الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

مباحث المعاد

(٨) أشراط الساعة

الشرط ـ بالتحريك ـ : العلامة ، والجمع أشراط ، وأشراط الساعة : أعلامها (١).

والمراد من أشراط الساعة العلامات والآيات التي تخبر عن دنو القيامة ، وقربها ، وهي مأخوذة من الذكر الحكيم ، قال سبحانه : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) (٢).

وهذه العلامات بعضها مذكور في الكتاب العزيز ، وبعضها مذكور في السّنة فنبحث عن كلا القسمين على وجه الإجمال.

وأمّا مشاهد القيامة ، فهي الحوادث الهائلة التي تقع في نفس قيام الساعة ، التي وردت في سور التكوير والانفطار والانشقاق وغيرها ، كتكوير الشمس وانكدار النجوم وانفطار السماء وانتثار الكواكب ، وتسجير البحار وتفجيرها ، وغير ذلك. فالكل من مشاهد القيامة التي نأتي بها في بحث خاص وإليك الكلام في أشراط الساعة الواردة في الكتاب.

__________________

(١) لسان العرب ، ج ٧ ، ص ٣٢٩ ، مادة شرط.

(٢) سورة محمد : الآية ١٨.

٢٤١

أشراط الساعة في الكتاب

جاء في الذكر الحكيم أمور يستظهر منها أنّها من أشراط الساعة ، والآيات الواردة في هذا المجال بين واضحة الدلالة وغيرها.

أ ـ بعثة النبي الأكرم

يقول سبحانه : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ ، أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) (١).

إنّ هذه الآية تندد بالمشركين بأنّهم لا يؤمنون ، ولا ينتظرون شيئا إلّا القيامة أن تأتيهم فجأة حتى يؤمنوا ، ولكن لا يفيدهم عندها إيمانهم ، ومن أين لهم التذكّر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة بغتة. ومع ذلك كله فليعلموا أنّ الساعة ، وإن لم تأتهم ، ولكن قد جاءتهم أشراطها وعلاماتها ، فعليهم أن يتّعظوا بذلك.

والآية غير متضمنة لتعيين ما جاء من الأشراط ، لكن قال ابن عباس : «والنبيّ من أشراطها ، ولقد قال بعثت أنا والساعة كهاتين» (٢).

وكون بعثة النبي من معالم الساعة ، لا ينافي وجود هذه الفترة الطويلة بينه وبين القيامة ، وذلك لأنّ ما مضى من عمر الأرض والمجتمع الإنساني أزيد بكثير مما بقي منه ، فيصحّ جعل ظهوره من معالم الساعة.

ويحتمل أن يكون المراد من أشراط الساعة التي جاءتهم انشقاق القمر بيده ، ونزول القرآن الذي هو آخر الكتب (٣).

ب ـ اندكاك السدّ وخروج يأجوج ومأجوج

جاء في الذكر الحكيم أنّ ذا القرنين وصل في مسيره إلى قوم طلبوا منه أن

__________________

(١) سورة محمد : الآية ١٨.

(٢) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ١٠٢.

(٣) لاحظ المصدر السابق نفسه.

٢٤٢

يبني لهم سدّا يحجز عنهم يأجوج ومأجوج ويقيهم شرهما ، فقام ذو القرنين بعملية كبيرة ، حيث سدّ ما بين الجبلين ـ الذي كان طريق نفوذهما ـ بزبر الحديد ثم أنجز عملية بناء السدّ بما يحكيه تعالى من قوله : (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا ، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (١).

فلما فرغ من بناء السدّ قال :

(هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا* وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٢).

وقوله : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) ، يعرب عن كون اندكاك السّدّ من أشراط الساعة (٣). والمراد أنّه بعد انقضاء أمر السّدّ يموج بعض الناس في بعض ، فيرتفع من بينهم النّظم ، ويحكم فيهم الهرج والمرج ، ويظهر هذا أيضا من آية أخرى ، أعني قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ* وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) (٤).

فمفادها أنّه عند ما ينفرج سدّ يأجوج ومأجوج ، يتفرق المحجوزون خلف السدّ ، في الأرض ، فلا ترى أكمة إلّا وقوم منهم يهبطون منها ، وعند ذلك يقترب الوعد الحق ، أي قيام الساعة. فيكون اندكاك السدّ وانتشار يأجوج ومأجوج في الأرض من أشراط الساعة ، لحكايته عن اقتراب الوعد الحقّ ، وهذا هو المراد من أشراط الساعة.

