الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

التي كانت تدفع المشركين إلى إنكار المعاد ، ثم التعلل له بحجج واهية ، وإليك بيانها.

الباعث الأول ـ التحلل من القيود والحدود

إنّ الإيمان بالمبدإ ، والمعاد ، لا يتلخص في الإقرار اللساني ، بل المؤمن يحمل مسئولية خاصة أمام الله سبحانه في الحياة الدنيوية ، ولازم هذه المسئولية ، الالتزام بحدود وقيود ، تصدّه عن التحلل والإفراط في الملاذ والشهوات والانهماك في إشباع الغرائز الحيوانية. وقد كان الالتذاذ واتّباع الهوى ، غاية المنى لأكثر المنكرين ، وكان يسود عليهم سيادة الإله على خلقه ، قال سبحانه : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (١).

ولما كان الاعتقاد بالمعاد ، مناف لهذا المبدأ الحيواني ، أنكروه بحجج واهية يأتي الإشارة إليها ، ويشير الذكر الحكيم إلى هذا الباعث ، بقوله :

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ* بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ* يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) (٢).

فالآية الأولى تذكر معتقدهم وإنكارهم ، والآية الثانية تذكر باعث إنكارهم ، وأنّه ليس هو ما يتظاهرون به من عدم إمكان جمع العظام ، وإنّما هو رغبتهم في أن يرفعوا كل عائق يحدّ من انغماسهم في الملذات ، وكل رادع يصدّهم عن إرضاء الغرائز البهيميّة. وقوله : (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ، بمعنى ليشقّ أمامه ، ولا يرتدع بشيء من القوانين والتشريعات.

الباعث الثاني ـ صيانة السلطة

إنّ السّنة السائدة عند أصحاب السلطة هي استعباد غيرهم واضطهاد حقوقهم ، كما أنّ السّنّة السائدة على المترفين في الحياة الدنيا ، هي الانهماك في

__________________

(١) سورة الفرقان : الآية ٤٣.

(٢) سورة القيامة : الآيات ٣ ـ ٦.

١٨١

اللذائذ ، وكلاهما لا يتّفقان مع الاعتقاد بالمعاد ويوم الحساب ، يقول سبحانه :

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ ، وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ... هَيْهاتَ ، هَيْهاتَ ، لِما تُوعَدُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ، نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (١).

فالآية الأولى تشير إلى باعثين من بواعث الإنكار ، بينهما صلة قوية ، ولذلك أدمجناهما وجعلناهما باعثا واحدا ، أحدهما باعث نفسي هو الإتراف والتّمتّع بأسباب الشهوات ، والآخر باعث سياسي ، هو ما كان للمنكرين من علية القوم وأشرافهم من تسلّط على أقوامهم فانكروا المعاد لئلا تتزعزع عروش سلطتهم بانتشار هذه العقيدة بين أتباعهم ومرءوسيهم ، فكانوا يدعون الناس إلى إنكار المعاد ويقولون : (هَيْهاتَ ، هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ).

الباعث الثالث ـ التكذيب بالحق

إنّ هناك آيات تعرب عن أنّ المنكرين ، من أول يوم واجهوا فيه دعوة الرسل ، أنكروها ولم يعتنقوها ، فجرّهم ذلك إلى إنكار المعارف كلّها وبالأخص المعاد ، وحشر الإنسان في النشأة الأخرى.

نعم ، لا ينفك عنادهم أمام الأنبياء عن علّة نفسية أو اجتماعية أو سياسية ، جرّتهم إلى اتّخاذ ذلك الموقف السلبي في بدء الدعوة في كلّ ما يقوله الأنبياء ويدعون إليه ، وإن كان بعضه موافقا لطبعهم وشعورهم والذكر الحكيم يشير إلى هذا الباعث بقوله حاكيا عنهم :

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً؟! ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ* قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ* بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٢).

__________________

(١) سورة المؤمنون : الآيات ٣٣ و ٣٦ و ٣٧.

(٢) سورة ق : الآيات ٣ ـ ٥.

١٨٢

فيذكر في الآيتين الأوليين شبهتهم ـ التي سيأتي بيانها ـ إلّا أنّه سرعان ما بيّن في الآية الثالثة أنّ هذه الشبهة واجهة وغطاء لها ، وأنّ الباعث الواقعي هو تكذيبهم بالحق من أول الأمر ، ولأجل ذلك هم في أمر مريج مضطرب.

* * *

هذه هي البواعث التي كانت تدفع إلى إنكار المعاد ، ونحت الأعذار والشبهات في هذا المجال. وإليك فيما يلي بيان شبهاتهم أوّلا ، وأجوبتها ثانيا ..

