الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

يلاحظ عليه : إنّ الآية وردت في شأن المنافقين ، فإنهم كانوا يتركون النبي ويرجعون في دعاويهم إلى الأحبار ، وهم مع ذلك يدّعون الإيمان والإذعان والتسليم للنبي. فنزلت الآية بأنه لا يقبل منهم ذلك الادعاء حتى يرى أثر الإيمان في حياتهم ، وهو تحكيم النبي في المرافعات ، والتسليم العملي أمام قضائه ، وعدم إحساسهم بالحرج ، وهذا هو الظاهر من الآية ، لا أنّ التحكيم بما أنّه عمل ، جزء من الإيمان. وهذا نظير ما إذا ادّعى إنسان حبّا لرجل فيقال له : إن كنت صادقا فيجب أن يرى أثر الحب في حياتك ، فاعمل له كذا وكذا.

٤ ـ قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (١). فسمى سبحانه تارك الحج كافرا (٢).

يلاحظ عليه : إنّ المراد كفران النعمة ، حيث إن ترك فريضة الحج مع الاستطاعة ، كفران لنعمته سبحانه ، وقد استعمل الكفر في مقابل شكر النعم ، قال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٣).

كما ربما يكون المراد من الكفر جحد وجوب الحج.

وغير ذلك مما استدلوا به من الآيات. وأنت إذا احطت بما ذكرنا ، تقدر على الإجابة عن استدلالهم بها (٤).

نعم ، هناك روايات عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تعرب عن كون العمل جزء من الإيمان ، نظير قول الصادق عليه‌السلام : «ملعون ، ملعون من

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٩٧.

(٢) البحار ، ج ٦٦ ، ص ١٩.

(٣) سورة إبراهيم : الآية ٧.

(٤) مثل قوله سبحانه : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة : ٥). مستدلين بأنّ المشار إليه بلفظة «ذلك» ، جميع ما ورد بعد الأمر ، من عبادة الله سبحانه بالإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، استدل به ابن حزم في الفصل ، ج ٣ ، ص ١٩٤. وقد أجاب عنه الأستاذ دام ظله في الجزء الثالث من بحوثه في الملل والنحل ، فلاحظ.

٣٢١

قال : الإيمان قول بلا عمل» (١). والظاهر أنّ هذه الروايات وردت لرد المرجئة التي تكتفي في الحياة الدينية بالقول والمعرفة ، وتؤخر العمل ، وترجو رحمته وغفرانه ، مع عدم القيام بالوظائف. وقد تضافرت عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام لعن المرجئة (٢).

سؤال :

لو كان الإيمان هو التصديق ، فهل هو يزيد وينقص.

الجواب :

قد علم هذا مما ذكرنا من كون الإيمان ذا مراتب ، وأن نفس الإذعان ، له درجات. وليس القول بزيادة الإيمان ونقصانه مختصا بمن جعل العمل عنصرا مقوّما للإيمان ، بل هو يتحقق أيضا عند من يقول بأنّ الإيمان هو التصديق القلبي ، وليس العمل جزء منه.

إلى هنا تبيّنت حقيقة الأقوال الأربعة في بيان حقيقة الإيمان ، وقد عرفت أنّ الصواب هو الأوّل منها ، وهو التصديق القلبي (٣).

* * *

__________________

(١) البحار ، ج ٦٦ ، باب أنّ الإيمان مبثوث على الجوارح ، الحديث ١ ، ص ١٩ ، ولاحظ سائر الروايات في هذا الكتاب.

(٢) لاحظ الوافي ، للفيض الكاشاني ، ج ٣ ، أبواب الكفر ، والشرك ، باب أصناف الناس ، ص ٤٦.

(٣) بقي هنا قول المرجئة ، وهو لا يفترق كثيرا عن القول الثالث من الاكتفاء بالتصديق اللساني ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الجزء الثالث من أبحاث الشيخ الأستاذ حفظه الله في الملل والنحل.

٣٢٢

مباحث المعاد

(١٤) التوبة وشرائطها

إن التوبة من المكفّرات التي نص الكتاب والحديث على تكفير الذنوب بها ، تحت شرائط خاصة ، وإشباع الكلام فيها يتم بالبحث في أمور :

الأمر الأول ـ فلسفة التوبة

ربما يتوهّم أنّ في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء بالمعصية وتحريضا على ترك الطاعة ، بدعوى أنّ الإنسان إذا أيقن أنّه سبحانه يقبل توبته رغم اقترافه المعاصي ، تزيد جرأته على هتك الحرمات ، والانهماك في الذنوب ، فيدقّ باب كل قبيح ، معتمدا على التوبة.

