الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

ويقول سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١).

ويقول سبحانه مصوّرا حال المجرم عند الحساب وشهادة الكتاب عليه : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) (٢).

ويقول سبحانه حاكيا تعجّب المجرمين من إحاطته بعظائم الأعمال ودقائقها : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (٣).

وكفى في إذعان الإنسان بجرمه وعصيانه ، كتابه ، يقول سبحانه : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (٤).

الشاهد التاسع : الأرض

إنّ كلّ عمل طالحا كان أو صالحا ، إذا كان بدنيا ، يصدر من الإنسان في نقطة وبقعة من بقاع الأرض ، وهي تشهد يوم القيامة على الحوادث التي وقعت فيها ، يقول سبحانه : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٥). وكيفية شهادتها من الأمور الغيبية ، ولكن يمكن أن نستعين على تقريبها بالأمور المحسوسة ببيان أنّ المجرم والمحسن يتركان بعد العمل آثارا يستدلّ بها على كيفية عمله.

هذا وإن الخبراء يستدلّون بالمستندات الحفرية ، على كيفية حياة الماضين وحضارتهم وعلومهم ، وسائر شئون حياتهم ، وقد ورد عن النبي أنّه لم يرتحل من منزل إلّا صلى فيه ركعتين وقال : «حتى يشهد عليّ بالصلاة» (٦).

__________________

(١) سورة يس : الآية ١٢. ولاحظ الجاثية : الآيتان ٢٨ و ٢٩. والانفطار : الآيتان ١٠ و ١٢.

(٢) سورة الكهف : الآية ٤٩.

(٣) سورة الكهف : الآية ٤٩.

(٤) سورة الإسراء : الآية ١٤.

(٥) سورة الزلزلة : الآيتان ٤ و ٥.

(٦) نقلا عن تفسير الميزان : ج ٦ ، ص ٣٣٧. وهناك روايات نقلها الشيخ الحرّ العاملي في الوسائل ، ـ

٢٦١

روى الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في وصيته له : «يا أبا ذرّ ، ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض ، إلّا شهدت له بها يوم القيامة» (١).

الشاهد العاشر : تجسم العمل بهويّته الأخروية

دلّ القرآن والأحاديث على أنّ لكل عمل يرتكبه الإنسان في هذه النشأة ، صورتين وظهورين وهويتين ، يتمثل بإحداهما في هذه النشأة ، وبالأخرى في النشأة الآخرة. فالصلاة في هذه الدنيا عبارة عن الأذكار والحركات ، وهي هويتها الدنيوية ، ولكنها لها في النشأة الأخروية ظهورا آخر. ومثله الأعمال الإجرامية ، فإنّ لكلّ منها صورتين ، يتمثّل بإحداهما في الدنيا ، وبالأخرى في الآخرة.

يقول سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٢) ، وظاهر الآية هو مشاهدة نفس العمل. وتأويله بمشاهدة الجزاء ، على خلاف الظاهر ، والآيات الواردة في مجال تجسّم الأعمال كثيرة ، نكتفي بواحدة منها :

يقول سبحانه : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣).

والآية تعرب عن تجسم الذهب والفضة الذي كنز بصورة النار المحمّاة ، بحيث يطلق عليها أنّها نفس ما كنزوه.

* * *

__________________

ـ ج ٣ ، ص ٤٧٤ ، كتاب الصلاة ، أبواب مكان المصلّي ، الباب ٤٢ ، الحديث ٩ ، وفي الباب روايات أخرى فلاحظها.

(١) المجالس والأخبار ، ص ٢١٦. نقله في الوسائل ، ج ٤ ، ص ٤٧٤ ، الحديث ٩.

(٢) سورة الزلزلة : الآيتان ٧ و ٨.

(٣) سورة التوبة : الآيتان ٣٤ و ٣٥.

٢٦٢

٥ ـ مشهد الميزان

إنّ هؤلاء الشهود الكثيرون يكفون في مقام القضاء وإتمام الحجة ، غير أنّه سبحانه ، لا يكتفي بهم ، كما لا يكتفي بصحائف الأعمال التي ضبطت فيها جميع أفعال العبد جليلها ، ودقيقها ، بل يجسد وضع الإنسان بتوزين أعماله بالميزان الذي يضعه يوم القيامة.

يقول سبحانه : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (١).

والناس بين ثقيل الميزان وخفيفه يقول سبحانه : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٢).

غير أنّ الكلام في تبيين حقيقة هذا الميزان الذي توزن به الأعمال ، فهل هو كهذه الموازين الحسية الموضوعة فوق مناضد البقالين والعطارين ، أو شيء غيرها ، فنقول :

لا شك أنّ النشأة الآخرة ، أكمل من هذه النشأة ، وأنّه لا طريق لتفهيم الإنسان حقائق ذاك العالم وغيوبه المستورة عنّا ، إلّا باستخدام الألفاظ التي يستعملها الإنسان في الأمور الحسية. وعلى ذلك ، فلا وجه لحمل الميزان على الميزان المتعارف خصوصا بعد استعمال الميزان في القرآن في غير هذا الميزان المحسوس.

الميزان في اللغة اسم آلة يوزن بها الشيء ، يقول سبحانه : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) (٣) ، فالله سبحانه يخبر فيها عن رفع السماء وخلقها مرفوعة ، كما يخبر عن أنّه وضع لكل شيء ميزانا يقدّر به ، من غير فرق بين أن يكون جسما أو قولا أو فعلا أو عقيدة ، فلكلّ شيء ميزان يميّز به الحقّ من

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآية ٤٧.