ج ـ إتيان السماء بدخان مبين

إنّ الصناعات البشرية أوجدت قلقا في الحياة ، ولوثت البيئة في الأرض

__________________

(١) سورة الكهف : الآية ٩٦.

(٢) سورة الكهف : الآيتان ٩٨ و ٩٩.

(٣) ويمكن جعله من أشراطها على حدة ، فإنّها تحكي عن عموم حالة الفوضى والهرج والمرج العالم بأسره.

(٤) سورة الأنبياء : الآيتان ٩٦ و ٩٧.

٢٤٣

بالأدخنة المتصاعدة من معاملها ، والأبخرة المتطايرة من موادها. ولكنها إلى اليوم ليست إلى الحدّ الذي يزاحم الحياة ، والله يعلم مآل الأمور.

ولكنه تعالى يخبر عن حدوث دخان في السماء ، يغشى الناس ، ويكون عذابا أليما لهم ، يقول تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ* رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ* أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ* ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ* إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ* يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١).

إنّ في تفسير الآية وجهين :

الوجه الأوّل ـ إن مجموع هذه الآيات راجعة إلى عصر النبي ، وذلك أنّ رسول الله دعا على قومه لمّا كذّبوه ، فقال : اللهم سنينا كسني يوسف ، فأجدبت الأرض وأصابت قريشا المجاعة ، وكان الرجل لما به من الجوع ، يرى بينه وبين السماء كالدخان ، فجاءوا إلى النبي وقالوا : يا محمد ، جئت تأمر بصلة الرحم وقومك قد هلكوا. فسأل الله تعالى لهم بالخصب والسعة ، فكشف عنهم ، ثم عادوا إلى الكفر (٢).

يلاحظ على هذا الوجه : أولا ، إنّ ظاهر الآية أنّ السماء تأتي بدخان مبين ، وتحدثه ، وهو غير تجلّي السماء بصورة الدخان في عين الجائع ، الذي هو انخداع الحواس لغلبة الجوع ، من دون أن يكون هناك دخان في الواقع.

وثانيا : إنّ أصحاب السّير النبوية لم يذكروا شيئا عن هذا الجوع المدقع الذي أحدق بقريش وأوجد فيهم سنينا كسني يوسف.

وثالثا : إنّ ما جاء في القصة ، لا يناسب خلق النبيّ وعطفه على قومه ، وكونه رحمة للعالمين ، كيف وقد قال سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ

__________________

(١) سورة الدخان : الآيات ١٠ ـ ١٦.

(٢) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٦٢ ، وتفسير الطبري ، ج ١٥ ، ص ٦٦. وبهذا المضمون روايات أخر في المصدرين.

٢٤٤

فِيهِمْ ، وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١) وهو صلوات الله عليه وآله ، لم يدع عليهم في غزوة أحد ، مع أنّهم شجّوا جبهته وكسروا أسنانه ، وضرّجوا وجهه بالدماء.

فهذه الأمور ، توجب عدم الاطمئنان إلى هذا الوجه.

الوجه الثاني : إنّ مفاد الآية يرجع إلى أشراط الساعة ، وأنه قبل قيام البعث يغشى الناس دخان مبين. ويؤيّد ذلك أنّ الآية تتضمن ذكر يومين :

١ ـ يوم تأتي السماء فيه بدخان مبين.

٢ ـ ويوم يبطش فيه الرب تعالى البطشة الكبرى.

وبما أنّ البطشة الكبرى راجعة إلى يوم البعث الذي يأخذ فيه الله تعالى الظالمين والكافرين بشدة وقدرة ، يكون ذلك قرينة على أنّ ما يقع في اليوم الأول ، من أشراط الساعة ، فيوم تظهر فيه آية الساعة وعلامتها ، ويوم تتحقق فيه نفس الساعة.

وأما على التفسير الأول ، فلا مناص ، من جعل اليوم الأول يوم طروء الجوع في مكة ، واليوم الثاني يوم غلبة النبي على قريش في بدر ، ولا يخفى أن تفسير اليومين بهذا النحو يحتاج إلى دليل.