* * *

شبهات المنكرين للمعاد

الشبهات التي ينقلها الذكر الحكيم عنهم تبلغ عشر شبهات ، غير أنّ كثيرا منها ضئيل ، ليس له دليل سوى البواعث التي قدّمناها ، ومع ذلك لم يتركها القرآن بلا جواب ، إمّا مقارن لذكرها أو في مواضع أخرى ، وفيما يلي نذكر رءوس الشبهات الواهية ، ثم نتبعها بذكر الشبهات القابلة للبحث ، فنطرحها ونناقشها.

١ ـ لا دليل على المعاد

يقول سبحانه : (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (١).

وقائل الشبهة يتظاهر بأنّه لا دليل على النّشأة الأخرى وإحياء الموتى فيها ، ولو كان لاتّبعه. ولم يتركه القرآن بلا جواب ، فقد أقام براهين دامغة على إمكانه وضرورته كما سيوافيك.

ولأجل كون المعاد مقرونا بالبراهين ، يتعجّب القرآن من إنكارهم ويقول : (وَإِنْ تَعْجَبْ ، فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٢).

__________________

(١) سورة الجاثية : الآية ٣٢.

(٢) سورة الرعد : الآية ٥.

١٨٣

٢ ـ المعاد من أساطير الأولين

يقول سبحانه : (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ ، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١).

وبما أنّ الشرائع السماوية ، متّحدة في الأصول ، وإنّما اختلافها في الشرع والمنهاج (٢) ، كانت الدعوة إلى المعاد موجودة في الشرائع السالفة ، فحسبها المشركون أسطورة من أساطير الأوّلين.

مع أنّ الدعوة إلى عقيدة قديمة لا يكون دليلا على بطلانها ، كما أنّ استحداث عقيدة لا يكون دليلا على صحتها ، وإنّما الضابط هو الدليل.

٣ ـ المعاد افتراء على الله أو جنون من القول

يقول سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) (٣).

والمنكرون لأجل التظاهر بالحرية في القضاء ، وابتعادهم عن العصبية ، فسّروا الدعوة إلى المعاد بأنّ الداعي إمّا رجل غير صالح ، افترى على الله كذبا ، أو أنّه معذور في هذا القول وقاصر ، لأنّ به جنة ، وهذا نوع من الخداع ، إذ كيف صار «أمينهم» مفتريا على الله الكذب ، ومتى كان الإنسان العاقل الذي أثبت الزمان عقله وذكاءه ودرايته وأمانته حتى قمع أصول الشرك عن أديم الجزيرة ، متى كان مجنونا؟.

٤ ـ إعادة الأموات سحر

يقول سبحانه : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) سورة المؤمنون : الآيتان ٨٢ و ٨٣.

(٢) إشارة إلى قوله سبحانه : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (سورة المائدة : الآية ٤٨).

(٣) سورة سبأ : الآيتان ٧ و ٨.

١٨٤

كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١).

فقد بلغ عنادهم في إنكار الحقيقة مبلغا لو قام النبي معه بإحياء الموتى أمامهم ، ورأوه بأمّ أعينهم ، لقالوا إنّه سحر مبين ، وإنّك سحرت أعيننا ، ولا حقيقة لما فعلت.

٥ ـ إذا كان المعاد حقّا فأحيوا آباءنا

يقول سبحانه : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

غير أنّ طلبهم إحياء آبائهم لم يكن إلّا تعلّلا أمام دعوة النبي ، فلو قام النبي بهذا العمل ، لطلبت كل قبيلة ، بل كلّ إنسان نفس ذلك العمل من النبي ، حتى يؤمن به ، فتنقلب الدعوة لعبة في أيديهم. ولأجل ذلك يضرب القرآن عن الجواب صفحا ، ويكتفي بقوله : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣).

٦ ـ حشر الإنسان عسير

إنّ هذا الاعتراض وإن لم ينقل عنهم صريحا ولكن يعلم من الآيات الواردة حول المعاد ، أنّه كان أحد شبهاتهم.

يقول سبحانه في أمر المعاد : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٤) ويقول : (ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٥) ويقول : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ

__________________

(١) سورة هود : الآية ٧.

(٢) سورة الجاثية : الآية ٢٥.

(٣) سورة الجاثية : الآية ٢٦.

(٤) سورة ق : الآية ٤٤.

(٥) سورة التغابن : الآية ٧.

١٨٥

أَقْرَبُ) (١) ويقول : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٢).

وهذه الشبهة صورة خفيفة للشبهة السابعة الآتية التي سيوافيك الجواب عنها تفصيلا. والإجابة عن تلك يغني عن الإجابة عن هذه. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «وما الجليل واللّطيف ، والثّقيل والخفيف ، والقويّ والضّعيف في خلقه إلّا سواء» (٣).

