الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٦١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

٣ ـ الأصالة للتوحيد لا لليهودية ولا للنصرانية

لقد كان لهاتين الطائفتين ادعاء ثالث ، هو أنّ الهداية الحقيقة ، في اعتناق اليهودية أو النصرانية ، كما يحكيه عنهم القرآن بقوله : ( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ) (١) .

والقرآن يردّ عليهم هذا الزعم الواهي بقوله : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (٢) . مشيراً إلى أنّ الهداية الحقيقية ، هي في الأخذ بملة إبراهيم ، واعتناق مذهبه في التوحيد الخالص من كل شائبة . فإذا عَمَّتْهما الهداية ، فإنّما هو لأخذهم بالحنيفية الإبراهيمية ، لا لاعتناق اليهودية والمسيحية ، فلا أصالة لهما ، إلّا إذا كانتا مشتملين على جوهر التوحيد الإبراهيمي وحنيفيّته .

وقد بلغت جسارة الطائفتين إلى حدّ أنّهم حاولوا إضفاء طابع اليهودية والمسيحية على إبراهيم ، ليحصلوا بذلك على دعم جديد لمعتقداتهما ، ويضفوا الشرعية على مسلكيهما . ولكن القرآن عاد إلى تفنيد هذه المزعمة الثالثة ، كما فند المتقدمتين ، بقوله : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ، وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (٣) .

فهذه المقدمات ، تثبت أنّ اليهود والنّصارى كانوا يتبنون هذه الأفكار الواهية الثلاثة :

١ ـ الرفعة على البشر أجمعين .

٢ ـ كفاية مجرد الإنتساب إلى مذهبهما في النجاة .

٣ ـ إختصاص سبيل الهداية بالطائفتين .

فجاء القرآن يُفَنِّد كلَّ واحدة من هذه المزاعم ، مستقلّاً ، بعد نقلها ، بالآيات التي عرفت . ثم يفندها جميعها بصورة إجمالية ، بالآية التي وقعت ذريعةً

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٣٥ .

(٢) الآية السابقة نفسها .

(٣) سورة آل عمران : الآية ٦٧ .

٤٨١
 &

لمنكري عالمية الرسالة ، وهدف الآية أنّ فكرة الشعب المختار ، أو كون النجاة رهن الإنتساب والتسمية ، أو اختصاص الهداية بإحدى الطائفتين ، أمر باطلٌ لا أساس له ، فإنّ النجاة والجنة يَعُمّان جميع البشر وجميع الطوائف ، إذا كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر ، وعاملين بالصالحات ، من غير فرق بين إنسان وإنسان ، وشعب وآخر ، فلا استعلاء ولا تفوق لطائفة على غيرها ، ولا الإنتساب والتسمية ينجيان أحداً في العالم ، ولا الهداية رهن اعتناق أحد المذهبين ، وإنّما النجاح والفوز والصلاح في الإيمان والعمل الصالح . وهذا الباب مفتوح في وجه كل إنسان ، يهودياً كان أو نصرانياً أو صابئياً .

فالآية بصدد تفنيد هذه المزاعم ، وأمّا الإعتراف بإقرار الإسلام لشرعية الشرائع السابقة ، بعد ظهوره ، فليس لها دلالة على ذلك ولا إشعار ، بشرط التوقف والإمعان في الأفكار التي كانت الطائفتان تتبناهما .

وممّا يوضح المراد من هذه الآية ، قوله : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ، وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (١) . فتصرّح الآية بانفتاح أبواب الجنة في وجه البشر ، من غير انحصار بجماعة دون جماعة ، حتى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون ، لقبلنا إيمانهم ، وكفرنا عنهم سيئاتهم .

ومثله قوله سبحانه في سورة العصر : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (٢) .

وأمّا كفاية الإيمان والعمل الصالح ، فقط ، وعدم لزوم شيء آخر من المعارف والعقائد والأعمال ، فليست الآية ، بصدد بيانها نفياً أو إثباتاً ، وإنّما يُرجع فيها إلى الآيات الأُخر .

وإذا أردت أن تصوغ الجواب في أُسلوب منطقي ، فقل : إنّ الحصر في

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٦٥ .

(٢) سورة العصر .

