الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

ودلالة الآية كدلالة سابقتها ، ولا يمكن تفسير قوله : (فَأُدْخِلُوا ناراً) ، بنار القيامة ، وذلك لأنّ القيامة لم تقع بعد ، والآية تحكي عن الدخول أوّلا ، وكونه متصلا بغرقهم لا منفصلا عنه ثانيا ، قضاء بحكم الفاء في قوله : (فَأُدْخِلُوا).

(ه) يقول سبحانه : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١).

وقد تقدمت دلالة الآية ، فقلنا إنّ محور الدلالة هو الإمعان في معنى التوفّي.

(و) يقول سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (٢).

والمراد من الأنفس ، في الآية ، هو عين ما ورد في قوله سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) ، وهي تحكي عن أنّ للظالمين أبدانا وأنفسا والملائكة موكّلون بأخذ أنفسهم وترك أبدانهم ، ولو كان الإنسان موجودا ماديا محضا ، فما معنى أخذ الأنفس ، إذ يكون الموت حينئذ خمود الحرارة الغريزية لا أكثر.

أضف إلى ذلك أنّ الآية تدلّ على أن الظالم يعذب يوم خروج نفسه بعذاب الهون ، وهذا يدل على أنّ وراء البدن شيء آخر يعذّب.

وتفسير عذاب الهون بشدة قبض الروح ، تفسير على خلاف الظاهر.

(ز) يقول سبحانه : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ، قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٣).

يقول المفسرون : إنّ عيسى عليه‌السلام بعث رسولين من الحواريين إلى

__________________

(١) سورة السجدة : الآية ١١.

(٢) سورة الأنعام : الآية ٩٣.

(٣) سورة يس : الآيتان ٢٦ و ٢٧.

٢٠١

مدينة أنطاكية ، فلقيا من أهلها عنفا وردّا ، غير أنّ واحدا من أهلها اسمه حبيب النجار ، آمن بهما وأظهر إيمانه ، وقال : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) ، فلما سمع القوم إيمانه وطئوه بأرجلهم حتى مات ، فأدخله الله الجنة ، وخوطب بقوله تعالى : (أُدْخِلَ الْجَنَّةَ). ثم هو تمنّى أن يعلم قومه بما آتاه الله تعالى من المغفرة وجزيل الثواب ، فقال : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).

فالآية تدل على أنّ الموت ليس فناء للإنسان ، بل هو بعد الموت يرزق في الجنة ، ويتمنى أن يعلم قومه بما رزق من الكرامة.

أضف إلى ذلك أنّ قوله تعالى : (أُدْخِلَ الْجَنَّةَ) ، لا يمكن أن يكون خطابا للبدن لأنه يوارى تحت التراب ، فالمخاطب به شيء آخر ، وهو الروح ، فتدخل الجنة وتتنعّم فيها ، وكم فرق بين قوله : «أدخل الجنة» وقوله «أبشر بالجنة» فالثاني لا يدلّ على شيء مما ذكرنا بخلاف الأوّل.

(و) يقول سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).

وأمّا دلالة الآية على أنّ الروح أمر غير مادّي ، فيظهر بالإمعان فيها ، وبيانه : أنّ الآية تبيّن تكامل خلقة الإنسان من مرحلة إلى مرحلة ، والمراحل الموجودة بين السلالة ، وقوله : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ، كلّها تكامل من صنف واحد ، فمادة الإنسان لن تبرح تتكامل من السلالة إلى العظام المكسوة باللّحم.

وبعد ذلك نرى تغييرا في أسلوب بيان الآية ، حيث يقول : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). فهو سبحانه :

أولا : يعطف هذه المرحلة على المراحل السابقة ، بلفظة ثمّ ، بخلاف

__________________

(١) سورة المؤمنون : الآيات ١٢ ـ ١٤.

٢٠٢

المراحل السابقة ، فيعطفها بالفاء ، ويقول فخلقنا العلقة ... فخلقنا المضغة ... فكسونا العظام ... وهذا يدل على تغاير هائل بين هذه المرحلة والمراحل السابقة.

ثانيا : يستعمل في بيان خلقه هذه المرحلة لفظ الإنشاء ، بمعنى الإبداع ، وإنشاء شيء بلا مثال قبله ، وهو أيضا يدل على مغايرة هذه المرحلة لما سبقها من المراحل ، مغايرة جوهريّة.

وثالثا : إنّه سبحانه بعد ما يقرر خلقه هذه المرحلة ، يثني على نفسه ، مما يعرب عن اختلاف هذه المرحلة مع ما تقدمها ، وامتيازها عنها امتيازا جوهريا.

