الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

يُوفِضُونَ) (١).

وقوله تعالى : (أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٢).

وقوله تعالى : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) (٣).

وقوله تعالى : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) (٤).

٤ ـ ما يدل على شهادة الأعضاء ، قال سبحانه : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٥).

وقال تعالى : (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦).

وقال تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) (٧).

٥ ـ ما يدل على تبديل الجلود بعد نضجها وتقطّع الأمعاء.

قال سبحانه : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ، لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)(٨).

وقال سبحانه : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً ، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (٩).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في مواقف القيامة ، ومشاهدها ، ونعيم الجنة وعذاب الجحيم ، التي لا تدع لمريب ريبا في أنّ الإنسان سوف يبعث بهذا

__________________

(١) سورة المعارج : الآية ٤٣.

(٢) سورة الحج : الآية ٧.

(٣) سورة الانفطار : الآية ٤.

(٤) سورة العاديات : الآية ٩.

(٥) سورة النور : الآية ٢٤.

(٦) سورة يس : الآية ٦٥.

(٧) سورة فصلت : الآية ٤١.

(٨) سورة النساء : الآية ٥٦.

(٩) سورة محمد : الآية ١٥.

٢٨١

البدن العنصري الذي تكون له الحياة بالنحو الذي كانت له في الدنيا ، وهذا مما لا نشك فيه.

هذا كله حول الملاك الأوّل ، وإليك البحث في الملاك الثاني الذي حاصله أنّ اتصاف المعاد بالجسماني أو الروحاني ، يرجع إلى كون الثواب والعقاب جسمانيين فقط ، أو أنّ هناك لذات وآلام روحية تلتذ بها النفس أو تتألّم ، ولا دخالة للجسم في حصول اللّذة والألم.

إن القرآن الكريم يصدّق كلا المعادين بهذا الملاك حيث يثبت اللذات والآلام الجسمانية والروحانية ، ولا يخص الثواب والعقاب بما يعرض للنفس عن طريق البدن ، وبواسطته. وإليك ما يدل على ذلك :

أما ما يدل على الثواب والعقاب الجسمانيين ، فحدّث عنه ولا حرج ، فالجنة والنار وما فيهما من النعم والنقم يرجعان إلى اللذات والآلام الجسمانية. وإنما الكلام فيما يدل من الآيات على اللذات والآلام الروحية فقط ، وفيما يلي نذكر بعضا منها :

١ ـ لذة رضاء المعبود

يقول سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١).

فترى أنه سبحانه يجعل رضوان الله في مقابل سائر اللّذات الجسمانية ، ويصفه بكونه أكبر من الأولى ، وأنّه هو الفوز العظيم.

ومن المعلوم أنّ هذا النوع من اللّذة لا يرجع إلى الجسم ، بل هي لذّة تدرك بالعقل ، والروح في درجتها القصوى.

وهنا كلمة مروية عن الإمام الطاهر علي بن الحسين قال : إذا صار أهل

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ٧٢.

٢٨٢

الجنة ، ودخل وليّ الله إلى جنانه ومساكنه ، واتكأ كل مؤمن منهم على أريكته ، حفته خدّامه وتهدلت عليه الثمار ، وتفجرت حوله العيون ، وجرت من تحته الأنهار ، وبسطت له الزرابي ، وصففت له النمارق وأتته الخدام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك ، قال : ويخرجون عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله.

ثم إنّ الجبار يشرف عليهم فيقول لهم : أوليائي وأهل طاعتي وسكان جنتي في جواري ، هل أنبئكم بخير مما أنتم فيه ، فيقولون ربنا وأي شيء خير مما نحن فيه ، نحن فيما اشتهت أنفسنا ، ولذّت أعيننا من النعم في جوار الكريم ، قال فيعود عليهم بالقول ، فيقولوا : ربّنا نعم ، فائتنا بخير مما نحن فيه ، فيقول لهم تبارك وتعالى : رضائي عنكم ومحبّتي لكم خير وأعظم مما أنتم فيه ، قال : فيقولون نعم يا ربنا ، رضاك عنا ومحبتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا. ثم قرأ علي بن الحسين هذه الآية : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١).

٢ ـ ألم الابتعاد عن رحمة الله؟

إذا كان إدراك رضوان المعبود أعظم اللذات العقلية ، فإدراك الابتعاد عن رحمة الله التي وسعت كلّ شيء ، من أعظم الآلام العقلية. ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يوعد المنافقين والكفار بالنّار ، ويعقّبه بلعنهم. فكأنّ هناك ألمين : جسمي هو التعذيب بالنار ، وعقلي ، وهو إدراكهم ألم الابتعاد عن رحمته.