ويؤيّد المعنى الثاني ما روي عن حذيفة بن اليمان ، مرفوعا : أوّل الآيات الدّجال ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر ، تقيل معهم إذا قالوا ، والدّخان. قال حذيفة : يا رسول الله ، وما الدّخان؟ فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ...) ، يملأ ما بين المشرق والمغرب ، يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام ، وأما الكافر بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره (٢).

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ٣٣.

(٢) تفسير الطبري ، ج ٢٥ ، ص ٦٨. والدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٩.

٢٤٥

نعم بقي هنا شيء وهو أنّه لو كان صدر الآيات راجعا إلى أشراط الساعة ، فما معنى قوله سبحانه : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ). فإنه بالمعنى الأوّل ألصق.

ولكن يمكن أن يقال : إن الجملة الخبرية متضمنة لقضية شرطية ، وهي أنه حتى لو كشفنا عنهم العذاب ، لعادوا لما كانوا عليه من العصيان نظير قوله سبحانه : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١).

د ـ نزول المسيح

يقول سبحانه : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ* وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ* إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ* وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ* وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ، فَلا تَمْتَرُنَّ بِها ، وَاتَّبِعُونِ ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٢).

روى المفسرون أنه لما نزل قوله سبحانه : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (٣) ، أحدثت قريش ضجة ، وقاموا يجادلون النبي فقالوا : قد رضينا بأنّ تكون آلهتنا كذلك ، حيث يكون عيسى أيضا مثلهم ، وقالوا ـ كما يحكيه سبحانه عنهم : ـ (آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) ، فليست آلهتنا خيرا من عيسى ، فإن كان عيسى في النار ، فكذلك آلهتنا.

فأجاب سبحانه بأنّهم ما ضربوا هذا المثل إلا للمجادلة والمخاصمة ، وأنهم قوم خصمون لا يتطلبون الحق. ثم أخذ بتوصيف عيسى بن مريم وتبيين مقامه فقال : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) ، أي إنّ وجود عيسى في ظرف من الظروف ، يعلم به قرب الساعة ، فلا تكذبوا بها.

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٢٨.

(٢) سورة الزخرف : الآيات ٥٧ ـ ٦١.

(٣) سورة الأنبياء : الآية ٩٨.

٢٤٦

فالآية تدل على أنّ وجود عيسى في ظرف من الظروف يعلم به دنو السّاعة ، وأما ظرفه ، فالظاهر من الروايات هو نزوله بعد خروج الإمام المهدي عليه‌السلام (١).

وللآية تفسير آخر ، يطلب من مظانّه (٢).

ه ـ إخراج دابة من الأرض

قال تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) (٣).

وتوضيح الآية يتوقف على إيضاح أمور :

١ ـ ما هو المراد من قوله : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)؟.

٢ ـ ما هو المراد من الدابة المخرجة من الأرض؟

٣ ـ بما ذا تتكلم هذه الدابة ، وما ذا تقول؟

٤ ـ ما هو موضع قوله سبحانه في الآية : إنّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون؟ فهل هو يحكي قول الدابة ، أو هو تعليل لصدر الآية (وقوع القول عليهم).

٥ ـ ما هو المراد من الآيات؟

٦ ـ ما هو الهدف من إخراج الدابة؟

٧ ـ ما هو زمان إخراجها؟

والحقّ أنّ هذه الآية ، إحدى الآيات التي يحيق بها الإبهام من جهة أو جهات ، وليس لها في القرآن ما يشابهها في المضمون ، حتى يستعان به على

__________________

(١) لاحظ ما أوردناه من الروايات في بحث الإمامة.

(٢) لاحظ مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٥٨.

(٣) سورة النمل : الآية ٨٢.

٢٤٧

تفسيرها ، فلا مناص من الإمعان فيها نفسها ، أو اللجوء إلى الروايات الواردة حولها ، فنقول :

أما السؤال الأول ، فالمراد من وقوع القول عليهم ، هو استحقاقهم للعذاب ، يظهر ذلك من قوله تعالى : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) (١). وليس المراد من القول ، القول اللفظي ، بل القول التكويني المساوق لتحقّق العذاب ، وحصوله في الخارج. وقد عرفت أنّ العالم فعل الله سبحانه ، وفعله كلامه ، والآيتان نظير قوله سبحانه : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (٢).

