الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
حتى صار الناس فيك سواء » (١) .
٩ ـ قال علي عليه السلام : « أمّا رسول الله صلى الله عليه وآله فخاتم النبيين ، ليس بعده نبي ولا رسول ، وختم برسول الله الأنبياء إلى يوم القيامة » (٢) .
١٠ ـ قال علي عليه السلام في خطبة الأشباح : « . . . بل تعاهدهم ( العباد ) بالحجج على أَلسن الخيرة من أنبيائه ، ومتحملي ودائع رسالاته ، قَرْناً فقرناً ، حتى تمّت بنبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) حُجَّتُهُ ، وبلغ المَقْطَعَ عُذْرُهُ ونُذُرُه » (٣) .
* * *
ثم إنّه قد أُورد على الخاتمية شبهاتٌ واهية ، غنية عن الإجابة ، يقف عليها كلُّ من له إلمام بالكتاب والسُّنة والأدب العربي ، وإنّما هي صَخَب وهياج وجدال باطل ، يؤثّر في الجاهلين . ولأجل ذلك إستخدمتها القاديانية ، والبابية ، والبهائية ، ذريعة لاصطياد السذج من الناس غير العارفين باللُّغة ، ولا بالكتاب والسنّة ، ولأجل إراءة ضآلة هذه الشبهات نأتي بشبهة واحدة منها ، تُعَدُّ من أقوى شبهاتهم ، ثم نعطف عنان القلم إلى تحرير أسئلة صحيحة مطروحة حول الخاتمية ، وهي قابلة للبحث والنقاش ؛ فإليك البيان :
شبهة واهية
كيف يدّعي المُسلمون انغلاق باب النبوة والرسالة ، مع أنّ صريح كتابهم قاضٍ ، بانفتاح بابها إلى يوم القيامة ، وقد جاء في كتابهم قوله : ( يَا بَنِي آدَمَ ،
__________________
(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٣٠ . ومجالس المفيد ، ص ٥٢٧ . والبحار ، ج ٢٢ ، ص ٥٢٧ .
(٢) الإحتجاج ، ج ١ ، ص ٢٢٠ .
(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ٨٧ . وما أوردناه نماذج من أحاديث الخاتمية اقتصرنا عليها رَوْماً للإختصار ، ومن أراد التفصيل والإحاطة بأكثر ما ورد في هذا المجال من النبي وعترته الطاهرة فليرجع إلى مفاهيم القرآن ، ج ٣ ، ص ١٤٨ ـ ١٧٩ . فقد وصل عدد الأحاديث في هذا المجال إلى ١٣٥ حديثاً ، والكلُّ يشهد على إيصاد باب النبوة ورسالة السماء إلى الأرض .
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ، فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ ، فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) .
فقوله : ( إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ) ـ مقروناً بنون التأكيد ـ كاشفٌ عن عدم إيصاد باب النبوة ، وأنّه مفتوح .
والجواب : إنّ هذه الشبهة حصلت من الجمود على نفس الآية ، والغفلة عن سياقها . فإنّ الآية تحكي خطاباً خاطب به سبحانه بني آدم في بدء الخلقة ، وفي الظرف الذي هبط فيه آدم إلى الأرض ، وقد شرع القرآن بنقل القصة والخطابات في سورة الأعراف من الآية الحادية عشر ، وختمها في الآية السابعة والثلاثين ، فبدأ القصة بقوله :
( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ، لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ) .
وختمها بقوله :
( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * قَالَ : فِيهَا تَحْيَوْنَ ، وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) (٢) .
وعند ذلك ، خاطب سبحانه أبناء آدم بخطابات أربعة ، تهدف إلى لزوم الطاعة ، والتحرز عن إطاعة الشيطان ، وأنّ لهم في قصة أبيهم وأُمهم ، عبرةً واضحةً ، فقال :
١ ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ . . ) .
٢ ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ، كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ . . ) .
٣ ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ . . . ) .
__________________
(١) سورة الأعراف : الآية ٣٥ .
(٢) سورة الأعراف : الآيات ١١ ـ ٢٥ .
٤ ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ) .
فالخطاب الأخير ، ليس إنشاءَ خطاب في عصر الرسالة ، حتى ينافي ختمها ، بل حكاية للخطاب الصادر بعد هبوط أبينا آدم إلى الأرض .
والذي يوضح ذلك قوله سبحانه في سورة أُخرى :
( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ) (١) .
فقوله : ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ) ، يتحد مع الآية السابقة ، مضموناً .