هذه هي شبهاتهم الضئيلة الواهية التي لا يخفى بطلانها وكانت لهم معها شبهات أخرى أجدر بالبحث والتحليل ، وهي أربع ، نذكرها أوّلا ثم نجيب عنها بالتفصيل.

٧ ـ إحياء الموتى خارج عن إطار القدرة

يظهر من الذكر الحكيم أنّهم كانوا يعتمدون على هذه الشبهة ، ويحكيها سبحانه بقوله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٤).

٨ ـ التعرف على الأجزاء الرميمة غير ممكن

إنّ عادة الموتى بأعيانهم يتوقف على التعرف على أجزاء أبدانهم الرميمة المبعثرة ، على أديم الأرض وفي جوفها. وفي أعماق البحار ، ليعاد جزء كل إنسان إلى بدنه ، وهذا أمر محال.

وهذه الشبهة وإن لم يصرّح بها القرآن ، ولكن يستنبط من إجابة القرآن عليها أنّهم كانوا يعتمدون عليها.

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٧٧.

(٢) سورة الروم : الآية ٢٧.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٠.

(٤) سورة يس : الآية ٧٨.

١٨٦

يقول سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ، عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١).

فإنّ قوله : (عالِمِ الْغَيْبِ ، لا يَعْزُبُ عَنْهُ ...) يكشف عن أنّ شبهتهم في إمكان المعاد ، هي عدم إمكان التعرّف على أجزاء الموتى المبعثرة.

٩ ـ الموت بطلان للشخصية

وممّا كانوا يعتمدون عليه في إنكارهم للمعاد ، هو أنّ الموت وصيرورة الإنسان عظاما ثم ترابا ، يلازم بطلان شخصيته وانعدامها ، والمعدم لا يعاد.

ولعلّه إلى تلك الشبهة يشير قوله سبحانه : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٢) ويحتمل كونه إشارة إلى الشبهة التالية.

١٠ ـ فقدان الصلة بين المبتدأ والمعاد

إذا كان الموت وصيرورة الإنسان ترابا ، إعداما للشخصية ، فالشخصية المحياة في النشأة الأخرى ، لا تمت إلى الأولى بصلة ، فكيف تكون إحياء لها؟ فإنّ المقصود من المعاد ، إحياء الناس لإثابتهم أو معاقبتهم ، وهو فرع وحدة المعاد والمبتدأ ، واتّحادهما ، وهو منتف ، ولعلّ الآية السابقة ، تشير إلى هذه الشبهة.

هذه هي شبهاتهم التي تستحق البحث ، وإليك فيما يلي مناقشتها :

الإجابة التفصيلية عن شبهاتهم

الاعتقاد بالمعاد اعتقاد بالغيب وإيمان به ، وهو فرع معرفة الله سبحانه ، ومعرفة أسمائه وصفاته ، وأفعاله ، ولو لا تلك المعرفة ، لما حصل الإيمان بشيء من

__________________

(١) سورة سبأ : الآية ٣.

(٢) سورة السجدة : الآية ١٠.

١٨٧

الأمور الغيبية ، فالاعتقاد بمعاجز الأنبياء ، وكراماتهم التي يحكيها لنا القرآن الكريم ، قائم على معرفة الله سبحانه. ومعرفة شئونه تبارك وتعالى. وعلى هذا الأساس يبتني الجواب عن الشبهتين الأوليين :

جواب الشبهة الأولى ـ القدرة المطلقة وإحياء الموتى

إنّ تخيل استحالة المعاد ، الناشئ من توهّم أنّ إحياء الموتى خارج عن إطار القدرة ، جهل بالله سبحانه ، وجهل بصفاته القدسية ، فإنّ قدرته عامة تتعلق بكل أمر ممكن بالذات ، ومن هنا نجد القرآن الكريم يندد بقصور المشركين وجهلهم في مجال المعرفة ، ويقو : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (١). ومعنى عدم التقدير هنا ، عدم تعرفهم على الله سبحانه حقّ التعرف ، ولذلك يعقبه بقوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) ، معربا عن أنّ إنكار المعاد ينشأ من هذا الباب.

وفي آيات أخرى تصريحات بعموم قدرته ، كقوله : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).

وقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣).

والآيات الواردة في هذا المجال كثيرة (٤).

ثم إنّ القرآن يسلك طريقا ثانيا في تقرير إمكان المعاد ، وذلك عبر الآتيان بأمور محسوسة أقرب إلى الإذعان والإيمان :

__________________

(١) سورة الزمر : الآية ٦٧.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٤٨.

(٣) سورة هود : الآية ٤.

(٤) لاحظ النحل : الآية ٧٧ ، العنكبوت : الآية ٢٠ ، الروم : الآية ٥٠ ، فصلت : الآية ٣٩ ، الشورى : الآية ٩ و ٢٩ ، الأحقاف : الآية ٢٣ ، الحديد : الآية ٢.