٤٨٢
 &

الآية ، حَصْرٌ نِسبيٌ إضافيٌ ، بمعنى أنّ المؤثر في النجاة من النار ، والفوز بالجنة ، إنّما هو الإيمان والعمل الصالح ، وأمّا عدم دخالة شيء آخر كالأصول الثلاثة التي يتبناها اليهود والنصارى أو دخالته ، فليست الآية في مقام تبيينه إثباتاً أو نفياً ، حتى يكون دليلاً على إقرار الآية بشرعية الشرائع السابقة .

وبعبارة أخرى : إنّ الآية ساكتة عن بيان ما هو حقيقة الإيمان بالله وما هو شرطه ، وما هو المقصود من العمل الصالح ، وكيف يتقبل ، وإنّما يطلب ذلك من سائر الآيات .

وقد دلّت الآيات القرآنية على أنّ الإيمان بالله لا ينفك عن الإيمانِ بأنبيائه ، والإيمانُ بأنبيائه ، لا ينفك عن الإيمانِ بنبيه الخاتم ، قال سبحانه : ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) (١) .

كيف وقد عَدّت الآيات القرآنية الإيمانَ بالرسول مُقَوِّماً لحقيقة الإيمان ، فقالت : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ) (٢)

*       *      *

إلى هنا تمّ البحث عن عالمية رسالة الرسول الأكرم ، وتمّ ردّ الشبهات التي قد تُورد حوله ، ويقع البحث في السمة الثانية لرسالته وهي خاتميتها ، وهو من الموضوعات المهمّة التي لا يكون المُسْلِمُ مُسْلِماً إلّا بالإيمان بها .

*       *      *

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٣٧ .

(٢) سورة النور : الآية ٦٢ .

٤٨٣
 &

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعق الجزء الثالث

٤٨٤
 &

السمة الثانية

خاتمية الرسالة

إتفقت الأُمّة الإسلامية عن بكرة أبيها ، على أنّ نبيّها محمداً صلى الله عليه وآله ، خاتم النبيين ، وأنّ شريعته خاتمة الشرائع ، وكتابه خاتم الكتب والصحف ، فهو آخر السفراء الإلهيين ، أُوصِدَ به بابُ الرسالة والنبوّة ، وخُتِمت به رسالة السماء إلى الأرض ، وأنّ دينَ نبيِّها ، دينُ الله الأبدي ، وأنّ كتابه ، كتابُ الله الخالد ، وقد أنهى الله إليه كل تشريع ، فاكتملت بدينه وكتابه الشرائع السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض .

ويدلّ على ذلك نصوص من الكتاب والسنّة ، نستعرضها فيما يلي :

أ ـ الخاتمية في الكتاب العزيز

لقد نصّ القرآن الكريم على الخاتمية تنصيصاً لا يقبل الشك ، ولا يرتاب فيه من له أدنى إلمام باللغة العربية ، وذلك في مواضع :

١ ـ التنصيص على أنّه خاتم النبيين

قال سبحانه : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ، وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّـهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ، وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) (١) .

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٤٠ .

٤٨٥
 &

وتتضح دلالة الآية بنقل سبب نزولها :

تبنّى رسول الله صلى الله عليه وآله ، زيداً ، قبل بعثته . وكان العرب يُنَزِّلونَ الأدعياء منزلةَ الأبناء في أحكام الزواج والميراث ، فأراد سبحانه أن ينسخ تلك السنة الجاهلية ، فأمر رسوله بتزوّج زينب ، زوجة زيد ، بعد مفارقته لها . فأوجد ذلك الزواج ضجة بين المنافقين ، والمتوغلين في النزعات الجاهلية ، فأخمد الله تعالى أصواتهم بقوله : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ) ، أي من الذين لم يلدهم ، ومنهم زيد ، ( وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّـهِ ) وهو لا يترك ما أَمره الله به ، ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) أي آخرهم ، ختمت به النبوة ، فلا نبي بعده ، ولا شريعة سوى شريعته ، فنبوته أبدية ، وشريعته باقية إلى يوم القيامة .