وهذا النموذج من الشبهات يوقفك على حالة سائر ما استدلّت به الفرق الباطلة في هذا المجال ، من القرآن ، ولذلك ضربنا عن هذه الشبهات صفحا (٢) . ونعرّج إلى أسئلة جديرة بالبحث والنقاش ، حول الخاتمية طَرَحها مرور الزمان ، وتكامُلُ الحضارات ، وتَفَتُّح العقول ، على بساط البحث . فلأجل أهميتها ، نطرحها ، ثم نجيب عنها بما يناسب وضع الكتاب .
* * *
__________________
(١) سورة طه : الآية ١٢٣ .
(٢) لاحظ ـ للوقوف عليها وعلى أجوبتها ـ « مفاهيم القرآن » ، ج ٣ ، ص ١٨٥ ـ ٢١٦ .
* أسئلة حول الخاتمية
١ ـ لماذا حُرمت الأُمَّة من النبوة التبليغية ؟ .
٢ ـ لماذا حُرِمَتِ الأُمَّة من الإطّلاع على الغيب ؟ .
٣ ـ كيف تكونُ الشريعة ثابتة مع أنَّ التحولَ ناموس عام ؟ .
٤ ـ كيف تكون الشريعةُ ثابتة مع أنّ لكلّ عصرٍ اقتضاءً خاصاً ؟ .
٥ ـ هل القوانين المحدودة تفي بالحاجات غير المتناهية ؟ .
أسئلة حول الخاتمية السؤال الأول |
|
لماذا حُرمت الأُمة من النبوة التبليغية ؟
إنّ النبي إذا بُعث بشريعة جديدة ، وكتابٍ جديد ، تكون نبوَّته تشريعية ، وإذا بعث لغايةِ دعم أحكام شريعة سالفة ، فالنبوة ترويجية أو تبليغية . والقسم الأول من الأنبياء منحصر في خمسة ، ذكرت أسماؤهم في القرآن (١) . وأمّا القسم الثاني ، فيشكّله أكثرية الأنبياء ، لأنّهم بُعثوا لترويج الدين النازل على أحد أُولئك ، فكانت نبوتهم تبليغية (٢) .
فعندئذٍ ، يُطرح السؤال التالي : إنّ نبيَّ الإسلام جاء بأكمل الشرائع وأتمّها ، ولذلك أُوصد باب النبوة التشريعية ، ولكن لماذا أُوصد باب النبوة التبليغية التي منحها الله للأُمم السالفة ، فإنّ الشريعة مهما بلغت من الكمال والتمام ، لا تستغني عمن يقوم بنشرها وتجديدها ، لكي لا تندرس ، حتى يتم إبلاغها من السلف إلى الخلف بأُسلوب صحيح . فلِمَ أُوصد هذا الباب ، بعدما كان مفتوحاً في وجه الأُمم الماضية ؟ .
الجواب :
إنّ انفتاح باب النبوة التبليغية في وجه الأُمم السالفة وإيصاده بعد
__________________
(١) سورة الشورى : الآية ١٣ .
(٢) الكلمة الدارجة لمعنى التبليغ في البيئات العربية ، هي كلمة التشريع ، ولكن كلمة التبليغ أولى وأليق ، فهي مقتبسة من القرآن ، ومدلولها اللغوي منطبق على المقصود .
نبي الإسلام ، لا يعني أنّ الأمم السالفة تفرّدت بها لفضيلة استحقتها دون الخلف الصالح ، أو أنّ الأمّة الإسلامية حرمت لكونها أقلّ شأناً من الأُمم الخالية ، بل الوجه هو حاجة الأُمم السالفة إليها وغناء الأُمة الإسلامية عنها ، لأنّ المجتمعات تتفاوت إدراكاً ورشداً فربّ مجتمع يكون في أخلاقه وشعوره كالفرد القاصر ، لا يقدر على أن يحتفظ بالتراث الذي وصل إليه ، بل يضيعه ، كالطفل الذي يمزق كتابه وقرطاسه ، غير شاعر بقيمتهما .
ومجتمع آخر بلغ من القيم ، الفكرية والأخلاقية والإجتماعية ، شأواً بعيداً ، فيحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه ، بل يستثمره إستثماراً جيداً ، وهو عند ذاك غني عن كل مروّج يروّجُ دينه ، أو مُبَلِّغ يذكِّره بمنْسيَه ، أَو مُرَبٍّ يرشده إلى القيم الأخلاقية ، أو معلّم يعلّمه معالم دينه ، إلى غير ذلك من الشؤون .
