الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-387-4
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٥٥٩

الله». فخرج بلوائه معقودا ، فدفعه إلى بريدة ، وعسكر بالجرف.

ثم تثاقلوا هناك ، فلم يبرحوا ، مع ما وعوه ورأوه من النصوص الصريحة في وجوب إسراعهم كقوله صلوات الله عليه وآله : «أغر صباحا على أهل أبنة». وقوله : «وأسرع السير لتستبق الأخبار» (١).

وقد أغضب النبيّ تثاقلهم ، حتى قال : «جهّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلّف عنه» ، فقال قوم : «يجب علينا امتثال أمره ، وأسامة قد برز من المدينة» ، وقال قوم : «قد اشتدّ مرض النبي ، فلا تسع قلوبنا مفارقته ، والحالة هذه ، فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره» (٢).

ثم إنّ من ذكر تخلّف القوم عن أسامة ، حاول تعليل تخلّف الصحابة ، فقال بأنّ الغرض منه إقامة مراسم الشرع في حال تزلزل القلوب ، وتسكين نائرة الفتنة المؤثرة عند تقلّب القلوب (٣).

فإذا صحّ هذا العذر ، فليصحّ مثله في حديث الغدير ، فإنّ القوم ـ أكثرهم لا جميعهم ـ ثقل عليهم إمامة علي بن أبي طالب الذي قتل من أبناء القوم وإخوانهم يوم بدر وحنين وغيرهما ، ما قتل ، فرجّحوا مخالفة الحديث حفظا للوحدة ، أو لغير ذلك من هذه المبررات ـ عند القوم ـ للاجتهاد تجاه النصّ.

كما أنّهم في نفس القضية ، طعنوا في إمارة أسامة ، طعنا عظيما ، وأقلّ ما قالوه ، إنّ النبيّ قد أمر شابا غير مجرّب على شيوخ القوم وأكابرهم!!.

٣ ـ صلح الحديبيّة واعتراض القوم

إنّ النبي الأكرم صالح قريشا في أرض الحديبيّة لمصالح عالية ، كشف المستقبل عنها بوضوح. ولما تمّ كتاب الصلح ، اعترض عليه لفيف من الصحابة ، حتى تصوّروا أنّه من باب إعطاء الدنيّة في طريق الدين.

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٢ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٢.

(٢) الملل والنحل ، للشهرستاني ، ج ١ ، ص ٢٣.

(٣) المصدر سابق نفسه.

١٠١

روى مسلم في باب صلح الحديبيّة أنّ عمر قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أو لسنا على الحق ، وهم على الباطل؟» قال رسول الله : «بلى». قال : «أو لسنا قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار»؟ قال : «بلى». قال : «ففيم نعطي الدّنية في ديننا ، ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم»؟. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا ابن الخطاب ، إنّي رسول الله ، ولن يضيّعني الله أبدا» (١).

فانطلق عمر ، ولم يصبر متغيظا ، فأتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، ألسنا على حقّ وهم على باطل ، قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار. قال : بلى. قال : فعلى م نعطي الدنيّة في ديننا ، ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم. فقال : يا ابن الخطاب ، إنّه رسول الله ، ولن يضيّعه الله أبدا.

فلما فرغ رسول الله من الكتاب قال لأصحابه : قوموا فانحروا ، ثم احلقوا. قال الراوي : فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد ، دخل خباءه ، ثم خرج ، فلم يكلم أحدا منهم بشيء ، حتى نحر بدنه بيده ، ودعا حالقه ، فحلق رأسه. فلما رأى أصحابه ذلك قاموا ، فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعض (٢).

ولسنا بصدد استقصاء مخالفات القوم لنصوص النبي وتعليماته ، فإنّ المخالفة لا تقتصر على ما ذكرنا بل تربوا على نيف وسبعين موردا ، استقصاها بعض الأعلام (٣).

وعلى ضوء ذلك ، لا يكون ترك العمل بحديث الغدير ، من أكثرية الصحابة دليلا على عدم تواتره ، أو عدم تمامية دلالته.

والمشكلة كلّها في هذا الباب ، هي التعرّف على حكم الصحابة من حيث

__________________

(١) صحيح مسلم ، باب صلح الحديبية ، ج ٥ ، ص ١٧٥ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ، ج ٢ ، ص ١١٤ حيث استغفر للمحلقين ورأى بعضهم غير محلق.

(٢) صحيح البخاري ، ج ٢ ، كتاب الشروط ، ص ٨١.

(٣) لاحظ كتاب النصّ والاجتهاد ، للسيد الإمام شرف الدين ، وهو كتاب ممتع ملئ بالأحداث التي قدّم فيها الاجتهاد الخاطئ ـ لا الصحيح فإنّه تبع النص ـ على النصّ النبوي الجليّ.