الخاتم وما يراد منه

الخاتم ، بفتح التاء ، كما عليه قراءة عاصم ، أو بكسرها كما عليه الباقون ، يدلّ على أنّ باب النبوة ختمت به . وذلك لأنّه على الكسر ، إسم فاعل من ختم يختم ، فهو خاتِم ، وعلى الفتح ، يحتمل وجوهاً ثلاثة :

أ ـ إنّه اسم بمعنى ما يختم به ، أي المختوم به باب النبوة ، فوجوده صلى الله عليه وآله في سلسلة الأنبياء ، كالختم والإمضاء في الرسائل . فكما أنّ الرسائل تختم في نهايتها ، بالخَتْم والإمضاء ، فكذا سلسلة الأنبياء ختمت بوجوده ، فهو خاتم الأنبياء .

ب ـ إنّه فعل ، « خَاتَمَ » كـ « ضارَبَ » ، فهو صلى الله‌ عليه وآله خَتَم بابَ النبوة .

ج ـ إنّه اسم بمعنى « آخر » ، أي آخر النبيين ونهايتهم .

قال أبو محمد الدميري في منظومته :

والخاتِم الفاعِل قُل بالكسرِ

وما به يُختَمُ فتحاً يجري (١)

__________________

(١) التيسير في علوم التفسير ، ص ٩٠ .

٤٨٦
 &

فأشار في هذا البيت إلى الوجهين ، وأنّه بالكسر إسم فاعل ، وبالفتح إسمٌ بمعنى ما يختم به .

وقال البيضاوي : « وخاتم النبيين : آخرهم الذي ختمهم » (١) .

وفي هذا إشارة إلى المعنى الثالث .

ثم إنّ الختم له أصل واحد ، وهو بلوغ آخر الشيء ، يقال : ختمت العمل ، وختم القاريء السورة . والختم ، وهو الطبع على الشيء ، فذلك من هذا الباب أيضاً ، لأنّ الطبع على الشيء لا يكون إلّا بعد بلوغ آخره (٢) .

وقد جاء هذا اللفظ في القرآن في موارد لا يشذّ واحد منها عن هذا الأصل ، فمن ذلك .

قوله تعالى : ( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) (٣) ، أي من الشراب الخالص الذي لا غش فيه ، تختم أوانيه وتسدّ بمسك .

وقوله تعالى : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ ، وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٤) . أي نطبع على أفواههم ، فتوصد ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم .

فاتضح مما ذكرناه ، أنّ الآية صريحة في أنّ النبي الأكرم ، نهاية سلسلة الأنبياء ، وأنّه قد ختم بنبوته باب النبوة وأوصده إلى يوم القيامة .

__________________

(١) أنوار التنزيل ، في تفسير سورة الأحزاب ، الآية ٤٠ .

(٢) مقاييس اللغة ، مادة « ختم » .

(٣) سورة المطففين : الآيتان ٢٥ و ٢٦ .

(٤) سورة يس : الآية ٦٥ ، والبقرة : الآية ٧ ، والأنعام : الآية ٤٦ ، والشورى : الآية ٢٤ ، والجاثية : الآية ٢٣ .

٤٨٧
 &

تشكيك ضئيل

إنّ هنا تشكيكاً اختلقته بعض الطوائف (١) الخارجة عن الإسلام ، العميلة لأعدائه ، فقالت إنّ المراد من الخاتم في قوله ، عزّ من قائل : ( خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، الحِلْية التي يزيّن بها الإصبع . والمراد أنّ النبي الأكرم زينة النبيين ، كما أنّ الخاتم زينة يد الإنسان ، فهو بين تلك العصابة ، كالخاتم في يد لابسه .

وهذه شبهة واهية للغاية ، نجمت ـ إن لم تكن متعمدة ـ من الجهل باللغة العربية ، وذلك لوجوه :

أولاً ـ إنّه لم يعهد إستعارة الخاتم في اللغة العربية ، للزينة ، فلا يقال إنّه خاتم القوم ، أي زينتهم وحليتهم ، فكيف يستعيره القرآن في هذا المعنى ، وهو في قمة البلاغة ؟! .

وثانياً ـ لو كان الهدف تشبيه النبي بالخاتم في كونه حلية ، لكان المناسب أن يشبهه بالتاج والإكليل ، إذْ هما أبلغ في بيان المقصود ، أعني الزينة .