(٢) سورة الأعراف : الآيتان ٨ و ٩.

(٣) سورة الرحمن : الآية ٧.

٢٦٣

الباطل ، والصدق من الكذب ، والعدل من الظلم ، والرذيلة من الفضيلة. ولأجل هذه السّعة في معنى الميزان يقول سبحانه : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (١) ، فلا معنى لتخصيص الميزان هنا بما توزن به الأثقال ، مع أنّ الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب والميزان هو قيام الناس بالقسط في جميع شئونهم العقيدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبذلك يعلم أنّ تفسير الميزان بالعدل ، أو بالنبي ، أو بالقرآن ، كلّها تفاسير بالمصداق ، فليس للميزان إلّا معنى واحد هو : ما يوزن به الشيء ، وهو يختلف حسب اختلاف الموزون من كونه جسما أو حرارة أو نورا أو ضغطا أو رطوبة أو غير ذلك.

يقول صدر المتأهلين رحمه‌الله : «ولو تأملوا قليلا في نفس معنى الميزان ، وجرّدوا حقيقة معناه عن الزوائد والخصوصيات ، لعلموا أنّ حقيقة الميزان ليس يجب أن يكون البتة مما له شكل مخصوص ، أو صورة جسمانية ، فإنّ حقيقة معناه وروحه وسرّه ، هو ما يقاس ويوزن به الشيء ، والشيء أعمّ من أن يكون جسمانيا أو غير جسماني ، فكما أنّ القبّان ، وذا الكفتين وغيرهما ، ميزان للأثقال ، والاسطرلاب ميزان للارتفاعات والمواقيت ، والشاقول ميزان لمعرفة الأعمدة ، والمسطر ميزان لاستقامة الخطوط ، فكذلك علم المنطق ميزان للفكر في العلوم النظرية ، وعلم النحو ميزان للإعراب والبناء ، والعروض ميزان للشعر ، والحسّ ميزان لبعض المدركات ، والعقل الكامل ميزان لجميع الأشياء ، وبالجملة ميزان كل شيء يكون من جنسه ، فالموازين مختلفة والميزان المذكور في القرآن ينبغي أن يحمل على أشرف الموازين وهو ميزان يوم الحساب ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (٢) وهو ميزان العلوم وميزان الأعمال القلبية ، الناشئة من الأعمال البدنية» (٣).

ويؤيد ذلك أنّه سبحانه يصف الميزان بكونه منزلا من جانبه سبحانه ، كما في الآية السابقة ويقول : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، وَالْمِيزانَ ، وَما يُدْرِيكَ

__________________

(١) سورة الحديد : الآية ٢٥.

(٢) سورة الأنبياء : الآية ٤٧.

(٣) الأسفار ، ج ٩ ، ص ٢٩٩.

٢٦٤

لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (١).

وبما أنّ توزين الأعمال بالموازين القسط ، من الأمور الغيبية التي لا يقف عليها الإنسان إلّا بخرق الحجب وحضور ذلك المشهد ، يعسّر تبيين حقيقته ، والذي يمكن أن يقال إنّه ليس من قبيل هذه الموازين الحسية التي توزن بها الأجسام الثقيلة وغيرها. وما ذكر له من التفاسير لا يتجاوز حدّ الاحتمال.

يقول صدر المتألهين : «وأمّا القول في ميزان الأعمال ، فاعلم أنّ لكل عمل من الأعمال البدنية ، تأثيرا في النفس فإن كان من باب الحسنات والطاعات ، كالصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد ، وغيرها ، فله تأثير في تنوير النفس وتخليصها من أسر الشهوات وجذبها من الدنيا إلى الأخرى ، ومن المنزل الأدنى إلى المحل الأعلى ، وكذلك فلكل عمل حق مقدار معين من التأثير في التنوير والتهذيب. وإذا تضاعفت وتكثّرت الحسنات ، فبقدر تكثرها وتضاعفها ، يزداد مقدار التأثير والتنوير.

وكذلك لكل عمل من الأعمال السيئة قدرا معينا من التأثير في إظلام جوهر النفس وتكديرها وتعليقها بالدنيا وشهواتها ، فإذا تضاعفت المعاصي والسيئات ، ازدادت الظلمة والتكثيف شدّة وقدرا ، وكل ذلك محجوب عن مشاهدة الخلق في الدنيا. وعند قيام الساعة وارتفاع الحجب ، ينكشف لهم حقيقة الأمر في ذلك ، ويصادف كل أحد مقدار سعيه وعمله ، ويرى رجحان إحدى كفتي ميزانه ، وقوة مرتبة نور طاعته أو ظلمة كفرانه» (٢).

وعلى هذه النظرية ، فليس هنا ميزان وراء انكشاف السرائر والملكات الحسنة والسيئة ، وغاية ما في الأمر أنّ الإنسان يقف بعد رفع الحجاب على قربه وبعده من الربّ ، وتتجسد له مرتبة نور طاعته أو ظلمة كفرانه.

ويقرب منه ما ذكره صاحب المنار ، قال : «إذا كان البشر قد اخترعوا موازين للأعراض كالحرّ والبرد ، أفيعجز الخالق البارئ القادر على كل شيء ،

__________________

(١) سورة الشورى : الآية ١٧.

