الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
وخذ على ذلك مثالاً ، معرفة الله والميل إلى عوالم الغيبية ، فان لها جذوراً في عمق وجود الانسان ، ولم يزل كل انسان من صباه إلى كهولته ميّالا إلى تلك العوالم ، شغوفاً بحب الاطلاع عليها ، والخضوع لها .
ولكن هذا الميل إذا لم يقع في إطار الهداية والتوجيه الإلهي ، يسفّ بالإنسان إلى الحضيض ، ويصنع منه عابداً للحجر والخشب والعجماوات ، خاضعاً للشمس والقمر والنار . ألا ترى صانعي الآلات ومخترعي العقول الالكترونية كيف طفقوا يخضعون للأصنام والأبقار ؟ !
ولكنها إِذا كانت تحت ظل هداية إلهية ، تتجلى بمظهر التوحيد ، وأَنّ للعالم بأسره إلها واحداً أحداً عالماً ، قادراً ، محيطاً بكل شيء ، جامعاً لكل صفات الكمال والجمال .
إن الميول الطبيعية ، كالميل إلى الزواج والتسلط على المناصب والتكاثر في الأموال ، مما خُمّر عليه الإِنسان ، ولا بقاء لحياته إلا به ، ولو سلبت عنه لصار موجوداً مهملا خاملاً طالباً للموت وجانحاً إلى الفناء .
ولكن لو تركت هذه الغرائز ومجالها ، لآل الإنسان إلى حيوان ضار ، مدمر لكل شيء بغية تحصيل المال والإستبداد بالمناصب .
وأما لو كبح جماحها ، وعدّلت ميولها بهداية تحدد مجاريها وتُرشد صاحبها الى كيفية الإِستفادة منها ، لصار موجوداً عاقلاً متكاملاً سعيداً في حياته ، متآلفاً ومتآزراً مع سائر بني نوعه ، لبناء المجتمع الصالح .
وهكذا ، فقد عُلِم من هاتين المقدمتين أن وجود الفطريات والغرائز في الإنسان ، وحاجتها إلى الهداية والتعديل أمر لا ينكر ، وإنّما الكلام كلّه في تعيين من يقوم بهذه المهمة :
فهل المحاسبات العقلية كافية في حمل الإِنسان على هداية فطرياته وكبح جماح غرائزه عن الإِفراط والتفريط ؟
أم هل الشخصيات الممتازة
في عالم الإِجتماع ، الموصوفة بالعقل
والدراية والتجربة قادرة على القيام بهذه المهمة ؟
أم أنّ المَرْجِعَيْن المتقدمين ـ مع تقدير عملهما والإعتراف بانتفاع الإنسان من هدايتهما في مسير حياته ـ قاصران عن القيام بهذه المهمة ، ولا بدّ من مرجع ثالث له الإحاطة الكاملة بالفطريات والغرائز البشرية وما يصلحها ويقوّمها ، وهم الأنبياء والرسل الإلهيون المعصومون من الخطأ والزلل ، والمؤيدة هدايتُهم بضمانات إجرائية قاهرة ؟ .
نحن نعتقد أن الأمر الثالث هو المتعين ، وأن المرجعين الأوَّلَيْن غيُر وافيين بمعالجة المشكلة .
أما العقل ، فمع الإِعتراف بأنه يضيء الطريق أمام الإِنسان ، ويأخذ بيده في المزلّات والمزالق ، إلا أنه قاصر عن مصارعة الغرائز المتفجرة وكبح ثورانها . فإن كلَّ إِنسان يعلم من نفسه أن غرائزه وميوله الشهوية إذا تفجرت ، لم تترك للعقل ضياء ولا للفكر نوراً ، بل كان مثل العقل حينذاك مثل الإِنسان المبصر إِذا وقع في مهب الرياح والزوابع الرملية ، فإنها تَكُفُّ بَصَرَه عن الرؤية وتُعَرْقِل مَسيرَهُ .
وفي تلك الحالات ، لا ينفك العقل عن خداع صاحبه وإراءة المحاسبات الكاذبة لتبرير عمله ، وإيجاد الذرائع لارتكابه ، بحيث لو كان هذا الإنسان في موقف عادي خالٍ عن ذلك الثوران في العواطف والغرائز لما اعتنى بشيء من تلك التسويلات ، ولذلك لا تجد مجرماً يقوم بجناية إلّا وهو يلقي لنفسه الأعذار والتبريرات حين إقدامه عليها .