وأما الثاني فالدابة في اللغة والقرآن تطلق على كل ما يدبّ على الأرض ، يقول سبحانه : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (٣). ولا يظهر من نفس الآية أنّه من أي نوع من الدواب ، أهو إنسان أو حيوان ، فلا مناص من الرجوع إلى الروايات التي نشير إلى مصادرها آخر البحث.

غير أنّه يمكن أن يقال إن «الدابة» استعملت في القرآن كثيرا في المعنى العام ، فإطلاقها على نوع خاص منه كالإنسان ، يحتاج إلى قرينة.

أضف إلى ذلك أنّه ربما استعمل في مقابل الإنسان ، يقول سبحانه : (... وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) (٤) وفي آية أخرى : (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِ) (٥). وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ المراد من الدابة هو غير الإنسان.

وأما الثالث : فلا يظهر من الآية شيء في جوابه إلّا احتمال أن يكون مقول كلامها هو ما جاء في ذيل الآية من قوله (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ). وقد ورد في بعض الروايات مضمون كلامها الذي تتكلم به.

__________________

(١) سورة النمل : الآية ٨٥.

(٢) سورة الزمر : الآية ١٩.

(٣) سورة هود : الآية ٦.

(٤) سورة الحج : الآية ١٨.

(٥) سورة فاطر : الآية ٢٨.

٢٤٨

وأما الرابع ، فيحتمل أن يكون قوله : (أَنَّ النَّاسَ) مقولا لكلامها ، كما يحتمل أن يكون تعليلا لفرض العذاب عليهم ، الذي يدل عليه صدر الآية ، فكأنه يقول : حق عليهم العذاب لأنهم كانوا بآياتنا لا يوقنون ، ويؤيّد هذا الوجه قراءة (أَنَ) بالكسر ، التي تجعلها جملة مستأنفة ، واقعة موقع التعليل.

وأما الخامس ، فيحتمل أن يكون المراد من الآيات هو الآيات الكونية والأنفسية الواردة في قوله سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١).

كما يحتمل أن يكون المراد من الآيات ، المعاجز وخوارق الآيات التي جاءت بها الأنبياء ، وإطلاق الآية على المعجزة في القرآن ، كثير.

ويحتمل أن يكون المراد ، الكتب السماوية ، فإنها آيات إلهية.

ولا يظهر من الآية شيء في تعيين أحد هذه الاحتمالات ، إلّا أنّه يمكن تاييد الاحتمال الثالث بقوله سبحانه في آية سابقة عليها : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢).

وأما السادس ، وهو الهدف من إخراج الدابة ، فيمكن أن يكون إعلام دنوّ السّاعة ، كما يمكن أن يكون لأجل تمييز المؤمن من الكافر ، وغير ذلك من الأهداف التي وردت فيها الروايات.

وأما السابع ، وهو زمان الإخراج فسياق الآيات يثبت أنّها تقع قبل يوم القيامة ، عند دنوّها لقوله سبحانه بعدها : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٣). فبما أنّ الثانية تقع قبل القيامة ، فسياق الكلام يقتضي كون الأولى كذلك.

ويتحصّل من الإمعان في الآيات أنّه سبحانه يحكي في لفيف منها عن أمور

__________________

(١) سورة فصلت : الآية ٥٣.

(٢) سورة النمل : الآية ٧٦.

(٣) سورة النمل : الآية ٨٣.

٢٤٩

ثلاثة ، الأولين راجعان إلى ما قبل القيامة ، ويعدّان من أشراطها ، والثالث إلى نفس القيامة.

فالأول ، هو وقع القول على الكافرين وخروج الدابة.

والثاني ، هو حشر فوج من كلّ أمة.

والثالث ، هو نفخ الصّور ، أعني قوله سبحانه : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) (١).

وعلى ضوء ذلك يمكن عدّ الأوّل والثاني من أشراط الساعة (٢).

و ـ مجيء بعض آيات الربّ تعالى

يقول سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ، قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (٣).

الاستفهام في الآية إنكاري ، وقع في مقام يعرب عن عدم نفع العظة ونجاح الدعوة ، وأنّ المخاطبين كانوا في عناد ولجاج إزاء دعوة النبي الأكرم ، كما هو الظاهر من الآيات المتقدمة عليها ، فإنّه يقول :

(أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ...).

(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ ، لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ...).

ففي هذا السياق ورد قوله سبحانه :

(هَلْ يَنْظُرُونَ) ، أي هؤلاء لا ينتظرون إلا أمورا تترجح بين كونها موجبة لهلاكهم أو كونها أمرا محالا في نفسه ، أو غير ناجعة في إيمانهم عند وقوعها.