١٨٨

أ ـ القادر على خلق السموات ، قادر على إحياء الموتى

يقول سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (١).

وكيفية الاستدلال بها واضحة ، فإنّ القادر على إبداع هذا النظم البديع ، أقدر على إحياء الإنسان.

ب ـ القادر على المبتدأ قادر على المعاد

إنّ من الضوابط العقلية المحكمة أنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، وأنّ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد ، فلو كانت الإعادة أمرا محالا ، لكان ابتداء الخلقة مثله ، لأنّهما يشتركان في كونهما إيجادا للإنسان ، وعلى ذلك قوله سبحانه : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ... فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا ، قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢).

وقوله سبحانه : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٣).

ج ـ القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الإنسان بعد موته

ويري الذكر الحكيم في آياته إعادة الحياة إلى التراب بشكل ملموس ، وذلك بصورتين:

أولاهما : أنّه إذا امتنع عود الحياة إلى التراب ، فكيف صار التراب إنسانا في

__________________

(١) سورة الأحقاف : الآية ٣٣. ومثلها يس : الآية ٨١.

(٢) سورة الإسراء : الآيات ٤٩ ـ ٥١.

(٣) سورة القيامة : الآيات ٣٦ ـ ٤٠ ، وقد ورد في هذا المجال آيات أخر ، فلاحظ يس : الآية ٧٩ ، سورة الطارق : الآيات ٥ ـ ٨.

١٨٩

بدء الخلقة ، وفي ذلك يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) (١).

ويقول : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٢).

وثانيتهما : إنّ الأرض الميتة تحيا كلّ سنة بنزول الماء عليها فتهتز وتربو بعد جفافها ، وتنبت من كل زوج بهيج ، يقول سبحانه : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا ، عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ ، وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٣).

ويقول سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٤).

فليس إحياء الإنسان من التراب إلّا كإحياء التراب الميت ، باخضرار نباته ، وازهرار أشجاره.

وبهذه النماذج المحسوسة يثبت القرآن عموم قدرته تعالى ، مضافا إلى البراهين العقلية على عموم قدرته تعالى شأنه.

جواب الشبهة الثانية ـ العلم المطلق والتعرف على الأجزاء المندثرة

إنّ هذه الشبهة وسابقتها ، لهما منشأ واحد هو عدم التعرف على الله سبحانه : صفاته وأفعاله ، وهنا يقولون إنّ الأجزاء المتلاشية المبعثرة في أكناف

__________________

(١) سورة الحج : الآية ٥.

(٢) سورة طه : الآية ٥٥.

(٣) سورة الحج : الآيات ٥ ـ ٧.

(٤) سورة الأعراف : الآية ٥٧. ولاحظ الزخرف : الآية ١١ ، الروم : الآية ١٩ ، سورة فاطر : الآية ٩ ، سورة ق : الآيات ٩ ـ ١١.

١٩٠

الأرض لا يمكن التعرف عليها ليعاد جمع أجزاء كل إنسان.

والجواب عنه واضح بعد التعرف على علمه الوسيع ، سبحانه ، وأنّ الممكنات بعامة أجزائها حاضرة لديه غير غائبة عنه.

يقول سبحانه : بعد نقل شبهتهم (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ).

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (١). فالتركيز في الجواب على علمه سبحانه بما تنقص الأرض منهم ، وأنّ عنده كتابا حفيظا لكلّ شيء ، يعرب عن أنّ شبهتهم كانت ترجع إلى عدم إمكان التعرف على الأجزاء البالية ، حتى يعاد جمعها.

ونظير ذلك قوله سبحانه : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٢). فالتركيز على كونه سميعا وبصيرا يعرب عن أنّ المقصود من صدر الآية هو نقل شبهتهم الراجعة إلى علمه سبحانه.

جواب الشبهة الثالثة ـ الموت ليس إبطالا للشخصية

إنّ القائل بأنّ الموت إبطال للشخصية ، حسب أنّ الإنسان موجود مادي محض ، وليس هو إلّا مجموعة خلايا وعروق وأعصاب وعظام وجلود ، تعمل بانتظام ، فإذا مات الإنسان صار ترابا ، ولا يبقى من شخصيته شيء ، فكيف يمكن أن يكون المعاد نفس الأول؟ ولعلّه إلى ذلك يشير قولهم : «أءذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد؟». بأن يكون المراد من الضلال في الأرض بطلان الهوية بطلانا كاملا لا يمكن أن تتسم معه بالإعادة ، ويجيب القرآن عن هذه الشبهة بجوابين :

أوّلهما ، قوله : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) (٣).

__________________

(١) سورة ق : الآية ٤.