وهذه الوجوه ، تكفي في دلالة الآية على أنّ المنشأ في هذه المرحلة شيء لا يشبه المنشآت السابقة ، ويختلف عنها جوهرا ، وحيث إنّ المنشآت السابقة من سنخ تكامل المادة ، فيكون المنشأ في هذه المرحلة ، منشأ غير مادي ، وهو تعلّق النفس المجردة بالبدن في تلك المرحلة.

إلى هنا تم إيراد الآيات الصريحة في المطلوب ، ويقع الكلام بعده في القسم الثاني من الآيات ، وهي التي يستظهر منها الدلالة على تجرد الروح ، وإن كانت قابلة للحمل على معان أخرى.

القسم الثاني من الآيات

أ ـ يقول سبحانه : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) (١).

وتتضح الدلالة إذا أمعنّا أنّه سبحانه يخص النجاة ببدن فرعون ، ويقول : (بِبَدَنِكَ) وهذا يعرب عن أنّ هناك شيء آخر لا يشمله النجاة ، ويقع مورد العذاب.

أضف إلى ذلك خطابه سبحانه أعني قوله : (نُنَجِّيكَ) ، فإنّه يدلّ على أنّ

__________________

(١) سورة يونس : الآية ٩٢.

٢٠٣

هناك واقعية ، غير البدن ، يكلمها ويخاطبها ، ويعلّمها بأنّ النجاة تشمل بدنها لا غيره.

ب ـ يقول سبحانه : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ، وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (١).

فقوله تعالى : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) : بعد قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) ، يدل على أنّ توليه عنهم كان بعد هلاكهم ، ويترتب على ذلك أن محاورتهم بقوله : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) ، كان محاورة بعد الدمار ، فالآية تدل على أمرين ، خلود الروح بعد الموت ، وإمكان الاتصال بالأرواح كما اتصل صالح بها فقال ما قال.

ونظير ذلك ما نقله عن شعيب ، قال : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ، فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٢). ووجه الدلالة في المقامين واحد خصوصا إذا أمعنّا في «الفاء» ، في قوله (فَتَوَلَّى) ، المعرب عن تأخّر التولّى والمحاورة عن الهلاك.

وإنما جعلنا هما من الآيات غير الصريحة ، لاحتمال أن تكون المحاورة تأثّريّة ، يتكلم بها الإنسان بلا اختيار عند ما يواجه حادثة مؤلمة حلّت على إنسان عاصي لا يسمع كلام ناصحه ، كالمجرم المصلوب فإنه يخاطب ، بمثل ما خوطب به هؤلاء ، ولكنّ ظاهر الآية هو الأول.

ج ـ يقول سبحانه : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٣).

والآية تأمر النبي أن يسأل المتقدمين من الرسل في شأن اختصاص العبادة

__________________

(١) سورة الأعراف : الآيات ٧٧ ـ ٧٩.

(٢) سورة الأعراف : الآيتان ٩٢ ـ ٩٣.

(٣) سورة الزخرف : الآية ٤٥.

٢٠٤

بالله سبحانه ، الذي يحكي عنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١).

والسؤال فرع وجود المسئول أوّلا ، وإمكان الاتصال ثانيا. فهي تدل على وجود أرواح الأنبياء ، وإمكان اتصال النبي بها.

ومع ذلك يمكن أن يكون المراد هو سؤال علماء أهل الكتاب أو أتباعهم ، لقوله سبحانه : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ، لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (٢) والغاية من السؤال هو الاحتجاج ، ومع ذلك فهذا الاحتمال على خلاف الظاهر.

وفي الآيات (٣) ما يدل على أنّ الآية تأمر النبي بالسؤال في ليلة المعراج ، ولو تمت الروايات سندا ، لما كانت مخالفة لما قلنا.

إلى هنا تم إيراد الآيات ـ بقسميها ـ الدالة على خلود الروح بعد الموت ، وتجرّدها من آثار المادة ، وإمكان الاتصال بها في هذه النشأة وبذلك ثبت بنحو قاطع ، من طريقي العقل والنقل ، وجود الروح وتجردها وخلودها (٤) ، الذي له دور عظيم في حلّ معضلات المعاد ، والإجابة على الأسئلة الواردة حوله.

* * *

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٣٦.

(٢) سورة يونس : الآية ٩٤.

(٣) لاحظ مجمع البيان ، ص ٤٩ ـ ٥٠.

(٤) لاحظ في تكلّم النبي مع أرواح المشركين في غزوة بدر ، المصادر التالية : صحيح البخاري ، غزوة بدر ، ج ٥ ، ص ٩٧ ، ٩٨ و ١١٠. وصحيح مسلم ج ٤ ، كتاب الجنة. وسنن النسائي ، ج ٤ ، ص ٨٩ و ٩٠. ومسند أحمد ، ج ٢ ص ١٣١. وسيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٦٣٩ ، ومغازي الواقدي ، ج ١ ، غزوة بدر. وبحار الأنوار ، ج ١٩ ، ص ٣٦٤.