ولكنه توهم ساقط من أصله ، فإنه لو كان باب التوبة موصدا في وجه العصاة ، واعتقد المجرم بأنّ العصيان مرّة واحدة ، يدخله في عذاب الله ، فلا شكّ أنّه سيتمادى في اقتراف السيئات وارتكاب الذنوب ، معتقدا بأنه لو غيّر حاله إلى الأحسن ، لما كان له تأثير في تغيير مصيره ، فلأي وجه يترك لذات المحرمات في ما يأتي من أيام عمره. وهذا بخلاف ما لو اعتقد بأنّ الطريق مفتوح والنوافذ مشرعة ، وأنّه لو تاب توبة نصوحا ينقذ من عذابه سبحانه ، فهذا يعطيه الأمل برحمة الله تعالى ويترك العصيان في مستقبل أيامه. وكم وكم من الشباب عادوا إلى الصلاح بعد الفساد في ظل الاعتقاد بالتوبة ، بحيث لو لا ذلك الاعتقاد لأسهروا لياليهم في المعاصي ، بدل الطاعات.

٣٢٣

ولأجل ذلك نرى في التشريعات الجنائية العالمية قوانين للعفو عن السجناء المؤبّدين ، إذا شوهدت منهم الندامة والتوبة ، وتغيير السلوك ، فتشريع هذا القانون يكون موجبا لإصلاح السجناء ، لا تقوية روح الطغيان فيهم. فالإنسان حيّ برجائه ، ولو ساد عليه اليأس والقنوت من عفوه ورحمته سبحانه ، لزاد في طغيانه في عامة أدوار عمره.

الأمر الثاني ـ حقيقة التوبة

إنّ التوبة كما يستفاد من الآيات والروايات حالة نفسانية مؤثّر في النفس فتصلحها وتعدها للصلاح الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة. ومن المعلوم أنّ هذه الغاية لا تحصل إلا بتحقق أمرين :

١ ـ الندم على ما مضى.

٢ ـ العزم على عدم العودة إليه إذا قدر.

فلو انتفى الأمران أو أحدهما لما حصلت تلك الحالة المؤثرة في صلاح النفس وإعدادها لكمالات أخرى ، فيلزم في التوبة وجود هذين الأمرين ، سواء أقلنا : إنّ التوبة مركبة منهما وأنّ كل واحد منهما جزء لها ، كما نقل عن أبي هاشم الجبائي ، أو قلنا : إنّ التوبة أمر بسيط هو الندم على ما مضى ، وأما العزم فهو من شروطها ولوازمها ، كما عليه الشيخ المفيد (١) ، فإن هذا نزاع لفظي لا ثمرة له إلا في موارد نادرة ، كما إذا ندم على ما سلف من القبيح ومنع من العزم ، فعلى القول الأوّل لم تتحقق التوبة دون الثاني.

وهناك كلام للإمام أمير المؤمنين حول التوبة ، وقد سمع من بحضرته يقول : أستغفر الله ، فقال : أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيّين ، وهو اسم واقع على ستة معان :

أوّلها : الندم على ما مضى.

__________________

(١) أوائل المقالات ، ص ٦١.

٣٢٤

والثاني : العزم على ترك العود إليه أبدا.

والثالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليست عليك تبعة.

والرابع : أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقها.

والخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت (١) فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.

والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

فعند ذلك تقول : «أستغفر الله» (٢).

وبالجملة : إنّ التوبة لغاية إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الإنسان كل شقاء في حياته الأولى والأخرى ، وتمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة. وهذه الغاية لا تحصل إلا بحصول أمرين : الندم والعزم.

وأما باقي الأمور الأربعة الواردة في كلام الإمام عليه‌السلام ، فسيوافيك الكلام فيها.

الأمر الثالث ـ وجوب التوبة

اتفقت العدلية على وجوب التوبة واستدلوا على ذلك بأمرين :

أ ـ إنها دافعة للضرر الذي هو العقاب ، ودفع الضرر الأخروي واجب عقلا.

ب ـ إن العزم على ارتكاب القبائح وترك الفرائض قبيح عقلا فيجب اجتنابه ، وهو لا يحصل إلا بالتوبة.

__________________

(١) السحت : المال من كسب حرام.

(٢) نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم ٤١٧ ، وسنرجع إلى هذا الحديث عند استعراض أحكام التوبة ، وإنما أوردناه هنا جملة واحدة ليسهل الرجوع إليه.

٣٢٥

والدليل الثاني لا يفيد إلّا وجوب العزم وهو أحد جزئي التوبة أو شرطها.

وكيف كان ، فكل من قال بالحسن والقبح العقليين ، لا مناص له عن القول بوجوب التوبة وجوبا عقليا ، وما جاء من طريق السمع يكون مرشدا إلى هذا الحكم العقلي.

وأما المنكرون لهما ، فيذهبون إلى وجوبها شرعا ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (١).