فأفراد الأُمم السالفة كانوا كالقُصَر ، غير بالغين في العقلية الإجتماعية ، فما كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الذي وصل إليهم ، بل كانوا يلعبون به لعب الصبي في الكتاتيب ، بكتابه أو قرطاسه ، فيخرقه ويمزقه ولا يبقي شيئاً ينتفع منه إلى آخر العام الدراسي . ولهذا كان على المولى سبحانه أن يبعث في كل جيل منهم نبيّاً ليذكّرهم بدينهم ، ويجدد به شريعة من قبله ، ويزيل ما علاها من شوائب التحريف .
وأمّا المجتمع البشري بعد بعثه الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد بلغ من المعرفة والإدراك والتفتّح العقلي شأواً ، يتمكن معه من حفظ تراث نبيّه وصيانة كتابه عن طوارق التحريف والضياع ، حتى بلغت عنايته بكتابه الديني إلى حدّ تأسيس علوم عديدة لفهم كتابه . فازدهرت ، تحت راية القرآن ، ضروب من العلوم والفنون . فلأجل ذلك الرشد الفكري ، جعلت وظيفة التبليغ والترويج وصيانة التراث على كاهل نفس الأُمّة ، حتى تبوّأَت وظيفة الرسل في التربية والتبليغ ، واستغنت عن بعث نبي مجدد .
ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (١) .
__________________
(١) سورة آل عمران : الآية ١١٠ .
وقال سبحانه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (١) .
وقد ظهرت طلائع هذا الإعتماد على الأُمّة من قوله سبحانه : ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (٢) .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « إذا ظهرت البِدَعْ ، فليُظْهر العالِمُ عِلْمَه ، فمن لم يفعل ، فعليه لعنة الله » (٣) .
وقال الإمام الباقر : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيلُ الأنبياء ، ومنهاج الصلحاء ، وفريضة تقام بها الفرائض ، وتؤمَن المذاهب ، وتَحِلُّ المكاسب ، وتُرَدُّ المَظالم ، وتَعْمُر الأرض ، وينتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر » (٤) .
وما ذكرنا من الجواب يلائم أُصول أهل السنة في دور الأُمة وعلمائها في حفظ الشريعة . ولكن هناك جواب آخر أصحّ وأجمع .
وحاصله : إنّ أئمّة الشيعة بحكم حديث الثَّقلين ، يحملون علم النبي في المجالات المختلفة سواء في مجال المعارف والعقائد ، أو في مجال الأحكام والوظائف ، أو في مجال الإحتجاج والمناظرة ، أو في مجال الأجوبة على الأسئلة المستجدة ، كل ذلك بتعليم من الله سبحانه ، من دون أَن يكونوا أنبياء يوحى إليهم .
فلأجل ذلك ، كل إمام في عصره ، يقوم بمهمة التبليغ والترويج ، ويجلي الصدأ عن وجه الدين ، ويردُّ شبهات المبطلين ، فاستغنت بهم الأُمّة عن كل نبوة
__________________
(١) سورة آل عمران : الآية ١٠٤ .
(٢) سورة التوبة : الآية ١٢٢ .
(٣) وسائل الشيعة ، كتاب الأمر بالمعروف ، الباب ٤٠ ، الحديث ١ .
(٤) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، كتاب الأمر بالمعروف ، الباب الأول ، الحديث ٦ .
ترويجية ، والتاريخ يشهد بأنّ كل إمام من أئمة الشيعة الإثني عشرية ، قام بأعباء مهمة التبليغ ، وإيصال مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى الأمة ، ولقد عانوا في ذلك من المشاق ، ولاقوا من الأهوال ما لاقاه جدّهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم (١) .
* * *
__________________
(١) بما أنّ الأبحاث المعقودة في فصل الإمامة والخلافة تتكفل بإثبات ذلك ، اكتفينا بهذا المقدار ، وسيوافيك التفصيل فيه .
أسئلة حول الخاتمية السؤال الثاني |
|
لماذا حرمت الأمة من الإطلاع على الغيب ؟
إنّ الشريعة الإسلامية ، وإن كانت أكمل الشرائع ، والخَلَفُ من الأُمّة ، قادر على حفظ تراثه الديني ، أو أنّ العترة الطاهرة تقوم بمهمة التبليغ ، ولأجل ذلك أُوصد باب النبوة التشريعية والتبليغية ، إلّا أنّ إيصادها على الإطلاق يستلزم انقطاع الفتوحات الباطنية عن طريق النبي المبعوث .