(٢) سورة لقمان : الآية ٢٨.

(٣) سورة السجدة : الآية ١٠.

١٩١

وثانيهما ، قوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(١).

والجواب الأول راجع إلى بيان باعث الإنكار ، وهو أنّ السبب الواقعي لإنكار المعاد ، ليس ما يتقوّلونه بألسنتهم من الضلالة في الأرض ، وإنّما هو ناشئ من تبنّيهم موقفا سلبيا في مجال لقاء الله ، فصار ذلك مبدأ لطرح هذه الشبهات.

والجواب الثاني جواب عقلي عن هذا السؤال ، وتعلم حقيقته بالإمعان في معنى لفظ التوفي ، فهو وإن كان يفسّر بالموت ، ولكنّه تفسير باللازم ، والمعنى الحقيقي له هو الأخذ تماما ، وقد نصّ على ذلك أئمة أهل اللغة ، قال ابن منظور في اللسان : «توفّي فلان وتوفاه الله ، إذا قبض نفسه ، وتوفّيت المال منه ، واستوفيته ، إذا أخذته كلّه. وتوفيت عدد القوم ، إذا عددتهم كلهم. وأنشد أبو عبيدة :

إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد

ولا توفّاهم قريش في العدد

أي لا تجعلهم قريش تمام عددهم ولا تستوفي بهم عددهم» (٢).

وآيات القرآن الكريم بنفسها كافية في ذلك ، يقول سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (٣). فإنّ لفظة «التي» ، معطوفة على الأنفس ، وتقدير الآية : يتوفى التي لم تمت في منامها. ولو كان التوفي بمعنى الإماتة ، لما استقام معنى الآية ، إذ يكون معناها حينئذ : الله يميت التي لم تمت في منامها. وهل هذا إلّا تناقض؟ فلا مناص من تفسير التوفّي بالأخذ ، وله مصاديق تنطبق على الموت تارة ، كما في الفقرة الأولى ، وعلى الإنامة أخرى ، كما في الفقرة الثانية.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى قوله سبحانه : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) ، فمعناه : يأخذكم ملك الموت الذي وكلّ بكم ثم إنّكم إلى الله ترجعون. وهذا

__________________

(١) سورة السجدة : الآية ١١.

(٢) لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ٤٠٠ ، مادة «وفى».

(٣) سورة الزمر : الآية ٤٢.

١٩٢

مآله إلى أنّ شخصيتكم الحقيقية لا تضل أبدا في الأرض ، وما يرجع إليها يأخذه ويقبضه ملك الموت ، وهو عندنا محفوظ لا يتغير ولا يتبدّل ولا يضلّ ، وأمّا الضال ، فهو البدن الذي هو بمنزلة اللباس لهذه الشخصية.

فينتج أنّ الضال لا يشكل شخصية الإنسان ، وما يشكّلها ويقوّمها فهو محفوظ عند الله ، الذي لا يضلّ عنده شيء.

والآية تعرب عن بقاء الروح بعد الموت وتجرّدها عن المادة وآثارها ، وهذا الجواب هو الأساس لدفع أكثر الشبهات التي تطرأ على المعاد الجسماني العنصري.

وبما أنّ تجرد النفس ، ممّا شغل بال المنكرين ، واهتمّ به القرآن الكريم ، عناية كاملة ، فسنبحث عنه بعد الإجابة عن الشبهة الرابعة.

جواب الشبهة الرابعة ـ شخصية المعاد نفس شخصية المبتدأ

عرفت أنّهم قالوا : إذا كانت الغاية من المعاد ، تحقيق العدل الإلهي ، وإثابة المطيع ، وعقاب العاصي ، فيجب أن يكون المعاد نفس المبتدأ حتى لا يؤخذ البريء بجرم المتعدي ، وهو يتوقف على وجود الصلة بين الشخصيتين ، وليس هناك صلة بينهما.

وهذه الشبهة ناشئة من نفس ما نشأت الشبهة السابقة منه ، وهو تخيّل أنّ شخصية الإنسان منحصرة في الإطار المادي ، لا غير. ولعلّ قولهم : «أءذا ضللنا في الأرض» ، يشير إلى هذه الشبهة.