يقول سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٢).

ويظهر عظم هذا الألم ، بوقوع هذه الآية قبل آية الرضوان فكأنّ الآيتين

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٤٠ ، كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٥٧.

(٢) سورة التوبة : الآية ٦٨.

٢٨٣

تعربان عن اللذات والآلام العقلية التي تدركها الروح بلا حاجة إلى الجسم والبدن.

٣ ـ الحسرة يوم القيامة

يقول سبحانه : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ، وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (١).

إن أصحاب الجحيم عند ما يقفون على درجات الجنة ومقامات أصحابها ، وما حلّ بهم من السعادة والكرامة والراحة والاستظلال برحمة الله تبارك وتعالى ، وتفرغهم عن كل همّ وحزن ، ثم ينظرون إلى ما حلّ بهم من عذاب أليم ، وطعام من غسلين (٢) ، وضريع (٣) ، وشراب من حميم (٤) ، يتحسرون على ما ضيّعوا من الفرض ، ويندمون على ما فوّتوا في الدنيا وفرطوا في حياتهم ، ولكنها الحسرة في وقت لا تنفع فيه.

وهذا النوع من العذاب ـ أعني الحسرة ـ أشد على النفس مما يحل بها من عذاب البدن ، ولأجل ذلك يسمى يوم القيامة بيوم الحسرة ، قال سبحانه : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٥).

روى أبو سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، قيل يا أهل الجنة ، فيشرئبون وينظرون ، وقيل يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، فيجاء بالموت ، كأنّه كبش أملح ، فيقال لهم : تعرفون الموت ، فيقولون : «هذا ، هذا» وكلّ قد عرفه ،

__________________

(١) سورة البقرة : الآيتان ١٦٦ و ١٦٧.

(٢) سورة الحاقة : الآية ٣٦.

(٣) سورة الغاشية : الآية ٦.

(٤) سورة الأنعام : الآية ٧٠.

(٥) سورة مريم : الآية ٣٩.

٢٨٤

قال : فيقدم فيذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت. قال : وذلك قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ).

وروي هذا الحديث عن الإمامين الصادقين عليهما‌السلام ، بزيادة : «فيفرح أهل الجنة فرحا ، لو كان أحد يومئذ ميتا ، لماتوا فرحا ، ويشهق أهل النار شهقة ، لو كان أحد ميّتا ، لماتوا» (١).

٤ ـ لقاء الله ومشاهدته العقلية

إن هناك لفيفا من الآيات تعرب عن تمكن المؤمن من لقائه سبحانه يوم القيامة ، يقول سبحانه : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (٢).

وهذه الآيات الوافرة تشير إلى لقائه سبحانه. ولكن المفسرين ـ تنزيها له سبحانه عن الجسم والجسمانيات ـ أوّلوها إلى لقاء جزائه سبحانه وثوابه وعقابه ، ورضاه وسخطه ، وهذا المعنى مع صحته في نفسه ، ومع التركيز على تنزيهه سبحانه عن المشاهدة بالعيون المادية ، لا يمكن أن يكون معربا عن كلّ ما تهدف إليه الآية ، فإن لهذه الآيات معنى دقيقا يدركه العارفون الراسخون في معرفته سبحانه ، القائلين بأنّ المعرفة ، بذر المشاهدة ، لكن لا مشاهدة جسمانية ، بل مشاهدة قلبية وعقلية ، ولمّا كان بيان هذا النوع من اللّذة العقلية ، خارجا عن موضوع الكتاب نقتصر على هذا المقدار. ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محله(٣).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٥١٥.

(٢) سورة الكهف : الآية ١١٠ ، ورد هذا المضمون في الذكر الحكيم في سور كثيرة منها : الأنعام : ٣١ ، و ١٥٤ ، يونس : ٧ و ١١ و ١٥ و ٤٥ ، العنكبوت : ٥ و ٢٣ ، السجدة : ١٠ و ٢٣ ، فصلت : الآية ٥٤.

(٣) ما ذكرناه نماذج من اللذات والآلام الروحية الدالة على أن الثواب والعقاب ليسا محصورين في الجسماني منهما ، ومن أراد التوسع فليلاحظ كتاب «لقاء الله» ، للعارف الكبير ، الشيخ جواد الملكي ، (م ١٣٤٤). وهناك روايات وردت حول الموضوع ، فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى توحيد الصدوق ، وإلى الموسوعة القرآنية : «مفاهيم القرآن».