وذلك ، لأنّ انقطاع النبوة بمعنى انقطاع أخبار السماء عن أهل الأرض ، وانقطاع الإطلاع على الغُيُوب ، وهذا خسران للأُمة ، مع أنّه كان مفتوحاً في وجه الأُمم السالفة ، فهل معنى ذلك أنّ الأُمّة الإسلامية أقلُّ جدارة منها ، واستحقاقاً لها ؟ .
وحاصل السؤال أنّ إيصاد باب النبوة ، لأجل كمال الشريعة واستغناء الأُمّة عن نبي مبلغ ، وإن كان أمراً لازماً ، غير أنّ سدّ بابِ النبوة يستلزم سدّ باب الفيوض المعنوية ، والمكاشفات الغيبية ، والمشاهدات الروحية التي تصل إلى الأُمّة عن طريق نبيّها ؛ فرفعُ النبوة وختمها ، يستلزم ذلك الحرمان .
الجواب :
إنّ سدّ باب النبوة لا يستتبع إلّا سدّ باب الوحي في مجال تشريع الحكم ، أو في مجال تبليغ الشريعة السابقة .
وأمّا سائر الفتوحات الباطنية فهي مفتوحة في وجه الأُمّة إلى يوم القيامة ، من غير فرق بين الإتصال بعالم الغيب عن طريق البرهنة والإستدلال والتدبر في آياته الآفاقية ، الذي يشير إليه تعالى بقوله : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (١) . وأمّا الإتصال به بلا توسيط برهان أو دليل ، بل بمشاهده عين القلب وبصر الروح ، وشهود الحقائق العلوية ، وانكشاف ماوراء الحسّ والطبيعة من العوالم الروحية ، ومعرفة ما يجري عليه قلمه تعالى في قضائه وقدره ، والإتصال بجنوده سبحانه وملائكته ، واستماع كلامهم وأصواتهم ، إلى غير ذلك من الأُمور ، إلّا أنّه مقام خطير يحصل لعدّة من المتحررين عن سلوك طريق الطبيعة ، الحابسين أنفسهم في ذات الله ، العاملين بكتابه وسنّة نبيّه ، حسب ما لهم من المقدرة والطاقة ، لتحمل الأُمور الغيبية ، ومشاهدة جلاله وجماله ، وكبريائه وعظمته ، وما لأوليائه من مقامات ودرجات وما لأعدائه من نار ولهيب ودركات .
وليس ما ذكرنا من إمكان الإتصال ، كلمة خطابية ، أو عرفانية غير معتمِدة على الكتاب والسنّة ، بل الكتاب الحكيم يقضي بذلك عند التأمُّل والإمعان فيه :
١ ـ قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّـهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ) (٢) ، أي يجعل في قلوبكم نوراً تُفَرّقونَ به بين الحَقّ والباطل ، وتُمَيّزون به بين الصحيح والزائف بالبرهنة والإستدلال ، أو بالشهود والمكاشفة .
٢ ـ وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٣) .
والمراد من النور ، هو ما يمشي المؤمن في ضوء هدايته في دينه ودنياه ، وهذا النور الذي يغمره نتيجة إيمانه وتقاه ، يوضحه قوله سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا
__________________
(١) سورة فصلت : الآية ٥٣ . ونظيره الذاريات : الآيتان ٢٠ و ٢١ .
(٢) سورة الأنفال : الآية ٢٩ .
(٣) سورة الحديد : الآية ٢٨ .
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (١) .
٣ ـ وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (٢) .
٤ ـ وقال سبحانه : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (٣) .
والمراد رؤيتها قبل يوم القيامة ، رؤية البصيرة ، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين ، على ما يشير إليه قوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (٤) . وهذه الرؤية القلبية ، غير محققة قبل يوم القيامة لمن ألهاه التكاثر ، بل مُمْتنعة في حقّه .
كما أنّ المراد من قوله : ( ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) . هو مشاهدتها يوم القيامة ، بقرينة قوله سبحانه بعد ذلك : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) .
فالمراد بالرؤية الأُولى رؤيتها قبل يوم القيامة ، وبالثانية رؤيتها يوم القيامة (٥) .
٥ ـ وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) (٦) . فلو أنّ الإنسان جَعَلَ نفسه في مسير الهداية ، وطلبها من الله سبحانه ، لزاده تعالى هدىً ، وآتاه تقواه .
٦ ـ وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) (٧) . وهذه الآية تُبَيِّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم ، وواجهوا المشاق في حفظ
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ١٢٢ .