وتكلّم النبي مع أرواح المؤمنين المدفونين في البقيع : طبقات ابن سعد ، ج ٢ ، ص ٢٠٤.

والسيرة النبوية ، ج ٢ ، ص ٦٤٢. وإرشاد المفيد ، ص ٤٥.

وتكلّم أمير المؤمنين مع النبي عند تغسيله : نهج البلاغة ، الخطبة ٢٣٠.

٢٠٥

مباحث المعاد

(٥) نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة

أثبت الحكماء لليقين مراتب ودرجات ، ولكل منها عندهم اسم خاص ، ولتبيين هذه الدرجات نأتي بمثال :

إذا سمع الإنسان اسم النار ، ولم يرها ، وقيل له إنها موجود عنصري لها هيئة خاصة ، وأثر ومعيّن في الأعضاء ، وأذعن بذلك لكون المخبرين صادقين ، فهذه مرتبة من اليقين.

ثم إذا شاهدها من بعيد ، ولكن لم تمسّ حرارتها بدنه ، وإنما رأى هيئتها ، والتهابها ، بأم عينه ، فهذه مرتبة من اليقين أقوى من السابقة.

ولكن أين هذه المرتبة مما إذا شاهدها عن كثب ومسّته حرارتها ، ففي هذه المرتبة يتكامل يقينه بها ، ويبلغ الدرجة القصوى.

وإذا كان لليقين مراتب ودرجات ، فلا لوم على الأنبياء والأولياء أن يطلبوا من الله سبحانه إحياء الموتى حتى يشاهدوه بأعينهم لإكمال مراتب يقينهم بالقيامة ، وتبديل علم اليقين فيهم بعين اليقين (١).

__________________

(١) اقتباس من قوله سبحانه. (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) (التكاثر : الآيات ٥ ـ ٧).

٢٠٦

ومن هنا نرى أنّ الله سبحانه أحيى الموتى لإبراهيم الخليل ، وعزير ، وغيرهم كما سيأتي ، والغاية كانت إكمال مراتب اليقين ، أو إتمام الحجة على البعيدين عن هذه المعارف ، كما هو الحال في إحياء عيسى الموتى لبني إسرائيل ، وفيما يلي نورد هذه النماذج من القرآن الكريم.

١ ـ إبراهيم وإحياء الموتى

ذكر المفسرون أنّ إبراهيم عليه‌السلام رأى جيفة تمزقها السباع ، فيأكل منها سباع البر ، وسباع الهواء ودواب البحر ، فسأل الله سبحانه وقال : يا ربّ قد علمت أنّك تجمعها في بطون السباع والطير ودواب البحر ، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك؟

يقول سبحانه : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ، قالَ : فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١).

وما ذكرنا من سبب النزول يكشف عن أنّه لم يكن غرض إبراهيم إحياء نفس فقط ، وإلا لكفى فيه إحياء طير واحد بعد إماتته ، وإنما لكان الغرض مشاهدة إعادة أجزاء كلّ طير إليه بعد اختلاطها بأجزاء الطيور الأخر ، وهذا لا يتحقق إلا بتعدد الطيور أوّلا ، واختلافها نوعا ، ثانيا ، واختلاطها بعد ذبحها ، ثالثا ، فلأجل ذلك ورد أنّه أخذ طيورا مختلفة الأجناس ، قيل إنها : الطاوس ، والديك ، والحمام ، والغراب ، فقطّعها ، وخلط ريشها بدمها ، ثم فرّقهن على عشرة جبال ، ثم أخذ بمناقيرهن ، ودعا هن باسمه سبحانه ، فأتته سعيا ، فكانت تجتمع ويأتلف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه ، حتى قامت أحياء بين يديه.

وبذلك كمل إيمانه ، وتم إذعانه بأنّه سبحانه يمكن أن يعيد أجزاء بدن كل

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٦٠.

٢٠٧

حيّ إليه ، وأن اختلط بحيّ آخر ، كما لو أكلت الإنسان الميت سباع البراري وجوارح الهواء ، وحيتان البحار ، فإن الاختلاط لا يكون مانعا عن الإحياء والإعادة ، وقد تقدّم في بيان شبهاتهم أنّ المنكرين كانوا يركزون على «ضلالة الأجزاء» في الأرض ، واختلاط أجزاء الموتى بعضها ببعض ، وقد قال سبحانه في هذا المجال : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (١).