وكثيراً ما يستسهل الإنسان في تلك الحالات ـ على فرض إلتفاته إلى خطورة وقبح ما يقوم به ـ يستسهل ما يترتب عليه من الذم واللوم والعقاب ، قضاءً لوَطره منه ، وإشباعاً لشهوته مما يناله من اللذائذ المادية .
وأما رجالات الأخلاق والإِجتماع ، فمع أنّ لهم دوراً في تهذيب النفوس ، ودفعها إلى الكمال ، وكبح جماح غرائزها على الإجمال ، إلا أَنّ عملهم لا يخلو عن نقائص ربما تَذْهَبُ بأعمالهم أدراج الرياح .
أما أولاً ، فلأنَّ شرط التربية ، الوقوف على رموز الخلقة ، والتعرف على خصوصيات من ترجى تربيته . وليس لهذه الشخصيات ، العلم المحيط بخصوصيات الإِنسان ، لا لقلة عملهم وضيق أَفكارهم ، بل لعظمة الانسان في روحه ومعنوياته ، وغرائزه وفطرياته ، وهو أشبه ببحر كبير لا يرى ساحله ، ولا يضاء محيطه . وقد خفيت كثير من جوانب حياته ورموز وجوده ، حتى لُقّب بـ « الموجود المجهول » . (١)
ويُصدَّق ضالة هذه المعرفة ، تزايدُ الفساد وارتفاع نسبته في أقطار العالم عبر نفس المناهج التربوية التي تصوّبها تلك الشخصيات المرموقة في عالم التربية .
وأما ثانياً ، فلأَن الحجر الأَساس لتأثير التربية ، أنْ يكون المربي إنساناً كاملاً وموجوداً مثالياً ، يتمتع بسمو الأخلاق والملكات ، فيجذب بها القلوب ، ويشد إليها النفوس .
ومن المعلوم أن واضعي المناهج التربوية في العالم ، وإن كانوا خبراء في مجال تخصُّصِّهم ، إلا أنّهم فاقدون لهذا الشرط الأساس . ألا ترى أَنَّهم يوصون ببسط العدل ، وحماية المستضعف ، وترك الخمر والقمار وو . . . ومع ذلك فهم مرتكبون لها ، واقعون فيها .
ولا يشذ عنهم إلا من كان مراعياً للدين متمسكاً بأهدابه ، ولكن الفضل حينئذ لا يعود إليه بل إِلى صاحب الشريعة الذي سَنَّ تلك البرامج والمناهج .
وأما ثالثاً ، فلأن المناهج التربوية لا تؤتي ثمارها إلا إذا كانت منتسبة إلى الخالق سبحانه ، فإنّ هذا يمنحها ضمان الإِجراء والتجسّد في المجتمع لارتباطها بعوامل التشويق إلى الثواب والتحذير من العقاب ، وإلا فلن تعدو مجموعة نصائح شخصية أو مدرسية ، ما أسرع ما تتهاوى أمام ضربات معاول الشهوة الثائرة .
__________________
(١) وقد ألف الفيلسوف الفرنسي الكسي كارل ، كتاباً خاصاً حول الإنسان وغرائزه وفطرياته ، أسماه « الإنسان ذلك الموجود المجهول » .
ومجموع ما ذكرناه يدلنا على أن مهمة هداية الغرائز والفطريات ، التي تصنع من الإِنسان موجوداً عارفاً بالنُّظُم ، مؤمناً بالمناهج ، مجرياً لها في ليلة ونهاره ، وسرّه وإعلانه ، لا تتم إِلا بيد رسل مبعوثين من جانب خالق البشر ، بمناهج كاملة أنزلها إليهم ، وحفّها بدوافع الطاعة من المغريات بالثواب والمحذّرات من العقاب .
قال الشيخ الرئيس في بيان ما يلزم أن تشتمل عليه الأفعال التي يسنها النبي للبشر ، أفراده ومجتمعاته حتى تأخذ لنفسها طريقاً إلى التطبيق ومسلكاً إلى البقاء :
« ويجب أن تكون هذه الأفعال مقرونة بما يذكّر الله تعالى والمعاد لا محالة ، وإلا فلا فائدة فيها .