الأمر الرابع ـ هل تجب التوبة من الصغائر؟

إنّ ارتكاب أي معصية ، صغيرة كانت أو كبيرة ، جرأة على الله وخروج عن رسم العبودية وزيّ الرّقيّة ، وهي تترك أثرا سيئا في النفس بلا ريب ، فيجب التوبة منها لإزالة أثرها من النفس. وإليه ذهب أبو علي الجبائي ، من المعتزلة ، ولكن الظاهر من ابنه أبي هاشم ، عدم وجوب التوبة من الصغائر إلّا سمعا ، واختاره القاضي عبد الجبار ، قائلا بأنّ التوبة إنّما تجب لدفع الضرر عن النفس ، ولا ضرر في المعصية ، فلا تجب التوبة منها ، غاية الأمر أنّ للصغيرة تأثير في تقليل التواب ، ولا ضرر في ذلك (٢).

يلاحظ عليه : إنّ ما ذكر مبني على أمرين غير ثابتين :

أ ـ أنّ المعاصي بالذات تنقسم إلى صغائر وكبائر ، وأنّ صغر المعاصي وكبرها ليس من الأمور الإضافية النسبية ، بل هناك صنفان من المعاصي لا يتداخل أحدهما في الآخر.

ب ـ أنّ المعاصي الصغيرة لا يعاقب عليها ما لم يكن عليها إصرار.

وكل ذلك مورد تأمّل وتردد.

__________________

(١) سورة التحريم : الآية ٨.

(٢) شرح الأصول الخمسة ، ص ٧٨٩.

٣٢٦

أضف إلى ذلك : أنّ وجه تشريع التوبة ليس منحصرا بالاجتناب عن العذاب حتى يقال : إنّه لا عقاب على الصغيرة ، بل قد عرفت أنّ الوجه فيها ـ مضافا إلى الخلاص من العذاب ـ حسن الندم على كل قبيح أو إخلال بالواجب ، وقبح العزم على الاستدامة ، وهذا مشترك بين الصغيرة والكبيرة.

وبذلك يظهر الجواب عما ربما يقال من أنّ عقاب الصغيرة مكفّر باجتناب الكبيرة إذا لم يصر عليها ، لقوله سبحانه :

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (١).

وعندئذ ، لا يحتاج إلى التوبة منها ، لما عرفت من أنّ وجه التوبة لا ينحصر بالخلاص من العذاب.

الأمر الخامس ـ التوبة واجب فوري

يحكم العقل بوجوب التوبة فورا ، لأنها اجتناب عن القبيح بقاء ، وترك للعدوان استدامة ، ومثل ذلك لا يصح فيه التأخير والتراخي.

أضف إلى ذلك أنّ العقل يحرّض على التوبة فورا ففورا ، لئلا يفوت أوانها ويكون ممّن لا تقبل توبته قال سبحانه :

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ، أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢).

وما ذكرناه هو خيرة المعتزلة أيضا حيث قالوا بفورية الوجوب وأنّه يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر يجب التوبة منه أيضا ، حتى أن من أخّر التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة ، فقد فعل كبيرتين ، وساعتين أربع كبائر ، الأوليان ، وترك التوبة

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٣١. وقد نقله العلامة المجلسي عن الشيخ البهائي ، لاحظ البحار ، ج ٦ ، ص ٤٨.

(٢) سورة النساء : الآية ١٨.

٣٢٧

عن كل منهما ، وثلاث ساعات ، ثمان وهكذا (١).

ولكن لا دليل على هذا التفصيل.

الأمر السادس ـ أثر التوبة

إن أثر التوبة هو إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الإنسان كل شقاء في حياته الأولى والأخرى ، فيرجع التائب بعد ندمه وعزمه على الترك في المستقبل ، أبيض السريرة ، كيوم ولدته أمّه ، وبالتالي يسقط عنه العقاب.

وأما الأحكام الشرعية المترتبة على الأعمال السابقة فتبقى على حالها ، إذ ليس للتوبة تأثير إلا في إصلاح النفس وإعدادها للسعادة الأخروية ، ولذلك يجب الخروج عن مظالم العباد أوّلا ، وتدارك ما فات من الفرائض ثانيا ، فإنّ السيئة العارضة على النفس بسبب هضم حقوق الناس لا ترتفع إلا برضاهم ، لأنّه سبحانه احترم حقوقهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم ، وعدّ التعدي على واحد منها ظلما ، وعدوانا ، وحاشاه أن يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم وقد قال عز من قائل : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً)(٢).

قال المفيد رحمه‌الله : «إنّ من شرط التوبة إلى الله سبحانه من مظالم العباد الخروج إلى المظلومين من حقوقهم بأدائها إليهم أو باستحلالهم منها على طيبة النفس بذلك ، والاختيار له ، فمن عدم منهم صاحب المظلمة وفقده خرج إلى أوليائه من ظلامته أو استحلهم منها»(٣).