والاستدلال بالآية يتوقف على الإمعان في أمرين :

الأول ـ إنّ مقتضى البلاغة مطابقة الجواب للسؤال ، ولما كان سؤاله عن مشاهدة إحياء الموتى ـ واقتضى الحال الإجابة عنه ـ فيجب أن يكون ما يأمر به سبحانه محققا لإحياء الموتى ، وهو لا يتحقق إلا بأن يقوم إبراهيم بتقطيعهن وخلط أجزائهن ، وتفريقهن على الجبال.

الثاني : الإمعان في قوله : (فَصُرْهُنَ) ، والمصدر الذي اشتقّ منه ، وفيه احتمالات:

١ ـ ما نقل عن ابن عباس من أنه قرأ : «فصرّهنّ» ، بتشديد الراء ، من باب صرّ ، يصرّ ، من التصرية ، وهي الجمع والضم (٢) ، وهذه القراءة غير معروفة ، فهذا الاحتمال ساقط.

٢ ـ أن يكون مأخوذا من الصّير ، معتل العين ، فيقال صار يصير صيرا ، بمعنى انتهى إليه ، مثل قوله : (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ). والأمر منه «صر» ولعل من فسره من أهل اللغة بمعنى الميل أخذه من هذا.

٣ ـ أن يكون مأخوذا من «صري» ، معتل اللام ، ذكره الفراء في معاني القرآن ، فقال إنها إن كانت بمعنى القطع ، تكون من «صريت ، تصري» ، واستشهد بقول الشاعر:

__________________

(١) سورة ق : الآية ٤.

(٢) الكشاف ، ج ١ ، ص ٢٩٦.

٢٠٨

صرت نظرة لو صادف جوز دارع

غدا والعواصي من دم الجوف تنعر (١).

فإن جعل من «صير» يكون بمعنى «أملهنّ إليك» ، ويجب عند ذلك تقدير كلمة اقطعهن ، لدلالة ظاهر الكلام عليه ، فيكون معنى الآية : أملهن إليك ، فقطّعهنّ ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ، مثل قوله : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ ، فَانْفَلَقَ) (٢) ، أي فضرب فانفلق.

وإن جعل من «صري» ، تكون الكلمة متضمنة معنى الميل بقرينة تعدّيها ب «إلى» ، فيكون المعنى : اقطعهن متمايلات إليك ، كتمايل كل طير إلى صاحبه.

وعلى كل تقدير ، فالآية تدل على أنّ إبراهيم قطّعهن وخلط أجزائهن ، ثم فرقها على الجبال ، ثم دعاهن ، فأتينه سعيا.

ومن غريب التفسير ، ما ذكره صاحب المنار فقال في معنى الآية ما حاصله : خذ أربعة من الطّير فضمها إليك ، وآنسها بك ، حتى تستأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها ، فإن الطيور من أشدّ الحيوانات استعدادا لذلك ، ثم اجعل كل واحد منها على جبل ، ثم ادعها ، فإنها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرق أمكنتها وبعدها ، كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى ، يدعوهم لكلمة التكوين : «كونوا أحياء» ، فيكونون أحياء ، كما كان شأنه في بدء الخلقة ، ذلك إذ قال للسماوات والأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٣) قال : والدليل على ذلك من الآية قوله تعالى : (فَصُرْهُنَ) ، فإن معناه «أملهن» ، أي أوجد ميلا بها ، وآنسها بك ويشهد به تعديته بإلى ، فإنّ صار إذا تعدى بإلى كان بمعنى الإمالة» (٤).

__________________

(١) معاني القرآن : ج ١ ص ١٧٤. الشعر : «صرت نظرة» : أي قطعت نظرة ، أي فعلت ذلك ، والجوز وسط الشيء والعواصي جمع العاصي وهو العرق ، ويقال نعر العرق : فار منه الدم.

(٢) سورة الشعراء : الآية ٦٣ ..

(٣) سورة فصلت : الآية ١١.

(٤) لاحظ تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٥٥ ـ ٥٨ : وذكر وجوها في دعم هذه النظرية التي نقلها عن أبي مسلم ، وقد استحسنها في آخر كلامه وقال «ولله درّ أبي مسلم ، ما أدقّ فهمه وأشدّ استقلاله فيه».

٢٠٩

يلاحظ عليه : إنّ ما ذكره خلاف نصوص الآية ، فإن إبراهيم طلب من الله سبحانه أن يريه كيف يحيي الموتى أولا ، وأراد سبحانه ، بقرينة تخلل الفاء في قوله (فَخُذْ) ، إجراء ذلك بيد إبراهيم ثانيا ، ثم أمره سبحانه أن يجعل كل جزء منهن على جبل ، لا كل واحد منهن عليه ثالثا.