والتذكير لا يكون إلا بالفاظ تقال أو نيات تنوى في الخيال ، وأَنْ يقال لهم : إن هذه الأفعال يتقرب بها إلى الله ويستوجب بها الخير الكريم » . . . . إلى ان قال : « وبالجملة يجب أَنْ يكون فيها منبّهات » (١) .
الأنبياء والفطرة في الحديث
إنّ الإمام أمير المؤمنين علياً عليه السلام يصوّر الإنسان موجوداً يجمع في ذاته دفائن العقول وأنوار العرفان .
غير أنّ إثارة تلك المعارف الكامنة ، وإبراز تلك الأسرار الدفينة ، يحتاج إلى إنسان كامل يقوم بتلك المهمة وهو النبي .
فدور الأنبياء دور التذكير والتنبيه ، لا دور التعليم والتأسيس ، لأن كل ما يلقيه الأنبياء من أُصول ومعارف مختمر في وجود الإِنسان بعلم فطري وقضاءٍ خلقي ، لكنه لا يلتفت إليها إلا بفضل من يوجّهه .
__________________
(١) « النجاة » في الحكمة الإلهية ، للشيخ الرئيس ، ص ٣٠٦ ، الطبعة الثانية ١٣٥٧ هـ ـ ١٩٣٨ م .
يقول عليه السلام : « فبعث فيهم رُسُلَه ، وواتر إليهم أَنبيائه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم مَنْسِيَّ نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول . . . » (١) .
فمثل الانبياء على هذا التقدير ، مثل المهندس الزراعي ، فكما أنه ليس له دور في خلق الثمار على الأشجار وإِظهارها على الأغصان ، وانما ينحصر دوره في إخصاب الأرض وتهيئتها لتُظهِر الشجرة ثمارها وفواكها ، فهكذا الأنبياء بتعاليمهم السماوية ، فإن دورهم تهيئة الإِنسان ليُبرز ما تعلّمه في مدرسة الفطرة من الأصول والمعارف التي تدعو إلى العدل والقسط ، ونبذ الظلم والتعدي وغيرها .
نعم ، للأنبياء ـ على تقدير آخر ـ دور التعليم ، وذلك في الوظائف الفرعية في مجال العبادات والمعاملات إذ لولاهم لما وقف الإِنسان على طرق عبادة الله تعالى ، وكيفية سلوكه مع بني نوعه في مقام المعاملة .
* * *
__________________
(١) نهج البلاغة ، الخطبة الاولى .
أدلة لزوم البعثة (٤) |
|
بعثة الأنبياء أولى من الكماليات
يعتمد هذا الدليل بنحو رئيسي على مشاهدة النعم التي أودعها الخالق في وجود الإِنسان وما يحيط به ليُسهِّل عليه معيشتَه وتكاملَه في الحياة . وليست كلّ هذه النعم دخيلة في ضروريات حياته ، بحيث ينعدم وجوده بدونها ، بل إن كثيراً منها مما يدخل في الكماليات ، وتسهيل مجاري الحياة . وكثير من هذه الكماليات أُمور جزئية بسيطة لا يلتفت إليها الإِنسان إلا بالتأمل والتدبّر . ولأَجل زيادة التوضيح نمثِّل ببعض الأَجهزة في بدن الإِنسان .
إن الصانع الحكيم جهّز العين بأجهزة مختلفة ، منها ما هو دخيل في أصل تحقق الرؤية ، ومنها ما هو دخيل في سهولتها وتيسرها .
١ ـ فجعل العين في أعلى أجزاء بدن الإنسان حتى يتسلط بنحو كامل على ما أمامه .
٢ ـ وجعل العين بمختلف طبقاتها في إطار جسم شحمي صلب أبيض اللون ، حفظاً لها مما قد يصيبها .
٣ ـ وجعل العين بإطارها وجميع طبقاتها في حفرة عظيمة ، زيادة في صيانتها من الصدمات الطارئة .
٤ ـ وجعل فوق العين حاجباً يمنع من
نزول العرق إليها ، وأوجد في
ناصية الإِنسان خطوطاً ليسهل إنحراف العرق يميناً ويساراً .