٢٨٥

المعاد الروحاني عند الحكماء

قد وقفت على تضافر آيات الكتاب وأحاديث السنّة على عدم حصر المعاد في الجسماني ، كما تعرفت على حكم العقل في ذلك المجال ، وأنّ حصره في المعاد الجسماني يخالف رحمة الله الواسعة وحكمته البالغة ، وعلى ذلك فالشرع والعقل متعاضدان على أنّ هناك معادا غير المعاد الجسماني ، ولكن يجب إلفات نظر الباحث في المقام إلى نكتة وهي أنّ المعاد الروحاني في الكتاب والسنّة يرجع إلى اللذات والآلام الروحية التي تلتذ بها النفس أو تتألم من دون حاجة إلى آلة جسمانية. وقد عرفت ما هو الوارد في الكتاب في هذا المجال من رضوانه سبحانه ولقائه والابتعاد عن رحمته وإحاطة الحسرة بالإنسان في تلك النشأة ، فهذه هي حقيقة المعاد الروحاني التي تتلخص في غير اللذات والآلام الجسمانية ، وعلى هذا فهو يعمّ جميع أهل الجنة والنار من غير فرق بين الكاملين والمتوسطين.

وعلى الجملة هناك لذّات روحية وآلام كذلك تحيط أهل الجنّة والنار من غير فرق بين طبقاتهم. وأمّا المعاد الروحاني عند الحكماء ، فهو يختلف عمّا وقفنا عليه في الكتاب بأمرين :

الأول : إنّهم يخصّون المعاد الروحاني باللذات العقلية أي درك العقل الأمور الملائمة والمنافرة له ، فإن اللذة عندهم على وجه الإطلاق تفسّر بإدراك الملائم من حيث هو ملائم ، كالحلو من المذوقات. والملائم للنفس الناطقة ، إدراك المعقولات بأن تتمكن النفس من تصوّر ما يمكن أن يدرك من الحق تعالى ، وأنه واجب الوجود ، بريء عن النقائص والشرور والآفات ، منبع فيضان الخير على الوجه الأصوب ، ثم إدراك ما يترتب بعده من العقول والنفوس المجرّدة والأجرام السماوية والكائنات العنصرية حتى تصير النفس بحيث ترتسم فيها صور جميع الموجودات على الترتيب الذي هو لها.

وعلى هذا فإدراك الحس ، الملائم للحس ، معاد جسماني. وإدراك العقل ، الملائم له ، من الوجودات العالية ، معاد روحاني.

وهذه العلوم وإن كانت حاصلة لبعض النفوس في هذه النشأة إلا أنّها معرفة

٢٨٦

ناقصة تتجلى بعد الموت في النشأة الأخرى بصورة كاملة برفع الموانع والحجب ، فكأنّ المعرفة العقلية بذر المشاهدة. فتلتذ النفوس في النشأة الأخرى بإدراك الأكمل فالأكمل.

وهذا كما ترى غير ما أشار إليه القرآن من اللذات الروحية ، نعم لا مانع من ثبوت كلا النوعين من المعاد الروحاني ، وليس الوارد في القرآن رادا لهذا القسم.

الثاني : إنّ المعاد الروحاني الوارد في القرآن الكريم يعمّ جميع النفوس ، كاملة كانت أو متوسطة أو ناقصة. ولكن المعاد الروحاني الذي عليه الحكماء يختص بصنف خاص ، وهم الكاملون في المعرفة. وذلك لأنّ المعاد الروحاني حسب الكتاب والسنة ، يرجع إلى اللذائذ الروحية لا إلى اللذة العقلية التي تختص بالكاملين في المعرفة.

يقول صدر المتألهين : «وهذا النوع من اللذة والسعادة لا تنالها كل نفس وإنما ينالها من عرف العقليات في النشأة الأولى ، لأن المعرفة بذر المشاهدة فمعرفة العقليات في النشأة الأولى منشأ الحضور في العقبى» (١).

إن النفوس مختلفة ومنقسمة إلى كاملة ومتوسطة وناقصة ، فلا شك أنّ حصر المعاد في الجسماني يخالف رحمته الواسعة وحكمته البالغة إذ النفوس الناقصة والمتوسطة ، وإن كانت تلتذ بنعيم الجنة ، ولكن النفوس الكاملة لا تلتفت إلى مثلها بل تطلب غاية أعلى منها ، ولأجل ذلك يجب أن يكون هناك وراء هذه اللذات الحسية ، لذة عقلية تتشوق إليها النفوس الكاملة وتصبو إليها ، وليست هي إلا نيل مقامات القرب من الحق تعالى.