١٠٢

العدالة ، فإنّ القوم ألبسوا مجموع الصحابة لباس العصمة ، وحلّوهم أجمعين بحلية التقوى والعفاف ، على وجه لا يكادون يخالفون الكتاب والسنّة قيد شعرة ، فالصحابة بمجموعهم معصومون لا يخطئون. فمن كانت هذه عقيدته ، فيشكل عليه القول بأن القوم خالفوا تنصيص النبي وتنصيبه لعلي عليه‌السلام.

ولكنها عقيدة تضاد كتاب الله وسنته ، والتاريخ. فمن درس حياة الصحابة في ضوء الكتاب والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح ، يقف على أنّ فيهم صالحا وطالحا ، كسائر أفراد المجتمعات البشرية ، وليس السلف خيرا من الخلف ، بل السلف والخلف على وتيرة واحدة ، (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) (١).

* * *

السؤال الثاني : ما فائدة البحث عن إمامة عليّ في هذه الأزمان؟

وهاهنا سؤال آخر يطرحه لفيف من دعاة الوحدة ، الذين لهم رغبة خاصة بتوحيد صفوف المسلمين وتقريب الخطى بينهم ، وحاصله :

إنّ البحث عن صيغة الخلافة بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يرجع لبّه إلى أمر تاريخي قد مضى زمنه وهو أنّ الخليفة بعد النبي هل هو الإمام أمير المؤمنين أو أبو بكر. وما ذا يفيد المؤمنين البحث حول هذا الأمر الذي لا يرجع إليهم بشيء في حياتهم المعاصرة. أو ليس من الحريّ ترك هذا البحث حفظا للوحدة.

والجواب

لا شك أنّ أعظم خلاف وقع بين الأمّة ، اختلافهم في الإمامة ، وما سلّ

__________________

(١) سورة فاطر : الآية ٣٢ ، وقد أشبع الأستاذ دام حفظه ، الكلام في حال الصحابة من حيث البرهان والعاطفة في بحوثه في الملل والنحل ، فلاحظ : ج ١ ، ص ١٩١ ـ ٢٢٨.

١٠٣

سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة (١). فمن واجب المسلم الحرّ ، الذي لا يتبنّى إلّا مصلحة المسلمين ، السعي وراء الوحدة ، ولكن ليس معنى ذلك ترك البحث ، وغلق ملف الدراسة ، فإنّه إذا كان البحث نزيها موضوعيا يكون مؤثّرا في توحيد الصفوف وتقريب الخطى ، إذ عندئذ تتعرف كل طائفة على ما لدى الأخرى ، من العقائد والأصول ، وبالتالي تكون الطائفتان متقاربتين. وهذا بخلاف ما إذا تركنا البحث مخافة الفرقة ، فإنّه يثير سوء ظنّ كلّ طائفة بالنسبة إلى الأخرى في مجال العقائد والمعارف ، فربما تتصورها طائفة أجنبيا عن الإسلام. هذا أولا.

وثانيا : إنّ لمسألة البحث عن صيغة الإمامة بعد النبي بعدين أحدهما بعد تاريخي مضى عصره ، والثاني بعد ديني باق أثره إلى يومنا هذا ، ومن واجب كلّ مسلم الأخذ به ، وهو أنّه إذا صحّ تنصيب عليّ لمقام الولاية والخلافة ، بالمعنى الذي تتبناه الإمامية ، يكون الإمام ، وراء كونه زعيما في ذلك العصر ، مرجعا في رفع المشاكل التي خلفتها رحلة النبي ، ممّا قد مرّ عليك ، فيجب على المسلمين الرجوع إليه في تفسير القرآن وتبيينه ، وفي مجال الموضوعات المستجدة التي لم يرد فيها النصّ في الكتاب والسنّة ، كما يكون مرجعا في سائر الأمور.

وفي ضوء هذا ، فالبعد الذي مضى ، ولا نعيد البحث فيه ، هو كونه زعيما في ذلك العصر ، وقد مضى زمنه ، ولكن الباقي زعامته الدينية ، وقيادته في مجال المعارف والمسائل الشرعية ، فهو بعد باق ، فيجب على كل المسلمين الرجوع إلى الإمام أخذا بهذه الأبعاد ، لحديث الغدير وغيره. فليس البحث متلخصا في البعد السياسي حتى نشطب عليه بدعوى أنّه مضى ما مضى ، بل له كما عرفت مجال ومجالات باقية.

فإذا وصل البحث إلى هنا ، يجب علينا التركيز على مسألة أخرى وهي أنّ النبي الأكرم ، لم يزل يهيب في الجاهلين ، ويصرخ في الغافلين ، داعيا إلى التمسّك بالكتاب والعترة معا ، وهذا تصريح بأنّ لقيادة العترة الطاهرة وراء

__________________

(١) تقدمت منا هذه الكلمة نقلا عن الشهرستاني في الملل والنحل.