وهذه الوجوه تدعم صحة النظرية المعروفة في تفسير الآية. وأما تعدية (فَصُرْهُنَ) ب (إِلَيْكَ) ، فقد عرفت الكلام فيه ، وأنّه إن كان بمعنى الميل فالأمر بالتقطيع مقدّر ، وإن كان بمعنى القطع ، فالكلمة متضمنة لمعنى الميل.

على أنّه لو كان المراد ما اختاره من المعنى ، لما احتاج إلى هذا التفصيل ، بل يكفي في المقام إحالة إبراهيم إلى لاعبي الطيور ، الذين يربون الطيور ، حتى إذا استأنسوا بأصحابهن ، يفرقونهن للطيران ، ثم يدعونهن بالصفير والعلامات الخاصة ، فيأتين سعيا.

ولعمري ، إنّ هذا التفسير يحطّ من عظمة القرآن ، وجلالته ، ويفتح الباب للملحدين في تأويل ما دلّ عليه القرآن من معاجز وكرامات الأنبياء والرسل ، ولقد أعرب الكاتب عن باعثه في آخر كلامه بقوله : «وأمّا المتأخرون فهمّهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء ، من الخوارق الكونية ، وإن كان المقام ، مقام العلم والبيان والإخراج من الظلمات إلى النور ، وهو أكبر الآيات ، الخ» (١).

وهذا يعرب عن أن المعاجز بنظره ، تضاد العلم ولا تصلح للإخراج من الظلمات إلى النور ، مع أنه سبحانه أسماها بالبينات ، وقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ)(٢).

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٥٨.

(٢) سورة الإسراء : الآية ١٠١ ولقد خرجنا في تفسير الآية عمّا اتبعناه من الإيجاز إيعازا للباحث بما في المنار وأمثاله من الدعوات التي لا تتفق مع مبادي الإسلام ، وسيلاحظ نظيره في الآية التالية.

٢١٠

٢ ـ إحياء عزير

يحكي الذكر الحكيم أنّ رجلا صالحا مرّ على قرية خربة ، وقد سقطت سقوفها ، فتساءل في نفسه ، كيف يحيي الله أهلها بعد ما ماتوا؟ ، ولم يقل ذلك إنكارا ولا تعجّبا ولا ارتيابا ، ولكنه أحبّ أن يريه الله إحياءها مشاهدة ، مثل قول إبراهيم الذي تقدم ، فأماته الله مائة سنة ثم أحياه ، فسمع نداء من السماء : «كم لبثت؟» ، فقال : «لبثت يوما أو بعض يوم» ، لأنّ الله أماته في أول النهار ، وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار ، فقال : يوما ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : أو بعض يوم. فجاءه النداء بل لبثت مائة سنة ، فانظر إلى طعامك وشرابك لم تغيّره السنون ، وقيل كان زاده عصيرا ، وتينا ، وعنبا ، وهذه الثلاثة أسرع الأشياء تغيّرا وفسادا فوجد العصير حلوا ، والتين والعنب جنيان لم يتغيّرا ، ثم أمر بأن ينظر إلى حماره كيف تفرقت أجزاؤه وتبدّدت عظامه ، فجعل الله سبحانه إحياءه آية للناس وحجة في البعث. ثم جمع الله عظام حماره وكساها لحما وأحياه.

يقول سبحانه : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ، قالَ : أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها ، فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ، قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ، وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ، وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ، قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١).

والإمعان في قوله سبحانه : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) ، يفيد أنه أماته سبحانه ، ثم أحياه بعد تلك المدة.

كما أنّ الإمعان في قوله : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) ، سواء أريد منه عظام حماره أو غيره ، يفيد أنّه سبحانه كساها لحما ثم أحياه ، فكان هناك إحياء لميّتين.

وقد سلك صاحب المنار في تفسير الآية نفس المسلك السابق ، فحملها على

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٥٩.

٢١١

أنّ المراد من الإماتة هنا السّبات ، وهو النوم المستغرق الذي سماه الله سبحانه : وفاة ، واستعان في تقريبه بأنّه قد ثبت في هذا الزّمان أنّ من الناس من تحفظ حياته زمنا طويلا يكون فيه فاقد الحس والشعور ، فلبث الرجل الذي ضرب على سمعه مائة سنة ، غير محال في نظر العقل (١).

يلاحظ عليه : إنّ تفسير الموت بالسّبات يحتاج إلى دليل ، والظاهر منه هو الإماتة الحقيقية.

وقياس المقام بأصحاب الكهف ، قياس مع الفارق ، حيث إنه سبحانه يصرّح هناك بالسّبات ، ويقول : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (٢) ويقول : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) (٣) ، بخلاف المقام.