وثالثاً ـ إنّ الخاتم ليس له إلّا أصل واحد ، وهو ما يختم به ، ولو استعمل في حلية الإصبع ، فذلك من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، لأنّ الدارج في عهد الرسالة إنهاء الكتاب بالخاتم ، فكانت خواتمهم أختامهم ، لا أنّه وُضع لحلية الإصبع وضعاً على حدة .

ويدلّ على ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته ، من أنّ رسول الله أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتبا ، فقيل يا رسول الله : إنّ الملوك لا يقرأون كتاباً إلّا مختوماً ، فاتّخذ رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ ، خاتماً من فضة ، فَصُّهُ منه (٢) ، نقشه ثلاثة أسطر :

« محمد » ، « رسول » ، « الله » ، وختم به الكتب (٣) .

__________________

(١) كالبهائية والقاديانيّة .

(٢) كذا في النسخة ، والأَوْلى : « منها » ، ولعل التذكير باعتبار رجوع الضمير إلى الخاتم .

(٣) الطبقات الكبرى ، ج ١ ، ص ٢٤٨ . ولاحظ مقدمة ابن خلدون ج ١ ، ص ٢٢٠ ، تجد فيه بسطاً في الكلام .

٤٨٨
 &

فظهر ممّا قدمنا أنّ الخاتم بمعنى ما يختم به ، وله مصاديق ، فتارة يختم بحلية الإصبع ، وأُخرى بشيء مثل الشمع ، وثالثة بمثل الطين ، وأشياء أُخرى درجت حديثاً .

وأضعف من ذلك إحتمال أن يكون المراد من قوله تعالى : ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، أنّه مصدِّقٌ للنبيين ، فاستعارة الخاتم له ، لأجل أنّه صلى الله عليه وآله مُصَدِّقُهم كالخاتم المصدِّق لمضامين الكتب .

ويَرُدُّهُ ، أولاً : لو كان المراد هو تصديق النبيين ، فلم عدل عن التعبير الصريح ، إلى هذا التعبير المعقد ، مع أنّه استعمل لفظ مصدّق دون الخاتم عندما أراد بيان تصديق نبيٍّ لنبيٍّ آخر ؛ فقال : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) (١) .

وكذلك عندما أراد بيان تصديق كتاب لكتاب ؛ فقال : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ، مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) (٢) .

وثانياً ـ ليس الخاتم نفسه مصدِّقاً ، وإنّما هو آلة التصديق ، وما يُصَدَّق به ، وإنّما المصدِّق من يستعمل الختم ، وهذا بخلاف النبي فإنّه بنفسه مصدق .

وَلَعَمْري ، لولا شيوع التشكيك بين البسطاء من غير العرب ، لكان الأولى ترك التعرض له .

نعم ، هنا تشكيك آخر قابل للطرح والذكر ، وإليك بيانه .

تشكيك آخر

إنّ المختوم في الآية المباركة هو منصب النبوة لا الرسالة ، حيث قال : ( خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) . وخَتْم باب النبوة ، لا يلازم ختم باب الرسالة ، فهو مفتوح على مصراعيه في وجه الأُمة ، ولم يوصد .

__________________

(١) سورة الصف : الآية ٦ .

(٢) سورة المائدة : الآية ٤٨ .

٤٨٩
 &

والجواب : إنّ رفع التشكيك يتوقف على تبيين الفرق بين النبوة والرسالة ، وبالتالي يعلم الفرق بين النبي والرسول ، فنقول :

النُّبُوَّة منصب معنوي يستدعي الإتصال بالغيب بإحدى الطرق المألوفة ، والرسالة سفارة للمرسَل ( بالفتح ) من جانبه سبحانه لإبلاغ ما أُوحي إليه ، إلى المُرْسَل إليه ، أو تنفيذ ما تحمَّله منه سبحانه ، في الخارج .

وبعبارة أخرى : النبوة ، تحمل الأنباء ؛ والرسالةُ ، إبلاغُ ما تَحَمَّلُه من الأنباء ، بالتبشير والإنذار ، والتنفيذ .

ولأجل مناسبة الوحي لمقام النبوة ، والتبليغ لمقام الرسالة ، يقول سبحانه : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) (١) .

ويقول : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) (٢) . ويقول : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ) (٣) .