٥ ـ وجعل لكل عين جفنين حافظين لها ، وخلق فيهما أشفاراً وأهداباً ، صيانة لها عن الدخان والأغبرة . وهما ، مع أنهما يمنعان بضمهما دخولَ ما يؤذي العين ، لكنهما لا يمنعان من الرؤية . فهما في هذا المجال أشبه بالستائر الحديديّة تسمح للنور بالدخول من دون دخول أشعة الشمس .
٦ ـ وجعل في باطن كل جفن غدداً يترشح منها سائل لزج يصون أنسجة العين من الإِحتكاك بما يحيطها ، ويسهل دوران كرة العين في جميع الجهات .
٧ ـ وأحاط عدسية العين بمجموعة من الأنسجة العضلية ، تجعلها تنقبض أمام الأَنوار القوية وتنبسط أمام الضعيفة منها ، صيانة للعين عن دخول أزيد مما تتحمله أو أقل مما تحتاج إليه من النور .
هذا بعض يسير مما يرجع الى العين ، وفي الأجهزة الأُخرى بدائع وفوائد لا تحصى نذكر نذراً منها :
إنّ يد الخلقة جعلت تحت قدم الإنسان ، أخمصاً حتى يَسْهُل عليه الوقوف والسير .
وجعلت في اليد أصابع ، ثم فاوتت بينهما في الطول ، ليسهل على الإِنسان القيام بأعماله ، وليكون بذلك صانعاً فناناً مبدعاً .
وجعلت في بواطن الأَنامل خطوطاً وتعاريج ليسهل عليه الإِمساك بالأجسام .
وهكذا إذا درسنا خلقة الإِنسان وجدنا أنها مشتملة على أجهزة مختلفة بين دخيلة في أصل الحياة ودخيلة في كمالها وسهولتها . وكل ذلك يدفعنا إلى التساؤل : هل يمكن لخالق الإِنسان أن يسهّل له كل طرق التكامل الظاهرية ، ثم يترك ما هو دخيل في تكامله الروحي والمعنوي ؟ .
وهل يمكن لأحد أن ينكر دور الأنبياء في تكامل الإنسان ، ولو على وزان دور الخطوط في بواطن الأنامل على الأقل ؟ .
أو يصح من الخالق الحكيم أن يهب له تلك الأجهزة المُؤَثِّرة في كمالاته المادية ، ويترك ما هو مؤثر في تكامل روحه وفكره ؟ .
ولقد أُلهمنا هذا البرهان مما ذكره الشيخ الرئيس في إلهيات الشفاء حيث قال :
« الحاجة إلى هذا ( بعث النبي ) في أن يبقى نوع الإِنسان ويتحصَّل وجوده ، أشدّ من الحاجة إلى نبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين ، وتقصير الأخمص من القدمين ، وأشياء أُخرى من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء . . . . فلا يجوز أن تكون العناية الأُولى تقضي تلك المنافع ، ولا تقضي هذه التي هي أُسُّها » (١) .
وإلى هذا يشير صدر المتألهين بقوله : « إن ذاته سبحانه منبع الخيرات ومنشأ الكمالات ، فيصدر منه كل ما يصدر على أقصى ما يتصور في حقه من الخير والكمال ، والزينة والجمال ، سواء أكان ضرورياً له ، كوجود العقل للإِنسان والنبي للأُمة . وغير ضروري ، كإنبات الشعر على الأشفار والحاجبين ، وتقصير الأخمص من القدمين » (٢) .
* * *
__________________
(١) الهيات الشفاء ، بحث النبوة ، ص ٥٥٧ طبعة طهران . وأورده بعينه في كتاب النجاة ، ص ٣٠٤ ، طبعة ١٣٥٧ هـ .
(٢) المبدأ والمعاد ، لصدر المتألهين ، ص ١٠٣ ، طبعة طهران .
أدلة لزوم البعثة (٥) |
|
اللُّطف الإِلهي
استدلوا على لزوم بعث الرسل بقاعدة اللطف . وبما أن هذه القاعدة تطرح دليلاً في مواضع مختلفة من المسائل الكلامية ، فلا بد لنا من بسط الكلام فيها بشكل عام ، حتى يتبين حالها في كل مقام يستدل بها ، سواء فيما له صلة ببعث الرسل أو غيره ، فنقول :
إن اللطف ، في اصطلاح المتكلمين ، يوصف بوصفين :
١ ـ اللطف المُحَصِّل .