١٠٤

الزعامة السياسية المحددة بوقت خاص ، وزمن حياتهم ، بعدا خالدا إلى يوم القيامة ، وهو لزوم الانكباب عليهم فيما يطرأ علينا من الحوادث والوقائع الدينية ، وكل ما يمت إلى الدين بصلة ، ونتطلب الجواب والاهتداء منهم ، ولأجل ذلك يجب علينا التعرّف على هذا القسم من الأحاديث الذي يركز على الجهات المعنوية أزيد من التركيز على الجهات السياسية.

١ ـ حديث الثّقلين

روى أصحاب الصحاح والمسانيد عن النبي الأكرم أنّه قال : «يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

وقال في موضع آخر : «إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا ، كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما». وغير ذلك من النصوص المتقاربة.

وقد صدع بها في غير موقف ، تارة بعد انصرافه من الطائف ، وأخرى يوم عرفة في حجة الوداع ، وثالثة يوم غدير خمّ ، ورابعة على منبره في المدينة ، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه والحجرة غاصّة بأهله.

ولا يشك في صحّة الحديث إلّا الجاهل به أو المعاند ، فقد روي بطرق كثيرة عن نيف وعشرين صحابيا (١).

إنّ الإمعان في الحديث يعرب عن عصمة العترة الطاهرة ، حيث قورنت

__________________

(١) وكفى في ذلك أن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية قامت بنشر رسالة جمعت فيها مصادر الحديث ونذكر من طرقه الكثيرة ما يلي : صحيح مسلم ، ج ٧ ، ص ١٢٢ ، سنن الترمذي ، ج ٢ ، ص ٣٠٧ ، مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ١٧ و ٢٦ و ٥٩. وج ٤ ، ص ٣٦٦ و ٣٧١. وج ٥ ، ص ١٨٢ و ١٨٩.

وقد قام المحدث الكبير السيد حامد حسين الهندي بجمع طرق الحديث ونقل كلمات الأعاظم حوله ونشره في ستة أجزاء وهو من أجزاء كتابه الكبير العبقات.

١٠٥

بالقرآن الكريم ، وأنّهما لا يفترقان ، ومن المعلوم أنّ القرآن العظيم ، كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكيف يمكن أن يكون قرناء القرآن وأعداؤه ، خاطئين فيما يحكمون ويبرمون ، أو يقولون ويحدّثون. فعدم الافتراق إلى يوم القيامة ، آية كونهم معصومين فيما يقولون ويروون.

أضف إلى ذلك أنّ الحديث ، يعدّ المتمسّك بالعترة غير ضالّ ، بقوله : «لن تضلّوا». فلو كانوا غير معصومين من الخلاف والخطأ ، فكيف لا يضلّ المتمسك بهم؟.

نعم ، ورد في بعض النصوص مكان كتاب الله وعترتي ، كتاب الله وسنّتي (١). وهو على فرض صحته ، حديث آخر لا يزاحمه ، على أنّه حديث واحد ، وهذا الحديث متواتر نقله أعلام الأئمة ، وأساتذة الحديث والتاريخ والسيرة ، ولا يعلم حقيقة ذلك إلّا من راجع مصادر الحديث (٢). فيقدّم عليه في كل حال.

من هم العترة وأهل البيت؟

لا أظن أنّ أحدا ، قرأ الحديث والتاريخ ، يشكّ في أنّ المراد من العترة وأهل البيت لفيف خاص من أهل بيته. ويكفي في ذلك مراجعة الأحاديث التي جمعها ابن الأثير في جامعه عن الصحاح ، ونكتفي بالقليل من الكثير منها.

١ ـ روى الترمذي عن سعد بن أبي وقّاص قال : لمّا نزلت هذه الآية : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ...) الآية ، دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا ، وفاطمة ، وحسنا ، وحسينا ، فقال : «اللهم هؤلاء أهلي».

__________________

(١) الصواعق المحرقة ، ص ٨٩.

(٢) وراجع أيضا في الوقوف على مصادر الحديث ، غاية المرام للسيد البحراني ، ص ٤١٧ ـ ٤٣٤.

والمراجعات ، المراجعة ٨. وتعاليق إحقاق الحق ، ج ٩.

١٠٦

٢ ـ وروى أيضا عن أمّ سلمة رضي الله عنها ، قالت : إنّ هذه الآية نزلت في بيتي : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، قالت : وأنا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله ، ألست من أهل البيت ، فقال : إنّك إلى خير ، أنت من أزواج رسول الله. قالت : وفي البيت رسول الله ، وعليّ ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين ، فجلّلهم بكسائه ، وقال : «اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا».

٣ ـ وروى أيضا عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يمرّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريبا من ستة أشهر ، يقول : «الصلاة أهل البيت : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)».

٤ ـ وروى مسلم عن زيد بن أرقم قال : قال يزيد بن حيان : انطلقت أنا وحصين بن سبرة ، وعمر بن مسلم ، إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا ، رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصلّيت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا ، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟.

قال : يا ابن أخي والله ، لقد كبرت سني ، وقدم عهدي ، فما حدّثتكم فاقبلوا ، وما لا فلا تكلّفونيه. ثم قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا ، بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ثم قال : أما بعد ، ألا أيّها الناس ، إنّما أنا بشر ، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به. فحثّ على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي».

