الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

استعدادا وأولى بقبول الفيض الجديد من الحيوان والإنسان ، كما أنّ الإنسان يستدعي نفسا أشرف ، وهي التي جاوزت الدرجات النباتية والحيوانية.

وفي ضوء هذا ، فالحياة تفاض على النبات أولا ، ثم تنتقل منه إلى الحيوان ، ثم إلى الإنسان ، وهذا النوع من التناسخ أشبه بالقول بالحركة الجوهرية ، وأنّ الأشياء في ظلّها تخرج من القوة إلى الفعل ، ومن النقص إلى الكمال ، وأنّ الموجود النباتي يتحول إلى الحيوان ، ثم الإنسان ، لكن الفرق بين القول بالتناسخ الصعودي والحركة الجوهرية ، هو أنّ التكامل في القول بالتناسخ على وجه الانفصال دون الاتصال ، فالنفس النباتية تنتقل من النبات إلى البدن الحيواني ، ثم منه إلى البدن الإنساني ، ولكن التحول في الحركة الجوهرية ، على وجه الاتصال ، وأنّ النطفة الإنسانية تتحول وتتكامل من مرتبة ناقصة إلى مرتبة كاملة حتى يصدق عليها قوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).

فظهر أنّ في التناسخ أقوالا ثلاثة :

١ ـ التناسخ المطلق : وهو ما لا ينتهي النقل فيه ولا يتوقف ويعم الجميع.

٢ ـ التناسخ النزولي : وهو ما لا يعم الجميع أولا ، ويتوقف النقل فيه بعد التصفية وبلوغ مراتب الكمال ، ثانيا.

٣ ـ التناسخ الصعودي : وهو ما يحصل فيه انتقال النفس في جهة الصعود ، من النبات إلى الحيوان فالإنسان. إذا تعرفت على المراد من هذه الأقسام ، فإليك تحليلها ، وبيان بطلانها :

العناية الإلهية والتناسخ المطلق

إنّ التناسخ المطلق يعاند المعاد معاندة تامة ، والقائل به ليس له التفوه بعود

__________________

(١) سورة المؤمنون : الآية ١٤. وما ذكرناه إجمال ما يرمي إليه أصحاب هذا القول ، والتفصيل يطلب من محله ، لاحظ في ذلك «أسرار الحكم» ، للحكيم السبزواري ، ص ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

٣٠١

الأرواح إلى الأبدان في النشأة الأخرى ، لأنّ المفروض أنّ الروح تنتقل إلى الأبد من بدن إلى بدن ، بلا توقف ، فلا مجال للنفس لكي تبعث في النشأة الاخرى. ولعل أصحاب هذه النظرية ـ لقلّة تدبّرهم ـ حسبوا هذا النوع من الانتقال للنفس معادا لها ، فالمعاد عندهم هو انتقال النفس من بدن إلى بدن في هذه النشأة دون أن تكون هناك نشأة أخرى.

ويردّها أنّ النفس عند هؤلاء لا تخلو من إحدى حالتين : إما أن تكون منطبعة في البدن ، انطباع الأعراض في الجواهر ، والصور الجوهرية في المادة ، فهي ممتنعة الانتقال ، إذ الانطباع ينافي الانتقال ، والجمع بينهما جمع بين النقيضين ، فإنه يستلزم أن تكون النفس في حال الانفصال موجودة بلا موضوع ، ومتحققة بلا محل.

أو تكون مجرّدة تجردا تاما ، ومع ذلك تكون دائمة الانتقال في الأجسام من غير لحوق بعالم النور وهو باطل أيضا إذ العناية الإلهية ، تقتضي إيصال كل ذي كمال إلى كماله ، وكما النفس العلمي يتحقق بصيرورتها عقلا مستفادا (١) ، فيه صور جميع الموجودات ، وكمال العقل العملي يتحقق بالتخلية عن رذائل الأخلاق ، والتحلية بمكارمها. فلو كانت دائمة الانتقال ، كانت ممنوعة عن كمالها ، أزلا وأبدا ، والعناية الأزلية تأبى ذلك (٢).

وبعبارة أخرى : إنّ النفس الإنسانية مستعدة لإفاضة الكمالات عليها ، فحبسها في الصياصي البدنية في هذه النشأة ، وإيقافها عن الصعود إلى النشأة الأخرى ، يخالف الحكمة الإلهية المتعلقة بإبلاغ كل ممكن إلى غايته الممكنة.

* * *

__________________

(١) العقل المستفاد أحد مراتب العقل الأربعة المصطلح عليها في الحكمة النظرية : وهي عبارة عن : ١ ـ العقل الهيولاني ، ٢ ـ العقل بالملكة ، ٣ ـ العقل بالفعل ، ٤ ـ العقل المستفاد ، راجع في توضيحها شرح المنظومة للحكيم السبزواري ، قسم الطبيعيات ، مباحث النفس ، ص ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٢) شرح حكمة الإشراق المقالة الخامسة ، الفصل الأول ، ص ٤٧٦. والأسفار ، ج ٩ ، الباب الثامن ، الفصل الثاني.