__________________

(١) سورة النمل : الآية ٨٧.

(٢) ومن أراد التبسط في الآية ، فعليه الرجوع إلى المصادر التالية : تفسير الطبري ، ج ٢٠ ، ص ١٠ ـ ١٢. الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ١١٦. تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٢٠٩ ـ ٢١١.

(٣) سورة الأنعام : الآية ١٥٨.

٢٥٠

فالأوّل ، هو قوله تعالى : (أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) ، فإنّ نزول الملائكة عليهم يلازم هلاكهم. يقول سبحانه : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (١).

والثاني ، هو مجيء الربّ ومشاهدته بأمّ أعينهم ، وهو أمر محال. وإن أريد منه يوم اللقاء ، الذي ينكشف منه الغطاء ، ويتجلى سبحانه بأسمائه وصفاته ، تجلّيا لا يبقى معه ريب ولا شك ، فلا ينجع إيمانهم عند ذاك.

والثالث ، وهو مجيء بعض آياته ، فهو مردد بين أن يكون المراد منه الموت الذي تتبدل فيه نشأة الحياة إلى نشأة أخرى ، أو يكون المراد هو خروج الدابة عند دنو الساعة الذي مضى البحث عنه ، وعند ذلك تكون الآية ناظرة إلى بعض أشراط الساعة.

وعلى كلا المرادين ، لا ينفع بعدهما الإيمان والاستغفار ...

قال الطبرسي : «المراد الآيات التي تضطرهم إلى المعرفة ، ويزول التكليف عندها (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) لأنّه ينسد باب التوبة بظهور آيات القيامة» (٢).

روى العيّاشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، في تفسير الآية ، قولهما : «طلوع الشمس من المغرب ، وخروج الدابة ، والدخان ، والرّجل يكون مصرا ولم يعمل على الإيمان ثم تجيء الآيات ، فلا ينفعه إيمانه» (٣).

هذا بعض الكلام حول أشراط الساعة الواردة في آيات الذكر الحكيم.

وأما الروايات ، فنقتبس منها ما يلي :

١ ـ روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن أسيد الغفاري : اطّلع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علينا ونحن نتذاكر فقال : ما تذكرون؟ قلنا : نذكر

__________________

(١) سورة الحجر : الآية ٨.

(٢) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٣٨٨.

(٣) البحار ، ج ٦ ، ص ٣١٢ ، الحديث ١٣.

٢٥١

الساعة ، قال : إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات ، فذكر : الدّخان ، والدجّال ، والدابّة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى بن مريم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تطرد النّاس إلى محشرهم (١).

٢ ـ روى القمي في تفسيره عن عبد الله بن عباس ، قال : حججنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حجة الوداع ، فأخذ باب الكعبة ، ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال : ألا أخبركم بأشراط الساعة ، وكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رضي الله عنه ، فقال : بلى يا رسول الله.

فقال : إنّ من أشراط القيامة ، إضاعة الصلاة ، واتباع الشهوات ، والميل مع الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يذاب قلب المؤمن وجوفه كما يذوب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره ... لاحظ بقية الحديث (٢).

* * *

__________________

(١) جامع الأصول ، ج ١١ ، ص ٨٧ ، الحديث (٧٨٩٨). ورواه الصدوق في الأمالي ، وقال في آخره : ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تنزل معهم إذا نزلوا ، وتقبل معهم إذا اقبلوا (البحار ، ج ٦ ، ص ٣٠٣).

(٢) البحار ، ج ٦ ، الحديث ٦ ، ص ٣٠٥ ـ ٣٠٩. وقد روى المجلسي في الجزء السادس من بحاره ، في باب أشراط الساعة ص ٣٠٣ ـ ٣٠٦ ، اثنين وثلاثين حديثا. وما نقلناه نموذج من تلك الأحاديث ، كما روى الجزري ، في الجزء الحادي عشر من جامع الأصول ، في الباب المعقود لبيان أشراط الساعة ، ص ٧٤ ـ ٩٤ ، مائة وستة أحاديث.