(٢) الأسفار ، ج ٩ ، ص ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

٢٦٥

عن وضع ميزان للأعمال النفسانية والبدنية ، المعبّر عنها بالحسنات والسيئات بما أحدثته في الأنفس من الأخلاق والصفات ، والنقل والعقل متفقان على أنّ الجزاء إنّما يكون بصفات النفس الثابتة ، لا بمجرد ما كان سببا لها من الحركات والأعراض الزائدة» (١).

وبما قدمنا يندفع عمدة ما أشكل على المتقدمين من المتكلمين في توزين الأعمال من أنّ العمل عرض غير باق ، فكيف يمكن توزينه في الآخرة؟.

فبعد إمكان توزين الحرارة والبرودة ، والضغط والرطوبة ، وغيرها من الأعراض الزائلة ، بل توزين الطاقة والحركة والعمل التي هي الوجه الآخر للمادة ، إذ ليست هي إلّا المادة المستهلكة ، وهي توزن بالآلات وتقاس ، فيقال إن لهذا المحرك جهد كذا من الأحصنة ، وغير ذلك من الأقيسة ، فبعد إمكان وزن الأعراض وعمل الآلات ، ألا يمكن وزن عمل الإنسان في الآخرة بوجه من الوجوه؟.

هذا كله حول الميزان في النشأة الأخرى ، واعلم أنّه سبحانه لم يترك الإنسان سدى ، بل جعل لتشخيص صحة عقائده وأخلاقه وأعماله ، موازين كالكتاب والسنّة والعقل ، قال الإمام الباقر عليه‌السلام لأحد أصحابه : «أعرض نفسك على ما في كتاب الله ، فإن كنت سالكا سبيله ، زاهدا في تزهيده ، راغبا في ترغيبه ، خائفا من تخويفه ، فاثبت وأبشر ، فإنّه لا يضرك ما قيل فيك ، وإن كنت مبائنا للقرآن ، فما ذا الذي يغرّك من نفسك؟» (٢).

وعلى ضوء هذا ، فالقرآن ميزان ، كما أنّ النبي ميزان ، والإمام المعصوم ميزان ، فلا غرو من أن نزور عليا ونقول :

«السلام على يعسوب الإيمان وميزان الأعمال ، وسيف ذي الجلال» (٣).

__________________

(١) المنار ، ج ٨ ، ٣٢٣.

(٢) البحار ، ج ٧٨ ، باب وصايا الباقر عليه‌السلام ، ص ١٦٢.

(٣) مستدرك الوسائل ، ج ٢ ، ص ١٩٧.

٢٦٦

وفي الختام نشير إلى أمرين :

الأول : إنّ بعض السلف ، اغترارا بالظواهر ، ذهب إلى أنّ الميزان له كفّتان ولسان وساقان. وهو تعبّد بالظاهر وتعطيل للتعقل والتدبّر في نفس القرآن الكريم. بل الأولى لهم أن يقولوا : الميزان عبارة عمّا يعرف به مقادير الأعمال وليس علينا البحث عن كيفيته بل نؤمن به ونفوض كيفيته إلى الله تعالى ، كما قال المحقق الدواني (١).

الثاني : المنقول عن المعتزلة (٢) أنّهم ينكرون الميزان قائلين بأنّ الأعمال أعراض وقد عدمت ، فلا يمكن إعادتها. وعلى تقدير إعادتها ، لا يمكن وزنها ، وعلى تقدير إمكانه ، مقاديرها معلومة له تعالى فوزنها عبث.

يلاحظ عليه : لو صحّت النسبة ، فإنّما يرد لو كان المراد من الميزان هو ما نقل عن بعض السلف. وأمّا على ما عرفت من التطور في الميزان فالشبهة مندفعة. وأمّا القول بأنّها معلومة ، فالحكمة في التوزين مثل الحكمة في الحساب ، الذي لا شبهة فيه.

* * *

٦ ـ الصراط

الصراط في اللغة هو الطريق ، ويغلب استعماله على الطريق الذي يوصل

__________________

(١) شرح العقائد العضدية ، ج ٢ ، ص ٢٦٤.

(٢) وهذه النسبة التي ذكرها المحقق الدواني في شرح العقائد العضدية غير صحيحة. قال القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة : فإن قالوا : وأي فائدة في وضع الموازين التي أثبتموها ، ومعلوم أنّه إنّما يوضع ليوزن به الشيء ، ولا شيء هناك يدخله الوزن ويتأتى فيه ، فإنّ أعمال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم أعراض لا يتصور فيها الوزن. قيل له : ليس يمتنع أن يجعل الله تعالى النور علما للطاعة ، والظلم أمارة للمعصية. ثم يجعل النور في إحدى الكفتين ، والظلم في الكفّة الأخرى ، فإن ترجحت كفّة النور حكم لصاحبه بالثواب ، وإن ترجحت الأخرى حكم له بالأخرى ... إلى آخر كلامه ... (شرح الأصول الخمسة ، ص ٧٣٥) نعم ، القاضي يتخيل أنّ المراد من الميزان هو المتعارف بيننا ، وقد عرفت ما في ذلك.

٢٦٧

الإنسان إلى الخير ، بخلاف السبيل ، فإنّه يطلق على كل سبيل يتوسل به خيرا كان أم شرّا(١)

وإذا كان الصراط بمعنى الطريق ، فلكل موجود من الموجودات الإمكانية طريق ، لو سلكه ، يصل إلى كماله الممكن من غير فرق بين الجماد والنبات والحيوان والإنسان.

وهذا ما يسمّى بالصراط التكويني ، وهو مجموعة القوانين السائدة على الموجود الإمكاني ، بأمر منه سبحانه ، التي لو تخلّف عنها لهلك.