فقلنا : من أهل بيته؟ نساؤه؟. قال : لا ، وأيم الله ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدّهر ، ثم يطلّقها ، فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته ،

١٠٧

أصله وعصبته الذين حرموا الصّدقة بعده (١).

* * *

٢ ـ حديث السفينة

روى المحدّثون عن النبي الأكرم أنّه قال : «إنّما مثل أهل بيتي في أمّتي ، كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق» (٢).

فشبّه صلوات الله عليه وآله ، أهل بيته بسفينة نوح في أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ أصوله وفروعه عنهم نجا من عذاب النّار ، ومن تخلّف عنهم كان كمن آوى يوم الطّوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله ، غير أنّ ذاك غرق في الماء وهذا في الحميم.

فإذا كانت هذه منزلة علماء أهل البيت ، (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)؟.

يقول ابن حجر في صواعقه : «ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم وعظّمهم ، شكرا لنعمة مشرّفهم ، وأخذ بهدي علمائهم ، نجى من ظلمة المخالفات. ومن تخلّف عن ذلك ، غرق في بحر كفر النّعم ، وهلك في مفاوز الطغيان» (٣).

* * *

__________________

(١) لاحظ فيما نقلناه من الأحاديث ، جامع الأصول ، ج ١ ، الفصل الثالث ، من الباب الرابع ، ص ١٠٠ ـ ١٠٣.

(٢) مستدرك الحاكم ، ج ٢ ، ص ١٥١. الخصائص الكبرى للسيوطي ، ج ٢ ، ص ٢٦٦.

وللحديث طرق ومسانيد كثيرة ، من أراد الوقوف عليها ، فعليه بتعاليق إحقاق الحق ، ج ٩ ، ص ٢٧٠ ـ ٢٩٣.

(٣) الصواعق ، الباب ١١ ، ص ١٩١. ألا مسائل ابن حجر أنّه إذا كان هذا مقام أهل البيت ، فلما ذا لم يأخذ هو بهدي أئمتهم في شيء من فروع الدين وعقائده ، ولا في شيء من علوم السنّة والكتاب ، ولا في شيء من الأخلاق والسلوك والآداب؟ ولما ذا تخلّف عنهم ، فأغرق نفسه في بحار كفر النعم ، وأهلكها في مفاوز الطغيان؟!.

١٠٨

البحث الثاني

السنّة النبوية والأئمة الاثنا عشر

إنّ النبي الأكرم لم يكتف بتنصيب عليّ منصب الإمامة والخلافة ، كما لم يكتف بإرجاع الأمّة الإسلامية إلى أهل بيته وعترته الطاهرة ، ولم يقتصر على تشبيههم بسفينة نوح ، بل قام ببيان عدد الأئمة الذين يتولون الخلافة بعده ، واحدا بعد واحد ، حتى لا يبقى لمرتاب ريب ، ولا لشاكّ شك ، وقد جاء ذلك في الصحاح والمسانيد بصور مختلفة نشير إليها.

١ ـ كلهم من قريش

روى البخاري عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي يقول :

«يكون اثنا عشر أميرا ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنّه قال : كلّهم من قريش» (١).

٢ ـ لا يزال الإسلام عزيزا

روى مسلم عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٩ ، باب الاستخلاف ، ص ٨١. ورواه ناقصا كما يظهر ممّا نقله مسلم وغيره ، رواه أحمد في مسنده ، ج ٥ ، ص ٩٠ ، وص ٩٢ ، وص ٩٥ ، وص ١٠٨.

١٠٩

«لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي : ما قال؟ قال : قال : كلّهم من قريش» (١).

٣ ـ لا يزال الدين عزيزا منيعا

وروى أيضا عن جابر بن سمرة قال : انطلقت إلى رسول الله ومعي أبي فسمعته يقول:

لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة ، فقال كلمة صمّنيها الناس ، فقلت لأبي : ما قال؟. قال : كلّهم من قريش (٢).

٤ ـ لا يزال الدين قائما

وروى أيضا عنه ، قال : سمعت رسول الله يوم جمعة عشية رجم الأسلمي ، يقول : لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش (٣).

٥ ـ لا يزال الدين ظاهرا

روى أحمد في مسنده ، عن جابر قال سمعت رسول الله يقول في حجة الوداع : إنّ هذا الدين لن يزال ظاهرا على من ناواه ، لا يضرّه مخالف ولا مفارق حتى يمضي من أمّتي اثنا عشر خليفة. ثم تكلم بشيء لم أفهمه ، فقلت لأبي : ما

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٦ ، كتاب الإمارة ، باب الناس تبع لقريش ، ص ٣. وروى هذا المضمون تارة عن سماك بن حزب عن جابر ، وأخرى عن الشعبي عن جابر. ورواه أحمد في مسنده ، ج ٥ ، ص ٩٠ ، و ٩٨ ، وفيه : فكبّر الناس وضجّوا.

