغييرا في إرادته ، كما لا توجب أن يكون أحد الحكمين مطابقا للعدل والآخر مطابقا للجور ، بل الحكمان صدرا من الأزل ، على موضوعين مختلفين ، من مصدر العدل ، تبارك وتعالى.

الإشكال الرابع :

ليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة وإنما ورد الحديث بإثباتها (١).

ولعل نظر المستشكل إلى أنّ الشفاعة مقيدة بإذنه سبحانه وارتضائه ، ولا دليل على أنه يأذن ويرتضي ، فهو ممكن لا دليل على وقوعه.

والجواب :

إن البحث عن الإمكان والامتناع يناسب المسائل الفلسفية والكلامية البحتة ، وأما المسائل التربوية ، كالشفاعة ، فالوعد بها ، مقيّدا بالإذن ، والارتضاء ، لا يهدف إلا إلى وقوعها في ذلك الإطار ، لا إمكانها فيه ، وذلك مثل قوله سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٢) وقوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٣).

على أن هناك قرائن تدل على وقوع الاستثناء وتحققه ، منها :

١ ـ أنّه سبحانه عبّر عن رضاه ، بالجملة الماضية ، وقال : (وَلا يَشْفَعُونَ

__________________

(١) المنار ، ج ٧ ، ص ٣٧٠.

(٢) سورة يونس : الآية ١٠٠.

(٣) سورة آل عمران : الآية ١٤٥.

٣٥٤

إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ، وهو يدل على تحقق الرضا منه سبحانه في حقّ المشفوع له ، ورضاه له لا ينفك عن تحقق إذنه للشفعاء.

٢ ـ وأنّه سبحانه أخبر بخبر قطعيّ عن شهادة من شهد بالحق ، قال : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١).

وهذا يكشف عن تحقق المراتب المتقدمة عليه ، من إذنه سبحانه له وارتضائه لمن يستحقها.

وغير ذلك من القرائن التي يستكشف منها كون الشفاعة وعدا مقطوعا وقوعه.

الإشكال الخامس :

الذي ورد في إثبات الشفاعة ، من الآيات المتشابهات ، وفيه يقضى بمذهب السلف ، بالتفويض والتسليم ، ولا نحيط بحقيقتها ، مع تنزيه الله تعالى جل جلاله عن المعنى المعروف للشفاعة في لسان التخاطب العرفي (٢).

والجواب :

قد تعرفت على أصناف الآيات الواردة في الشفاعة ، وليس فيها آية مبهمة مستعصية على الفهم. وعلى فرض وجودها ، يرفع إبهامها بآية أختها ، أو بالأحاديث الواردة حولها.

على أنّ ما ذكره المستشكل من أنّ مذهب السلف في المتشابهات هو التفويض والتسليم ، مردود من رأس فإنّ القرآن كتاب الهداية والتربية ، نزل للفهم

__________________

(١) سورة الزخرف : الآية ٨٦.

(٢) المنار ، ج ١ ، ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

٣٥٥

والعبرة ، فلا معنى لقراءة الآيات وتفويض مفاهيمها التصديقيّة إلى الله ، بل يجب رفع إبهام المتشابهات عن طريق المحكمات.

نعم ، هناك مفاهيم تصورية مبهمة ، كحقيقة ذاته تعالى ، وصفاته ، وحقيقة الميزان والحساب والجنة والنار ، ولكنها مفاهيم تصورية خارجة عن موضوع البحث.

* * *

هذه جملة من الإشكالات ، وبالإحاطة بها وبأجوبتها ، تقدر على دفع ما لم نورده مما ذكروه (١).

وفي الختام ، نشير إلى أن مسألة الشفاعة مسألة إجماعية ، اتفق عليها الفريقان ، فلا تجد في كتاب كلامي إلّا التصديق بها.

قال القاضي عيّاض : «مذهب أهل السنة هو جواز الشفاعة عقلا ، ووجوبها سمعا بصريح الآيات ، وبخبر الصادق ، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر ، بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين ، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة ، عليها» (٢).