وهناك صراط آخر يختص بالإنسان وهو الصراط التشريعي ، أعني القوانين والأحكام الشرعية التي فرضها سبحانه على عباده ، وهداهم إليها ، فهم بين شاكر وكفور ، وقد نبّه القرآن إلى الصراط التشريعي في عدّة آيات ، منها :

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٢).

٢ ـ قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٣).

٣ ـ قوله تعالى : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٤).

وفي مقابل هذا الصراط التشريعي ، طريق آخر يباينه في المقصد والمآل ، وقائده هو الشيطان ومن تبعه ، يقول سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٥).

وفي ضوء هذا يتبين أنّ لله سبحانه في هذه النشأة الدنيوية ، صراطين

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة سبل.

(٢) سورة الدهر : الآية ٣.

(٣) سورة الأنعام : الآية ١٥٣.

(٤) سورة الحج : الآية ٢٤.

(٥) سورة الحج : الآية ٤.

٢٦٨

أحدهما تكويني ، في سلوكه كمال الموجود وبقاؤه ، والآخر تشريعي يختصّ بالإنسان ، فيه فوزه وسعادته.

نعم ، يستظهر من الذكر الحكيم ، ويدلّ عليه صريح الروايات ، وجود صراط آخر ، في النشأة الأخروية يسلكه كل مؤمن وكافر.

يقول سبحانه : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ... وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (١).

وقد اختلف المفسّرون في معنى الورود بين قائل بأنّ المراد منه هو الوصول إليها ، والإشراف عليها لا الدخول ، وقائل بأنّ المراد دخولها. وعلى كل تقدير ، فلا مناص للمسلم من الاعتقاد بوجود صراط في النشأة الأخروية ، وهو طريق المؤمن إلى الجنة ، والكافر إلى النار (٢).

وقد وصف الصراط في الروايات بأنّه أدقّ من الشّعر ، وأحدّ من السيف. غير أنّ البحث يتركز على التعرّف على حقيقة هذا الصراط بالمقدار الممكن ، وإن كان الوقوف على حقيقته كما هي ، غير ممكنة إلّا بعد رفع الحجب.

فنقول : لا شك أنّ هناك صلة بين الصراطين الدنيوي والأخروي من وجوه :

١ ـ إنّ سالك الصراط الدنيوي بهداية. قيادة من النبي ، يسلك الصراط الأخروي بنفس تلك الهداية ويجتازه بأمان إلى الجنة. وسالكه بهداية الشيطان وولايته ، يسلك الصراط الأخروي ، بنفس تلك الهداية ، فتزل قدمه ويهوي في عذاب السعير (٣).

٢ ـ إنّ قيام الإنسان بالوظائف الإلهية ، في مجالي العقيدة والعمل ، أمر

__________________

(١) سورة مريم : الآيات ٦٨ ـ ٧١.

(٢) تفسير القمي ، ج ١ ، ص ٢٩ ، وفي أخرى بزيادة : «وأظلم من الليل».

(٣) قال سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ، وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (الحج : الآية ٤).

٢٦٩

صعب أشبه بسلوك طريق أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف. فالفائز من الناس ، من كانت له قدم راسخة في مجال الإيمان والعقيدة ، وتثبّت في مقام العمل والطاعة ، ومن المعلوم أنّ الفوز بهذه السعادة ليس أمرا سهلا ، فكم من إنسان ضلّ في طريق العقيدة ، وعبد النفس والشيطان والهوى ، مكان عبادة الله سبحانه ، وكم من إنسان فشل في مقام الطاعة والعمل بالوظائف الإلهية.

فإذا كان هذا حال الصراط الدنيوي من حيث الصعوبة ، والدقة ، فهكذا حال الصراط الأخروي ، وإلى ذلك يشير الإمام الحسن بن علي العسكري ، عليهما‌السلام في حديثه عن علي بن أبي طالب ، عليه‌السلام قال :

«والصّراط المستقيم ، صراطان ، صراط في الدنيا وصراط في الآخرة ، أمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلو ، وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل ، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنة» (١)

فلو قال قائل بأنّ الصراط الأخروي تمثّل لذلك الصراط الدنيوي وتجسّد له ، فلم يجازف.

٣ ـ إنّ لصدر المتأهلين كلاما في تبيين المراد من كون الصراط أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف.

قال : «إنّ كمال الإنسان منوط باستعمال قوتيه ، أمّا القوة النظرية فلإصابة الحق ونور اليقين في سلوك الأنظار الدقيقة التي هي في الدقة واللطافة أدقّ من الشعر ـ إذا تمثلت ـ بكثير. وأمّا القوة العملية ، فبتعديل القوتين الشهوية والغضبية ، لتحصل للنفس حالة اعتدالية متوسطة بين الأطراف غاية التوسط ، لأنّ الأطراف كلّها مذمومة ، والتوسط الحقيقي بين الأطراف المتضادة منشأ الخلاص عن الجحيم. وهو أحدّ من السيف ، فإذا الصراط له وجهان :

أحدهما أدقّ من الشعر ، والآخر أحدّ من السيف» (٢).

__________________

(١) معاني الأخبار ، ص ٣٣.

(٢) الأسفار ، ج ٩ ، ص ٢٨٥.

٢٧٠

وعلى هذا البيان فالدقة راجعة إلى سلوك طريق إصلاح العقل النظري ، والحدّة راجعة إلى سلوك طريق إصلاح العقل العملي. وما في الآخرة تجسد للصراط الدنيوي في الدقة والحدة ، ولا حقيقة له إلّا ما كان للإنسان في هذه الدنيا.