٢ ـ اللطف المُقَرِّب .
وهناك مسائل تترتب على اللطف بالمعنى الأول ، ومسائل أُخرى تترتب على اللطف بالمعنى الثاني ، وربما يؤدي عدم التمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتب على الأول بما يترتب على الثاني . ولأجل الإِحتراز عن ذلك نبحث عن كل منهما ، بنحو مستقل .
أ ـ اللُّطف المحصِّل .
اللُّطف المحصِّل عبارة عن القيام
بالمباديء والمقدمات التي يتوقف عليها تحقق غرض الخلقة ، وصونها عن العبث واللغو ، بحيث لولا القيام بهذه
المباديء والمقدّمات من جانبه سبحانه ، لصار فعله فارغاً عن الغاية ، وناقَضَ حكمته التي تستلزم التحرز عن العبث . وذلك كبيان تكاليف الإنسان ، وإعطائه القدرة على امتثالها .
ومن هذا الباب بعث الرسل لتبيين طريق السعادة ، وتيسير سلوكها . وقد عرفت في الأدلّة السابقة ، أن الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقّة ، أو يهتدي إلى طريق السعادة في الحياة ، بالإعتماد على عقله ، والإستغناء عن التعليم السماوي . ووجوب (١) اللطف بهذا المعنى ، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه ، وتنزيهه عن الفعل العبثي الذي اتّفق عليه العقل والنقل . (٢)
اللطف المحصِل في مصطلح المتكلمين
ما ذكرناه من المعنى للطف المحصل ، مصطلح خاص لنا وليس معروفاً بين المتكلّمين والمعنى المعروف لديهم هو : قيامه سبحانه بعمل تترتب عليه الطاعة . قال القاضي عبد الجبار : انّ اللطف هو كلّ ما يختار عنده المرء الواجبَ ، ويتجنب عن القبيح . (٣)
ب : اللطف المقرب
المراد منه ما يكون موجباً لقرب المكلف إلى فعل الطاعة والبعد عن فعل المعصية ، من دون أن يكون له حظ في التمكين ولا يبلغ الإلجاء وذلك كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب التي تستتبع رغبة العبد إلى العمل وبعده عن المعصية . (٤)
قولهم : « ولاحظ في التمكين » يخرج بعث الرسل وبيان التكليف ، واعطاء
__________________
(١) سيوافيك معنى الوجوب على الله سبحانه .
(٢) لاحظ سورة الذاريات : الآية ٥٦ ، وسورة المؤمنين : الآية ١١٥ .
(٣) الأُصول الخمسة / ٥١٩ .
(٤) كشف المراد / ٢٠١ ، ط صيدا .
القدرة فانّها ممكِّنة للعبد من الطاعة لا مقربة منها وقد عرفت انّ هذا القسم من اللطف داخل في المحصل بالمعنى الأوّل المختار وقوله : « ولا يبلغ الالجاء » يخرج ما إذا لم يكن للعبد معه محيص من اختيار الطاعة ، فهذا أيضاً الجاء وليس لطفاً .
استدلوا على وجوب اللطف مطلقاً انّه تعالى أراد من المكلّف الطاعة فإذا علم أنّه لا يختار الطاعة ( اللطف المحصل ) أو لا يكون أقرب إليها إلّا عند فعل يفعله به ، وجب في الحكمة أن يفعل ، إذا لو أخل به لكشف ذلك عن عدم إرادته أو جرى ذلك مجرى من أراد من غيره حضور طعامه وعلم أو ظنّ انّه لا يحضر بدون رسول ، فمن لم يرسل عدّ مناقضاً لغرضه . (١)
والحقّ هو القول بوجوب اللطف إذا كان مؤثر في قرب الأغلبية الساحقة من المكلّفين إلى الطاعة أي ما هو دخيل في نفس الرغبة إلى الطاعة ، والابتعاد عن المعصية في نفوس الأكثرية ، فيجب على الله القيام به .