٢٥٢

مباحث المعاد

(٩) مشاهد البعث والقيامة

لقد تعرّفت على أشراط الساعة التي تخبر عن دنوّها ، كتابا وسنة ، وهي غير نفس القيامة ، فإنها الأمور الكونية التي تدبّر النظام السائد ، ليؤسس بعده نظام جديد لمحاسبة العباد ، وجزائهم ، وقد أكثر الذكر الحكيم من نقل وتصوير مشاهد القيامة في سوره القصار.

وبعد تلك الحوادث المريعة ، تتلاحق مواقف العالم الأخروي ، إلى أن يرد الخلق إلى مثواهم الأخير ، وفيما يلي نستعرضها واحدة بعد الأخرى.

١ ـ انهدام النظام

تظافرت الآيات القرآنية على أن البعث لا يقوم على هذا النظام السائد ، وإنما يقوم على نظام جديد ، وهو لا يتحقق إلا بتلاشي النظام الموجود وانهدامه. والقرآن يخبر عن مشاهد ذاك الانهدام الكوني العام ، فيحدّث عن انشقاق السماء وانفطارها ، وتكوير الشمس ، وانكدار النجوم وتناثرها ، وامتداد الأرض ، وتفجير البحار وتسجيرها ، وتسيير الجبال حتى تكون كالعهن المنفوش ، وغير ذلك من المشاهد المروعة للقلوب (١).

__________________

(١) لاحظ سور التكوير ، والانفطار ، والانشقاق والقارعة وغيرها.

٢٥٣

٢ ـ خروج الناس من القبور

ويستعقب ذلك مشهد آخر ، ألا وهو خروج الناس من الأجداث.

يقول سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ* قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (١).

وبعد ذلك يدعى الناس إلى الحساب ، وموقف العرض ، وهو مشهد أشدّ في النفس هولا ممّا سبق ، لعظم الحسرة والخوف الحاكمين على القلوب آنئذ ، يقول سبحانه :

(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ* خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ ، يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ* مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٢)

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣).

* * *

٣ ـ إعطاء الكتب

وبعد خروج الناس من القبور ، وإحضارهم إلى موقف المحاكمة ، ووقوفهم على صعيد الحساب ، تنشر الصحف (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (٤). فيأخذ كلّ إنسان كتابه الذي دوّن فيه ـ بيد الحفظة من الملائكة ـ ما عمله من صغير وكبير ، فمنهم من يتلقاه بيمينه ، ومنهم من يتلقاه بشماله.

يقول سبحانه :

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً* وَيَنْقَلِبُ إِلى

__________________

(١) سورة يس : الآيتان ٥١ و ٥٢.

(٢) سورة القمر : الآيتان ٦ ـ ٨. ولاحظ الزلزلة الآية ٦.

(٣) سورة عبس : الآية ٣٧.

(٤) سورة التكوير : الآية ١٠.

٢٥٤

أَهْلِهِ مَسْرُوراً* وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ* فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) (١).

* * *

٤ ـ الحساب والشهود

وبعد تناول الصحف يبدأ الحساب ، وهو مشهد مروّع للقلوب ومقطّع للأرواح ، إنّه مشهد القضاء على الناس بشهود لا يتطرق إلى شهادتهم ريب ولا يتّهمون بكذب. وهم بين شاهد خارجي كالله سبحانه ، والأنبياء ، والملائكة ، والأرض ، وداخلي كالأعضاء والجوارح حتى جلد البدن.

وهناك نوع آخر من الشهود لا يشابه القسمين ، وهو تجسّم أعمال الإنسان بوجود يناسب تلك النشأة وهذا نظير عرض صور الجريمة ووقائعها التي التقطت عند ارتكاب المجرم لها ، أو بثّ الشريط الذي سجل فيه كلام المعتدي بالسبّ والوقيعة ، وإن كان هناك فرق بين الممثّل والممثّل له.

وبذلك لا يجد المجرم لنفسه إلا الاعتراف بالذنب والتقصير والجرأة ، لثبوت الجرم عليه بوجه لا يقبل الإنكار ، وإليك عرض هؤلاء الشهود في ضوء آيات القرآن الكريم ، مقدّمين الشهود الخارجيين على الداخليين.

الشاهد الأول ـ الله سبحانه

من عجيب الأمر أنّ الله سبحانه هو القاضي والحاكم بين العباد ، وهو بنفسه أيضا شاهد على أعمالهم ، يقول سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢).

ويقول سبحانه : (... لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) (٣).