٤ ـ إنّ للإيمان واليقين درجات كما أنّ للقيام بالوظائف العملية مراتب ، فللناس في سلوك الصراط منازل ودرجات. فهم بين مخلص لله سبحانه في دينه ، لا يرى شيئا إلّا ويرى الله قبله ، وبين مقصّر في إعمال القوى النظرية والعملية ، كما أنّ بينهما مراتب متوسطة ، فالكل يسلك الصراط في النشأة الأخرى ، في السرعة والبطء ، حسب شدّة سلوكه للصراط الدنيوي ، ولأجل ذلك تضافرت روايات عن الفريقين باختلاف مرور الناس ، حسب اختلافهم في سلوك صراط الدنيا ، قال الإمام الصادق (ع) : «النّاس يمرّون على الصراط طبقات ، والصراط أدقّ من الشعر ومن حدّ السيف ، فمنهم من يمرّ مثل البرق ، ومنهم مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمرّ حبوا ، ومنهم من يمرّ مشيا ، ومنهم من يمرّ متعلّقا قد تأخذ النار منه شيئا وتترك شيئا» (١).

فبقدر الكمال الذي يكتسبه الإنسان في هذه النشأة ، يتثبت في سلوك الصراط الأخروي ، ولا تزل قدمه ، يقول سبحانه : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) (٢).

هذا ما يقتضيه التدبّر في الآيات والروايات الواردة حول الصراط ، ومع ذلك كلّه ليس معنى كون الصراط الأخروي تجسما للصراط الدنيوي ، أو سلوكه تمثّلا لسلوكه ، إنكار وجود صراط فوق الجحيم ، لا محيص لكل إنسان عن سلوكه ، بل مقتضي التعبد بظواهر القرآن والحديث وجود ذلك الصراط بمعناه الحقيقي ، وإن لم نفهم حقيقته ، ولا بأس بإتمام الكلام بحديث جابر ، وهو ينقل عن النبي أنّه قال :

__________________

(١) أمالي الصدوق ، المجلس ٣٣ ، ص ١٠٧ ، لاحظ الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٢٩١.

(٢) سورة المؤمنون : الآيتان ٧٣ و ٧٤.

٢٧١

«لا يبقى برّ ولا فاجر إلّا دخلها ، فتكون على المؤمن بردا وسلاما ، كما كانت على إبراهيم ، حتى أنّ للنار ضجيجا من بردهم ، ثم ينجّي الله الذين اتّقوا ويذر الظالمين فيها جثيّا» (١).

٧ ـ الأعراف

يقول سبحانه : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ* وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ ، قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ ، رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ ، قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (٢).

الحجاب هو الستر المتخلل بين الشيئين يستر أحدهما من الآخر ، والضمير في قوله : (بَيْنَهُما) ، راجع إلى أصحاب الجنة والنار ، المذكورين في الآية المتقدمة.

والأعراف أعالي الحجاب والتلال من الرمل ، والعرف للديك ، وللفرس ، هو الشعر فوق رقبته ، وأعلى كل شيء ، ففيه معنى العلو ، والآية تدلّ على أنّ في أعالي الحجاب الذي بين الجنة والنار ، رجال يعرفون أهل الجنة والنّار بعلائمهم وهم مشرفون على الجانبين ، لارتفاع موضعهم. وظاهر السياق أنّ هؤلاء الرجال منحازون عن الطائفتين متمايزون عن جماعتهم ، فيكون بذلك أهل الجمع منقسمين إلى طوائف ثلاث : أصحاب الجنة ، وأصحاب النار ، وأصحاب الأعراف.

ثم إنّه وقع الكلام في معرفة من هم هؤلاء الرجال (٣) ، والتدبّر في الآيات يعطي أنّهم جمع من عباد الله من غير الملائكة ، هم أرفع مقاما وأعلى منزلة من

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٢٨٠.

(٢) سورة الأعراف : الآيات ٤٦ ـ ٤٨.

(٣) اختلف المفسرون في ذلك على اثني عشر قولا.

٢٧٢

سائر الجمع ، يعرفون عامة الفريقين ، لهم أن يتكلموا بالحق يوم القيامة ، ولهم أن يشهدوا ، ولهم أن يشفعوا ، ولهم أن يأمروا ويقضوا ، كلّ ذلك بإذنه سبحانه.

وقد تضافرت الروايات على أنّ المراد من الرجال هم الأئمة من آل محمد صلوات الله عليهم.

قال الصدوق : «اعتقادنا في الأعراف أنّه سور بين الجنة والنار عليه رجال يعرفون كلّا بسيماهم ، والرجال هم النبي وأوصياؤه» (١).

* * *

٨ ـ لواء الحمد

إذا كان يوم القيامة ، وحشر الناس على صعيد واحد ، وتميّز الفريقان ، يعطى النبي الأكرم لواء الحمد ، ويتقدّم به ويأخذ مسيره ومن خلفه إلى الجنة ، وفي روايات الإمامية أنّ النبي الأكرم يدفعه إلى وصيّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وقد ورد في غير واحد من الروايات ذكر لواء الحمد ، وأنّه مكتوب عليه : «المفلحون هم الفائزون بالجنة». وأنّه يمشي عليّ والقوم (أهل الجنة) تحت لوائه حتى يدخل الجنة»(٢).