(٢) سورة العنكبوت : الآية ٦٩ .
(٣) سورة التكاثر : الآيات ٥ ـ ٨ .
(٤) سورة الأنعام : الآية ٧٥ .
(٥) لاحظ الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٤٩٦ ـ ٤٩٧ .
(٦) سورة محمد : الآية ١٧ .
(٧) سورة الكهف : الآية ١٣ .
إيمانهم ودينهم ، فزاد الله من هداه في حقّهم ، وَرَبط على قلوبهم ، كما في الآية التالية :
٧ ـ وقال سبحانه : ( وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَـٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) (١) .
إلى غير ذلك من الآيات التي تعرب عن عدم إيصاد هذا الباب .
ثم إنّ في السنّة النبوية الشريفة ، والخطب العَلَوية ، تصريحات وإشارات إلى انفتاح هذا الباب .
فمن ذلك ما روَته الصحاح عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال :
« لَقَد كان فيمن قَبْلَكُم من بني إسرائيل رجال يُكَلَّمونَ من غير أَنْ يكونوا أنبياء » (٢) . وهذا هو المُحَدَّث في مصطلح أهل الحديث . وقد تضافرت الروايات على أنّ مريم وفاطمة وعلياً عليهم السلام كانوا مُحَدَّثين .
ويقول الإمام علي عليه السلام في كلام له ، يحكي فيه عن صاحب التقوى : « قد أَحيا عَقْلَهُ ، وأَمات نَفْسَهُ ، حتى دَقَّ جَليلُهُ ، وَلَطُفَ غَليظُهُ ، وَبَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كثيرُ البَرْقِ ، فَأَبانَ لَهُ الطَّريقَ ، وَسَلَكَ به السَّبِيلَ ، وَتَدَافَعَتْهُ الأَبْواب إلى بابِ السلامةِ ، ودارِ الإقامةِ ، وَثَبَتَتْ رِجْلاهُ بِطُمَأْنينَةٍ في بَدَنِهِ في قرار الأمن والراحة ، بما استعملَ قَلْبَه ، وأَرضى رَبَّه » (٣) .
ويقول عليه السلام ، في كلمة أخرى تعرب عن رأي الإسلام في هذه المجال ، قالها عند تلاوته قوله سبحانه : ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ ) قال : « إنّ الله سبحانه جعل الذِّكر جلاءً للقلوب ، تَسْمع به بعد الوَقْرَة ، وتبْصِر به بعد العَشْوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح لله ـ عزّت آلاؤه ـ في البُرهة بعد البُرهة ، وفي أزمان الفترات ، عباد
__________________
(١) سورة الكهف : الآية ١٤ .
(٢) صحيح البخاري ، ج ٢ ، ص ١٤٩ .
(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ٢١٥ .
ناجاهم في فكرهم ، وكلّمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يَقَظَةٍ في الأبصار والأسماع والأَفئدة ، يُذَكِّرونَ بأَيّام الله ، وَيُخَوِّفونَ مَقامَهُ ، بِمَنْزِلَةِ الأَدلّةِ في الفَلَواتِ . . . إلى أن قال : وإِنّ للذِّكْرِ لأَهلاً أَخذُوه من الدُّنيا بَدَلاً ، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عنه يقطعون به أيام الحياة ، ويهتِفون بالزواجر عن محارم الله ، في أسماع الغافلين ، ويأمرون بالقسط ، ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة ، وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأَنّما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، وحققت القيامة عليهم عداتها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا ، حتى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس ، ويسمعون ما لا يسمعون . . . » (١) .
وقد تربى في أحضان علي عليه السلام ، صفوة من رجال الخير ، يُسْتَدَرّ بهم الغمام ويضنّ بهم الزمان ، كزيد وصعصعة ابني صوحان ، وأُوَيْس القَرَني ، والأَصْبَغ بن نُباتة ، ورشيد الهجري ، وميثم التّمار ، وكُميل بن زياد ، وأشباههم ، وكان هؤلاء مُثلاً للفضيلة وخزانة للعلم والأسرار ، منحهم أمير المؤمنين عليه السلام من سابغ علمه ، واستأمَنَهم على غامض أسراره ، ممّا لا يقوى على احتماله غير أمثالهم ، حتى زكت نفوسهم ، وكادوا أن يكونوا بعد التصفية ملائكة مجردة عن النقائص ، لا يعرفون الرذيلة ولا تعرفهم .
* * *
__________________
(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢١٧ .