__________________

(١) سورة الانشقاق : الآيات ٧ ـ ١١ وسيأتي بيان أوفى لإعطاء الكتب في الشهود.

(٢) سورة الحج : الآية ١٧.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٩٨.

٢٥٥

الشاهد الثاني ـ نبيّ كلّ أمّة

يدل القرآن الكريم على أنّ لكلّ أمّة شهيدا من أنفسهم ، وقد جاء ذلك في عدة آيات منها قوله سبحانه : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (١).

وقوله سبحانه : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ...) (٢).

والظاهر أنّ هذا الشاهد من كل أمّة هو نبيهم ، وإن لم يصرح به في الآيات ، وذلك للزوم كون الشهادة القائمة هناك مشتملة على حقائق لا سبيل للمناقشة فيها ، فيجب أن يكون هذا الشاهد عالما بحقائق الأعمال التي يشهد عليها ، لا بظاهر صورها وهيئاتها المحسوسة لأنّ صورها مشتركة بين الطاعة والمعصية.

ولا يكون هذا إلّا بأن يستوي عنده الحاضر والغائب ، ويعاين حقيقة ما انعقدت عليه القلوب فيتميز هذا الشاهد بخصوصيتين :

الأولى : أنّه محيط إحاطة علمية تامة على حقائق الأعمال وما يجري في القلوب ، ويختلج في النفوس.

الثانية : أن يكون ذا عصمة إلهية ليمتنع عليه الخطأ والاشتباه عند تحمّل الشهادة ، والكذب والخيانة عند أدائها.

ولا يتصور هذا المقام إلا لنبيّ كلّ أمّة ، وسيأتي تتميم لذلك في الشاهد الرابع.

الشاهد الثالث : نبيّ الإسلام

عدّ القرآن نبيّ الإسلام شاهد أمّته ، يقول سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٨٩.

(٢) سورة القصص : الآيتان ٧٤ و ٧٥.

٢٥٦

كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١).

ويقول سبحانه : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ..) (٢).

وقد عرفت أنّ هذه الشهادة تستلزم من الكفاءات شيئا عظيما ، وبهذا يظهر عظم مقام هذا الشاهد ، لوقوفه على ضمائر القلوب وأعمال الأمّة ، وإن كانوا بعيدين عنه. ومن كان له هذا المقام ، فتعرّفه على الغيب من أهون الأمور ، ومع ذلك نرى بعض القشريين ينزعجون من إثبات علم الغيب للنبيّ ، ويزعمون أنّ نسبته إليه وإلى الله سبحانه يستلزم الشرك ، ولكن عزب عنهم الفرق بين العلم الكسبي والذاتي ، والمحدود واللامحدود ، والقائم بالغير والقائم بالنفس.

الشاهد الرابع : بعض الأمّة الإسلامية

يقوله سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٣).

والخطاب في الآية للأمّة الإسلامية ، ولكن المراد قسم منها ، نظير قوله سبحانه : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) (٤) ، مخاطبا بني إسرائيل ، والمراد بعضهم. فباعتبار وجود الصّلة القوية بين القبيلة وملوكها ، نسب الملوكية إلى الجميع.

والدليل على أنّ المراد بعض الأمّة ، هو أنّ أكثر أبناء الأمّة ، مجهزون بحواس عادية لا تتحمل إلّا صور الأفعال والأعمال إذا كانوا في محضر المشهود عليهم ، وهو لا يفي في مقام الشهادة ، لأنّ المراد من الشهادة هو الشهادة على حقائق الأعمال ، والمعاني النفسانية من الكفر والإيمان والفوز والخسران ، وعلى كل خفي عن الحسّ ، ومستبطن عن الإنسان ، وعلى كل ما تكسبه القلوب ، الذي يدور عليه حساب ربّ العالمين ، يقول سبحانه : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٤١.

(٢) سورة النحل : الآية ٨٩. ولاحظ الحج : الآية ٧٨.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٤٣.

(٤) سورة المائدة : الآية ٢٠.

٢٥٧

قُلُوبُكُمْ) (١).

وليس ذلك في وسع الإنسان العادي إذا كان حاضرا عند المشهود عليه ، فضلا عن كونه غائبا ، وهذا يدلّنا على أنّ المراد رجال من الأمّة لهم تلك القابلية ، بعناية من الله تعالى ، فيقفون على حقائق أعمال الناس من إخلاص ورياء ، وانقياد وتمرد ، ويؤدّون ذلك يوم القيامة. وهذه الكرامة ليس ينالها جميع الأمّة ، بل الأولياء الطاهرون منهم ، لا المتوسطون في الإيمان ، فضلا عن الملوثين بالمعاصي والملطخين بالجرائم.