وروى أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي نضرة قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة ، فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّه لم يكن نبي إلّا له دعوة قد تنجزها في الدنيا ، وإنّي قد اختبأت دعوتي ، شفاعة لأمتي ، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر ...» (٣).

__________________

(١) لاحظ بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ٣٢٩ ـ ٣٤٠. وفي بعض الروايات : «يوقف كل نبي وكل خليفة نبي» ، وعند ذلك يكون ذكر النبي والأئمة من باب تطبيق الكلي على المصاديق المثلى.

(٢) لاحظ بحار الأنوار ، ج ٨ ، باب ١٨ ، الأحاديث ١ ـ ١٢.

(٣) مسند ابن حنبل ، ج ١ ، ص ٢٨١ ، وص ٢٩٥ ، وج ٣ ، ص ١٤٤.

٢٧٣

٩ ـ الحوض

قال الصدوق : «اعتقادنا في الحوض أنّه حق وأنّ الوالي عليه يوم القيامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام يسقي منه أولياءه ، ويذود عنه أعداءه. من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا» (١).

روى الفريقان روايات حول الحوض : روى أبو حازم عن سهل بن سعد ، قال سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أنا فرطكم على الحوض ، من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا. وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بينه وبينهم» (٢).

روى الصدوق عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن آبائه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أراد أن يتخلص من هول يوم القيامة فليتول وليّي ، وليتّبع وصيي وخليفتي من بعدي علي بن أبي طالب ، فإنّه صاحب حوضي ، يذود عنه أعداءه ، ويسقي أولياءه. فمن لم يسق منه لم يزل عطشانا ولم يرو أبدا. ومن سقي منه شربة ، لم يشق ولم يظمأ» (٣).

وقد تقدم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ المنقول متواترا ـ في خطبته يوم الغدير حيث قال :

«فإني فرط على الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».

فنادى مناد : «وما الثّقلان يا رسول الله»؟

قال : «الثّقل الأكبر ، كتاب الله ، والآخر الأصغر عترتي ، وإن اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا»(٤).

__________________

(١) عقائد الصدوق ، ص ٨٥.

(٢) جامع الأصول ، ص ١١٩ ـ ١٢١ وقد نقل روايات كثيرة حول الحوض.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٩ ، نقلا عن أمالي الصدوق ، ص ١٦٨.

(٤) لاحظ في الوقوف على مصادره ، ما دبّجه قلم المتتبع الكبير السيد مير حامد حسين الهندي ، فقد جمع أسناده وبحث فيها وفي دلالته في ستة مجلدات من كتابه «العبقات». ولاحظ كتاب المراجعات ، للإمام شرف الدين ، المراجعة الثانية.

٢٧٤

مباحث المعاد

(١٠) المعاد الجسماني والروحاني

قد تعرفت على الدلائل التي أفادت ضرورة وقوع المعاد ، كما تعرفت على الآيات التي تشير إلى تلك الدلائل ، لكن يقع الكلام في كيفية المعاد ، وهل هو جسماني أو روحاني ، أو جسماني وروحاني معا. وقبل بيان المراد من الجسمانية والروحانية ، نشير إلى كلمات تذكر الأقوال والآراء الموجودة في الكيفية.

١ ـ قال الرازي : «اختلفت أقوال أهل العالم في أمر المعاد على وجوه :

(أ) أنّ المعاد ليس إلا للنفس ، وهو مذهب الجمهور من الفلاسفة.

(ب) ـ أن المعاد ليس إلا لهذا البدن ، وهو قول نفاة النفس الناطقة ، وهم أكثر أهل الإسلام.

(ج) أنّ المعاد للأمرين ، وهم طائفة كبيرة من المسلمين» (١).

٢ ـ وقال العلامة الحلّي : «اتفق المسلمون على إعادة الأجسام خلافا للفلاسفة»(٢).

٣ ـ وقال الدواني : «المعاد الجسماني هو المتبادر من إطلاق أهل الشرع ، إذ

__________________

(١) نهاية العقول. نقله المجلسي في البحار ، لاحظ ج ٧ ، ص ٤٨.

(٢) شرح الياقوت ، ص ١٩١.

٢٧٥

هو الذي يجب الاعتقاد به ، ويكفر من أنكره ، وهو حق ، لشهادة نصوص القرآن في مواضع متعددة بحيث لا تقبل التأويل ، كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ ...) إلى قوله : (بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (١). قال المفسرون نزلت هذه الآية في أبيّ بن كعب فإنه خاصم رسول الله وأتاه بعظم قد رمّ وبلى ، ففتّه بيده وقال : يا محمد ، أترى الله يحيي هذه بعد ما رمّت ، قال : نعم ، ويبعثك ويدخلك النار. «وهذا مما يقلع عرق التأويل بالكلية ، ولذلك قال الإمام (الرازي) : إنه لا يمكن الجمع بين الإيمان بما جاء به النبي وإنكار الحشر الجسماني» (٢).

٤ ـ قال صدر المتألهين : اتفق المحققون من الفلاسفة والمليّين على أحقّية المعاد ، وثبوت النشأة الباقية ، لكنهم اختلفوا في كيفيته ، فذهب جمهور الإسلاميين وعامة الفقهاء وأصحاب الحديث إلى أنه جسماني فقط ، بناء على أنّ الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم ، والماء في الورد ، والزيت في الزيتونة ، وذهب جمهور الفلاسفة وأتباع المشّائين إلى أنّه روحاني أي عقلي فقط لأنّ البدن ينعدم بصوره وأعراضه لقطع تعلق النفس بها ، فلا يعاد بشخصه تارة أخرى ، إذ المعدوم لا يعاد ، والنفس جوهر باق لا سبيل للفناء إليه ، فتعود إلى عالم المفارقات لقطع التعلقات بالموت الطبيعي.