وقال الإمام أبو حفص النسفي : «والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر ، بالمستفيض من الأخبار» (٣).

* * *

__________________

(١) راجع في الوقوف على سائر الإشكالات وأجوبتها ، مفاهيم القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٤٦ ـ ٢٥٦.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ٦٢.

(٣) شرح العقائد النسفية ، ص ١٤٨. ولاحظ أنوار التنزيل للبيضاوي ، ج ١ ، ص ١٥٢. ومفاتيح الغيب ، للرازي ، ج ٣ ، ص ٥٦. ومجموعة الرسائل الكبرى ، لابن تيمية ، ج ١ ، ص ٤٠٣. وتفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ٣٠٩. وغير ذلك من المصادر.

٣٥٦

الأمر الثامن : هل يجوز طلب الشفاعة؟

قد تعرفت على أنّ أصل الشفاعة أمر مفروغ عنه ، وأنّ المخلصين من عباده يشفعون يوم القيامة بعد إذنه وارتضائه ، لكن يقع الكلام في جواز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة.

فذهب ابن تيمية وتبعه محمد بن عبد الوهاب ـ مخالفين الأمة الإسلامية جمعاء ـ إلى أنّه لا يجوز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة ولا يجوز للمؤمن إلّا أن يقول : اللهم شفّع نبيّنا محمدا فينا يوم القيامة ، ولا يجوز أن يقول : يا رسول الله ، اشفع لي يوم القيامة.

واستدلا على ذلك بوجوه ، لا بأس بذكرها والإجابة عنها على وجه الإجمال.

الوجه الأول : إنّه من أقسام الشرك ، أي الشرك بالعبادة ، والقائل بهذا الكلام ، يعبد الولي (١).

والجواب ، أما نقضا

فبأنّه لو كان طلب الشفاعة في هذه النشأة من الأنبياء والأولياء شركا ، لوجب أن لا يكون هناك فرق بين حياتهم ومماتهم ، مع أنّ القرآن يدعو المؤمنين إلى أن يلجئوا إلى حضرة الرسول في حال حياته ويطلبوا منه أن يستغفر لهم ، يقول سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٢). وليس طلب الاستغفار من النبي إلّا طلبا للشفاعة ، إذ ليس معنى قولنا : يا رسول الله اشفع لنا عند الله ، إلّا أدع لنا عند ربك بالخير والمغفرة.

__________________

(١) الهدية السنية ، ص ٤٢.

(٢) سورة النساء : الآية ٦٤.

٣٥٧

وأمّا حلّا :

فقد عرفت أنّ طلب شيء من أي شخص كان ، إنما يعد عبادة ، إذا اعتقد أنّه إله أو ربّ ، أو أنّه مفوّض إليه فعل الخالق وتدبيره وشئونه. وأمّا طلب من الشخص بما أنّه عبد صالح محبوب عند الله ، فلا يعدّ عبادة للمدعو سواء أكان نافعا أو لا. وقد أوضحنا معنى العبادة عند البحث عن التوحيد في العبادة (١).

الوجه الثاني :

إنّ طلب الشفاعة من النبي يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة ، وقد حكى القرآن ذاك العمل منهم ، وقال.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ)(٢).

وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه ، عبادة لهذا الغير (٣).

والجواب :

إنّ المعيار في القضاء ليس هو التشابه الصوري ، بل المعيار هو البواطن والعزائم ولو صحّ ما ذكره لوجب أن يكون السعي بين الصفا والمروة ، والطواف حول البيت ، شركا ، لقيام المشركين به في الجاهلية ، وقد عرفت أنّهم كانوا يطلبون الشفاعة من الأوثان باعتقاد أنّها آلهة أو أشياء فوّض إليها أفعال الله سبحانه من المغفرة والشفاعة.

وأين هذا من طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء بما أنّهم عباد الله

__________________

(١) لاحظ الجزء الأول من الكتاب ، ص ٤٢٩ ـ ٤٤٧.