(٢) المصدر السابق من صحيح مسلم ، ومسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٩٨. وفيه : «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا ينصرون على من ناواهم عليه».

(٣) المصدر نفسه. ومسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٨٦ ، ص ٨٩ ، وفي ص ٩٢ : «لا يزال الدين قائما يقاتل عليه عصابة حتى تقوم الساعة». وص ٩٨ ، وفيها «عصابة من المسلمين».

١١٠

قال؟ قال : قال : كلهم من قريش (١).

٦ ـ لا يزال هذا الأمر صالحا

روى أحمد في مسنده عن جابر عن سمرة قال : جئت أنا وأبي إلى النبي ، وهو يقول : لا يزال هذا الأمر صالحا ، حتى يكون اثنا عشر أميرا ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي ما قال؟. قال : كلّهم من قريش (٢).

٧ ـ لا يزال الناس بخير

وروى أيضا عنه قال : كنت مع أبي عند رسول الله ، فقال رسول الله : لا يزال هذا الدين عزيزا ، أو قال : لا يزال الناس بخير ـ شكّ أبو عبد الصمد ـ إلى اثني عشر خليفة ، ثم قال كلمة خفيّة ، فقلت لأبي ، ما قال؟. قال : كلّهم من قريش (٣).

فهلمّ الآن إلى البحث عن هؤلاء الخلفاء الاثني عشر ، حتى نعرف من هم وقد وقفت على أنّ الرسول الأكرم قد عرفهم بالخصوصيات التالية :

ـ لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة.

ـ لا يزال الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة.

ـ لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة.

ـ لا يزال الدين ظاهرا على من ناواه ... حتى يمضي من أمتي اثنا عشر خليفة.

ـ لا يزال هذا الأمر صالحا حتى يكون اثنا عشر أميرا.

ـ لا يزال الناس بخير إلى اثني عشر خليفة.

__________________

(١) مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٨٧ وص ٨٨ وص ٩٠. ولاحظ المستدرك ، ج ٣ ، ص ٦١٨ وفيه :

«لا يزال أمر هذه الأمّة ظاهرا».

(٢) مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٩٧ وص ١٠٧ ولاحظ المستدرك ، ج ٣ ، ص ٦١٨.

(٣) مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٩٨.

١١١

وقد اختلفت كلمة شراح الحديث في تعيين هؤلاء الأئمة ، ولا تجد بينها كلمة تشفي العليل ، وتروي الغليل ، إلّا ما نقله القندوزي عن بعض المحققين ، قال :

«إنّ الأحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده اثني عشر ، قد اشتهرت من طرق كثيرة ، فبشرح الزمان ، وتعريف الكون والمكان ، علم أنّ مراد رسول الله من حديثه هذا ، الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته وعترته ، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه ، لقلّتهم عن اثني عشر ، ولا يمكن أن يحمل على الملوك الأمويين لزيادتهم على الاثني عشر ، ولظلمهم الفاحش إلّا عمر بن عبد العزيز ، ولكونه غير بني هاشم ، لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : كلهم من بني هاشم ، في رواية عبد الملك عن جابر ، وإخفاء صوته في هذا القول يرجّح هذه الرواية ، لأنّهم لا يحسّنون خلافة بني هاشم ، ولا يمكن أن يحمل على الملوك العباسيين لزيادتهم على العدد المذكور ، ولقلّة رعايتهم قوله سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، وحديث الكساء ، فلا بدّ من أن يحمل على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته ، لأنّهم كانوا أعلم أهل زمانهم ، وأجلّهم ، وأورعهم ، وأتقاهم ، وأعلاهم نسبا ، وأفضلهم حسبا ، وأكرمهم عند الله ، وكانت علومهم عن آبائهم متصلة بجدّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالوراثة اللّدنيّة ، كذا عرّفهم أهل العلم والتحقيق ، وأهل الكشف والتوفيق.

ويؤيّد هذا المعنى ، أي أنّ مراد النبي الأئمة الاثني عشر من أهل بيته ، ويشهد عليه ويرجّحه حديث الثقلين والأحاديث المتكثرة المذكورة في هذا الكتاب وغيرها.

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّهم يجتمع عليه الأمّة ، في رواية جابر بن سمرة ، فمراده أنّ الأمّة تجتمع على الإقرار بإمامة كلّهم وقت ظهور قائمهم المهدي» (١).

والعجب من بعض المتعصبين حمله على خلفاء بني أميّة من بعد الصحابة ،

__________________

(١) ينابيع المودة ، للشيخ سليمان المعروف بالبلخي القندوزي ، ص ٤٤٦ ، ط اسطنبول عام ١٣٠١.