يقول الحكيم السبزواري : «لو حصروا المعاد في الجسماني لكان قصورا حيث عطّلوا النفوس الكاملة عن البلوغ إلى غاياتها ، لأنها المستصغرة للغايات الجزئية ، الطالبة للاتصال بالأرواح المرسلة ، بل لمحض القرب من الله تعالى».

__________________

(١) الأسفار ، ج ٩ ، ص ١٢٣ و ١٢٩.

٢٨٧

وقال في موضع آخر : «إنّ الخلق طبقات فالمجازات متفاوتة ، فكل منها محبوب ومرغوب وجزاء يليق بحالها ، واللذائذ الحسية للكمل في العلم والعمل ، كالظلّ غير الملتفت إليه بالذات ، والتفاتهم بباطن ذواتهم وما فوقهم» (١).

ثم إن للحكماء المتألهين في تبيين السعادة والشقاء الأخرويين العقليين مباحث مهمة لا سيما في تبيين دور العقل النظري والعملي فيهما فمن أراد الوقوف عليها ، فليرجع إلى مظانها (٢).

* * *

__________________

(١) لاحظ إلهيات الشفاء ، والمبدأ والمعاد للشيخ الرئيس. والأسفار الأربعة لصدر المتألهين ، ج ٩.

وشرح المنظومة ، وأسرار الحكم ، كلاهما للحكيم السبزواري ، وغيرها من كتب الفلاسفة.

(٢) شرح المنظومة للحكيم السبزواري ، المقصد السادس ، الفريدة الثانية.

٢٨٨

مباحث المعاد

(١١) الرجعة

قضية الرجعة التي تحدثت عنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن أهل بيت الرسالة ، مما تعتقد به الشيعة من بين الأمة الإسلامية ، وليس هذا بمعنى أنّ مبدأ الرجعة يعدّ واحدا من أصول الدين ، وفي مرتبة الاعتقاد بالله وتوحيده ، والنبوة والمعاد بل إنها تعدّ من المسلّمات القطعية ، وشأنها في ذلك شأن كثير من القضايا الفقهية والتاريخية التي لا سبيل إلى إنكارها. مثلا : اتفقت كلمة الفقهاء على حرمة مسّ النساء في المحيض ، بنص الكتاب العزيز يقول تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (١).

ودلّت الوثائق التاريخية على أنّ معركة بدر وقعت في السنة الثانية للهجرة. فالأولى قطعية فقهية ، والثانية قطعية تاريخية ، ولكن لا يعدان من أصول العقائد الإسلامية ، وشأن الرجعة في هذا المجال شأنهما.

إذا عرفت ذلك نقول : الرجعة في اللّغة ترادف العودة ، وتطلق اصطلاحا على عودة الحياة إلى مجموعة من الأموات بعد النهضة العالمية للإمام المهدي عليه‌السلام وهذه العودة تتم بالطبع قبل حلول يوم القيامة. وطبقا لهذا المبدأ ، فالحديث عن العودة ، يعدّ من أشراط القيامة.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٢٢.

٢٨٩

وعلى ضوء ذلك ، فظهور الإمام المهدي عليه‌السلام شيء ، وعودة الحياة إلى مجموعة من الأموات شيء آخر ، كما أن البعث يوم القيامة أمر ثالث ، فيجب تمييزها وعدم الخلط بينها.

قال الشيخ المفيد : «إن الله تعالى يحشر قوما من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعد موتهم ، قبل يوم القيامة ، وهذا مذهب يختص به آل محمد (صلوات الله عليه وعليهم) ، والقرآن شاهد به» (١).

وقال المرتضى متحدثا عن الرجعة عند الشيعة : «اعلم أنّ الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه ، أنّ الله تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان ، المهدي عليه‌السلام ، قوما ممن كان قد تقدّم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ، ومشاهدة دولته ، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم ، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق وعلو كلمة أهله» (٢).

وقال العلامة المجلسي : «والرجعة إنما هي لممحضي الإيمان من أهل الملّة ، وممحضي النفاق منهم ، دون من سلف من الأمم الخالية» (٣).

فالاعتقاد بالرجعة من الأمور القطعية المسلّم بها ، والروايات الكثيرة الواردة عن الأئمة المعصومين لا تبقي أي مجال للشك في وقوعها.

يقول العلامة المجلسي : «كيف يشك مؤمن بحقّية الأئمة الأطهار فيما تواتر عنهم فيما يقرب من مائتي حديث صريح ، رواها نيّف وثلاثون من الثقات العظام ، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم كثقة الإسلام الكليني والصدوق و...» (٤).

وقد وصف الشيخ الحرّ العاملي الروايات المتعلّقة بالرجعة بأنها أكثر من أن

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ١٣٦ ، نقلا عن المسائل السروية ، للشيخ المفيد.