والجواب نفس الجواب السابق ، وهو أنّ ما يرجع إلى حقيقة الإنسان محفوظ عند الله سبحانه ، وهو الصّلة الوثيقة بين المبتدأ والمعاد ، وهو الذي يجعل البدن الثاني ، إعادة للشخص الأول ، لأنّ شخصيته هي روحه ونفسه وهي محفوظة في كلتا الحالتين ، وإنّما البدن أداة ولباس لها ، وليس هذا بمعنى أنّ الروح تعاد ولا يعاد البدن ، ولا أنّه لا يعاد نفس البدن الأول ، بل بمعنى أنّ المناط للشخصية الإنسانية ، هو روحه ونفسه ، والبدن غير مهتم به ، والغرض من حشره ببدنه ، عدم إمكان تعذيب الروح أو تنعيمها إلّا عن طريق البدن ، فإذا كانت الشخصية

١٩٣

محفوظة ، فلا تنقطع الصلة بين المبتدأ والمعاد ، خصوصا أنّ أجزاء البدن المبعثرة ، معلومة لله سبحانه. فهو يركّب تلك الأجزاء المبعثرة ، وتتعلق بها الروح ، قال سبحانه : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ، وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (١). وقال سبحانه : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٢). فالتعبير ب (خَلْقٍ عَلِيمٌ) مكان «خلق قدير» ، إشارة إلى علمه تعالى بأجزاء بدن كل إنسان.

إلى هنا فرغنا من الإجابة عن الشبهات المطروحة حول المعاد التي ذكرها القرآن ، وبما أنّ الإجابة عن الشبهتين الأخيرتين مبني على تجرّد الروح وبقائها بعد الموت ، نفرده بالبحث ونثبت هذا التجرّد عقلا ونقلا ، وهو من مهام البحوث في المعاد.

* * *

__________________

(١) سورة ق : الآية ٤.

(٢) سورة يس : الآية ٧٩.

١٩٤

مباحث المعاد

(٤) تجرد الروح الإنسانية

لقد شغل أمر تجرد الروح بال المفكرين ، واستدلوا عليه بوجوه عقلية عدة ، كما اهتمّ القرآن الكريم ببيانه في لفيف من آياته ، وفيما يلي نسلك في البحث عن تجرّد الروح هذين الطريقين : العقلي والنقلي.

١ ـ البراهين العقلية على تجرد الروح

تدلّ براهين كثيرة على أنّ النفس مجرّدة غير مشوبة بالمادة وآثارها. وتجرّدها يعتبر من النوافذ إلى عالم الغيب ونكتفي فيما يلي بإيراد أبرز هذه البراهين وأوضحها ، وإلّا فهي كثيرة تتجاوز العشرة.

البرهان الأول ـ ثبات الشخصية الإنسانية في دوامة التغيّرات الجسدية

وهذا البرهان يتألّف من مقدمتين :

الأولى أنّ هناك موجودا تنسب إليه جميع الأفعال الصادرة عن الإنسان ، ذهنية كانت أو بدنية.

ولهذا الموجود حقيقة ، وواقعية يشار إليها بكلمة «أنا».

الثانية أنّ هذه الحقيقة التي تعدّ مصدرا لأفعال الإنسان ، ثابتة وباقية

١٩٥

ومستمرة في مهبّ التغيرات ، وهذا آية التجرّد.

أمّا المقدمة الأولى ، فلا تحتاج إلى بحث كثير ، لأنّ كل واحد ينسب أعضاءه إلى نفسه ويقول يدي ، رجلي ، عيني ، أذني ، قلبي ، ... كما ينسب أفعاله إليها ، ويقول قرأت ، كتبت ، أردت ، أحببت ، وهذا مما يتساوى فيه الإلهي والمادي ولا ينكره أحد ، وهو بقوله «أنا» و «نفسي» ، يحكي عن حقيقة من الحقائق الكونية ، غير أنّ اشتغاله بالأعمال الجسمية ، يصرفه عن التعمّق في أمر هذا المصدر والمبدأ ، وربما يتخيل أنّه هو البدن ، ولكنه سرعان ما يرجع عنه إذا أمعن قليلا حتى أنّه ينسب مجموع بدنه إلى تلك النفس المعبّر عنها ب «أنا».

وأمّا المقدمة الثانية ، فكل واحد منا يحسّ بأنّ نفسه باقية ثابتة في دوامة التغيرات والتحوّلات التي تطرأ على جسمه ، فمع أنّه يتصف تارة بالطفولة ، وأخرى بالصبا ، وثالثة بالشباب ، وأخيرا بالكهولة ، فمع ذلك يبقى هناك شيء واحد تسند إليه جميع هذا الحالات ، فيقول : أنا الذي كنت طفلا ثم صرت صبيا ، فشابا ، فكهلا ، وكل إنسان يحسّ بأنّ في ذاته حقيقة باقية وثابتة رغم تغير الأحوال وتصرم الأزمنة ، فلو كانت تلك الحقيقة التي يحمل عليها تلك الصفات أمرا ماديا ، مشمولا لسنّة التغيّر والتبدّل ، لم يصحّ حمل تلك الصفات على شيء واحد ، حتى يقول : أنا الذي كتبت هذا الخط يوم كنت صبيا أو شابا ، فلو لا وجود شيء ثابت ومستمر إلى زمان النطق ، للزم كذب القضية ، وعدم صحتها ، لأنّ الشخصية التي كانت في أيام الصبا ، قد زالت ـ على هذا الفرض ـ وحدثت بعدها شخصية أخرى.