١١٢

قال : «وليس الحديث واردا على المدح ، بل على استقامة السلطنة ، وهم يزيد بن معاوية ، وابنه معاوية ، ولا يدخل عبد الله بن الزبير لأنّه من الصحابة ، ولا مروان بن الحكم لكونه بويع بعد ابن الزبير ، فكان غاصبا ، ثم عبد الملك ، ثم الوليد ، إلى مروان بن محمد» (١).

وهذا لعمري رمي للقول على عواهنه ، فمن أين علم أنّه إشارة إلى إمارة غير الصحابة ، مع أنّه قال : يكون بعدي. ثم ما فائدة هذا الإخبار وما حاصله؟.

أضف إلى ذلك أنّ الرسول الأكرم أناط عزة الإسلام ، ومنعته ، وقوام الدين وصلاح الأمّة ، بخلافة هؤلاء. وهل كان في خلافتهم هذه الآثار ، أو الذي كان هو ما يضادّها؟ فكيف يمكن حمل هذه البشائر التي صدرت على سبيل المدح ، على مثل يزيد بن معاوية قاتل الإمام الطاهر ، والفاسق المعلن بالمنكرات والكفر ، والمتمثل بأشعار ابن الزّبعرى المعروفة(٢). وموبقات هذا الرجل من استباحة دم الصحابة ، والتابعين ثلاثة أيام (٣) ، وغير ذلك ، ممّا لا يحصى. وكيف يعدّ وليد بن يزيد بن عبد الملك من خلفاء رسول الله الذين يعتزّ بهم الدين؟ :

فتح الوليد المصحف ذات يوم وقرأ قوله تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) (٤) ، فدعا بالمصحف ، فنصبه غرضا للنشاب ، وأقبل يرميه وهو يقول :

تهدّدني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد

__________________

(١) منتخب الأثر ، ص ١٦ ، نقلا عن حواشي صحيح الترمذي.

(٢) ليت أشياخي ببدر شهدوا

وقع الخزرج من وقع الأسل

إلى آخر الأبيات وفيها :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

(البداية والنهاية ، لابن الأثير ، ج ٨ ، ص ١٤٢. ط دار الفكر ـ بيروت ، وتذكرة الخواص ، لابن الجوزي ، ص ٢٣٥ ، ط بيروت ١٤٠١ ـ ١٩٨١).

(٣) لاحظ تاريخ الطبري ، حوادث سنة ٦٣ ، ص ٣٧٠ ـ ٣٨١.

(٤) سورة إبراهيم : الآيتان ١٥ و ١٦.

١١٣

وذكر محمد بن يزيد المبرّد النحوي أنّ الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ الوحي لم يأته من ربّه. كذب أخزاه الله من ذلك الشعر :

تلعّب بالخلافة هاشمي

بلا وحي أتاه ولا كتاب

فقل لله يمنعني طعامي

وقل لله يمنعني شرابي

فلم يمهل بعد قوله هذا إلّا أياما حتى قتل (١).

والإنسان الحرّ الفارغ عن كل رأي مسبق ، لو أمعن النظر في هذه الأحاديث وأمعن في تاريخ الأئمة الاثني عشر من ولد الرسول ، يقف على أنّ هذه الأحاديث لا تروم غيرهم ، فإنّ بعضها يدلّ على أنّ الإسلام لا ينقرض ولا ينقضي حتى يمضي في المسلمين اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش ، وبعضها يدلّ على أنّ عزّة الإسلام إنّما تكون إلى اثني عشر خليفة ، وبعضها يدلّ على أنّ الدين قائم إلى قيام الساعة ، وإلى ظهور اثني عشر خليفة ، وغير ذلك من العناوين.

وهذه الخصوصيات لا توجد في الأمّة الإسلامية إلّا في الأئمة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين ، خصوصا ما يدلّ على أن وجود الأئمة مستمر إلى آخر الدهر ، ومن المعلوم أنّ آخر الأئمة هو المهدي المنتظر ، الذي يعدّ ظهوره من أشراط الساعة.

ولو أضفنا إلى هذا ، الروايات الكثيرة الواردة في الأئمة الاثني عشر ، يقطع الإنسان بأنّه ليس المراد إلّا هؤلاء الذين اعترف بفضلهم ، وورعهم ، وتقاهم ، وعلمهم ، ووعيهم ، وحلمهم ، وصبرهم ، ودرايتهم ، وكفايتهم ، الداني والقاصي ، والصديق والعدو ، ألا وهم :

علي بن أبي طالب ، فالحسن بن علي ، فالحسين بن علي ، فعلي بن الحسين ، فمحمد بن علي ، فجعفر بن محمد ، فموسى بن جعفر ، فعلي بن موسى ، فمحمد بن علي ، فعلي بن محمد ، فالحسن بن علي ، فمحمد بن الحسن

__________________

(١) مروج الذهب ، ج ٣ ، ص ٢١٦.

١١٤

العسكري ، المهدي المنتظر الذي يملأ الله به الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا(١) ، صلوات الله وتحياته وسلامه عليهم أجمعين.