على أنه لا يتطرّق في العظام التي أنشزها ، ثم كساها لحما وأحياها. فلا مصير لمفسّر كلام الله من الإذعان بالغيب ، والقدرة المطلقة لله جلّ وعلا. ومحاولة تفسير المعاجز بما ثبت في العلوم ، نوع انسحاب في الصراع مع الماديين المنكرين لكلّ ما لا يتّفق مع أصول العلم الحديث.

٣ ـ إحياء قوم من بني إسرائيل

ذكر المفسرون أنّ قوما من بني إسرائيل فروا من الطاعون أو من الجهاد ، لما رأوا أنّ الموت كثر فيهم ، فأماتهم الله جميعا ، وأمات دوابهم. ثمّ أحياهم لمصالح مذكورة في الآية التالية ، قال سبحانه :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ، حَذَرَ الْمَوْتِ ، فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ، ثُمَّ أَحْياهُمْ ، إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٤).

__________________

(١) المنار ، ج ٣ ، ص ٥٠.

(٢) سورة الكهف : الآية ١١.

(٣) سورة الكهف : الآية ١٨.

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٤٣.

٢١٢

والرؤية في الآية بمعنى العلم ، أي : «ألم تعلم» ، وذكر المفسّرون حول فرارهم من الموت ، وكيفية إحيائهم ، أمورا ، يرجع إليها في محلّها (١).

والآية كما تثبت وقوع إحياء الموتى ، بعد إمكانه ، تثبت إمكان الرجعة إلى الدنيا ، على ما يتبنّاه الشيعة الإمامية ، كما هو الحال أيضا في إحياء عزير ، وسيوافيك الكلام فيها بعد الفراغ من المعاد.

ومما يثير العجب ما ذكره صاحب المنار حيث قال : «الآية مسوقة سوق المثل ، والمراد بهم قوم هجم عليهم أولو القوة والقدرة من أعدائهم لاستذلالهم واستخدامهم وبسط السلطة عليهم ، ، فلم يدافعوا عن استقلالهم ، وخرجوا من ديارهم وهم ألوف ، لهم كثرة وعزة ، حذر الموت ، فقال لهم الله : موتوا موت الخزي والجهل ، والخزي موت والعلم وإباء الضيم حياة ، فهؤلاء ماتوا بالخزي ، وتمكّن الأعداء منهم ، وبقوا أمواتا ثم أحياهم بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحق فيهم فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلوا في ذلك» (٢).

يلاحظ عليه : أولا : إن الظاهر أنّ الآية تبيّن قصة واحدة ، وهي فرار قوم من الموت ، فأماتهم الله ، ثم أحياهم ، لا بيان قصتين. بمعنى تشبيه من لم يدافعوا عن عزتهم ، وغلبوا ، وبقوا كذلك حتى نفث في روعهم روح النهضة ، فقاموا للدفاع ؛ بقوم فروا من الموت الحقيقي ، فأماتهم الله موتا حقيقيا ، ثم أحياهم ، ولو كانت الآية جارية مجرى المثل لوجب أن يكون هناك مشبّه ومشبّه به ، مع أنّ الآية لا تحتمل ذلك.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه عند ما يريد التمثيل بمضمون آية يأتي بلفظ «مثل» ، ويقول : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) (٣) ؛ و (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) (٤) ؛ و (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ

__________________

(١) لاحظ مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٣٤٦ ـ ٣٤٧. وغيره.

(٢) المنار ، ج ٣ ، ص ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٧.

(٤) سورة يونس : الآية ٢٤.

٢١٣

أَسْفاراً) (١).

وثانيا : لو كان المراد من الموت ، موت الخزي ، ومن الحياة ، روح النهضة ، للزم على الله سبحانه مدحهم وذكرهم بالخير ، مع أنّه يذمّهم في ذيل الآية ، فإن فيها : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٢).

ثم إنّ صاحب المنار استعان في ردّ نظرية الجمهور ، بقوله سبحانه (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٣) فلا حياة في هذه الدنيا إلا حياة واحدة (٤).

ولكن عزب عنه أنّ ما جاء في الآية يدل على سنّة الله تعالى في عموم الناس ، وهذا لا يخاف اقتضاء مصالح معيّنة ، أن يذوق البعض النادر منهم حياتين ، وقد وافاك الكلام في ذلك عند البحث في الحياة البرزخية.