وفي ضوء هذا يعلم الفرق بين النبيّ والرّسول ، فالنبيُّ هو الإنسان الموحى إليه بإحدى الطُرق المعروفة ، والرسول هو (٤) الإنسان القائم بالسفارة من الله ، للتبشير ، أو لتنفيذ عمل في الخارج ، أيضاً .

إذا عرفت ذلك ؛ فنقول : لو فرض إيصاد باب النبوة ، وختم نزول الوحي إلى الإنسان ، كما يفيده قوله : ( خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، فعند ذلك يختم باب الرسالة الإلهية أيضاً ، لأنّ الرسالة هي إبلاغ أو تنفيذ ما تحمله الرسول عن طريق الوحي ، فإذا انقطع الوحي والإتصال بالمبدأ الأول ، فلا يبقى للرسالة موضوع .

__________________

(١) سورة النساء : الآية ١٦٣ .

(٢) سورة المائدة : الآية ٦٧ . هذا في مجال التبليغ .

(٣) سورة مريم : الآية ١٩ . هذا في مجال التنفيذ .

(٤) المقصود تعريف الرسول المصطلح ، فلا ينافي إطلاقه على المَلَك ، مثل قوله تعالى : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) ( سورة الأنعام : الآية ٦١ ) . أو على الإنسان العادي : ( فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ . . . ) ( سورة يوسف : الآية ٥٠ ) .

٤٩٠
 &

فإذا كان النبي الأكرم خاتم النبيين ، أي مختوماً به الوحي والاتصال بالغيب ، فهو خاتم الرُّسل أيضاً . وهذا واضح لمن أمعن النظر في الفرق بين النبوة والرسالة (١) .

*       *      *

٢ ـ التنصيص على أنّ القرآن لا يأتيه الباطل

قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ، وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (٢) .

والمقصود من الذكر هو القرآن ، لقوله سبحانه : ( ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ) (٣) .

أضف إليه أنّ قوله : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ ) ، يُفَسِّرُ الذكر ، وهو لا ينطبق إلّا على القرآن .

والضمير في قوله : ( لَّا يَأْتِيهِ ) ، يرجع إلى الذكر ، ومفاد الآية أنّ الباطلَ لا يتطرق إليه ، ولا يجد إليه سبيلاً أبداً ، بأي نحو كان ، ودونك صُوَرَهُ :

١ ـ « لا يأتيه الباطل » ، أي لا ينقص منه شيء ولا يزيد فيه شيء .

٢ ـ « لا يأتيه الباطل » ، أي لا يأتيه كتاب يبطله وينسخه ، فهو حق ثابت لا يُبَدَّل ولا يُغَيَّر ولا يُتْرَك .

٣ ـ « لا يأتيه الباطل » ، أي لا يتطرق الباطل إليه في إخباره عمّا مضى ، ولا في إخباره عمّا يأتي ، ولا يتخلف الواقع عنه قيد شعرة .

وعلى ضوء هذا ، فإطلاق الآية ينفي كلّ باطل يتصور ، وأنّ القرآن حقّ لا

__________________

(١) إن لشيخنا الأستاذ ، دام مجده ، رسالة خاصة في الفرق بين النبي والرَّسول ، لاحظ موسوعته القرآنية ، مفاهيم القرآن ، الجزء الرابع ، ص ٣١٥ ـ ٣٧٠ .

(٢) سورة فصلت : الآيتان ٤١ ـ ٤٢ .

(٣) سورة آل عمران : الآية ٥٨ .

٤٩١
 &

يدخله الباطل إلى يوم القيامة ، ومثل هذا لا يصح أن يكون حجة في أمد محدود ، بل يكون متَّبعاً ، بلا حدّ ، لأنّ خاصِّيَّة الحقِّ المُطلق ، والمصون عن تطرق الباطل مطلقاً ، هو كونه حجة لا إلى حدٍّ خاص ، والله سبحانه تعهد في الذكر الحكيم بإحقاق الحق وإبطال الباطل ، كما قال : ( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) (١) .

وبعبارة أخرى : إنّ الشريعة الجديدة ، إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقّة ـ كما نصّت الآية ـ التي لا يقارنها ولا يدانيها الباطل ، أو غيرها ، كلّاً أو جزءً .

فعلى الأول ، يكون إنزال الشريعة الثانية لغواً .