وذهب كثير من أكابر الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتكلمين كالغزالي والكعبي والحليمي والراغب الأصفهاني وكثير من أصحابنا الإمامية كالشيخ المفيد ، وأبي جعفر الطوسي ، والسيد المرتضى ، والمحقق الطوسي ، والعلامة الحلّي ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين إلى القول بالمعادين ، ذهابا إلى أنّ النفس مجرّدة تعود إلى البدن (٣).

قال العلامة المجلسي : «اعلم أنّ القول بالمعاد الجسماني مما اتفق عليه جميع المليين وهو من ضروريات الدين ومنكره خارج من عداد المسلمين ، والآيات الكريمة على ذلك ناصّة لا يعقل تأويلها ، والأخبار فيه متواترة لا يمكن ردّها ولا

__________________

(١) سورة يس : الآيات ٧٧ ـ ٧٩.

(٢) شرح العقائد العضدية ، ج ٢ ، ص ٢٤٧.

(٣) الأسفار ، ج ٩ ، ص ١٦٥.

٢٧٦

الطعن فيها» (١)

إن القضاء البات في هذه الآراء يتوقف على معرفة ملاك توصيف المعاد بالجسماني والروحاني ، وإليك بيانه.

ملاك كون المعاد جسمانيا أو روحانيا

إن لتوصيف المعاد بالجسماني أو الروحاني ، أو هما معا ، ملاكين ، هما :

الملاك الأول : ما يرجع إلى اتخاذ موقف حاسم في حقيقة الإنسان ، وأنّها ما هي ، فلو قلنا بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل الجسماني ، وليس للروح حقيقة وراء التفاعلات والانفعالات المادية الفيزيائية والكيميائية ، وهي سارية في البدن سريان النار في الفحم ، والماء في الورد ـ لو قلنا بهذا ـ فلا مناص للقائل بالمعاد من توصيفه بكونه جسمانيا فقط ، إذ ليس هناك وراء الجسم ، والتأثير الماديين ، شيء آخر حتى يعاد.

وأما لو قلنا بأنّ وراء الجسم ، ووراء التفاعلات المادية ، جوهر حقيقي مدرك ، له تعلق بالبدن ، تعلّقا تدبيريا ما دامت العلقة باقية ، فإذا زالت يكون له البقاء ولا يتطرق إليه الفناء. فلو قلنا بذلك ، ثم قلنا بأنّه سبحانه يبعث الروح مع البدن ، فالمعاد يكون جسمانيا من جهة ، وروحانيا من جهة أخرى ، لكون المبعوث ممزوجا من شيئين ومؤلّفا من أمرين ، ولكل معاد.

وأما لو قلنا بأنّ الروح ـ بعد مفارقتها البدن ـ لا ترجع إليه ، لعلة ما ، فعندئذ تبعث الروح وحدها من دون تعلّقها بالبدن ، فيكون المعاد روحانيا فقط ، وهذا الملاك هو الذي يلوح من كلام صدر المتألهين ، وصهره عبد الرزّاق اللاهيجي (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧ ، ص ٤٦. ولاحظ حق اليقين ، للسيد شبّر ، ج ٢ ، ص ٥٢. ولا نطيل الكلام بنقل كلمات الآخرين.

(٢) الأسفار ، ج ٩ ، ص ١٦٥. و «گوهر مراد» المقالة الثالثة ، الباب الرابع ، ص ٤٤٩. (فارسي).

٢٧٧

الملاك الثاني : إنّ هناك ملاكا آخر لكون المعاد جسمانيا ، وروحانيا ، يلوح ذلك من كلمات الشيخ الرئيس ، وهو تقسيم المعاد إلى الجسماني والروحاني ، حسب الثواب والعقاب الموعودين : فلو قلنا إنّ العذاب والعقاب ينحصر ان بالجسماني منهما ، كنعيم الجنّة وحرّ الجحيم ، فيكون المعاد جسمانيا ، فقط ، وأما لو قلنا بأنّ هناك ـ وراء ذلك ـ ثوابا وعقابا عقليين لا يمتّان إلى البدن بصلة ، بل يلتذ ويعاقب بهما الروح فقط ، فيكون المعاد ، وراء كونه جسمانيا ، روحانيا أيضا ، وبعبارة أخرى : التذاذ النفس وتألّمها باللذات والآلام العقلية ، فهذا ملاك كون المعاد ، روحانيا.

قال الشيخ الرئيس : «يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع ، ولا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة ، وهو الذي للبدن عند البعث ، وخيراته وشروره معلوم لا يحتاج إلى أن يعلم ، وقد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها سيدنا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حال السعادة والشقاء التي بحسب البدن.

ومنه ما هو معلوم مدرك بالعقل والقياس البرهاني ، وقد صدقته النبوة وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس إلى نفس الأمر ، وإن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصورهما الآن. والحكماء الإلهيون ، رغبتهم في إصابة هذه السعادة أكثر من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية ، بل كأنهم لا يتلفتون إلى تلك وإن أعطوها ، فلا يستعظمونها في جنب السعادة التي هي مقاربة الحق الأول» (١).