٤ ـ إحياء قتيل بني إسرائيل

روى المفسرون أنّ رجلا من بني إسرائيل قتل قريبا له غنيا ، ليرثه وأخفى قتله له ، ورغب اليهود في معرفة قاتله ، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ، ويضربوا بعض القتيل ببعض البقرة ، ليحيا ويخبر عن قاتله ، وقد قاموا بذبح هذه البقرة بعد تساؤلات بينهم وبين موسى تكشف عن لجاجهم وعنادهم. ثم ضربوا بعض القتيل بها ، فقام حيّا وأوداجه تشخب دما ، وقال : «قتلني فلان ابن عمي» ، ثم قبض. يقول سبحانه :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً ، قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ * .... * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ، كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ

__________________

(١) سورة الجمعة : الآية ٥.

(٢) سورة النمل : الآية ٧٣.

(٣) سورة الدخان : الآية ٥٦.

(٤) المنار ، ج ٢ ، ص ٤٥٩.

٢١٤

الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١).

إنّه سبحانه وإن كان قادرا على إحيائه من دون ذبح البقرة ، ولكنه أمرهم بذلك لأنهم سألوا موسى أن يبيّن لهم حال القتيل وهم كانوا يعدّون القربان من أعظم القربات.

فأمرهم الله بتقديم هذه القربة تعليما منه لكلّ من اعتاص عليه أمر من الأمور ، أن يقدّم نوعا من القرب قبل أن يسأل الله تعالى كشف ذلك عنه ، ليكون أقرب إلى الإجابة ، وإنما أمرهم بضرب بعض القتيل ، ببعض البقرة ، بعد أن جعل اختيار وقت الإحياء إليهم ، ليعلموا أنّ الله سبحانه وتعالى قادر على إحياء الموتى في كل وقت من الأوقات ، ومعنى قوله: (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ، كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) ، إنهم ضربوه فأحيي ، مثل قوله سبحانه : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ ، فَانْفَلَقَ) ، أي فضربه فانفلق ، وقوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ) ، يراد منه تفهيم قوم موسى بأنّهم إذ عاينوا إحياء الميت ، فليعلموا أنّ الله قادر على إحياء الموتى للحساب والجزاء.

هذا ما ذهب إليه الجمهور في تفسير الآية ، وهو المتبادر منها ، وقد اتخذ صاحب المنار في تفسير الآية ، موقفه السلبي في باب المعاجز والكرامات ، فقال بعد ما ذكر نظرية جمهور المفسرين : «والظاهر مما قدمناه أنّ ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل ، إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ، ليعرف الجاني من غيره ، فمن غسل يده (٢) وفعل ما رسم لذلك في الشريعة ، برئ من الدم ، ومن لم يفعل ، تثبت عليه الجناية. ومعنى إحياء الموتى على هذا ، حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس ، أي يحييها بمثل هذه الأحكام. وهذا الإحياء على حد قوله تعالى :

__________________

(١) لاحظ سورة البقرة : الآيات ٦٧ ـ ٧٣.

(٢) لاحظ في كفية ذلك ، العهد القديم سفر التثنية : الأصحاح ٢١ ، ص ٢١١ ، ط دار الكتاب المقدس ، وحاصله أنّهم يغسلون أيديهم في دم عجلة ويقولون : أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر.

٢١٥

(وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (١) وقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(٢)» (٣).

يلاحظ عليه : أوّلا : إنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) ، فإنّ معناه : اضربوا بعض النّفس المقتولة ببعض جسم البقرة ، وأين هذا من غسل أيدي المتهمين في دم العجلة المقتولة ، فهل غسل الأيدي في دمها عبارة عن ضرب المقتول ببعض البقرة؟!

وثانيا : إنّه سبحانه يقول : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) ، فالقصة تتضمن آية من آيات الله ، ومعجزة من المعاجز ، فهل في غسل الأيدي بدم العجلة ودرء التهمة عن المتهم ، إراءة للآيات الإلهية.

وثالثا : إنّ تفسير الآية بالاستناد إلى الإسرائيليات والمسيحيات ، مسلك ضال في تفسير كتاب الله العزيز ، وليس اللجوء إليها إلا لأجل ما اتخذه صاحب المنار من موقف مسبق تجاه المعاجز وخوارق العادات ، وإصراره على إرجاع عالم الغيب إلى الشهادة.

٥ ـ إحياء سبعين رجلا من قوم موسى

ذكر المفسرون أنّ موسى عليه‌السلام اختار من قومه سبعين رجلا حين خرج من الميقات ليكلمه الله سبحانه بحضرتهم ، فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل لعدم وثوقهم بأنّ الله سبحانه يكلّمه ، فلما حضروا الميقات ، وسمعوا كلامه تعالى سألوا الرؤية ، فأصابتهم الصاعقة فماتوا ، ثم أحياهم الله تعالى (٤) ، يقول سبحانه :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ، فَأَخَذَتْكُمُ

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٣٢.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٧٩.