وعلى الثاني ، تكون كلتا الشريعتين حقّة ، فيلزم كون المتناقضين حقّاً ، وهو غير معقول .

فالآية صريحة في نفي أي تشريع بعد القرآن ، وشريعة غير الإسلام ، فتدلّ بالملازمة على نفي النبوة التشريعية بعد نبوته .

نعم ، الآية لا تفي بنفي النبوة الترويجية ، التبليغية ، لغير شريعة الإسلام ، وإنّما المتكفل له هي الآية الأُولى .

*       *      *

٣ ـ التنصيص على الإنذار لكل من بَلَغ

قال سبحانه : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ، قُلِ اللَّـهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) (٢) .

فالآية صريحة في أنّ النبي صار مأموراً بالإنذار ، بقرآنه ، لكل من بلغه

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ٨ .

(٢) سورة الأنعام : الآية ١٩ .

٤٩٢
 &

إلى يوم القيامة . فمن بلغه القرآن ، فكأنّما رأى محمداً صلى الله عليه وآله ، وسمع منه ، وحيثما يأتيه القرآن ، فهو داع له ونذير .

وقوله : ( وَمَن بَلَغَ ) ، معطوف على الضمير المنصوب المتصل في قوله : ( لِأُنذِرَكُم ) ، لا على الفاعل المستتر ، أعني ضمير المتكلم . فمن بلغه القرآن ، منذَر ( بالفتح ) لا منذِر .

*       *      *

٤ ـ التنصيص على أنّه نذير للعالمين

قال تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) (١) .

هذه الآية كما تدلّ على عالمية رسالته ، دالّة على خاتميته إلى يوم القيامة . واختلف أهل اللغة في مفاد العالمين (٢) ، ولكن المراد به في المقام كلّ الناس ، ونظيره قوله تعالى ـ حاكياً عن لسان لوط عليه السلام ـ : ( قَالَ إِنَّ هَـٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا : أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (٣) .

أي قالوا في جوابه : أوَ لَيْس كنا قد نهيناك أنْ تستضيف أحداً من الناس . وبذلك يتضح عدم صحة ما يُروى في تفسير العالمين بأنّ المراد الجن والإنس ، أو الجنّ والملائكة ، إذ لا معنى لنهي قوم لوط ، نبيَّهم عن استضياف هؤلاء .

__________________

(١) سورة الفرقان : الآية ١ .

(٢) وقد اختلف أهل اللغة في معنى « العالَم » ، الذي يجمع على عالمين ، على أقوال :

١ ـ إنّه اسم للفَلَك وما يحويه من الجواهر والأعراض ، وهو في الأصل إسم لما يعلم به ، كالطابع ، والخاتم ، لما يطبع ويختم به . وأما جمعه ، فلأنّ كلَّ نوعٍ من هذه قد يسمى عالَماً : عالَم الإنسان ، وعالَم الماء ، وعالَم النَّار . . .

٢ ـ إنّه إسم لأصناف الخلائق من المَلَك والجِنّ والإنس .

٣ ـ إنّه الإنسان ، والجمع باعتبار كون كلّ واحدٍ عالَماً . ( مفردات الراغب ، صفحة ٣٤٩ ) .

(٣) سورة الحجر : الآيات ٦٨ ـ ٧٠ .

٤٩٣
 &

ونظيره قوله سبحانه ـ حكاية عن لوط عليه السلام في الردّ على قومه ـ : ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ) (١) ، فالمرادُ منه هو الناس ، بلا ريب ، لا الجن ولا الملائكة .

وما ذكرنا من المعنى هو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال : « عنى به الناس ، وجعل كلَّ واحدٍ عالماً » (٢) .

وعلى كل تقدير ، فسواء أكان المراد من العالَمين في الآيات الأُخر غير هذا ، أو كان هذا ، فالمراد من قوله : ( لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ، عمومُ البشر ، أو مطلق من يعقل . فالآية صريحة في أنّ إنذاره لا يختص بناس دون ناس ، أو زمان دون زمان ، فهو على إطلاقه ، يعطي كونه نذيراً للأُمم البشرية ، بلا قيدٍ وحدّ .