وفي الكتاب والسنّة إشارات إلى هذا النوع من اللُّطف . يقول سبحانه : ( وَ بَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) . (٢)
والمراد من الحسنات والسيئات ، نعماء الدنيا وضرّاؤها وكأنّ الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحقّ والطاعة .
ويقول سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) . (٣)
ومفاد الآية أنّ الله تعالى أرسل رسله لإبلاغ تكاليفه تعالى إلى العباد وإرشادهم إلى طريق الكمال ، غير أن الرَّفاه والرَّخاء والتوغل في النعم المادية ، ربما يسبب الطغيان وغفلة الإنسان عن
__________________
(١) قواعد المرام / ١١٨ .
(٢) سورة الأعراف : الآية ١٦٨ .
(٣) سورة الأعراف : الآية ٩٤ .
وإجابة دعوة الأنبياء ، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضراء ، لعلهم يضرعون ويبتهلون إلى الله تعالى (١) .
ولاجل ذلك نشهد أن الأنبياء لم يكتفوا بإقامة الحجة والبرهان ، والإِتيان بالمعاجز ، بل كانوا ـ مضافاً إلى ذلك ـ مبشرين ومنذرين . وكان الترغيب والترهيب من شؤون رسالتهم ، قال تعالى : ( رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (٢) . والإنذار والتبشير دخيلان في رغبة الناس بالطاعة وابتعادهم عن المعصية .
وفي كلام الإِمام علي عليه السلام إشارة إلى هذا ، قال عليه السلام :
« أيها الناس ، إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة ، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأَن يعرّفهم ما لهم وما عليهم ، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي (٣) . والأمر والنهي لا يجتمعان إلا بالوعد الوعيد ، والوعد لا يكون إلا بالترغيب ، والوعيد لا يكون إلا بالترهيب ، والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم ، والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك . . . الخ » (٤) .
وقوله عليه السلام : « والأمر والنهي لا يجتمعان إلّا بالوعد والوعيد » ، إشارة إلى أنّ امتثال الأمر والنهي ونفوذهما في نفوس الناس يتوقف على الثواب والعقاب ، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابية نحو التكليف إلّا من العارفين الذين يعبدون الله تعالى لا رغبة ولا رهبة ، بل لكونه مستحقاً للعبادة .
فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في تحقق الرغبة بالطاعة ، والإبتعاد عن المعصية ، في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر ، يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتكليف عن اللغو ، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث .
__________________
(١) لاحظ الإلهيات ، ج ١ ، بحث البلايا والمصائب والشرور وكونه حكيماً ، ص ٢٧٣ ـ ٢٨٦ .
(٢) سورة النساء : الآية ١٦٥ .
(٣) هذا إشارة إلى اللطف المحصل .
(٤) بحار الأنوار ، ج ٥ ، كتاب العدل والمعاد ، الباب الخامس عشر ، الحديث ١٣ ، ص ٣١٦ .
نعم إذا كانت هذه المباديء كافية في تحريك الأكثرية ، نحو الطاعة ، ولكن القليل منهم لا يمتثلون إلّا في ظروف خاصة ، كاليسر في الرزق ، أو كثرة الرفاه ، فهل هو واجب على الله سبحانه ؟ .
الظاهر لا ، إلا من باب الجود والتفضل .
وبذلك يعلم أن اللطف المقرب إذا كان مؤثراً في رغبة الأكثرية بالطاعة وترك المعصية يجب من باب الحكمة .
وأما اذا كان مؤثراً في آحادهم المعدودين ، فالقيام به من باب الفضل والكرم .
وبذلك تقف على مدى صحة ما استدل به بعضهم على اللطف في المقام ، أو سقمه .
استدل القاضي عبد الجبار على وجوب اللطف بقوله : « إنه تعالى كلّف المكلّف ، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب ، وعلم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب ، واجتنب القبيح ، فلا بد من أن يفعل به ذلك الفعل وإلا عاد بالنقض على غرضه ، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتخذه ، وعلم من حاله أنه لا يجيبه ، إلا اذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره ، فإنه يجب عليه أن يبعث ، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه . وكذلك ها هنا » (١) .