٣٠٢

الحركة الرجعية والتناسخ النزولي

والذي يبطل هذا النوع الثاني من التناسخ ، استلزامه الحركة الرجعية للنفس من الأشد إلى الأنقص ، ومن الأقوى إلى الأضعف بحسب الذات ، وهو أمر محال. وتوضيحه :

إنّ حقيقة التناسخ النزولي تتحقق بتعلق روح الإنسان بعد مفارقة البدن بالموت ، بجنين إنسان أو حيوان أو خلية نباتية ، والكل دونها في الكمال. فأصحاب هذا القول يتصورون أن النفوس المتوسطة تنتقل بعد فناء أبدانها إلى أجنة الإنسان أو الحيوان ، وتعود إلى الدنيا لمتابعة مسيرة الاستكمال ، والارتقاء إلى درجة النفوس الكاملة.

ولكنه خيال باطل ، لأن تعلق تلك النفوس بأجنة الإنسان أو الحيوان لا يخلو من صورتين :

الأولى : أن تتعلق النفس بالجنين الإنساني أو الحيواني بما لها من الكمال المناسب لمقامه. وهذا غير ممكن عقلا ، لأن النفس ما دامت في البدن تزداد في فعليتها شيئا فشيئا حتى تصير أقوى وجودا وأشد تحصّلا. ومثل هذا لا يمكنه أن يتعلق بالموجود الأدنى منه ، الذي لا يتحمل ذلك الكمال وتلك الفعليّة ، لعدم تحقق التعاضد والانسجام بينهما.

وبعبارة أخرى : إنّ واقعية النفس التي عاشت مع البدن أربعين سنة مثلا ، واقعية تفتّح القوى وبلوغها مقام الفعلية. وأما واقعية النفس التي تتعلق بالأجنة ، فهي فقدان كلّ فعلية ، وانتسابها إلى جميع الكمالات بالقوة ، فحسب. فالقول بتعلق تلك الفعلية بالجنين ، جمع بين النقيضين. لأنها ـ على الفرض ـ بما أنّها نفس إنسان مرّت عليه أربعون سنة ، مستجمعة لجميع الكمالات بالفعل. وبما أنها تعلقت بالجنين ، مستجمعة لها بالقوة فحسب. فتكون الكمالات في محل واحد وزمان واحد ، بالفعل وبالقوة معا ، وهذا محال.

الثانية : أن تتعلق تلك النفوس بالأجنّة ، لكن بعد تنزّلها عن فعليّاتها ، وانسلاخها عن كمالاتها. وهذا النحو من التعلّق ، وإن كان يوجد بين البدن

٣٠٣

والنفس تعاضدا وانسجاما ، لكن ذاك الانسلاخ إما ناشئ من ذات النفس ونابع من صميمها ، وإما قد حصل بقهر من الله سبحانه. والأول لا يتصور ، لأن الحركة الذاتية من الكمال إلى النقص غير معقولة ، والثاني ينافي الحكمة الإلهية التي تقتضي بلوغ كل ممكن إلى كماله الممكن (١).

وبما أن القائلين بهذا النوع من التناسخ يخصّونه بالمتوسطين في الكمال والناقصين فيه ، دون الكاملين في مجالي العلم والعمل ، فهو على طرف النقيض من المعاد في الصنفين الأوّلين ، دون الصنف الثالث الذين لهم الحشر والانتقال إلى النشأة الأخرى دون التناسخ.

نعم ، المتوسطون والناقصون ـ بعد انتهاء دورة التناسخ وزمنها ـ ينتقلون إلى عالم النور فيكون لهم من الحشر ما للكاملين من أفراد الإنسان.

* * *

التناسخ الصعودي وانتقال النفس

ذكرنا أنّ أصحاب التناسخ الصعودي يقولون بأنّ تكامل النفس من بدء حدوثها يتوقف على ظهور الحياة في النبات لتكون نفسا نباتية إلى أن تنتقل إلى بدن الحيوان فتصير نفسا حيوانية ، ثم نفسا إنسانية ، وعندئذ يقع السؤال في حقيقة هذه النفس ، فنقول :

إن النفس الموجودة في الحيوان مثلا ، إما منطبعة انطباع النقوش في الحجر ، والأعراض في موضوعاتها ، والصور في محالّها ، فيكون انتقالها مستحيلا على ما مرّ ، أعني استلزامه أن تكون في آن الانتقال بلا موضوع ومحل.

وإمّا مجرّدة ، لها من الخصوصيات ما للنفوس الحيوانية ، فمن المعلوم أنّ النفس الحيوانية بما لها من الخصوصية يمتنع أن تتحول إلى النفس الإنسانية ، فإنّ كمال النفس الأولى عبارة عن القوة الشهوية وحسّ الانتقام ، وهما يعدّان كمالا

__________________

(١) ما ذكرناه تقريرا واضح لما أفاده صدر المتألهين ، في أسفاره. لاحظ الأسفار ، ج ٩ ، ص ١٦.