وربما يقال إنّ « العالمين » يطلق ويراد منه الجمّ الغفير من الناس ، كما في قوله سبحانه : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٣) ويقال : « رأيت عالماً من الناس » ، يراد به الكثرة . وعند ذاك لا تكون الآية صريحة في عموم رسالته لجميع البشر إلى يوم القيامة .

والجواب : إنّ المتبادر من اللفظ هو عموم الخلائق ، كما في قوله سبحانه : ( قَالَ فِرْعَوْنُ : وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ) (٤) . واستعماله في غير ذلك يحتاج إلى قرينة ، ولأجل ذلك يحمل على المعنى الحقيقي في الآيات التالية :

( وَمَا اللَّـهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ) (٥) .

( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) (٦) .

__________________

(١) سورة الشعراء : الآية ١٦٥ .

(٢) مفردات الراغب ، ص ٣٤٩ .

(٣) سورة البقرة : الآية ٤٧ .

(٤) سورة الشعراء : الآيتان ٢٣ و ٢٤ .

(٥) سورة آل عمران : الآية ١٠٨ .

(٦) سورة آل عمران : الآية ٩٦ .

٤٩٤
 &

( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ) (١) .

( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ) (٢) .

وأما ما ذُكر من الآية ، فليس ظاهراً في كون المراد منه الجمّ الغفير ، بل كلّ الناس ، غاية الأمر أنّها خُصِّصت بأَهلِ عالمي زمانهم ، مثل قوله سبحانه : ( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) (٣) .

وعلى أي تقدير فسواء فُسّرت الآية ، بالجمّ الكثير من الناس ، أو خصِّصت بأهل عالمي زمانهم ، فإنّما هو لقرينة صارفة عن ظاهرها ، حيث إنّ القرآن دلّ على أنّ الأُمّة الإسلامية أفضل الأمم ، مثل قوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (٤) . ودلّت الأحاديث على أنّ إبنة النبيّ الأكرم ، فاطمة عليها السلام ، مثل مريم أو أفضل منها (٥) . فهذه وتلك صارتا قرينتين على صرف الآيتين (٦) عن ظاهريهما ، وأمّا غيرهما فيُحْمل على المعنى الحقيقي ، أي الناس كلّهم إلى يوم القيامة .

*       *      *

__________________

(١) سورة الشعراء : الآية ١٦٥ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ٨٠ .

(٣) سورة آل عمران : الآية ٤٢ .

(٤) سورة آل عمران : الآية ١١٠ .

(٥) أخرج البُخاري ومسلم والتِرْمذي في صحاحهم عن عائشة قالت : إنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله قال لفاطمة في أُخريات أيامه : « ألا ترضين أن تكوني سَيِّدةَ نساءِ المُؤْمِنينَ أَوْ سَيِّدَةَ نِساءِ هذه الأُمَّة » ، ( لاحظ التاج الجامع للأصول ، ج ٣ ، ص ٣١٤ ) .

وأخرج ابن سعد عن مسروق عن عائشة في حديث أنّ النبي صلى الله عليه وآله أَسَرّ إلى فاطمة عند مرضه وقال : « ما ترضَيْن أن تكوني سيدة نساء هذه الأُمة ، أو نساءِ العالمين » . ( الطبقات الكبرى ، ج ٨ ، ص ٢٧ . وحلية الأولياء ، ج ٢ ، ص ٤٠ ) ، ولولا هذه الأحاديث لقلنا بتفضيل مريم على نساء العالمين إلى يوم القيامة ، كما أنّه لولا صراحة الآية في تفضيل هذه الأُمّة لقلنا بتفضيل بني إسرائيل على الناس كلّهم إلى يوم القيامة .

(٦) سورة البقرة : الآية ٤٧ وسورة آل عمران : الآية ٤٢ .

٤٩٥
 &

٥ ـ التنصيص على كونه مرسلاً إلى الناس كافّة

قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .

المتبادر من الآية كون « كافّة » ، حالاً من النّاس ، قُدِّمت على ذيها ، وتقدير الآية : وما أرسلناك إلّا للناس كافّة ، بشيراً ونذيراً ، وقد استعمل « كافّة » بمعنى « عامّة » ، في القرآن الكريم كثيراً ، قال سبحانه : ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) (٢) . والآية دليل على كون رسالته عالمية ، كما أنّها دليل على أنّه كان مبعوثاً إلى كافة الناس إلى يوم القيامة .