أسئلة حول الخاتمية السؤال الثالث |
|
أليس التحول ناموساً عاماً ، فما معنى الشريعة الثابتة ؟
ليس في الكون المادي ، أمر خالد باقٍ مدى الدهور وتعاقب الأجيال ، لأنّ التحوّل ناموس عام في الطبيعة ، وعلى ذلك ، فكيف يقرر الإسلام سنناً وقوانين ثابتة ، منذ بعثة الرسول إلى يوم القيامة ، فإنّ الإعتقاد بخاتمية الرسول وكتابه وسننه وتشريعاته ، يلازم الإعتقاد بثباتها في هذا الكون الذي كتب على جبينه عدم القرار والثبات .
الجواب :
إنّ السؤال نَجَم من الخلط بين الموجودات المادية والنواميس الحاكمة عليها ، فالمتغيّر هو الأول دون الثاني ، فإنّ السماء والأرض وما فيهما لا تستقرّ على حالة واحدة ، وأمّا النواميس السائدة عليها فهي ثابتة أبدية لا يصيبها التبدّل ، ولا تقع في إطار الحركة والتحوّل .
مثلاً : المعادلات الرياضية ، وقانون الجاذبيّة ، والثقل النوعي في الموجودات ، وانكسار الضوء وأحكام العَدَسِيّات وسرعة النور وغيرها من القوانين الفيزيائية ، ثابتة غير متغيرة ، سائدة في كل الظروف والأزمنة .
ومثله : الأحكام الشرعية ، المحمولة
على الموضوعات الخارجية فالموضوعات وإن كانت تتغير ، والمجتمع يتحول من حال إلى أُخرى ، ولكن لكلّ
موضوع في حال خاص حكم لا يتغير ما دام الموضوع موضوعاً ، وإذا تبدّل ، فالتبدّل يستلزم رفع الحكم برفع موضوعه لا استبداله بحكم آخر .
وبذلك تقف على مدى وهن ما يُعترض به على ثبات قوانين الإسلام ، بأنّه ليس عندنا أصل ثابت وشيء مستقر ، بل الكون بأجمعه يموج بالتحولات والتغيرات .
إذ فيه مضافاً إلى ما ذكرنا من الخلط بين القانون ومُنْطَبَقه ، أَنّ قولَهم هذا بأنّه ليس عندنا علم ثابت ، هو بحدّ ذاته ، قانون ثابت لدى المعترض ، فهو في الوقت الذي يعترض فيه على ثبات القوانين وبقائها ، يعترف بقانون ثابت في العالم ، وهو أنّه « ليس عندنا قانون ثابت » .
* * *
أسئلة حول الخاتمية السؤال الرابع |
|
كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكل عصرٍ اقتضاءً خاصّاً ؟ (١)
التطور الإجتماعي يستلزم تطوراً في قوانين المجتمع ، والقانون الموضوع في ظرف خاص ، ربما يكون مضرّاً أو غير مفيد في ظرف آخر ، ومقتضيات الزَّمان ( القوانين ) ، تختلف باختلاف ألوان الحياة والظروف الطارئة على المجتمع ، فما صحّ بالأمس ، لا يصحّ اليوم ، وما يصحّ اليوم لا يصحّ غداً . وعلى هذا فلو كانت الحياة مستمرة على وتيرة واحدة ، لساغ للتشريع الإلهي المحمدي أن يسود في جميع الظروف والأحوال إلى يوم القيامة ، لكنها لما كانت متغيرة ومتحوّلة ، فلا يصحّ للشريعة الإلهيّة السيادة على المجتمعات دائماً ، فكيف يصحّ القول بأنّ شريعة الإسلام شريعة خالدة ، إذ لا يُعْنى من خاتمية النبوة ، إلّا خاتمية الشريعة وبقاؤها إلى الأبد .
الجواب :
إنّ هذه الشبهة من أَهمّ الشبهات في موضوع الخاتمية ، ومنشؤها تخيل أنّ
__________________
(١) الفرق بين هذا السؤال وسابقه واضح ، فإنّ الأول ، يعتمد على اصل فلسفي وهو شمول التحول لكلّ ما في الكون ، وانطلاقاً من هذا الأصل لا يمكن الإعتراف بثبات أصل وقانون . والسؤال الثاني سؤال اجتماعي ، وهو لزوم اختلاف القوانين حسب اختلاف المقتضيات ، والإعتراف بهذا لا يجتمع مع القول بثبوت سنن الإسلام وقوانينه .