٣٠٤

لنفوس الدواب والأنعام وأصلا عظيما للجسمانية والإخلاد إلى الأجساد. فلو تعلقت هذه النفس ـ بهذه الخصوصية ـ بالإنسان ، لوجب أن تنحط درجة إلى نوع نازل من الحيوان المناسب لهذه السجايا والغرائز. فإذا كان مقتضى الشهوة الغالبة أو الغضب الغالب ، شقاء النفس ونزولها إلى مراتب الحيوانات الصامتة ، التي كمالها في كمال إحدى هاتين القوتين ، فيمتنع أن يكون وجود هاتين القوتين وأفعالهما منشأ لارتفاع النفوس من درجتها البهيمية والسبعية إلى درجة الإنسان الذي كمال نفسه كسر هاتين القوتين. فتعلق النفس الحيوانية بما لها من الخصوصيات والغرائز بالإنسان ، لا يرفعه بل ينزله إلى درجة تناسب درجة الحيوانات(١).

وعلى الجملة فالنفس الحيوانية متشخصة بغرائز خاصة هي التمايلات الشهوية والسبعية والإخلاد إلى الأرض والمادة ، فكيف يمكن أن تكون مثل هذه أساسا لتكامل الإنسان وتعاليه ، الذي لا يتحقق له التكامل إلا بتحطيم هذه الغرائز وكسر ثورتها فإن هذا أشبه بجعل وجود الضد شرطا لوجود ضد آخر.

نعم ، هذا الإشكال إنما يتصور في التكامل الصعودي المنفصل المراتب والدرجات دون متصلها كما في تكامل الإنسان في رحم أمه من الجمادية إلى النفس الإنسانية ، في ظل صور متوالية متتالية دون أن يقع بينها انفصال.

وعلى كل تقدير فهذا القسم من التناسخ باطل في نفسه ، وإن كان لا يصادم القول بالمعاد وحشر الإنسان في النشأة الأخرى ، بخلاف القسمين السابقين ، فإن الأول منهما على طرف النقيض من المعاد مطلقا والقسم الثاني على طرف النقيض منه في مورد غير الكاملين من النفوس الإنسانية.

* * *

تحليل جامع للقول بالتناسخ

قد تعرفت على أقسام التناسخ والبراهين التي تهدم أساس كل واحد منها ،

__________________

(١) لاحظ الأسفار ، ج ٩ ، ص ٢٣.

٣٠٥

وهناك برهانان آخران على بطلان التناسخ على وجه الإطلاق ، من دون أن يختصا بقسم دون قسم ، وإليك بيانهما :

الأول : اجتماع نفسين في بدن واحد

وهذا البرهان مبنى على أمرين :

أ ـ إنّ كل جسم نباتا كان أو حيوانا أو إنسانا ، إذا بلغ من الكمال إلى درجة يصير فيها صالحا لتعلّق النفس به ، تتعلق به. وبعبارة أخرى : متى حصل في البدن مزاج صالح لقبول تعلق النفس المدبرة به ، فبالضرورة تفاض عليه من الواهب من غير مهلة ولا تراخ ، وذلك مقتضى الحكمة الإلهية التي شاءت إبلاغ كل ممكن إلى كماله الممكن.

ب ـ إن القول بالتناسخ يستلزم تعلّق النفس المستنسخة المفارقة للبدن ، ببدن نوع من الأنواع من نبات أو حيوان أو إنسان ، بحيث يتقوم ذلك البدن بالنفس المستنسخة المتعلقة به.

ولازم تسليم هذين الأمرين ، تعلّق نفسين ببدن واحد : إحداهما النفس المفاضة على البدن لأجل صلاحيته للإفاضة ، وثانيتهما النفس المستنسخة المتعلقة بعد المفارقة بمثل هذا البدن.

ومن المعلوم بطلانه وذلك لأن تشخص كل فرد من الأنواع بنفسه وروحه ، وفرض نفسين وروحين مساوق لفرض ذاتين ووجودين لوجود واحد وذات واحدة.

أضف إلى ذلك : أنه ما من شخص إلا ويشعر بنفس وذات واحدة. قال التفتازاني : إنّ كلّ نفس تعلم بالضرورة أن ليس معها في هذا البدن نفس أخرى تدبر أمره وأن ليس لها تدبير وتصرّف في بدن آخر ، فالنفس مع البدن على التساوي ، ليس لبدن واحد إلا نفس واحدة ، ولا تتعلق نفس واحدة إلا ببدن واحد (١).

__________________

(١) شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٣٨. ولاحظ كشف المراد ، ص ١١٣ ، ط صيدا. ويضيف الأخير : ـ

٣٠٦

سؤال وجواب :

أما السؤال فهو أنّ هذا إنما يتم إذا كان هناك فصل زمني بين صلوح البدن لإفاضة الحياة ، وتعلّق النفس المستنسخة. وأما إذا كان صلوحه وقابليته ، مقارنا لتعلق النفس المستنسخة ، فلا يلزم اجتماع نفسين في بدن واحد ، لأنها تمنع عن إفاضة الحياة عليه ، فلا تكون له نفسان ولا حياتان.