ولأجل ذلك قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «والثالث : أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة ، والرابع : أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقها» (٤).

__________________

(١) شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٢٤٢.

(٢) سورة يونس : الآية ٤٤.

(٣) أوائل المقالات ، ص ٦٢.

(٤) نهج البلاغة ، قسم الحكم ، الرقم ٤١٧.

٣٢٨

هذا ، وإنّ المتبادر من الآيات والروايات أنّ التوبة بنفسها مسقطة للعقاب ، يقول سبحانه : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) فإنّ الظاهر منه أنّ نفس التوبة تجرّ الغفران ، وغير ذلك من الآيات ، وهذا الأمر من المسائل القرآنية الواضحة.

وأما حقوق الله ، فيتبع هناك لسان الدليل الشرعي ، فربما تكون التوبة مسقطة للحدّ كما في قوله سبحانه :

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢). فالاستثناء صريح في أنّ التوبة تسقط الحدّ الوارد في الآية.

قال المحقق الحلّي : «إنّ شارب الخمر إذا تاب قبل قيام البينة ، يسقط الحد ، وإن تاب بعدها لم يسقط» (٣).

وقال : «إذا تاب اللائط قبل قيام البيّنة سقط الحدّ ، ولو تاب بعده لم يسقط» (٤).

الأمر السابع ـ قبول التوبة واجب على الله أولا؟

لا شكّ أنّ التوبة تسقط العقاب ، وهو مما أجمع عليه أهل الإسلام. وإنما الخلاف في أنّه هل يجب على الله قبولها بحيث لو عاقب بعد التوبة كان ظالما ، أو هو تفضل منه سبحانه ، وكرم ورحمة منه بعباده؟

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٥٤.

(٢) سورة المائدة : الآيتان ٣٣ و ٣٤.

(٣) شرائع الإسلام ، كتاب الحدود ، الباب الرابع في حدّ المسكر.

(٤) المصدر السابق ، الباب الثاني ، في أحكام اللواط.

٣٢٩

فالمعتزلة على الأوّل ، والأشاعرة والإمامية على الثاني.

استدل المعتزلة بوجهين :

١ ـ إنّ العاصي قد بذل وسعه في التلافي ، فيسقط عقابه ، كمن بالغ في الاعتذار إلى من أساء إليه ، فإنه يسقط ذمه بالضرورة (١).

وبعبارة أخرى : إن من أساء إلى غيره واعتذر إليه بأنواع الاعتذارات ، وعرف منه الإقلاع عن تلك الإساءة بالكلية فالعقلاء يذمون المظلوم ، إذا ذمّه بعد ذلك (٢).

٢ ـ لو لم يجب إسقاط العقاب لم يحسن تكليف العاصي ، والتالي باطل إجماعا ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : إن التكليف إنما يحسن للتعريض للنفع. وبوجوب العقاب قطعا لا يحصل الثواب ، وبغير التوبة لا يسقط العقاب ، فلا يبقى للعاصي طريق إلى إسقاط العقاب عنه ، ويستحيل اجتماع الثواب والعقاب فيكون التكليف قبيحا (٣).

يلاحظ على الأول ، بأنه لا يجب في منطق العقل قبول المعذرة ، بل المظلوم في خيرة بين القبول والصفح ، وليس رفض المعذرة مخالفا للحكمة والعدل حتى يجب على الله سبحانه.

وأما الثاني ، فيلاحظ عليه أنّه مبني على الأصل الذي اختاره المعتزلة من أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار ، وهو لا يجتمع مع الثواب المترتب على التكليف ، فاستدلوا بأنّه لو لم تقبل توبته لوجب أن يخلد في النار (ولو بمعصية واحدة) وهو لا يجتمع مع الثواب ، فيلزم سقوط تكليف العاصي. ولكنّ الأصل مردود لما قلنا من

__________________

(١) شرح المقاصد ، ج ٢ ص ٢٤٢.

(٢) كشف المراد ، ص ٢٦٨. ولاحظ شرح الأصول الخمسة ، ص ٧٩٨.

(٣) كشف المراد ، ص ٢٦٨ ط صيدا. ولاحظ شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٢٤٢.

٣٣٠

أنّ المؤمن لا يخلد في النار وإنما كتب الخلود على الكافر ، فلا مانع من أن يعاقب مدّة ثم يخرج فيثاب.

وعلى هذا فلا دليل على وجوب قبول التوبة على الله سبحانه ، بل قبولها تفضّل وكرم منه سبحانه.

قال الطبرسي في تفسير قوله سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١). قال : «ووصفه بالرحيم عقيب التوّاب يدل على أنّ إسقاط العقاب بعد التوبة تفضّل منه سبحانه ورحمة من جهته ، على ما قاله أصحابنا ، وإنّه غير واجب عقلا على خلاف ما ذهب إليه المعتزلة» (٢).