التحوّل يدبّ في جميع شؤون الإنسان ، وأمّا إذا قلنا بأنّ للإنسان ـ مع قطع النظر عمّا يحيط به من الظروف المختلفة ـ روحيات وغرائز لا تتغير أبداً ، ولا تَنْفَكُّ عنه ، وهي في الحقيقة مشخصات تكوينية له ، بها يتميز عن سائر الحيوانات ، فالشبهة مندفعة من رأس ، فإنّ القوانين والسنن الراجعة إليها ، تكون ثابتة خالدة ، حسب خلودها ، إذا كانت موافقة لما تقتضيه .
توضيحه : إنّ السائل قد قصر النظر على ما يحيط بالإنسان من الظروف المختلفة المتبدلة ، التي هي نتيجة تكامل الحضارات والمجتمعات ، وذهل عن أنّ للإنسان غرائز ثابتة وروحيات خالدة ، لا تستغني عن قانون ينظّم اتجاهاتها وتشريعٌ يعدِّلها ، ويصونها عن الإفراط والتفريط ، فبما أنّ هذه الغرائز والفطريات ، لا تمسّها يد التغيّر ، فالتشريعات المطابقة لمقتضى الفطرة ، والصالحة لهدايتها ، تخلد بخلودها وتثبت بثبوتها ، فلو كان السائل واقفاً على أنّ الإنسان مركب من مشخصات تكوينية أبدية ، ومشخصات طارئة متغيرة ، لوقف على أنّ القوانين الراجعة إلى هداية الفطرة وتعديلها ، تَثْبُت على جبين الدَّهر ، ما دام الإنسان إنساناً ، وأمّا القوانين الراجعة إلى المشخصات الطارئة المتحولة ، فلا تصلح للخلود والثبات . وإليك فيما يلي أمثلة لما ذكرناه .
١ ـ الروابط العائلية ، كرابطة الولد بوالديه ، والأخ بأخيه ، هي روابط طبيعية ، لوجود الوحدة الروحية ، فالسنن الراجعة إلى تنظيم هذه الروابط ، من التوارث أولاً ، ولزوم التكريم والصِّلة ثانياً ، من الأحكام التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان ، فلا تجد مجتمعاً ينادي بقطع التوارث بين الوالد والولد ، أو قطع الحضانة بين الأُم وولدها ، أو ما شابه ذلك .
٢ ـ إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس ، فهما موجودان بشريان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً ، على رغم كل الدعايات السخيفة التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما . ولأجل ذلك إختلفت أحكام كل منهما عن الآخر اختلافاً يقتضيه طبع كل منهما . فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما ، ظلّ ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان لثبات الموضوع المقتضي لثبات محموله .
٣ ـ الإنسان بما هو موجود إجتماعي ،
يحتاج لحفظ حياته وبقاء نسله ، إلى
العيش الإجتماعي ، والحياة العائلية ، وهذان الأمران من أُسس حياة الإنسان ، ما برحت تقوم عليهما ـ في جمله ما تقوم عليه ـ منذ تكون الإنسان .
ومن المعلوم أنّ الحياة الإجتماعية والعائلية ، ليستا غنيتين عن التشريع لتنظيمهما ، فلو كان التشريع حافظاً لحقوق الأفراد ، خالياً عن الظلم والجور ، مبنياً على مِلاكات واقعية ، يدوم هذا القانون ، ما دام مرتكزاً على العدل والصلاح .
٤ ـ التشريع الإسلامي حريص جداً على صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والإنحلال ، ومما لا يشك فيه أنّ الخمر والميسر ، والإباحية الجنسية ، ضربات تقصم ظَهْر الأخلاق وتقضي عليها ، فالخمر يزيل العقل ، والميسر يُنبت العداوة في المجتمع ، والإباحية الجنسية تُفْسد الحرث والنسل ، فالأحكام الراجعة إليها ثابتة دائماً .
وحصيلة البحث أنّ تطور الحياة الإجتماعية في بعض نواحيها ، لا يوجب أن يتغير النظام السائد على مقتضى الفطرة ولا أن تتغير الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية من مصالح ومفاسد كامنة في موضوعاتها ، فلو تغيّر لون الحياة في وسائل الركوب ، والنقل ، ومعدات التكتيك الحربي ، و . . ، فإنّ ذلك لا يقتضي أن تنسخ أحكام الفطرة أو تنسخ حرمة الظلم ، ووجوب العدل ، ولزوم أداء الأمانة ، والوفاء بالعهود والأَيْمان ، إلى غير ذلك من الأحكام الراجعة إلى التحسين والتقبيح العقليين ، التي يستقل العقل ببقاء أحكامهما ما دام الموضوع موضوعاً .