(٢) المصدر السابق نفسه ، نقلا عن رسالة كتبها السيد المرتضى جوابا على أسئلة أهل الريّ.

(٣) المصدر السابق نفسه ، وقد نقل أقوال علماء الشيعة ونصوصهم في هذا الجزء من بحاره فمن أراد زيادة الاطلاع فليرجع إليه ص ٢٢ ـ ١٤٤.

(٤) المصدر السابق.

٢٩٠

تعد وتحصى وأنّها متواترة معنى (١).

هذه بعض كلمات كبار علماء الشيعة ومحدثيهم حول الرجعة ، ويقع الكلام في مقامين الأول ـ إمكان الرجعة.

الثاني ـ الدليل على وقوعها في هذه الأمة.

* * *

المقام الأول : إمكان الرجعة

يكفي في إمكان الرجعة ، إمكان بعث الحياة من جديد يوم القيامة ، فإنّ الرجعة والمعاد ، ظاهرتان متماثلتان ومن نوع واحد مع فارق أنّ الرجعة محدودة كيفا وكمّا ، وتحدث قبل يوم القيامة ، بينما يبعث جميع الناس يوم القيامة ليبدءوا حياتهم الخالدة.

وعلى ضوء ذلك ، فالاعتراف بإمكان بعث الحياة من جديد يوم القيامة ، ملازم للاعتراف بإمكان الرجعة في حياتنا الدنيوية. وحيث إنّ حديثنا مع المسلمين الذين يعتبرون الإيمان بالمعاد من أصول شريعتهم ، فلا بد لهؤلاء إذن من الاعتراف بإمكانية الرجعة.

أضف إلى ذلك أنّه قد وقعت الرجعة في الأمم السالفة كثيرا ، وقد تحدثنا عنه عند ذكر شواهد من إحياء الموتى في الأمم السالفة نظير :

١ ـ إحياء جماعة من بني إسرائيل (٢).

٢ ـ إحياء قتيل بني إسرائيل (٣).

__________________

(١) الإيقاظ من الهجعة ، الباب الثاني ، الدليل الثالث.

(٢) سورة البقرة : الآيتان ٥٥ و ٥٦.

(٣) سورة البقرة : الآيتان ٧٢ و ٧٣.

٢٩١

٣ ـ موت ألوف من الناس وبعثهم من جديد (١).

٤ ـ بعث عزير بعد مائة عام من موته (٢).

٥ ـ إحياء الموتى على يد عيسى عليه‌السلام (٣).

وبعد وقوع الرجعة في الأمم السالفة ، هل يبقى مجال للشك في إمكانها؟

وتصوّر أنّ الرجعة من قبيل التناسخ المحال عقلا ، تصوّر باطل ، لأنّ التناسخ عبارة عن رجوع الفعلية إلى القوة ، ورجوع الإنسان إلى الدنيا عن طريق النطفة ، والمرور بمراحل التكوّن البشري من جديد ، ليصير إنسانا مرة أخرى ، سواء أدخلت روحه في جسم إنسان أم حيوان ، وأين هذا من الرجعة وعود الروح إلى البدن المتكامل من جميع الجهات ، من دون أن يكون هناك رجوع إلى القوة بعد الفعلية.

* * *

المقام الثاني ـ أدلة وقوع الرجعة

يدل على وقوع الرجعة في هذه الأمّة قوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ* وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٤).

لا يوجد بين المفسّرين من يشك بأنّ الآية الأولى تتعلق بالحوادث التي تقع قبل يوم القيامة ، ويدل عليه ما روي عن النبي الأكرم من أنّ خروج دابة الأرض من علامات يوم القيامة ، إلا أنّ هناك خلافا بين المفسرين حول المقصود من دابة الأرض ، وكيفيّة خروجها ، وكيف تتحدث ، وغير ذلك ممّا لا نرى حاجة لطرحه؟.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٤٣.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٥٩.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٤٩.

(٤) سورة النمل : الآيتان ٨٢ و ٨٣.

٢٩٢

روى مسلم أنّه قال رسول الله : إنّ الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف في جزيرة العرب ، والدخان ، والدجّال ، ودابّة الأرض ، ويأجوج ومأجوج ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس» (١)

إنما الكلام في الآية الثانية ، والحق أنّها ظاهرة في حوادث قبل يوم القيامة ، وذلك لأنّ الآية تركز على حشر فوج من كل جماعة بمعنى عدم حشر الناس جميعا ، ومن المعلوم أنّ الحشر ليوم القيامة يتعلق بالجميع ، لا بالبعض ، يقول سبحانه : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ ، فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢) أفبعد هذا التصريح ، يمكن تفسير ظرف الآية بيوم البعث والقيامة؟.