لقد أثبت العلم أنّ التغيّر والتحوّل من الآثار اللازمة للموجودات المادية ، فلا تنفك الخلايا التي يتكون منها الجسم البشري ، عن التغير والتبدّل ، فهي كالنهر الجاري تخضع لعملية تغيير مستمر ، ولا يمضي على الجسم زمن إلّا وقد احتلّت الخلايا الجديدة مكان القديمة. وقد حسب العلماء معدل هذا التجدد ، فظهر لهم أنّ التبدّل يحدث بصورة شاملة في البدن ، مرة كل عشر سنين.

وعلى هذا ، فعملية فناء الجسم المادي الظاهري مستمرة ، ولكن

١٩٦

الإنسان ، في الداخل (أنا) ، لا يتغير. ولو كانت حقيقة الإنسان هي نفس هذه الخلايا لوجب أن يكون الإحساس بحضور «أنا» في جميع الحالات أمرا باطلا ، وإحساسا خاطئا.

وحاصل هذا البرهان عبارة عن كلمتين : وحدة الموضوع لجميع المحمولات ، وثباته في دوامة التحولات. وهذا على جانب النقيض من كونه ماديا.

البرهان الثاني ـ علم الإنسان بنفسه مع الغفلة عن بدنه (١)

إنّ الإنسان قد يغفل في ظروف خاصة عن كل شيء ، عن بدنه وأعضائه ، ولكن لا يغفل أبدا عن نفسه ، سليما كان أم سقيما وإذا أردت أن تجرب ذلك ، فاستمع إلى البيان التالي :

افرض نفسك في حديقة زاهرة غناء ، وأنت مستلق لا تبصر أطرافك ولا تتنبّه إلى شيء ، ولا تتلامس أعضاؤك ، لئلا تحسّ بها ، بل تكون منفرجة ، ومرتخية في هواء طلق ، لا تحسّ فيه بكيفية غريبة من حرّ أو برد أو ما شابه ، ممّا هو خارج عن بدنك. فإنّك في مثل هذه الحالة تغفل عن كل شيء حتى عن أعضائك الظاهرة ، وقواك الداخلية ، فضلا عن الأشياء التي حولك ، إلّا عن ذاتك ، فلو كانت الروح نفس بدنك وأعضائك وجوارحك وجوانحك ، للزم أن تغفل عن نفسك إذا غفلت عنها ، والتجربة أثبتت خلافه.

وبكلمة مختصرة : «المغفول عنه ، غير اللامغفول عنه». وبهذا يكون إدراك الإنسان نفسه من أول الإدراكات وأوضحها.

البرهان الثالث ـ عدم الانقسام آية التجرّد

الانقسام والتجزؤ من آثار المادة ، غير المنفكة عنها ، فكل موجود مادي

__________________

(١) هذا البرهان ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات ج ٢ ص ٩٢. والشفاء قسم الطبيعيات في موردين ص ٢٨٢ و ٤٦٤.

١٩٧

خاضع لهما بالقوة ، وإذا عجز الإنسان عن تقسيم ذلك الموجود ، فلأجل فقدانه أدواته اللازمة. ولأجل ذلك ذكر الفلاسفة في محلّه ، بطلان الجزء الذي لا يتجزأ. وما يسميه علم الفيزياء ، جزء لا يتجزأ ، فإنّما هو غير متجزّئ بالحسّ ، لعدم الأدوات اللازمة ، وأمّا عقلا فهو منقسم مهما تناهى الانقسام ، لأنّه إذا لم يمكن الانقسام ، وعجز الوهم عن استحضار ما يريد أن يقسّمه ـ حتى بالمكبرات ـ بسبب صغره ، يفرض العقل فيه شيئا غير شيء ، فيحكم بأنّ كل جزء منه يتجزأ إلى غير النهاية ، ومعنى عدم الوقوف أنّه لا ينتهي انقسامه إلى حدّ إلّا ويتجاوز عنه (١).

ومن جانب آخر ، كلّ واحد منّا إذا رجع إلى ما يشاهده في صميم ذاته ، ويعبّر عنه ب «أنا» ، وجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام والتجزّي ، فارتفاع أحكام المادة ، دليل على أنّه ليس بمادي.

إنّ عدم الانقسام لا يختص بما يجده الإنسان في صميم ذاته ويعبّر عنه ب «أنا» ، بل هو سائد على وجدانياته أيضا من حبّ ، وبغض ، وإرادة ، وكراهة ، وتصديق ، وإذعان. وهذه الحالات النفسانية ، تظهر فينا في ظروف خاصة ، ولا يتطرق إليها الانقسام الذي هو من أظهر خواص المادة.