نعم ، هذا إذا لوحظ قبول التوبة من حيث هو هو ، وأما إذا لوحظ بعد ما وعده سبحانه بقبول توبة التائب ، فالوجوب لا محيص عنه ، لأنّ خلف الوعد قبيح ، من غير فرق بين الواجب والممكن ، وقد أوضحنا لك معنى كون شيء واجبا على الله سبحانه ، وأنّه لا يراد منه تكليف الله سبحانه ، بل أنّ العقل يكشف حكما عاما سائدا على الواجب والممكن ، وهو أنّ الحكيم لا يفعل القبيح ، لما فيه من المبادي الرافضة لارتكابه فيكون وجوب قبول التوبة سمعيا لا عقليا.

الأمر الثامن ـ هل يجب في التوبة ، الندم على القبيح؟

الظاهر من غير واحد من المحققين أنّ التوبة تتقوم بالندم على القبيح لقبحه ، وإلا فلو ندم لأجل إضرارها بالبدن أو إخلالها بعرضه أو ماله أو لغرض آخر ، لا يكون تائبا.

وهذا كلام متين ، فإنّ التوبة عبارة عن رجوع العبد إلى الله سبحانه ، وهذا لا يتحقق إلا بأن يكون رجوعه لاستشعاره قبح عمله ، وأنّه كان عدوانا على الله

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٦٠.

(٢) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٤٢.

٣٣١

وجرأة على المولى ، وأما من ترك شرب الخمر لا بهذا الاعتقاد بل لأجل صيانة بدنه عن مضارها ، فلا تكون توبة منه إلى الله.

إنما الكلام إذا تاب عن عمله لأجل الخوف من عقابه سبحانه ، فقد ذهب المحقق الطوسي وتبعه العلامة الحلّي ، إلى أنّه لو كانت الغاية من التوبة هي الخوف من النار بحيث لو لا خوف النار لم يتب ، فلا يصدق عليها أنّها توبة.

قال العلامة الحلي : «فإن كانت التوبة خوفا من النار أو من فوات الجنة ، لم تصح توبته ، وهذا نظير ما لو اعتذر المسيء إلى المظلوم لا لأجل إساءته بل لخوفه من عقوبة السلطان ، فإن العقلاء لا يقبلون عذره» (١).

يلاحظ عليه : إنّ التكاليف الإلهية متوجهة إلى عموم الناس ، من غير فرق بين التكليف بالصلاة والصوم أو التكليف بالتوبة. ومن المعلوم أنّ الأكثرية الساحقة لا يقومون بالفعل لحسنه بالذات ، ولا يتركونه لكونه قبيحا كذلك ، بل الفعل والترك يقومان على أساس الرغب والرهب ، والطمع بالجنّة والخوف من النار.

وعلى ذلك فالآيات الواردة حول التوبة المقترنة بالثواب تارة والخلاص من النار أخرى ، تعرب عن أنّ التوبة إذا حصلت لإحدى هاتين الغايتين ، كفى ذلك في سقوط العقاب ، يقول سبحانه ـ حاكيا قول هود عليه‌السلام ـ : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (٢).

ويقول تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (٣).

وفي الدعاء الذي علمه علي عليه‌السلام كميل بن زياد ، إيعاز ، إلى ذلك : يقول : «اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم ، اللهم اغفر لي

__________________

(١) كشف المراد ، ص ٢٤٦ ، ط صيدا ، بتصرف.

(٢) سورة هود : الآية ٥٢.

(٣) سورة هود : الآية ٣.

٣٣٢

الذنوب التي تنزل النقم ، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تغيّر النّعم ، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء».

وإن شئت قلت : إنّ التوبة خوفا من النار ، لا تنفك عن الاعتقاد بكون ما فعل أمرا قبيحا شرعا.

وبالجملة ، فالآيات والروايات الواردة حول التوبة مطلقة ، تعم كل توبة يصدق عليها أنها رجوع إلى الله. وفي حديث يبين علي عليه‌السلام موقف العباد في عبادة الله تعالى ، ويقسمهم إلى ثلاثة أقسام ، يقول :

«إن قوما عبدوا الله رغبة ، فتلك عبادة التجار ، وإنّ قوما عبدوا الله رهبة ، فتلك عبادة العبيد ، وإنّ قوما عبدوا الله شكرا ، فتلك عبادة الأحرار» (١).

وحينئذ ، فكما أنّه تقبل عبادة العباد ، رغبة ورهبة ، تقبل توبتهم أيضا إذا كانت كذلك.

ولا معنى للتفكيك بين قبول عبادتهم وقبول توبتهم ، ولا أجد فقيها يفتى ببطلان عبادة من عبده سبحانه لإحدى الغايتين ، أو كليهما. كيف وهو سبحانه يصف أنبياءه العظام بقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)(٢).