وهناك قرينتان أخريان ، تحقّقان ظرفها لنا ، إن كنّا شاكين ، وهما :

أوّلا ـ إنّ الآية المتقدمة عليها تذكر للناس علامة من علامات القيامة ، وهي خروج دابة الأرض ، ومن الطبيعي ، بعد ذلك أنّ حشر جماعة من الناس يرتبط بهذا الشأن.

ثانيا ـ ورد الحديث في تلك السورة عن القيامة في الآية السابعة والثمانين ، أي بعد ثلاث آيات ، قال سبحانه : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٣).

وهذا يعرب عن أنّ ظرف ما تقدم عليها من الحوادث يتعلق بما قبل هذا اليوم ، ويحقّق أنّ حشر فوج من الذين يكذبون بآيات الله يحدث حتما قبل يوم القيامة ، وهو من أشراط هذا اليوم ، وسيقع في الوقت الذي تخرج فيها دابة من الأرض تكلم الناس.

ومن العجب قول الرازي بأنّ حشر فوج كل من أمّة سيقع بعد قيام

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٨ ، كتاب الفتن ، وأشراط الساعة ، باب في الآيات التي تكون قبل الساعة ، ص ١٧٩.

(٢) سورة الكهف : الآية ٤٧.

(٣) سورة النمل : الآية ٨٧.

٢٩٣

الساعة (١). فإنّ هذا الكلام خاو لا يستند إلى أيّ أساس. وترتيب الآيات وارتباطها ببعضها ، ينفيه ، ويؤكّد ما ذهب إليه الشيعة من أنّ الآية تشير إلى حدث سيقع قبل يوم القيامة.

أضف إلى ذلك أنّ تخصيص الحشر ببعض ، لا يجتمع مع حشر جميع الناس يوم القيامة.

نعم ، الآية قد تحدثت عن حشر المكذبين ، وأما رجعه جماعة أخرى من الصالحين فهو على عاتق الروايات الواردة في الرجعة.

وأمّا كيفية وقوع الرجعة وخصوصياتها فلم يتحدث عنها القرآن ، كما هو الحال في تحدثه عن البرزخ والحياة البرزخية.

ويؤيد وقوع الرجعة في هذه الأمّة وقوعها في الأمم السالفة كما عرفت. وقد روى أبو سعيد الخدري أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع. حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموه. قلنا يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟ (٢).

وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تقوم الساعة حتى تؤخذ أمّتي بأخذ القرون قبلها ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، فقيل : يا رسول الله : كفارس والروم ، قال : ومن النّاس إلّا أولئك؟ (٣).

وروى الشيخ الصدوق رحمه‌الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كل ما كان في الأمم السابقة فإنه يكون في هذه الأمّة مثله ، حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة» (٤).

__________________

(١) مفاتيح الغيب ، ج ٤ ، ص ٢١٨.

(٢) صحيح البخاري ، كتاب الاعتصام بقول النبي ، ج ٩ ، ص ١١٢.

(٣) صحيح البخاري ج ٩ ، ص ١٠٢. وكنز العمال ، ج ١١ ، ص ١٣٣.

(٤) كمال الدين ، ص ٥٧٦.

٢٩٤

وبما أنّ الرجعة من الحوادث المهمة في الأمم السالفة ، فيجب أن يقع نظيرها في هذه الأمة أخذا بالمماثلة ، والتنزيل.

وقد سأل المأمون العباسي ، الإمام الرضا عليه‌السلام عن الرجعة فأجابه ، بقوله : إنّها حق ، قد كانت في الأمم السالفة ، ونطق بها القرآن ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة (١).

هذه هي حقيقة الرجعة ودلائلها ، ولا يدّعي المعتقدون بها أكثر من هذا ، وحاصله عودة الحياة إلى طائفتين من الصالحين والطالحين ، بعد ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام ، وقبل وقوع القيامة. ولا ينكرها إلّا من لم يمعن النظر في أدلتها (٢).

* * *

أسئلة وأجوبتها

السؤال الأول ـ كيف يجتمع إعادة الظالمين مع قوله سبحانه : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٣) فإن هذه الآية تنفي رجوعهم بتاتا ، وحشر لفيف من الظالمين يخالفها.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ٥٩ ، الحديث ٤٥.

(٢) بقي هنا بحثان :

١ ـ من هم الراجعون.

٢ ـ ما هو الهدف من إحيائهم.

وإجمال الجواب عن الأول أن الراجعين لفيف من المؤمنين ولفيف من الظالمين.