(٣) لاحظ المنار ج ١ ، ص ٣٤٥ ـ ٣٥٠.

(٤) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٤٨٤.

٢١٦

الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١).

ويقول سبحانه : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ، أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) (٢).

والمتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت ، والخطاب لليهود والمعاصرين للنبي باعتبار أسلافهم ، ولا يفهم أي عربي صميم من جملة : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) : سوى الإحياء بعد الإماتة.

وقد اتخذ صاحب المنار في تفسير الآية موقفه المعلوم من المعاجز ، فذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النّسل. أي إنّه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة ، وظنّ أن سينقرضون ، بارك الله في نسلهم ، ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها (٣).

يلاحظ عليه : أوّلا : إنّ الظاهر من قول موسى : (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) ، أنّه سبحانه أجاب دعوته ، وأحياهم حتى يدفع عنه عادية اعتراض القوم بأنّه ذهب بهم إلى الميعاد ، فأهلكهم. وهذا لا يتم إلا إذا كان المراد هو إحياؤهم حقيقة.

وثانيا : إنّ الرجفة لم تأخذ إلا سبعين رجلا من قومه ، فليس في إهلاكهم مظنة انقراض نسلهم.

وعلى كل تقدير فالباعث لصاحب المنار على تفسيره ، هو جنوحه إلى إنكار المغيبات ، وتطبيق ما ورد في الذكر الحكيم على العالم الحسّي التجريبي.

٦ ـ المسيح يحيي الموتى

إنّ الكتاب الحكيم يذكر في غير مورد ، إحياء المسيح للموتى. قال تعالى

__________________

(١) سورة البقرة : الآيتان ٥٥ و ٥٦.

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٥٥.

(٣) تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٣٢٢.

٢١٧

حاكيا عنه (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ، وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) (١).

وقال تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ... وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) (٢).

وقد تضافر في التاريخ والإنجيل والحديث ، قيام المسيح بإحياء الموتى مرات عديدة ، بحيث صار المسيح علما وسمة لإحياء الموتى ، وعلاج الأمراض المستعصية.

٧ ـ إيقاظ أصحاب الكهف

روى المفسرون أنّ فتية من قوم آمنوا بالله تعالى وكانوا يخفون إيمانهم خوفا من ملكهم ، الذي كان يعبد الأصنام ويدعو إليها ، ويقتل من خالفه ، والفتية كانوا على دين المسيح ، وكان كل واحد منهم يكتم إيمانه عن صاحبه. ثم اتفق أنّهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم لبعضهم ، ولجئوا إلى كهف ، فضرب سبحانه على آذانهم ، فناموا في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين ، ثم بعثهم. يقول سبحانه :

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ، فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً* فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً* ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (٣).

والمراد من الضرب على الآذان هو إنامتهم ، لا سلب حياتهم ، كما يقول سبحانه : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) (٤).

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٤٩.

(٢) سورة المائدة : الآية ١١٠.

(٣) سورة الكهف : الآيات ١٠ ـ ١٢.

(٤) سورة الكهف : الآية ١٨.

٢١٨

فإنامة الله سبحانه هؤلاء الفتية هذه المدّة المديدة ، ثم إيقاظهم ، لا يقصر عن الإماتة والإحياء ، والقادر عليه قادر على إحياء الموتى.

* * *

هذه النماذج المحسوسة من إحياء الموتى ، إذا انضمت إلى البراهين الناصعة الدالة على إمكان إحياء الموتى ، من طريق سعة قدرته سبحانه ، توجب القطع بإمكان المعاد ، وجمع العباد بعد موتهم ، للحساب والجزاء.

* * *

٢١٩

مباحث المعاد

(٦) الموت نافذة إلى حياة جديدة

الموت آخر مرحلة من مراحل الحياة الدنيوية ، وأوّل مرحلة من الحياة الأخروية. ولأجل التعرف على ما ورد حوله من الآيات ، نبحث عن الأمور التالية :

١ ـ الموت في اللغة والقرآن.

٢ ـ هل الموت أمر عدمي أو وجودي؟

٣ ـ الموت سنّة من سنن الله العامة.

٤ ـ لما ذا يستوحش الإنسان من الموت؟

٥ ـ الموت وأقسامه في القرآن.

٦ ـ الموت والأجل المسمى.

٧ ـ الإنابة حال الموت.

٨ ـ الوصية عند الموت.

٩ ـ جهل الناس بأوان موتهم.

١٠ ـ الموت والملائكة الموكّلون بقبض الأرواح.

وفيما يلي نبحث عن كل واحد منها.

* * *

٢٢٠