والجواب : إن كون النفس المستنسخة مانعة من حدوث النفس الأخرى ليس بأولى من منع الأخرى من التعلّق بالبدن.

أضف إلى ذلك أنّ استعداد المادة البدنية لقبول النفس من الواهب للصور ، يجري مجرى استعداد الجدار لقبول نور الشمس مباشرة أو انعكاسا إذا رفع الحجاب من أمامه. فإن كان عند ارتفاع الحجاب جسم ثقيل ينعكس فيه نور الشمس الواقع عليه إلى ذلك الجدار ، أشرق عليه النوران الشمسيان المباشري والانعكاسي ، ولا يمنع من وقوع الانعكاسي ، وقوع النور المباشري عليه. ومثل ذلك ما نحن فيه ، غير أن اجتماع النفسين ممتنع ، ومانعية إحداهما عن طروء الأخرى غير صحيحة. فينتج أنّ التناسخ المبتني على أحد الأمرين (اجتماع نفسين أو مانعية إحداهما من طروء الأخرى) باطل (١).

الثاني : عدم التناسخ بين النفس والبدن

قد ثبت في محله أنّ تركيب البدن والنفس ، تركيب طبيعي اتحادي ، لا تركيب انضمامي ، فليس تركيبهما كتركيب السرير من الأخشاب والمسامير ، ولا كتركيب العناصر الكيميائية وتأثير بعضها في بعض.

والنفس في أول حدوثها متسمة بالقوة ، في كل ما لها من الأحوال ، وكذا البدن ، ولها في كل وقت شأن آخر من الشئون الذاتية بإزاء سن الطفولة والصبا

__________________

ـ أنه لو تعلقت نفس واحدة ببدنين لزم أن يكون معلوم أحدهما معلوما للآخر وبالعكس ، وكذا باقي الصفات النفسانية ، وهو باطل بالضرورة.

(١) لاحظ الأسفار ، ج ٩ ، ص ١٠ ، وهذا البرهان يختص المشائيين وقبله صدر المتألهين أيضا.

٣٠٧

والشباب والشيخوخة والهرم. وهما معا يخرجان من القوة إلى الفعل ، ودرجات القوة والفعل في كل نفس معينة بإزاء درجات القوة والفعل في بدنها الخاص بها ما دامت متعلقة به. فإذا صارت بالفعل في نوع من الأنواع استحال صيرورتها تارة أخرى في حد القوة المحضة ، كما استحال صيرورة الحيوان بعد بلوغه تمام الخلقة ، نطفة وعلقة.

فلو تعلقت نفس منسلخة ببدن آخر عند كونه جنينا أو غير ذلك ، يلزم كون أحدهما بالقوة والآخر بالفعل ، وذلك ممتنع. لأن التركيب بينهما طبيعي اتحادي ، والتركيب الطبيعي يستحيل بين أمرين ، أحدهما بالفعل والآخر بالقوة (١).

نعم ، هذا البرهان إنما يتم لو تعلقت النفس ببدن أدون من حيث الدرجات الفعلية من النفس ، كما إذا تعلقت بالجنين على مراتبه وأما لو تعلقت ببدن له من الفعلية ما للنفس منها ، فالبرهان غير جار فيه.

وهذا البرهان يغاير البرهان الذي ذكرناه ، عند إبطال التناسخ النزولي فإن محور البرهان هنا لزوم التناسق بين البدن والنفس من حيث القوة والفعل ، وهذا الشرط مفقود في أكثر موارد التناسخ ، كما إذا تعلقت بالجنين.

وأما ما ذكرناه في إبطال التناسخ النزولي فإن محوره هو لزوم الحركة الرجعية في عالم الكون ، ورجوع ما بالفعل إلى ما بالقوة ، فلا يختلط عليك الأمران.

* * *

سؤالان وجوابان

قد فرغنا من أقسام التناسخ وأنواعه وما يمكن أن يستدل به على إبطالها. وبقى هنا سؤالان يجب طرحهما والإجابة عنهما :

__________________

(١) الأسفار ، ج ٩ ، ص ٢ ـ ٣.

٣٠٨

السؤال الأول : التناسخ ووقوع المسخ في الأمم السالفة

لو كان تعلق النفس الإنسانية ببدن الحيوان بعد مفارقة البدن الإنساني تناسخا ممتنعا ، فكيف وقع المسخ في الأمم السالفة ، حيث مسخوا إلى القردة والخنازير كما يقول سبحانه: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (١).

ويقول سبحانه : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٢).

فإن صريح هذه الآيات تحوّل جماعة من البشر إلى قردة وخنازير ، وهو لا ينفك عن تعلق نفوسهم البشرية بأبدان الحيوانات. فما هو الفرق بينه والقول بالتناسخ؟.

الجواب : إنّ مقوم التناسخ أمران :

١ ـ تعدد البدن ، فإن في التناسخ بدنين : أحدهما البدن الذي تنسلخ عنه الروح ، والثاني : البدن الذي تتعلق به ثانيا بعد المفارقة سواء كان نباتا أو حيوانا أو جنينا.

٢ ـ تراجع النفس الإنسانية من كمالها إلى الحد الذي يناسب بدنها المتعلقة به من نبات أو حيوان أو جنين أو إنسان.