وأما الاستدلال على أنّ المسقط ليس هو نفس التوبة ، بل كثرة الثواب بعدها بأنها لو أسقطت العقاب بذاتها ، لأسقطته في حال المعاينة ، وفي الدار الآخرة (٣) ؛ فيلاحظ عليه أنّ التوبة إنما تقبل لأنها تؤثر في النفس الإنسانية ، فتصلحها ، أو تعدّها للصلاح ، وهذا إنما يتصور فيما إذا كان الإنسان قادرا على الفعل والترك ، وأما في حال المعاينة أو دار الآخرة ، فالقدرة مسلوبة عن الإنسان هذا.

__________________

(١) نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم ٢٣٧.

(٢) سورة الأنبياء : الآية ٩٠.

(٣) كشف المراد ، ص ٢٦٨.

٣٣٣

مع أنّك قد عرفت عند البحث عن أثر التوبة أنّ التوبة بنفسها هي المسقطة للعقاب ، فلاحظ.

الأمر التاسع ـ هل تصحّ التوبة من قبيح دون قبيح؟

اختلفت كلمتهم في أنه هل يصح الندم من قبيح دون قبيح؟

فقال أبو علي : إنّه تصح ما لم يصر على شيء من ذلك الجنس ، فلو أنّه تاب من شرب الخمر وأصرّ على الزنا كانت توبته عن الأول توبة نصوحا صحيحة ، وأما إذا أصرّ على شيء من ذلك الجنس لم تصح توبته. وذلك كما أنّه لو تاب عن شرب هذا القدح من الخمر مع إصراره على شرب قدح آخر ، فلا إشكال في أن لا تصح توبته هذه (١).

وقال أبو هاشم : إنّه لا تصح التوبة عن بعض القبائح مع الإصرار على بعض ، واختاره القاضي عبد الجبار ، واستدل عليه بأنّ التوبة عن القبيح يجب أن يكون ندما عليه لقبحه ، وعزما على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح. وإذا كان هذا كذلك ، فليس تصح توبته عن بعض القبائح مع الإصرار على البعض ، إذ ليس يصح أن يترك أحدنا بعض الأفعال لوجه ، ثم لا يترك ما سواه في ذلك الوجه ، ألا ترى أنّه لا يصح أن يتجنّب سلوك طريق لأن فيها سبعا ، ثم لا يتجنب سلوك طريق أخرى فيها سبع. وكذلك لا يصح أن لا يتناول طعاما لأنّ فيه سما ، ثم يتناول طعاما آخر مع أنّ فيه سما (٢).

يلاحظ عليه : إنّ الأفعال القبيحة تختلف شدة وضعفا ، وإن كانت تشترك في كونها عدوانا على الله وخرقا لحدوده ، ولكنها مع ذلك تختلف في جهات القبح ، وعلى ذلك فربما يوجد داع إلى الندم في بعض القبائح دون الأخرى ، وذلك بأن يقترن ببعض القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب ، أو كثرة الزواجر عنه ، أو الشناعة على فعله عند العقلاء ، دون قبائح أخرى ، فعندئذ ربما يرجح الندم

__________________

(١) شرح الأصول الخمسة ، ص ٧٩٥.

(٢) شرح الأصول الخمسة : ص ٧٩٥.

٣٣٤

على القبائح المحتفة بما يوجد الندم في النفس دون الأخرى. ولو اشتركت جميع القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع الندم عليها جميعا ، ولم يصح الندم على البعض دون الآخر (١).

وهذا مما يلمسه الإنسان في حياة المجرمين ، فربما يحضر عاص أنديه الوعظ والإرشاد ، فيستمع إلى الخطيب ، يندد ببعض المعاصي كشرب الخمر ، وأكل الربا ، ويذكر قبحهما وشناعتهما ، وما يترتب عليهما من إشاعة البغضاء في المجتمع ، فيحصل في نفسه داع قوي يدفعه إلى ترك هذين القبيحين ، وفي الوقت نفسه قد لا يجد داعيا لترك غير هما من المعاصي التي اعتاد عليها ، كالغيبة لا لأنه لا يراها قبيحة ، بل لأنها لم تحتف بما يوجد داعي الندم في نفسه ، بخلاف الأولين. فجميعها ، إذن ، تشترك في القبح والشناعة ، غير أنّ الأوّلين يتميزان بوجود الداعي إلى التوبة عنهما فتاب ، دون الآخر.

وبذلك يظهر الجواب عما ذكره أبو هاشم من أنّه إذا كانت توبته عن بعض القبائح لأجل قبحها ، فهو موجود في البعض الآخر أيضا ، فلم تاب عن الأولى دون الأخرى؟.

وجه الجواب أنّ الكل يشترك في القبح ، لكن ترك البعض دون الآخر ، لا لأجل اعتقاده أنّ واحدا قبيح دون الآخر ، بل إنه يعتقد بقبحهما ، ولكن الداعي للتوبة موجود في أحدهما دون الآخر.