__________________

(١) النجاة ، ص ٢٩١. والشفاء ، قسم الإلهيات ، المقالة التاسعة ، الفصل ٧. والظاهر من كلام الشيخ الرئيس أنه لا سبيل إلى المعاد الجسماني إلا بالشريعة وتصديق خبر النبوة ، وقد فسّر كلامه بأنه لا يمكن إثبات المعاد الجسماني وعود البدن مع الروح في النشأة الأخرى بالبرهان ، وإنما الطريق إليه هو الشريعة. ولكنه تفسير خاطئ ، كيف والأقلون من هذا الشيخ الإلهي مرتبة يثبتون ذلك بالبراهين الفلسفية ، وإنما مراده من المعاد الجسماني هو اللذات والآلام الجسمانية من الجنة ونعيمها والنار ولهيبها ، فإن إثبات خصوص هذه اللذات يرجع إلى السمع وعالم الوحي ، ولو لا السمع لما قدرنا على الحكم بأنّ لله سبحانه في النشأة الأخرى هذه النعم والنقم ، بل أقصى ما يمكن إثباته هو أن حشر الأجساد يمتنع أن يكون بلا غاية وبلا جهة ، أو بلا ثواب ولا عقاب ، وأما أن الثواب هو نفس ما ورد في الكتاب من الحور العين والفواكه والثمار وغيرها ، أو أنّ العقاب هو النار ولهيبها ،

٢٧٨

وقال الإمام الرازي : «أمّا القائلون بالمعاد الروحاني والجسماني معا ، فقد أرادوا أن يجمعوا بين الحكمة والشريعة فقالوا : دلّ العقل على أنّ سعادة الأرواح بمعرفة الله تعالى ومحبّته ، وأنّ سعادة الأجساد في إدراك المحسوسات ، والجمع بين هاتين السعادتين في هذه الحياة غير ممكن ، لأن الإنسان مع استغراقه في تجلّي أنوار عالم القدس ، لا يمكنه أن يلتفت إلى شيء من اللذات الروحانية ، وإنما تعذر هذا الجمع ، لكون الأرواح البشرية ضعيفة في هذا العالم ، فإذا فارقت بالموت ، واستمدت من عالم القدس والطهارة ، قويت وصارت قادرة على الجمع بين الأمرين ، ولا شبهة في أنّ هذه الحالة هي الحالة القصوى من مراتب السعادات» (١).

وقال الحكيم السبزواري : «القول الفحل والرأي الجزل ، هو الجمع بين المعادين : لأن الإنسان بدن ونفس ، وإن شئت قلت نفس وعقل ، فللبدن كمال ، ومجازاة ، وللنفس كمال ومجازة وكذا للنفس وقواها الجزئية كمالات وغايات تناسبها وللعقل والقوى الكلية كمال وغاية ، ولأنّ أكثر الناس لا يناسبهم الغايات الروحانية العقلية ، فيلزم التعطيل في حقهم في القول بالروحاني فقط ، وفي القول بالجسماني فقط يلزم في الأقلين من الخواص والأخصّين» (٢).

تحليل الملاكين في ضوء القرآن الكريم

إذا كان الملاك في توصيف المعاد بالجسماني أو الروحاني هو كون المحشور هو الجسم الحي وحده أو الروح وحدها ، فالقرآن الكريم يصدّق الأول وينكر الثاني ، وذلك أنّ من أمعن النظر في الآيات الواردة حول المعاد يقف على أنّ المعاد

__________________

فلا يثبته البرهان. ويؤيد ما ذكرنا أنّه يقول : «وهو الذي للبدن عند البعث وخيراته وشروره معلوم». فالشيخ الرئيس إنما رمي بذلك لعدم تفريقهم بين الملاكين في توصيف المعاد بالجسماني أو الروحاني ، فزعموا أنّ الملاك عنده هو الأول منهما وغفلوا عن أنّ الملاك هو الثاني منهما كما يعلم من التأمل في كلامه.

(١) شرح العقائد العضدية للمحقق الدواني ، ج ١ ، ص ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

(٢) الأسفار ، ج ٩ ، ص ١٦٥ ، تعليقة المحقق السبزواري.

٢٧٩

الذي يصر عليه القرآن هو عود البدن الذي كان الإنسان يعيش به في هذه الدنيا ، ولا يصدّق عود الروح وحدها فقط. ويظهر ذلك من ملاحظة أصناف الآيات الواردة حول المعاد ، ونحن نأتي فيما يلي بلفيف منها :

١ ـ ما ورد في قصة إبراهيم وبقرة بني إسرائيل وإحياء عزير ، وأمّة من بني إسرائيل وأصحاب الكهف (١).

٢ ـ الآيات التي تصرح بأنّ الإنسان خلق من الأرض وإليها يعاد ، ومنها يخرج.

يقول سبحانه : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٢).

ويقول سبحانه : (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) (٣).

ويقول سبحانه : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (٤).

ويقول سبحانه : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٥).

٣ ـ الآيات التي تدل على أنّ الحشر عبارة عن الخروج من الأجداث والقبور ، مثل قوله سبحانه : (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٦).

وقوله تعالى : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٧).

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ

__________________

(١) لاحظ البحث الخامس من مباحث المعاد ، حيث ذكرنا نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة.

(٢) سورة طه : الآية ٥٥.

(٣) سورة نوح : الآية ١٨.

(٤) سورة الروم : الآية ٢٥.

(٥) سورة الأعراف : الآية ٢٥.

(٦) سورة يس : الآية ٥١.

(٧) سورة القمر : الآية ٧.

٢٨٠