وكلا الشرطين مفقود في المقام ، فإن الأمة الملعونة والمغضوبة مسخت إلى القردة والخنازير بنفس أبدانها الأولية ، فخرجت عن الصورة الإنسانية إلى الصورة القردية والخنزيرية من دون أن يكون هناك بدنان. كما أن نفوسها السابقة بقيت

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٦٠.

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٦٦. والاستدلال مبني على أن المراد من النكالة هو العقوبة كما أن المراد من الموصول في «لما بين يديها وما خلفها» ، الذنوب المتقدمة على الاصطياد والمتأخرة عنه. فتكون اللام في قوله : «لما» ، سببيّة. (لاحظ مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٣٠).

٣٠٩

على الحد الذي كانت عليه ، وذلك لتنظر إلى الصورة الجديدة التي عرضت عليها ، فتعاقب وتنزجر. وإلا ، لو انقلبت نفوسها من الحد الذي كانت عليه إلى حد النفس الحيوانية ، فلا شكّ أنّها ستكون قردة بالحقيقة ، وعندئذ لا يترتب عليه عقاب ولا يصدق عليه النكال ، مع أنه سبحانه يصفه نكالا ، ويقول : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (١).

وهذان الأمران يفصلان المسخ في الأمم السالفة عن القول بالتناسخ.

وبالجملة : فقد تجلت الروحيات الخبيثة التي كانت عليها تلك الأمة ، على ظواهر أبدانها ، فلبست لباس الخنازير والقردة المعروفة بالحرص الشديد ، ومثل هذا ـ مع وحدة البدن وعدم نزول النفس عن درجتها السابقة ـ لا يعدّ تناسخا.

قال التفتازاني : «إن المتنازع هو أن النفوس بعد مفارقتها الأبدان ، تتعلق في الدنيا بأبدان أخر للتدبير والتصرف والاكتساب ، لا أن تتبدل صور الأبدان ، كما في المسخ. أو أن تجتمع أجزاؤها الأصلية بعد التفرق ، فتردّ إليها النفوس ، كما في المعاد على الإطلاق ، وكما في إحياء عيسى بعد الأشخاص» (٢).

وقال العلامة المجلسي : «إن امتياز نوع الإنسان ، إذا كان بهذا الهيكل المخصوص ، فلا يكون إنسانا بل قردا. وإن كان امتيازه بالروح المجردة ، كانت الإنسانية باقية غير ذاهبة ، وكان إنسانا في صورة حيوان ، ولم يخرج من نوع الإنسان ولم يدخل في نوع آخر» (٣).

يقول العلامة الطباطبائي : لو فرضنا إنسانا تغيّرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد والخنزير ، فإنما هي صورة على صورة ، فهو إنسان خنزير ، أو إنسان قرد ، لا إنسان بطلت إنسانيته وحلّت الصورة الخنزيرية أو القردية محلها ، فالإنسان إذا اكتسب صورة من صور الملكات ، تصورت نفسه

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٦٦.

(٢) شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٣٩.

(٣) البحار ، ج ٥٨ ، طبعة بيروت ، ص ١١٣.

٣١٠

بها ، ولا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حد ما ستظهر في الآخرة بعد الموت.

فالممسوخ من الإنسان ، إنسان ممسوخ ، لا أنّه ممسوخ فاقد للإنسانية.

وبذلك يظهر الفرق بين المقام والتناسخ ، فإن التناسخ هو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ، ببدن آخر ، بخلاف المقام (١).

السؤال الثاني : التناسخ والرجعة

ما هو الفرق بين التناسخ الباطل بالأدلة السابقة ، والقول بالرجعة على ما عليه الإمامية ، فإن رجوع بعض النفوس بعد مفارقتها أبدانها ، إليها في هذه النشأة ، أشبه بالتناسخ.

والجواب : قد عرفت عند البحث عن المسخ ، أن مجوز التناسخ أمران : تعدد البدن وتراجع النفس عن الحد الذي كانت عليه ، وكلاهما مفقودان في الرجعة ، فإن النفس ترجع إلى البدن الذي فارقته من دون أن تمس كمال النفس ، وتحطها من مقامها ، بل هي على ما هي عليه من الكمال عند المفارقة ، فتتعلق أخرى بالبدن الذي فارقته.

ومن هنا يظهر أن القول بالحشر في النشأة الأخرى ، على طرف النقيض من التناسخ.

خاتمة المطاف

إن الذكر الحكيم ينصّ على عدم رجوع نفس الإنسان إلى هذه الدنيا بعد مفارقتها البدن (خرج ما خرج بالدليل كما في إحياء الأموات بيد الأنبياء العظام وغيره) يقول سبحانه : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ، كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ، وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ

__________________

(١) الميزان ، ج ١ ، ص ٢١٠ بتلخيص.

٣١١

يُبْعَثُونَ) (١).

إن قوله سبحانه : (كَلَّا) ، ردع لطلب الرجوع إلى الدنيا ، فيفيد أنه على خلاف السنة الإلهية ، ومع ذلك فهو كسائر السنن التي ربما يخرج عنها بدليل.