ولقد أحسن المحقق الطوسي ، حيث قال : التحقيق أنّ ترجيح الداعي إلى الندم على البعض يبعث عليه خاصة ، وإن اشترك الداعي في الندم على القبيح لقبحه ، كما في الدواعي إلى الفعل. ولو اشترك الترجيح ، اشترك وقوع الندم ، فلا يصح الندم (٢).

ومما يوضح ذلك أنّه لو أسلم يهودي ورجع عن كفره ، نادما على ما مضى من عمره ، ولكنه بقي مصرا على صغيرة من الصغائر ، فلو قلنا بأنّ التوبة من

__________________

(١) لاحظ كشف المراد ، ص ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ط صيدا.

(٢) كشف المراد ، ص ٢٦٥ ، ط صيدا.

٣٣٥

القبائح لا تتبعض لزم أنّ لا تكون توبته مقبولة ، وهو خرق للإجماع ، وإلى هذا ينظر قول المحقق الطوسي ، «وإلا لو لا التبعيض ، لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه المقيم على صغيرة» (١).

والعجب أنّ القاضي عبد الجبار استحسن قول أبي هاشم وأراد التخلص عن هذا الإشكال فقال : إنه لا يسقط من عقوبته شيء لأنه لم يأت بما يسقط العقوبة عامة ، فبقيت عقوبته كما كانت ، نعم ، لا يجري عليه أحكام اليهود (٢).

كيف يقول لا يسقط من عقوبته شيء مع أنّه كان كافرا فصار مؤمنا ، والإيمان يكفر الشرك وعقوبته باتفاق المسلمين ، فالقول ببقاء عقوبة الشرك مع أنّه صار مؤمنا بحجة أنّه لم يزل يرتكب صغيرة ، مخالف لنص الآيات واتفاق المسلمين ، ومعاملة النبي للمشركين الذين آمنوا ، ولو كان رفع العقوبة مقيّدا بعدم الإصرار على صغيرة ، من الذنوب التي كان يرتكبها المشرك ، لأصحر به النبي وبيّنه.

بقي هنا أبحاث طفيفة في التوبة ، يظهر حالها مما أوضحناه (٣). نسأله سبحانه أن يتوب علينا ، ويكتب الغفران في صحائف أعمالنا ، بفضله وكرمه.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) شرح الأصول الخمسة ، ص ٧٩٧.

(٣) مثل ما إذا اغتاب إنسان رجلا ، فهل يجب عليه الاعتذار منه ، خاصة إذا بلغته الغيبة ـ أو لا؟

وهذه مسألة فقهية.

وإذا كان التائب عالما بذنوبه على التفصيل فهل يجب التوبة عن كل واحدة منها ، أو تكفي التوبة عنها إجمالا؟

وهل يجب تجديد التوبة ، كلما تذكر التائب ، معصيته السابقة؟

وغير ذلك مما ذكره المتكلمون ، لاحظ التجريد وشروحه ، في التوبة ، المسألة الحادية عشر.

٣٣٦

مباحث المعاد

(١٥) الشفاعة

الشفاعة في الآخرة بصيص من الرجاء ، ونافذة من الأمل ، فتحتها الشريعة الإسلامية في وجه العصاة حتى لا ييأسوا من روح الله ورحمته ، ولا يغلبهم الشعور بالحرمان من عفوه فيتمادوا في العصيان. فالسبب في تشريع الشفاعة هو عينه السبب في تشريع التوبة في الحياة الدنيوية. وجلاء الحقيقة في الشفاعة ، يتم بالبحث في الأمور التالية :

١ ـ تصنيف آيات الشفاعة وإرجاعها إلى معنى واحد.

٢ ـ نقل نماذج مما ورد من السنة عن النبي والعترة الطاهرة.

٣ ـ تبيين معنى الشفاعة ، وأقسامها.

٤ ـ مبررات تشريع الشفاعة.

٥ ـ شرائط شمول الشفاعة.

٦ ـ أثر الشفاعة وأنّه حطّ الذنوب ، لا رفع الدرجة.

٧ ـ تحليل الإشكالات المثارة حول الشفاعة ، وهي خمسة.

٨ ـ جواز طلب الشفاعة من الأولياء.

٣٣٧

وفيما يلي البحث في كل واحدة منها (١).

* * *

الأمر الأول : آيات الشفاعة وتصنيفها

قد ورد ذكر الشفاعة في الكتاب الحكيم في سور مختلفة ، لمناسبات شتّى. ولا يظهر المراد من المجموع إلا بعرض بعضها على بعض ، وتفسير الكل بالكل ، والآيات الواردة في الشفاعة تندرج تحت الأصناف التالية :

الصنف الأول : ما ينفي الشفاعة في بادئ الأمر.

يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢).

وهذا الصنف من الآيات هو المستمسك لمن اعتقد بأنّ الشفاعة عقيدة اختلقها الكهّان (٣) ، وسيوافيك أنّ المنفي قسم خاص منها لا جميع أقسامها بقرينة أنّ المنفي قسم من أواصر الخلة لا جميعها ، بشهادة قوله سبحانه : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤).

الصنف الثاني : ما يردّ الشفاعة المزعومة لليهود.

يقول سبحانه : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٥).

والآية خطاب لليهود ، وهي تهدف إلى نفي الشفاعة المزعومة عندهم ، حيث كانوا يقولون نحن أولاد الأنبياء وأولادنا يشفعون لنا ، فصار ذلك ذريعة

__________________

(١) التفصيل في هذه الأمور يحوجنا إلى تأليف مفرد ، ولذا اقتصرنا في البحث على ما يناسب وضع الكتاب.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٥٤.

(٣) لاحظ دائرة معارف القرن الرابع عشر ، ص ٤٠٢ ، مادة شفع.

(٤) سورة الزخرف : الآية ٦٧.

(٥) سورة البقرة : الآية ٤٨.

٣٣٨

لارتكاب الموبقات ، وترك الفرائض ، فآيسهم الله من ذلك.

الصنف الثالث : ما ينفي شمول الشفاعة للكفار.

يقول سبحانه ـ حاكيا عن الكفار ـ : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ* فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (١).

وهذا الصنف ناظر إلى نفي وجود شفيع ـ يوم القيامة ـ للكفار الذين انقطعت علاقتهم بالله لكفرهم به وبرسله وكتبه كما انقطعت علاقتهم الروحية بالشفعاء الصالحين ، فلم يبق بينهم وبين الشفاعة أية صلة وعلاقة.

الصنف الرابع : ما ينفي صلاحيّة الأصنام للشّفاعة.

يقول سبحانه : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٢).

وهذا الصنف يرمي إلى نفي صلاحية الأصنام للشفاعة ، وذلك لأنّ العرب الجاهليين كانوا يعبدون الأصنام لاعتقادهم بشفاعتهم عند الله.

الصنف الخامس : ما يخصّ الشفاعة بالله سبحانه.

يقول سبحانه : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٣).

وكون الشفاعة مختصة بالله لا ينافي ثبوتها لغيره بإذنه كما يعرب عنه آيات الصنف السادس.

الصنف السادس : ما يثبت الشفاعة لغيره بإذنه سبحانه.

يقول سبحانه : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)(٤).

__________________

(١) سورة المدثر : الآيات ٤٦ ـ ٤٨.

(٢) سورة الأنعام : الآية ٩٤. ولاحظ يونس : ١٨ ، الروم : ١٣ ، الزمر : ٤٣ ، يس : ٢٣.

(٣) سورة الأنعام : الآية ٥١ ، ولاحظ الأنعام : ٧ ، السجدة : ٤ ، الزمر : ٤٤.

(٤) سورة طه : الآية ١٠٩.

٣٣٩

ويقول سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١).

والجمع بين هذا الصنف وما سبقه واضح ، وقد قلنا إنّ مقتضى التوحيد في الخالقية أنّه لا مؤثّر في الكون إلا الله ، وأنّ تأثير سائر العلل إنما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه.

الصنف السابع : ما يسمّي من تقبل شفاعته.

ويتضمن هذا الصنف أسماء بعض من تقبل شفاعتهم يوم القيامة.

يقول سبحانه (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢). فصرّح بأنّ الملائكة وحملة العرش تقبل شفاعتهم.

ويتحصل من جمع الآيات أنّ الشفاعة تنقسم إلى شفاعة مرفوضة ، كالشفاعة التي يعتقد بها اليهود ، وشفاعة الأصنام ، والشفاعة في حقّ الكفار ، وإلى مقبولة وهي شفاعة الله سبحانه ، وشفاعة من أذن له ، وشفاعة الملائكة وحملة العرش ، وبالإحاطة بالأصناف السبعة ، تقدر على تمييز المرفوضة عن المقبولة.

وليست آيات الشفاعة مختصة بالأصناف التي ذكرناها ، فإن هناك آيات تخرج عن إطارها مثل قوله سبحانه : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٣). وقد أطبق المفسرون على أنّ المراد من المقام المحمود ، هو مقام الشفاعة (٤).

* * *

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٥٥ ، ولاحظ يونس : ٣ ، مريم : ٨٧ ، سبأ : ٢٣ ، الزخرف : ٨٦.

(٢) سورة الأنبياء : الآيات ٢٦ ـ ٢٨. ولاحظ النجم : ٢٦ ، غافر : ٧.

(٣) سورة الإسراء : الآية ٧٩.

(٤) لاحظ مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٤٣٥.

٣٤٠