اعطف نظرك إلى حبك لولدك ، وبغضك لعدوك ، فهل تجد فيهما تركّبا؟ وهل ينقسمان إلى جزء فجزء؟ كلا ، لا.

فإذا كانت الذات والوجدانيات غير قابلة للانقسام ، فلا تكون منتسبة إلى المادة التي يعدّ الانقسام من أظهر خواصّها.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الروح وآثارها ، والنفس والنفسانيات ، كلّها موجودات واقعية خارجة عن إطار المادة ، ومن المضحك قول المادي إنّ التفحص ، والتفتيش العلمي في المختبرات لم يصل إلى موجود غير مادي ، حتى نذعن بوجوده ، فقد عزب عنه أنّ القضاء عن طريق المختبرات يختصّ بالأمور المادية ، وأمّا ما يكون

__________________

(١) لاحظ شرح المنظومة ، للحكيم السبزواري ، ص ٢٠٦.

١٩٨

سنخ وجوده على طرف النقيض منها ، فليست المختبرات محلا وملاكا للقضاء بوجوده وعدمه.

ثم إنّ البحث العقلي ، في تجرّد الروح مترامي الأطراف مختلف البراهين ، اكتفينا بهذا القدر منه ، ومن أراد التبسّط فليرجع إلى الكتب المعدة لذلك (١).

* * *

٢ ـ القرآن وتجرّد النفس وخلودها

الآيات التي يستظهر منها خلود الروح وتجرّدها على قسمين : قسم يدلّ عليه بصراحة لا تقبل الإنكار ، وقسم آخر يستظهر منه ، وإن كان قابلا للحمل على معنى آخر ، وإليك نقل القسمين بإيضاح إجمالي :

القسم الأول من الآيات

(أ) يقول سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى ، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢).

والدلالة مبنية على إمعان النظر في لفظة التوفّي ، وقد عرفت أنّها بمعنى الأخذ والقبض ، لا الإماتة. وعلى ذلك فالآية تدلّ على أنّ للإنسان وراء البدن شيئا يأخذه الله سبحانه ، حين الموت والنوم ، فيمسكه إن كتب عليه الموت ، ويرسله إن لم يكتب عليه ذلك إلى أجل مسمى ، فلو كان الإنسان متمحضا في المادة وآثارها ، فلا معنى «للأخذ» و «الإمساك» و «الإرسال» ، كما هو واضح.

(ب) يقول سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ، بَلْ

__________________

(١) لاحظ الإشارات للشيخ الرئيس ج ٢ ، ص ٣٦٨ ـ ٣٧١. والأسفار ، ج ٨ ص ٣٨. وأصول الفلسفة للعلامة الطباطبائي ، رحمه‌الله وترجمة الأستاذ دام حفظه ج ١ ، المقالة الثالثة ، ص ١٢٩ ـ ١٨٣. وفي هذا الأخير يجد المتتبع ضالته.

(٢) سورة الزمر : الآية ٤٢.

١٩٩

أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

وصراحة الآية غير قابلة للإنكار ، فإنّها تقول : إنّهم أحياء أوّلا ، ويرزقون ثانيا ، وإنّ لهم آثارا نفسانية يفرحون ويستبشرون ، لا يخافون ولا يحزنون ثالثا :

ونظيره قوله سبحانه : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ ، بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (٢).

وتفسير الحياة في الآيتين ، بالحياة في شعور الناس وضمائرهم ، وقلوبهم ، وفي الأندية والمحافل والمناسبات الرسمية ، تفسير مادي للآية ، جرّت إليه النزعات الإلحادية ، ولو كان المراد هو هذا النوع من الحياة ، فما معنى قوله سبحانه : (يُرْزَقُونَ) ، (فَرِحِينَ) ، (يَسْتَبْشِرُونَ) ، وما معنى قوله : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ، فإنّ الحياة بالمعنى الذي ذكروه يشعر بها كل الناس.

(ج) يقول سبحانه : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٣).

فترى أنّه سبحانه يحكم على آل فرعون بأنّهم يعرضون على النار ، في كل يوم وليلة ، قبل يوم القيامة ، بشهادة قوله بعده : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ، فإنّه دليل على أنّ العرض على النار قبلها ، فلو كان الموت بطلانا للشخصية ، واندثارا لها ، فما معنى العرض على النار ، صباحا ومساء.

(د) يقول سبحانه : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) (٤).

__________________

(١) سورة آل عمران : الآيات ١٦٩ ـ ١٧١.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٥٤.

(٣) سورة غافر : الآيتان ٤٥ و ٤٦.

(٤) سورة نوح : الآية ٢٥.

٢٠٠