وبذلك تعرف قيمة كلمة أحمد أمين المصري ذلك الكاتب المستهتر حيث يقول : «وتحت التشيّع ظهر القول بتناسخ الأرواح» (٢). والمسكين لا يفرق بين المسخ والتناسخ ، كما لا يفرق بين التناسخ والرجعة ، بل بين التناسخ والمعاد.

* * *

__________________

(١) سورة المؤمنون : الآيتان ٩٩ و ١٠٠.

(٢) فجر الإسلام ، ص ٢٧٧ وقد افترى على الشيعة في كتابه هذا ما افترى ، وندم عليه في أخريات عمره حيث لا ينفع الندم.

٣١٢

مباحث المعاد

(١٣) الإيمان وأحكامه

الإيمان ، من الأمن ، وله في اللغة معنيان متقاربان ، أحدهما : الأمانة ، التي هي ضدّ الخيانة ، ومعناها سكون القلب. والآخر : التصديق ، والمعنيان متدانيان (١).

والمراد هنا هو المعنى الثاني ، فيقال : آمن به ، إذا أذعن به وسكنت نفسه واطمأنّت بقوله ، وهو تارة يتعدى بالباء كما في قوله تعالى : (آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) (٢) وأخرى باللام ، كما في قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (٣) وقوله تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (٤).

وهذه الآيات تدل على أنّ الإيمان هو التصديق القلبي ، ويؤكّده قوله سبحانه : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٥) ، وقوله سبحانه : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٦) ، وقوله سبحانه : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٧).

__________________

(١) مقاييس اللغة ، ج ١ ، ص ١٣٣. ولو جعل سكون القلب تفسيرا للمعنى الثاني أي التصديق لكان أحسن.

(٢) سورة آل عمران : الآية ٥٣.

(٣) سورة يوسف : الآية ١٧.

(٤) سورة العنكبوت : الآية ٢٦.

(٥) سورة المجادلة : الآية ٢٢.

(٦) سورة الحجرات : الآية ١٤.

(٧) سورة النحل الآية ١٠٦.

٣١٣

وتؤكّده آيات الطبع والختم ، فإنه تعرب عن كون محل الإيمان هو القلب ، كما يقول سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١) ويقول سبحانه : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢). والختم على السمع والبصر لأجل كونهما من أدوات المعرفة التي يستخدمها القلب. والمآل هو القلب.

فالإمعان في هذه الآيات يثبت أنّ الإيمان هو التصديق القلبي ، وأما أنّ هذا المقدار من الإيمان يكفي في نجاة الإنسان أو لا ، فهو بحث آخر ، إذ من الممكن أن يكون للإيمان في مجال النجاة شروط أخر.

سؤال :

لو كان الإذعان القلبي كافيا في صدق الإيمان ، فلما ذا يندد سبحانه بجماعة من الكفار بأنّهم جحدوا الحقيقة بألسنتهم وإن استيقنوها بقلوبهم ، مع أنّهم على التعريف الذي ذكرناه ، مؤمنين. يقول سبحانه : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٣). ويقول سبحانه : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (٤). ويقول سبحانه : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٥). فهذه الآيات تدلّ على عدم كفاية التصديق القلبي في صدق الإيمان.

جوابه :

إن الإيمان هو التصديق ، وأما التنديد ، فلأنّ ظاهرهم كان مخالفا لباطنهم ، فكانوا يتظاهرون بالنفاق ، ولو لا التظاهر بالخلاف ، بأن لا يجحدوا بعد

__________________

(١) سورة النحل : الآية ١٠٨.

(٢) سورة الجاثية : الآية ٢٣.

(٣) سورة النمل : الآية ١٤.

(٤) سورة البقرة : الآية ٨٩.

(٥) سورة البقرة : الآية ١٤٦.

٣١٤

الاستيقان ، ولا يكفروا باللسان ما عرفوه قبلا ، لكانوا مؤمنين حقا.

نعم ، لا يمكن الحكم بإيمانهم في مجال الإثبات إلا إذا دلّ الدليل على إذعانهم قلبا ، وهذا خارج عن موضوع البحث.

سؤال :

ما هو الأثر المترتب على التصديق القلبي؟.

جوابه :

الإيمان بهذا المعنى ، موضوع للأثر في الدنيا والآخر. أما في الدنيا ، فحرمة دمه وعرضه وماله ، إلا أن يرتكب قتلا أو يأتي بفاحشة.

وأما في الآخرة ، فصحة أعماله ، واستحقاق الثواب عليها ، وعدم الخلود في النار ، واستحقاق العفو والشفاعة في بعض المراحل.

سؤال :

إنّ التصديق اللساني ، أيضا له أثره الدنيوي من حرمة الدم والعرض والمال.

جوابه :

إن التصديق اللساني بما أنّه كاشف عن التصديق القلبي ، يترتب عليه ذلك الأثر ، فالأثر للمكشوف عنه لا للكاشف ، وإلا فلو تبين نفاقه ، وأنّه يتظاهر بما ليس في القلب ، فلا حرمة لدمه وماله وعرضه في الواقع.