وقد تضافرت النصوص في تنصيص الإمام السابق على الإمام اللاحق ، فمن أراد الوقوف على هذه النصوص ، فعليه الرجوع إلى الكتب المعدّة لإمامة الأئمة الاثني عشر (٢).

* * *

__________________

(١) سيوافيك الكلام في الإمام المنتظر ، وأحاديثه في السنّة النبوية ، وطول عمره ، وعلائم ظهوره ، وغير ذلك مما يرجع إليه.

(٢) لاحظ الكافي ، ج ١ ، كتاب الحجة ، وأجمع كتاب في هذا الموضوع هو كتاب «إثبات الهداة» للشيخ الحرّ العاملي وقد جمع فيه النصوص المتضافرة على إمامة كلّ واحد من الأئمة الاثني عشر.

١١٥

البحث الثالث

عصمة الإمام في القرآن

قد عرفت في البحث عن شروط الإمامة ، اختلاف أهل السنّة في عددها ، وعلمت المتفّق عليه ، والمختلف عليه منها. وقد اتّفقوا وراء ذلك على أنّ العصمة ليست من الشرائط ، أخذا بمبادئهم حيث إنّ الخلفاء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يكونوا بمعصومين قطعا ، بل إنّ بعضهم لم يكن مجتهدا في الكتاب والسنّة.

وأمّا الشيعة الإمامية ، فقد اتّفقت على هذا الشرط من بين الشروط ، واستدلّوا عليه بأدلّة ، نكتفي ببعضها :

١ ـ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة

إنّ حقيقة الإمامة الذي تتبناه الشيعة الإمامية ، هي القيام بوظائف الرسول بعد رحلته ، وقد تعرفت على وظائفه الرسالية والفراغات الحاصلة بموته والتحاقه بالرفيق الأعلى. ومن المعلوم أنّ سدّ هذه الفراغات لا يتحقق إلّا بأن يكون الإمام متمتعا بما يتمتع به النبي الأكرم من الكفاءات والمؤهلات ، فيكون عارفا بالكتاب والسنّة على وفق الواقع ، وعالما بحكم الموضوعات المستجدة عرفانا واقعيا ، وذابّا عن الدين شبهات المشككين ، ومن المعلوم أنّ هذه الوظيفة تستدعي كون الإمام مصونا من الخطأ. فما دلّ على أنّ النبيّ يجب أن يكون مصونا في مقام إبلاغ

١١٦

الرسالة ، قائم في المقام بنفسه ، فإنّ الإمام يقوم بنفس تلك الوظيفة ، وإن لم يكن رسولا ولا طرفا للوحي ، ولكنه يكون عيبة لعلمه ، وحاملا لشرعه وأحكامه ، فإذا لم نجوّز الخطأ على النبي في مقام الإبلاغ ، فليكن الأمر كذلك في مقام القيام بتلك الوظيفة بلا منصب الرسالة والنبوة.

٢ ـ آية ابتلاء إبراهيم

قال سبحانه : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ، قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ، قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ، قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١).

إنّ تفسير الآية كما هو حقّها يتوقف على البحث عن النقاط التالية :

أ ـ ما هو الهدف من الابتلاء؟.

ب ـ ما هو المراد من الكلمات؟.

ج ـ ما ذا يراد من الإتمام؟.

د ـ ما هو المقصود من الإمام (إماما)؟.

ه ـ كيف تكون الإمامة عهدا إلهيا (عهدي)؟.

و ـ ما هو المراد من الظالمين؟.

ولكنّ إفاضة الكلام في هذه الموضوعات ، يحوجنا إلى تأليف رسالة مفردة فنكتفي بالتركيز على اثنين من هذه الموضوعات (٢).

الأول ـ ما هو المقصود من الإمامة التي أنعم الله سبحانه بها على نبيّه الخليل؟.

الثاني ـ ما هو المراد من الظالمين؟.

* * *

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٤.

(٢) وقد أشبع شيخنا الأستاذ ، البحث عن هذه الموضوعات الستّة في موسوعته القرآنية «مفاهيم القرآن» ، ج ٥ ، ص ٢٠٥ ـ ٢٥٩.

١١٧

الأول ـ ما هو المراد من الإمامة في الآية؟

ذهب عدّة من المفسّرين منهم الرازي في مفاتيحه ، إلى أنّ المراد من الإمامة هنا ، النبوة ، وأنّ ملاك إمامة الخليل ، نبوّته ، لأنّها تتضمن مشاقّا عظيمة (١).

وقال الشيخ محمد عبده : «الإمامة هنا عبارة عن الرسالة ، وهي لا تنال بكسب الكاسب» (٢).