وإجمال الجواب عن الثاني ما جاء في كلام السيد المرتضى المنقول آنفا ، حيث قال : «إن الله تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان ، المهدي عليه‌السلام ، قوما ممن كان تقدم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ، ومشاهدة دولته ، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم ... إلى آخر كلامه».

لاحظ تفصيل جميع ذلك في البحار ، ج ٥٣. والايقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة ، للشيخ الحر العاملي.

(٣) سورة الأنبياء : الآية ٩٥.

٢٩٥

والجواب : إن هذه الآية مختصة بالظالمين الذين أهلكوا في هذه الدنيا ورأوا جزاء عملهم فيها ، فهذه الطائفة لا ترجع. وأما الظالمون الذين رحلوا عن الدنيا بلا مؤاخذة ، فيرجع لفيف منهم ليروا جزاء عملهم فيها ، ثم يردّون إلى أشد العذاب في الآخرة أيضا. فالآية لا تمت إلى مسألة الرجعة بصلة.

السؤال الثاني ـ إن الظاهر من قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ، وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١) ، نفي الرجوع إلى الدنيا بعد مجيء الموت.

والجواب : إنّ الآية تحكي عن قانون كلّي قابل للتخصيص في مورد دون مورد ، والدليل على ذلك ما عرفت من إحياء الموتى في الأمم السالفة ، فلو كان الرجوع إلى هذه الدنيا سنة كلية لا تتبعض ولا تتخصص ، لكان عودها إلى الدنيا مناقضا لعموم الآية.

وهذه الآية ، كسائر السنن الإلهية الواردة في حق الإنسان ، فهي تفيد أنّ الموت بطبعه ليس بعده رجوع ، وهذا لا ينافي الرجوع في مورد أو موارد ، لمصالح عليا.

السؤال الثالث ـ إن الاستدلال على الرجعة مبني على جعل قوله سبحانه : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) ، حاكيا عن حادثة تقع قبل القيامة ، ولكن من الممكن جعلها حاكية عن الحادثة التي تقع عند القيامة ، غير أنّها تقدمت على قوله سبحانه : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ، وكان طبع القضية تأخيرها عنه ، والمراد من الفوج من كل أمّة هو الملأ من الظالمين ورؤسائهم.

والجواب : أولا ، إنّ تقديم قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ ...) ، على فرض كونه حاكيا عن ظاهرة تقع يوم القيامة ، على قوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ) ، ليس إلّا إخلال في الكلام ، بلا مسوغ.

__________________

(١) سورة المؤمنون : الآيتان ٩٩ و ١٠٠.

٢٩٦

وثانيا ، إن ظاهر الآيات أنّ هناك يومين ، يوم حشر فوج من كل أمّة ، ويوم نفخ في الصور ، وجعل الأول من متمّمات القيامة ، يستلزم وحدة اليومين ، وهو على خلاف الظاهر (١).

* * *

__________________

(١) وإذا أحطت خبرا بما ذكرناه ، يتبين لك سقوط كثير مما ذكره الألوسي في تفسيره عند البحث عن الآية. لاحظ تفسيره ، ج ٢٠ ، ص ٢٦.

٢٩٧

مباحث المعاد

(١٢) التّناسخ وأقسامه وبراهين بطلانه

التناسخ من النسخ بمعنى النقل (١) ، أو بمعنى إزالة بشيء يتعقبه ، كنسخ الشمس الظل ، والشيب الشباب (٢).

فالنسخ يعرب عن خصوصيتين : النّقل والتّحوّل. وسيوافيك أنّ كلتيهما مأخوذتان في التناسخ المصطلح ، الذي يعرب عن حالة نقل وتحوّل خاصة.

ثم إن للانتقال أقساما ما نشير إليها :

أ ـ الانتقال من النشأة الدنيوية إلى النشأة الأخروية الذي نسميه بالمعاد.

ب ـ الانتقال من القوة إلى الفعل ، كانتقال النفس في ظل الحركة الجوهرية إلى كمالها الممكن.

ج ـ انتقال النفس بالموت ، من البدن المادي إلى بدن مثله في هذه النشأة. وهذا النوع من الانتقال هو التناسخ المصطلح الذي ذهب إليه بعض الفلاسفة من البراهمة والهندوس وغيرهم.

وتبيين الحق يتوقف على بيان ما يتصور للتناسخ من الأقسام حتى يعلم أيّ

__________________

(١) أقرب الموارد ، ج ٢ ، مادة نسخ.

(٢) المفردات في غريب القرآن ، مادة نسخ.