(٢) سورة يونس : الآية ١٨.

(٣) كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب ، ص ٦.

٣٥٨

الصالحون. فعطف هذا على ذلك ، جور في القضاء ، وعناد في الاستدلال.

وأما الاستدلال بالآية الثانية ، فهو ضعيف من وجهين :

الأول : إنّ الآية على خلاف ما يدّعيه أدلّ ، لأنّ عطف (وَيَقُولُونَ) ، على قوله: (وَيَعْبُدُونَ) ، دليل على أنّ العمل الثاني ليس عبادة ، أخذا بحكم العطف الدال على المغايرة. وبعبارة أخرى : إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين ، العبادة أوّلا ، وقولهم هم شفعاؤنا ، وطلب الشفاعة منهم ثانيا ، وعلة اتّصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني.

الثاني : لو فرضنا أنّ الجملة الثانية ، جملة تفسيرية للأولى ، فنقول : إنّ توصيف طلب الشفاعة من الأوثان بالعبادة لا يستلزم توصيف طلب الشفاعة من الأولياء بها أيضا ، لما عرفت من الاختلاف في العقيدة ، وأنّ الشافعين كانوا عند عبدة الأصنام آلهة ، وعند المؤمنين عبادا صالحين ، وأين هذا من ذاك؟!.

الوجه الثالث :

إن طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام ، فإن ذلك دعاء لغير الله ، وهو حرام.

قال سبحانه : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١).

ويدل على أنّ الدعاء في الآية عبادة ، قوله سبحانه : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٢). فقد عبّر عن العبادة في الآية بلفظ «الدعوة» في صدرها ، وبلفظ العبادة في ذيلها ، وهذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى. وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الدعاء مخ العبادة».

__________________

(١) سورة الجن : الآية ١٨.

(٢) سورة غافر : الآية ٦٠.

٣٥٩

والجواب

إنّ القول بأنّ دعاء الغير في جميع الظروف مساوق للعبادة ، شيء لا أساس له ، وإلا يلزم أن لا يسجّل اسم أحد في سجل الموحدين ، فإنّ الناس لا ينفكّون عن التعاون ، واستعانة بعضهم ببعض ، ودعوة الواحد منهم الآخر. وعلى ذلك فيجب أن يقال إنّ قسما ـ فحسب ـ من الدعاء مساوق للعبادة ، وهو دعاء الشخص بما أنّه إله ، وبما أنّه رب ، أو بما أنّه مفوّض إليه أفعاله سبحانه. فدعاؤه بهذه الخصوصيات ، مساوق لعبادته.

والآية ناظرة إلى هذا القسم من الدعاء بقرينة قوله (مَعَ اللهِ) ، معربا عن أنّ الداعي يرى المدعو مشاركا لله سبحانه في مقام أو مقامات ، ومن المعلوم أنّ الدعاء بهذه الخصوصية شرك بلا إشكال ، والمشركون في الجاهلية ، كانوا يسوون بين الأوثان ورب العالمين ، ويدل عليه قوله سبحانه ـ حاكيا قولهم يوم القيامة ـ : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١).

فأي كلمة أظهر من التعبير عن عقيدة المشركين في حق الأوثان بأنها كانت عندهم ورب العالمين ، سواسية.

فقياس دعوة الصالحين من الأنبياء والأولياء ، بدعوة الأصنام والأوثان ، قياس مع الفارق البالغ ، لا يعتمد عليه إلا من سبق له الرأي في هذا المجال ، ويريد التمسك بالطحلب والحشيش.

الوجه الرابع :

إنّ الشفاعة حق مختص بالله لا يملكه غيره ، وعلى ذلك فطلبها من غير مالكها أمر غير صحيح ، قال سبحانه : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ ، قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ* قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ...) (٢).

__________________

(١) سورة الشعراء : الآيتان ٩٧ و ٩٨.

(٢) سورة الزمر : الآيتان ٤٣ و ٤٤.

٣٦٠