يلاحظ عليه : إنّ إبراهيم كان نبيّا قبل الابتلاء بالكلمات ، وقبل تنصيبه إماما ، فكيف يصحّ أن تفسّر الإمامة بالنبوّة على ما في لفظ الرازي ، أو بالرسالة ، على ما في لفظ المنار؟ ودليلنا على ما ذكرنا ، أمران :

١ ـ إنّ نزول الوحي على إبراهيم ، وجعله طرفا للخطاب بقوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ، أوضح دليل على أنّه كان نبيّا متلقيا للوحي قبل نزول هذه الآية. وأسلوب الكلام يدلّ على أنّه لم يكن وحيا ابتدائيا ، بل يعرب عن كونه استمرارا للوحي السابق ، والمحاورة الموجودة بينه وبين الله تعالى ، حيث طلب الإمامة لذريته ، تناسب الوحي الاستمراري لا الوحي الابتدائي. وإن كنت في شكّ ، فلاحظ الوحي الابتدائي ، النازل على موسى في طور سيناء حيث خوطب بقوله :

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣).

٢ ـ إنّ الخليل طلب الإمامة لذرّيته ، ومن المعلوم أنّ إبراهيم كان نبيّا قبل أن يرزق أيّ ولد من ولديه إسماعيل وإسحاق ، أمّا أوّلهما فقد رزقه بعد تحطيم الأصنام في بابل ، وإعداد العدّة للخروج إلى فلسطين ، حيث وافاه الوحي

__________________

(١) مفاتيح الغيب ، للرازي ، ج ١ ، ص ٤٩٠.

(٢) المنار ، ج ١ ، ص ٤٥٥.

(٣) سورة القصص : الآية ٣٠. ولاحظ سورة العلق : الآيات ١ ـ ٥ ، فإنّها من الوحي الابتدائي ، وهي لا تشبه الخطاب الوارد في الآية الموجّه إلى الخليل.

١١٨

وبشّره : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (١). وأمّا ثانيهما ، فقد بشرته به الملائكة عند ما دخلوا عليه ضيوفا ، فقالوا : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٢).

وعلى ذلك ، يجب أن تكون الإمامة الموهوبة للخليل غير النبوة ، وإلّا كان أشبه بتحصيل الحاصل.

والظاهر أنّ المراد من الإمامة ، القيادة الإلهية للمجتمع ، فإنّ هناك مقامات ثلاثة :

ـ مقام النبوة ، وهو منصب تحمّل الوحي.

ـ مقام الرسالة ، وهو منصب إبلاغه إلى الناس.

ـ مقام الإمامة ، وهو منصب القيادة وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوة وقدرة.

ويعرب عن كون المراد من الإمامة في المقام هو المعنى الثالث ، قوله سبحانه : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٣).

فالإمامة التي أنعم بها الله سبحانه على الخليل وبعض ذرّيته ، هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. وعلينا الفحص عن المراد من الملك العظيم ، إذ عند ذلك يتّضح أنّ مقام الإمامة ، وراء النبوة والرسالة ، وإنّما هو قيادة حكيمة ، وحكومة إلهيّة ، يبلغ المجتمع بها إلى السعادة. والله سبحانه يوضح حقيقة هذا الملك في الآيات التالية :

١ ـ يقول سبحانه ـ حاكيا قول يوسف عليه‌السلام ـ : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) (٤). ومن المعلوم أنّ الملك الذي منّ به

__________________

(١) لاحظ سورة الصافات : الآيات ٩١ ـ ١٠٢.

(٢) لاحظ سورة الحجر : الآيات ٥١ ـ ٥٥.

(٣) سورة النساء : الآية ٥٤.

(٤) سورة يوسف : الآية ١٠١.

١١٩

سبحانه على عبده يوسف ، ليس النبوة ، بل الحاكمية ، حيث صار أمينا مكينا في الأرض. فقوله : (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) ، إشارة إلى نبوته ، والملك إشارة إلى سلطته وقدرته.

٢ ـ ويقول سبحانه في داود عليه‌السلام : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) (١). ويقول سبحانه : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢).

٣ ـ ويحكي الله تعالى عن سليمان أنّه قال : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣).

فملاحظة هذه الآيات يفسّر لنا حقيقة الإمامة ، وذلك بفضل الأمور التالية.

أ ـ إنّ إبراهيم طلب الإمامة لذريته ، وقد أجاب سبحانه دعوته في بعضهم.

ب ـ إنّ مجموعة من ذريته ، كيوسف وداود وسليمان ، نالوا ـ وراء النبوة والرسالة ـ منصب الحكومة والقيادة.

ج ـ إنّه سبحانه أعطى آل إبراهيم الكتاب ، والحكمة ، والملك العظيم.

فمن ضمّ هذه الأمور بعضها إلى بعض ، يخرج بهذه النتيجة : إنّ ملاك الإمامة في ذريّة إبراهيم ، هو قيادتهم وحكمهم في المجتمع ، وهذه هي حقيقة الإمامة ، غير أنّها ربما تجتمع مع المقامين الآخرين ، كما في الخليل ، ويوسف ، وداود ، وسليمان ، وغيرهم ، وربما تنفصل عنهما ، كما في قوله سبحانه : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ، قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ، وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ ، قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٥١.

(٢) سورة ص : الآية ٢٠.

(٣) سورة ص : الآية ٣٥.

١٢٠