٢٩٨

قسم منها يضاد المعاد ويخالفه ، فنقول : إن للتناسخ المطروح من قبل أصحابه صورا ثلاثة :

الصورة الأولى : التناسخ المطلق

وهو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر في هذه النشأة ، فإذا مات البدن الثاني انتقلت إلى ثالث ، وهكذا بلا توقف أبدا ، والبدن المنتقل إليه قد يكون بدن إنسان أو حيوان أو نبات. وطريق الانتقال غالبا ، هو التعلّق بجنين الإنسان أو الحيوان ، أو بالخليّة النباتية. وقد نسب هذا القول إلى القدماء من الحكماء.

قال شارح حكمة الإشراق (١) : «إن شرذمة قليلة من القدماء ذهبوا إلى امتناع تجرّد شيء من النفوس بعد المفارقة لأنها جسمانية ، دائمة الانتقال في الحيوانات وغيرها من الأجسام ، ويعرفون بالتناسخية ، وهم أقلّ الحكماء تحصيلا» (٢).

الصورة الثانية : التناسخ المحدود (النزولي)

وهو أن يختص الانتقال ببعض النفوس دون بعض آخر ، وهذا كما هو محدود من حيث الأفراد ، محدود كذلك من حيث الزّمان. وذلك لأن الانتقال قد ينقطع ، ولا ترجع النفس إلى النشأة الدنيوية ، بل تلتحق بعالم النور والعقول.

ووجه المحدودية من حيث الأفراد ، أنّ النفوس المفارقة للأبدان بعد الموت ، على قسمين :

١ ـ نفوس كاملة في مجالي العلم والعمل ، فهذه لا حاجة لها للانتقال إلى أبدان أخرى ، لأنها وصلت إلى كمالها الممكن ، فلا تحتاج إلى الرجوع ثانية إلى هذه النشأة.

__________________

(١) قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي ، المتوفي عام ٧١٠ أو ٧١٦ للهجرة.

(٢) شرح حكمة الإشراق ، المقالة الخامسة ، الفصل الأول ، ص ٤٧٦.

٢٩٩

٢ ـ ونفوس ناقصة في كلا المجالين ، فلا مناص لتكاملها من إرجاعها إلى هذه النشأة حتى تكتمل فيهما إلى أن تصير غنية عن الرجوع ، فتلحق بعالم العقول.

وأما المحدودية من جانب الزمان ، فوجهه أنّ الهدف من التناسخ ورجوع النفس إلى البدن في هذه النشأة مجددا ، هو إكمالها في مجال العلم ، وتهذيبها من الرذائل ، وتجريدها من الكدورات. فإذا صارت منزهة عنها ، فلا وجه لدوام هذا النقل والتحوّل ، بل لا مناص من لحوقها بعد الاستكمال بعالم النور.

ويسمى التناسخ المحدود من حيث الأفراد والأزمنة ب «التناسخ النزولي».

يقول صدر المتألهين شارحا هذه العقيدة : «إن أول منزل للنفس ، الصّيصيّة الإنسانية (١) ، ويسمونها «باب الأبواب لحياة جميع الأبدان الحيوانية والنباتية» ، وهذا هو رأي يوذاسف التناسخي ، قائلا بأن الكاملين من السعداء تتصل نفوسهم بعد المفارقة بالعالم العقلي والملأ الأعلى ، وتنال من السعادة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأما غير الكاملين من السعداء كالمتوسطين منهم والناقصين في الغاية والأشقياء على طبقاتهم ، فتنتقل نفوسهم من هذا البدن إلى تدبير بدن آخر من النوع الإنساني لا إلى غيره. وبعضهم جوّز ذلك ولكن اشترط أن يكون إلى بدن حيواني. وبعضهم جوّز النقل من البدن الإنساني إلى البدن النباتي أيضا ، وبعضهم إلى الجامد أيضا» (٢).

الصورة الثالثة : التناسخ الصعودي

وهناك قسم ثالث من التناسخ يسمى بالصعودي ، يغاير التناسخ النزولي ، وحاصله أنّ الحياة إنما تفاض على المستعد فالمستعد ، والنبات ـ بزعمهم ـ أشدّ

__________________

(١) أي البدن والهيكل المادي الإنساني في اصطلاح شيخ الإشراق ومن تابعه.

(٢) الأسفار ، ج ٩ ، الباب الثامن ، الفصل ٢ ، ص ٨ ويسمي الأول نسخا والثاني مسخا والثالث فسخا والرابع رسخا ، يقول الحكيم السبزواري :

نسخ ومسخ رسخ فسخ قسما

إنسانا وحيوانا جمادا نما

٣٠٠