نعم ، يجب علينا مجازاته حسب إقراره واعترافه إلا إذا كشف بقوله وإقراره عن سريرته ، هذا.

وإن السعادة الأخروية رهن العمل ، لا يشك فيه من له إلمام بالشريعة

٣١٥

والآيات والروايات الواردة حول العمل ، والتصديق القلبي إذا لم يقترن بالعمل ، لا ينجو الإنسان من عذاب الآخرة.

* * *

هذا هو الحق في الإيمان ، وهاهنا أقوال أخر ، نشير إليها :

الأول : إن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا ، ولا يكفي التصديق القلبي وحده ، وهذا القول للمحقق الطوسي مستدلا بما مضى من قوله سبحانه : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١).

يلاحظ عليه : إنّ التنديد بهم سببه نفاقهم ، وعدم مطابقة لسانهم لما في قلوبهم. فلو كانوا مستيقنين غير منكرين بألسنتهم لكانوا مستحقين للثناء.

الثاني : إنّ الإيمان هو الإقرار باللسان. واستدل القائل به بأنّ من أعلن بلسانه شهادة الإسلام فهو مسلم محكوم له بحكم الإسلام.

أضف إليه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السوداء : «اعتقها فإنها مؤمنة» (٢).

يلاحظ عليه : إنّ الحكم لهم بالإسلام أو بالإيمان إنما هو بحسب الظاهر ، وليس هو حكما بحسب الواقع ، ففي هذا المقام يجعل الاعتراف اللساني طريقا إلى التصديق الجنائي ، ولو علم خلافه ، لحكم بالنفاق. قال سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٣).

فإنّ الرسول وأصحابه كانوا مكلفين بالحكم حسب المعايير الظاهرية التي تكشف عادة عن الإيمان القلبي ، قال رسول الله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله ، ويؤمنوا بما أرسلت به ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني

__________________

(١) كشف المراد ، ص ٢٧٠ ، ط صيدا.

(٢) الفصل ، ج ٣ ، ص ٢٠٦.

(٣) سورة البقرة : الآية ٨.

٣١٦

دماءهم وأموالهم إلّا بحقها ، وحسابهم على الله» (١).

وبذلك يظهر وجه حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله في السوداء بأنها مؤمنة. روى ابن حزم عن خالد بن الوليد أنّه قال : ربّ رجل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي لم أبعث لأشقّ عن قلوب الناس» (٢).

وكيف يكتفي القائل بالتصديق اللساني ، مع أنّ صريح الكتاب على خلافه ، قال سبحانه : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٣) والأعراب صدّقوا بألسنتهم ، وأنكروا بقلوبهم ، فرد الله عليهم بأنّكم لستم مؤمنين لأنّكم مصدّقون بألسنتكم لا بقلوبكم.

الثالث : إنّ الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان مع العمل ، فالعمل عنصر حقيقي مقوّم للإيمان ، والفاقد له ليس بمؤمن بتاتا والقائلون بهذا هم الخوارج والمعتزلة (٤) ، غير أنّ بينهما فرقا في المقام.

فالخوارج يرون العمل مقوّما للإيمان ، فالمقرّ قلبا ولسانا إذا فقد العمل ، ارتكب الكبيرة ، فقد صار كافرا ، ولأجل ذلك يكفّرون مرتكب الكبيرة ، ويحكمون عليه بالخلود في النار ، إذا لم يتب.

والمعتزلة ، مع أنّهم يرون العمل مقوّما للإيمان ، غير أنّهم لا يكفّرون تارك العمل ، ومرتكب الكبيرة ، بل يجعلونه في منزلة بين الإيمان والكفر ، والمكلف عندهم على ثلاثة حالات :

إيمان ، إذا قام بالتصديقين ، وعمل بالوظائف.

وكفر ، إذا فقد التصديق القلبي ، أو هو واللساني.

ومنزلة بين المنزلتين ، إذا قام بالتصديقين ، ولكن فقد العمل.

__________________

(١) الفصل ، ج ٣ ، ص ٢٠٦.

(٢) المصدر السابق نفسه.

(٣) سورة الحجرات : الآية ١٤.

(٤) شرح الأصول الخمسة ، ص ١٣٩.

٣١٧

والكلام مع هؤلاء في مقامين :

١ ـ نقد هذا المذهب عن طريق الكتاب والسنة.

٢ ـ تحليل ما تمسكوا به في إثبات عقيدتهم.

أما الأول ، فالآيات الدالة على أنّ العمل ليس عنصرا مقوّما للإيمان (وإن كان مؤثرا في النجاة) كثيرة نشير إلى بعضها :

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، فالعطف يقتضي المغايرة ، ولو كان العمل داخلا في الإيمان للزم التكرار. واحتمال كون المقام من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، يحتاج إلى نكتة ومسوغ له.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (١) فالجملة حالية ، المقصود منها : «من عمل حال كونه مؤمنا» ، وهذا يقتضي المغايرة.

قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ، فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (٢).