وقد التجأ بعضهم إلى جعل متعلق الشهادة كون الأمّة على دين جامع ووسط ، وهو بمعزل عن التحقيق ، إذ ليس ذلك شهادة بشيء ، وقد وردت لفظة الشهادة بمعنى واحد في جميع القرآن ، في آياته المختلفة.

وبذلك يظهر معنى قوله سبحانه : (... وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٢). فالخطاب متوجّه إلى الأمّة ، والمراد بعضهم ممن أعطيت لهم هذه الكرامة.

وهناك وجه آخر لما ذكرنا ، وهو أنّ أقلّ ما يعتبر في الشهود هو العدالة والتقوى ، والصدق والأمانة ، والأكثرية الساحقة من الأمّة ، يفقدون ذلك ، وهم لا تقبل شهادتهم على صاع من تمر أو باقة من بقل ، فكيف تقبل شهادتهم يوم القيامة؟.

وإلى هذا تشير رواية الزبيري عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٣) ، فإن ظننت بأنّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ، ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية. كلا ، لم يعن الله

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٢٥.

(٢) سورة الحج : الآية ٧٨.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٤٣.

٢٥٨

مثل هذا من خلقه» (١)

إلى هنا تمّ الكلام حول الشهود الخارجيين ، وإليك الكلام في الشهود الداخليين ، الذين لا ينفكون عن نفس المجرم.

الشاهد الخامس : الأعضاء والجوارح

من عجيب الأمر أن تشهد أعضاء الإنسان عليه : لسانه ويده ورجله ، بأمر من الله سبحانه.

يقول سبحانه : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢).

ويقول سبحانه : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٣).

وأما كيفية الشهادة فهي من الأمور الغيبية نؤمن بها ، وما إنطاقها عليه بعزيز ، وقد وسعت قدرته تعالى كلّ شيء.

الشاهد السادس : الجلود

وتشهد على الناس جلودهم أيضا.

يقول سبحانه : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ، قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٤).

وقوله : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ، يشير إلى سعة قدرته سبحانه

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ١١٣ ، الحديث ٤٠٩.

(٢) سورة النور : الآية ٢٤.

(٣) سورة يس : الآية ٦٥.

(٤) سورة فصلت : الآيتان ٢٠ و ٢١.

٢٥٩

على إنطاق الجلود (١).

الشاهد السابع : الملائكة

إنّ للإنسان حفظة يصحبونه منذ بلوغه التكليف فيسجّلون أعماله خيرها وشرّها ، وهذا قوله سبحانه : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ ، رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (٢).

وهذا الرقيب العتيد يشهد أعمال من وكّل به يوم القيامة ، عند ما يرد الإنسان صعيد الحساب مع سائقه ، كما يقول سبحانه : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٣).

فأحد الملائكة يسوق الإنسان ، وآخر يشهد على أعماله.

الشاهد الثامن : صحيفة الأعمال

هناك آيات تدلّ على وجود صحف تضبط فيها أعمال العباد خيرها وشرّها ، وكتبة يمارسون كتابتها ، ويوم الحساب تعرض على الإنسان ، فيقرؤها ، فيرى المجرم مشفقا منها ، يغلبه التعجب من إحاطة الكتاب بدقيق أعماله وجليلها.

يقول سبحانه : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً ، إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) (٤).

ويقول سبحانه : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ ، فِي الزُّبُرِ* وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٥).

__________________

(١) ولا ينبغي التعجّب من ذلك ، وقد توصّل الإنسان في هذه الدنيا إلى معرفة فاعل كل جريمة ، ومرتكب كل جناية ، بتشخيص بصمات أصابعه ، ويكفي في إتمام الحجة عليه إظهار آثار جلد إصبعه وشهادتها عليه.

(٢) سورة ق : الآية ١٨.

(٣) سورة ق : الآية ٢١.

(٤) سورة يونس : الآية ٢١ ، وبهذا المضمون الزخرف : الآية ٨٠ و ٨٩.

(٥) سورة القمر : الآيتان ٥٢ و ٥٣.

٢٦٠