أجل ، إنّ تقلب الأحوال ، وتحوّل الأوضاع الإجتماعية يتطلب تحولاً في السنن والأنظمة ، وتبدّلاً في الأحكام والقوانين ، غير أنّه لا يتطلب تحوّلاً فيما يمسّ واقعية الإنسان الثابتة في جميع الظروف ، كما لا يتطلب تحوّلاً في القوانين الكونية التي تدير الكون بأُصولها الثابتة ، فلا تتغير النسب الرياضية ، ولا القواعد الهندسية ، وإن تطورت الأوضاع وتحولت (١) .
__________________
(١) قد مضى عند البحث في الشاهد الخامس من شواهد إعجاز القرآن الكريم ، وهو اتقان التشريع والتقنين ، ما يفيدك ، فراجع .
أسئلة حول الخاتمية السؤال الرابع |
|
هل القوانين المحدودة تفي بالحاجات غير المتناهية ؟
إنّ توسع الحضارة يُلزم المجتمع بتنظيم قوانين جديدة تفوق ما كان يحتاج إليها فيما مضى ، وبما أنّ الحضارة والحاجات في حال التزايد والتكامل ، فكيف تعالِجُ القوانينُ المحدودةُ الواردةُ في الكتاب والسنّة ، الحاجاتِ غير المحدودة .
وبما أنّ الإسلام نظام تشريعيّ كاملٌ ، تَدَخَّل في شؤون المجتمع كافّة ، ثقافيّها ، وسياسيّها ، وإجتماعيّها ، وعسكريّها ، وعائليّها ، وأغنى المجتمع عن كل تشريع سوى تشريعه ، فعندئذٍ يطرح هذا السؤال نفسه : إنّ القوانين الواردة في الكتاب والسنّة ، محدودة مهما توسّع نطاقها ، فكيف تُغني المجتمع عن ممارسة التشريع في الحوادث والموضوعات التي لم يكن بها عهد زمن نزول القرآن وبعثة الرسول .
نعم ، المسيحية أراحت نفسها من الإجابة عن هذا السؤال بادّعاء أنّ نظامَها لا يخرج عن الطقوس الفردية والعبادية ، وإنّما هو الإسلام ، الذي يدّعي إغناء المجتمع عن كل تشريع في جميع حقول الحياة .
الجواب :
إنّ خلود التشريع الإسلامي ، وغناه عن كل تشريع ، مبني على وجود أمرين فيه :
١ ـ أنّه ذو مادة حيوية ، خلّاقة للتفاصيل مهما كثُرت الحاجات ، واستجدّت الموضوعات .
٢ ـ أنّه ينظر إلى الكون والمجتمع بسعة ورحابة ، مع مرونة خاصة تساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة . وإليك بيان كلا الأمرين :
أما الأمر الأول : فقد أحرزه بتنفيذ أُمور :
١ ـ الإعتراف بحجيّة العقل في مجالات خاصة
اعترف القرآن والسنّة بحجيّة العقل في مجالات خاصة ، مما يرجع إليه القضاء فيها ، ولا يكون هو أجنبيّاً بالنسبة إليها ، وذلك كما في باب الملازمات التي ستأتي الإشارة إلى عناوينها . وليس المراد من حجّيته ، أنّه يُطلق سراحه في مجال التعبديّات التي لا طريق إليها إلّا بالوحي ، فإنّه لا صلاحية له في ذاك المجال .
وأمّا الملازمات التي تعدّ من الأحكام العقلية القطعية ، وهي مرادهم من قولهم بأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فأمثلتها :
أ ـ الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته .
ب ـ الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده .
ج ـ الملازمة بين عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، وبطلان العبادة .
د ـ الملازمة بين النهي عن العبادة والمعاملة ، وفسادهما .
ه ـ الملازمة بين المنطوق والمفهوم في القضايا الشرطية ، أو الوضعية ، أو المُغَيَّاة بغاية .
ونظير ذلك ما يستقل به العقل من
أحكام عقلية تلازم أحكاماً شرعية ، كاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان ، الملازم لعدم ثبوت الحرمة والوجوب إلّا بالبيان . واستقلاله بلزوم الإجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهات التحريمية ، ولزوم الموافقة القطعية في الشبهات الوجوبية ، واستقلاله بإجزاء