وقال العلامة الحلي : « إن المكلِّف ( بالكسر ) إذا علم أن المكلَّف لا يطيع إلا باللطف ، فلو كلفه من دونه كان ناقضاً لغرضه ، كمن دعا غيره إلى طعام ، وهو يعلم أنه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعاً من التأدّب ، فإن لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضاً لغرضه ، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض » (٢) .
__________________
(١) شرح الاصول الخمسة ، ص ٥٢١ .
(٢) كشف المراد ، الفصل الثاني ، المسألة الثانية عشرة ، ص ٣٢٥ ، ط قم ١٤٠٧ .
وقال الفاضل المقداد : « إنا بيَّنّا أنه تعالى مريد للطاعة وكاره للمعصية ، فإذا علم أن المكلف لا يختار الطاعة ، أو لا يترك المعصية ، أو لا يكون أقرب الى ذلك إلا عند فعل يفعله به ، وذلك الفعل ليس فيه مشقة ولا غضاضة ، فإنه يجب في حكمته أن يفعله ، إذا لو لم يفعله لكشف ذلك : إما عن عدم إرادته لذلك الفعل ، وهو باطل لما تقدم ، أو عن نقض غرضه ، إذا كان مريداً له ، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه .
ويجري ذلك في الشاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة ، وعرف أو غلب على ظنه أن ذلك الشخص لا يحضر إلا مع فعل يفعله ، من إرسال رسول أو نوع أدب أو بشاشة أو غير ذلك من الأفعال ، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه .
ونقض الغرض باطل ، لأنه نقض ، والنقص عليه تعالى محال ، ولأن العقلاء يعدونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة » (١) .
وهذه البيانات تدل على أن اللطف واجب من باب الحكمة .
هذا كلام القائلين بوجوب اللطف ، وهو على اطلاقه غير تام ، بل الحق هو التفصيل بين ما يكون مؤثراً في تحقق التكليف بشكل عام بين المكلفين ، فيجب من باب الحكمة ، والا فيرجع إلى جوده وتفضله من دون إيجاب عليه .
واستدل القائل بعدم وجوبه بقوله : « لو وجب اللطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاصٍ ، لأنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح ، فلما وجدنا في المكلفين من أطاع وفيهم من عصى ، تبين أن الألطاف غير واجبة على الله تعالى » (٢) .
يلاحظ عليه : أنَّ كون العاصي دليلاً على عدم وجوبه ، يعرب عن أنّ
__________________
(١) ارشاد الطالبين ، ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨ .
(٢) شرح الاصول الخمسة ، ص ٥٢٣ .
المستدل لم يقف على حقيقة اللطف ، ولذلك استدل بوجود العصاة على عدم وجوبه ، فهو تصور أن اللطف عبارة عما لا يتخلف معه المكلف عن الإتيان بالطاعة وترك المعصية ، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوده ، وعدم وجوده دليلاً على عدم وجوبه ، مع أنك قد عرفت في أدلة القائلين به بأنه ما يكون مقرباً إلى الطاعة ومبعّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حد الإلجاء .
يقول القاضي عبد الجبار بأن العباد على قسمين ، فإن فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنب القبيح ، أو يكون اقرب الى ذلك . وفيهم من هو خلافه حتى إنْ فَعَلَ به كُلَّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً (١) .
ويؤيده ما ورد في الذكر الحكيم من أن هناك اُناساً لا يؤمنون ابداً ولو جاءهم نبيهم بكل أنواع الآيات والمعاجز .
قال سبحانه : ( وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ) (٢) .
وقال سبحانه : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) (٣) .
وفي الختام ، نقول : إن اللطف سواء أكان المراد منه اللطف المحصِّل أو اللطف المقرّب ، من شؤون الحكمة ، فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللغو العبث ، لا مناص له عن الإعتقاد بهذه القاعدة ، غير أنّ القول بوجوب اللطف في المحصّل أوضح من القول به في المقرّب .
ولكن يظهر من الشيخ المفيد أن وجوب اللطف من باب الجود والكرم ، قال : « ان ما اوجبه أصحاب اللطف من اللطف ، إنما وجب من جهة الجود
__________________
(١) شرح الاصول الخمسة ، ص ٥٢٠ .
(٢) سورة يونس : الآية ١٠١ .
(٣) سورة البقرة : الآية ١٤٥ .