فأطلق المؤمن على الطائفة العاصية ، وقال ما هذا معناه : فإن بغت إحدى الطائفتين من المؤمنين على الطائفة الأخرى منهم».

نعم ، يحتمل أن يكون إطلاق المؤمن عليهم باعتبار حال التلبس ، أي باعتبار كونهم مؤمنين قبل القتال ، لا بلحاظ حال صدور الحكم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (٣).

فأمر الموصوفين بالإيمان ، بتقوى الله ، وهو الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المحرمات ، فدلّ على أنّ الإيمان يجتمع مع عدم التقوى ، وإلا كان الأمر به لغوا وتحصيلا للحاصل.

__________________

(١) سورة طه : الآية ١١٢.

(٢) سورة الحجرات : الآية ٩.

(٣) سورة التوبة : الآية ١١٩.

٣١٨

واحتمال أنّ الآية أمر على الاستدامة ، خلاف الظاهر.

هذا حسب الآيات ، وأمّا السنة فهناك روايات تدل على أنّ الإقرار المقترن بالعرفان ، إيمان. منها ما رواه الصدوق بسند صحيح عن جعفر الكناسي قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : ما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا ، قال : يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله ، ويقرّ بالطاعة ، ويعرف إمام زمانه ، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن» (١).

وأما الثاني : وهو تحليل ما استدلوا به على أنّ العمل عنصر مقوم للإيمان بحيث لولاه فهو إما كافر أو في منزلة بين المنزلتين. فقد استدلوا بآيات :

١ ـ قوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (٢) ، فلو كان الإيمان هو التصديق ، لما قبل الزيادة والنقيصة ، لأن التصديق أمره دائر بين الوجود والعدم ، وهذا بخلاف ما لو كان العمل جزء من الإيمان ، فإنه عندئذ يزيد وينقص حسب زيادة العمل ونقيصته ، والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا فيما سواها ، ولا عدد في الاعتقاد (٣).

يلاحظ عليه ، إنّ الإيمان ـ بمعنى الإذعان ـ أمر مقول بالتشكيك ، ولليقين مراتب بشهادة أنّ يقين الإنسان بأنّ الاثنين نصف الأربعة ، يفارق يقينه في الشدة والظهور بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس ، كما أنّ يقينه الثاني يفارق يقينه بأن كل ممكن فهو زوج تركيبي من ماهية ووجود ، وهكذا يتنزل اليقين من القوة إلى الضعف إلى أن يصل إلى أضعف المراتب التي لو تجاوز عنها لزال وصف اليقين وانقلب إلى الظن أو الشك. فمن ادعى بأنّ أمر الإيمان ـ بمعنى التصديق والإذعان ـ دائر بين الوجود والعدم ، فقد غفل عن حقيقته ومراتبه ، فهل يصح لنا أن ندعي أنّ إيمان الأنبياء ، كإيمان سائر الناس ، كلا ، لأنّ الأنبياء معصومون ، وعصمتهم ناشئة من يقينهم بآثار المعاصي ، الذي يصدهم عن

__________________

(١) البحار ، ج ٦٦ ، ص ١٦ ، نقلا عن معاني الأخبار للصدوق.

(٢) سورة الفتح : الآية ٤.

(٣) الفصل ، لابن حزم الظاهري ، ج ٣ ، ص ١٩٤.

٣١٩

اقترافها ، فلو كان إذعانهم كإذعان سائر الناس ، لما امتازوا عنهم بالعصمة عن المعصية.

وما ذكروه من أنّ الزيادة تستعمل في الكمية العددية ، فهو منقوض بآيات كثيرة استعملت فيها الزيادة في غيرها ، قال سبحانه : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ ، وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١) وقال سبحانه : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) (٢) والمراد شدة خشوعهم ، وشدة نفورهم ، لا كثرة عددهما. وغير ذلك من الآيات التي استعمل فيها ذلك اللفظ فيما يرجع إلى الكيفية لا الكمية.

٢ ـ قوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (٣). والمراد من الإيمان ، صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن ينسخ بالأمر باستقبال الكعبة (٤).

يلاحظ عليه : إنّه لو أخذ بظاهر الآية ، فيجب أن يكون الإيمان نفس العمل ، وهو مجمع على خلافه.

أضف إلى ذلك أنّه استعمل الإيمان وأريد منه العمل في المقام ، والاستعمال أعم من الحقيقة ، ولا شك أنّ العمل أثر الإيمان ورد فعل له ، فمن الشائع إطلاق السبب وإرادة المسبب.

٣ ـ قوله سبحانه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٥).

أقسم سبحانه بنفسه أنّهم لا يؤمنون إلا بتحكيم النبي والتسليم بحكمه ، وعدم وجدان الحرج في قضائه. والتحكيم غير التصديق ، بل هو عمل خارجي (٦).

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ١٠٩.

(٢) سورة الإسراء : الآية ٤١.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٤٣.

(٤) البحار ، ج ٦٦ ، ص ١٨.

(٥) سورة النساء : الآية ٦٥.

(٦) الفصل ، ج ٣ ، ص ١٩٥.

٣٢٠