والكرم ، لا من حيث ظنوا أن العدل أوجبه ، وأنه لو لم يفعل لكان ظالماً » (١)
يلاحظ عليه : إن إيجابه من باب الجود والكرم يختص باللطف الراجع إلى آحاد المكلفين ، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة أو غرض التكليف عند الأكثرية الساحقة من المكلفين ، كما عرفت .
ثم إن المراد من وجوب اللطف على الله سبحانه ، ليس ما يتبادر إلى اذهان السطحيين من الناس ، من حاكمية العباد على الله ، مع أن له الحكم والفصل ، بل المراد إستكشاف الوجوب من أوصافه تعالى ، فإن أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى ، كما أن أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى .
فإذا علمنا ـ بدليل عقلي قاطع ـ أنه تعالى حكيم ، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنه لطيف بعباده ، حيثما يبطل غرض الخلقة أو غرض التكليف ، لو لا اللطف .
* * *
__________________
(١) اوائل المقالات ، ص ٢٥ ـ ٢٦
أدلة منكري بعثة الأنبياء
الدليل الأول .
إن الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها . فإن جاء بما يوافق العقول ، لم يكن إليه حاجة ، ولا فائدة فيه . وإن جاء بما يخالف العقول ، وجب ردّ قوله .
وبعبارة أخرى : إنّ الذي يأتي به الرسول لا يخلو من أحد أمرين : إمّا أن يكون معقولاً ، وإمّا أن لا يكون معقولاً .
فإن كان معقولاً ، فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه ، فأي حاجة لنا إلى الرسول . وإن لم يكن معقولاً ، فلا يكون مقبولاً . إذ قبول ما ليس بمعقولٍ ، خروجٌ عن حدّ الإِنسانية ودخولٌ في حريم البهيمية .
والجواب :
إن حصر ما يأتي به الرسول بموافق العقول ومخالفها ، حصر غير حاصر . فإن ها هنا شقّا ثالثاً وهو إتيانهم بما لا يصل إليه العقل بالطاقات الميسورة له . فإنك قد عرفت فيما أقمنا من الأدلة على لزوم البعثة ، أن عقل الإِنسان وتفكّره قاصر عن نيل الكثير من المسائل ، فلاحظ .
الدليل الثاني :
قد دلّ العقل على أن الله تعالى حكيم ، والحكيم لا يتعبّد الخلق الّا بما تدل عليه عقولهم ، وقد دلّت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً ، وأنه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر . فننظر في آيات خلقه بعقولنا ، ونشكره بآلائه علينا . وإذا عرفناه وشكرنا له ، إستوجبنا ثوابه . وإذا أنكرناه وكفرنا به ، إستوجبنا عقابه . فما بالنا نتّبع بشراً مثلنا ؟ ! . .
والجواب :
إن قسماً من هذا الدليل تكرار للدليل الأول . وأما ما اُفيد في ذيله من وقوف الأنسان على حسن الشكر وقبح الكفر ، فهو وإن كان صحيحاً ، غير أنه يلاحظ عليه أمران :
الاول : إن كثيراً من الناس لا يعرفون كيفية الشكر . فربما يتصورون أن عبادة المقرَّبين نوع شكر لله سبحانه . فلأجل ذلك ترى عبدة الاصنام والاوثان يعتقدون أن عبادتهم للمخلوق شيئاً موجباً للتقرّب (١) .
الثاني ـ إنَّ تخصيص برامج الأنبياء بالأمر بالشكر والنهي عن كفران النعمة ، غفلة عن اهدافهم السامية . فإنهم جاؤوا لإسعاد البشر في حياتهم الفردية والاجتماعية ، ولا تختص رسالتهم بالأوراد والأذكار الجافة ، كتلك التي يرددها أصحاب بعض الديانات أيام السبت والأحد في البيع والكنائس . وإنك لتقف على عظيم أهداف رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله إذا وقفت على كلمته المأثورة :
« إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة » (٢) .
__________________
(١) قال تعالى حكاية عن المشركين : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَ ) ( سورة الزمر : الآية ٣ )
(٢) تاريخ الطبري ج ٢ ، ص ٦٣ قاله النبي عند دعوة اقاربه إلى الاسلام ، طبعة بيروت .