وأمّا جعل لفظ ( كَافَّةً ) حالاً من الضمير المتصل في قوله : ( أَرْسَلْنَاكَ ) ، ليعود معنى الآية : وما أرسلناك إلّا أن تَكُفَّهُم وتَرْدَعَهُم ، فَبعيد عن الأذهان ، أضف إلى ذلك أنّ قوله في ذيل الآية : ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ، كافٍ في هذا المعنى ، لأنّ التبشير والإنذار يتكفلان الكفّ والردع عن المحرمات ، وقد فهم الصحابة من الآية ما ذكرناه (٣) .

إشارات إلى الخاتمية في الذكر الحكيم

ما ذكرنا من الآيات كانت تصريحات بالخاتمية ، وهناك آيات تشير إليها إذا أُمعن النظر في مضامينها ، وإليك نقل بعضها .

١ ـ قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ، فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ

__________________

(١) سورة سبأ : الآية ٢٨ .

(٢) سورة التوبة : الآية ٣٦ . ولاحظ أيضاً البقرة : ٢٠٨ ، والتوبة : ١٢٢ .

(٣) روى ابن سعد في طبقاته عن خالد بن معدان ، قال : قال رسول الله (ص) : « بُعثت إلى الناس كافّة ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب . . » وفي نقل آخر عن أبي هريرة : « أُرسلت إلى الناس كافة ، وبي خُتم النبيون » . ( الطبقات الكبرى ، ج ١ ، ص ١٧٢ ) .

٤٩٦
 &

مِنَ الْحَقِّ ، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ، وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ، وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ . . ) (١) .

المهيمن هو الرَّقيب (٢) ، فكتاب النبي الأكرم مهيمن على جميع الكتب النازلة من قبل وهو ( مهيمناً عليه ) متمم لقوله : ( مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ) . تتميم إيضاح ، إذ لولاه لأمكن أن يتوهم من تصديق القرآن للتوراة والإنجيل أنّه يصدِّق ما فيهما من الشرائع والأحكام ، تصديق إبقاء ، من غير تغيير وتبديل ، لكن توصيفه بالهيمنة يبين أنّ تصديقه لهما بمعنى تصديق أنّها شرائع حقّة من عند الله ، وأنّ لله أن يتصرف فيها ما يشاء بالنسخ والإكمال ، كما يشير إليه قوله ـ في ذيل الآية ـ : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) .

٢ ـ قال سبحانه : ( أَفَغَيْرَ اللَّـهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ، وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٣) .

وقوله : ( وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ . . . ) ، يدلّ على إيصاد باب الوحي ، وانقطاعه إلى يوم القيامة ، وتمامية الشرائع النازلة من الله سبحانه ، طوال قرون ، إلى سفرائه .

والمراد من الكلمة ، الشرائع الإلهية ، كما في قوله : ( وصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِه ) (٤) ، ومعنى الآية : تمّت الشرائع السماوية بظهور الدعوة المحمدية ، ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب ، وصارت مستقرة في محلها ، بعدما

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٤٨ .

(٢) فعيل بمعنى فاعل ، أي مراقب .

(٣) سورة الأنعام : الآيتان ١١٤ و ١١٥ .

(٤) سورة التحريم : الآية ١٢ .

٤٩٧
 &

كانت تسير دهراً طويلاً في مدارج التدرج ، بِمَنْحِ نُبُوّة بعد نُبُوّة ، وإنزال شريعة بعد شريعة .

والدليل على أنّ المراد من الكلمة ، الشرائع الإلهية ، هو قوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ، أي جعلكم مقتفين لشريعة واحدة ، وبما أنّ هذه الدعوة الإلهية الواردة في القرآن الكريم ، صدق لا يشوبه كذب ، وما فيه من الأحكام عدل لا يخالطه ظُلم ، تمّت الشريعة السماوية ، فلا تتبدل كلماتها وأحكامها من بعد . وهذا المعنى يظهر عند التأمل في سياق الآيات .

إلى هنا تم البحث عن الآيات الدالّة على الخاتمية بصراحة أو بالتلويح والإشارة ، ولأهمية الإعتقاد بها تضافرت فيها النصوص عن النبي الأكرم وعترته الظاهرة ، غير أنّ سرد كل ما وقفنا عليه عنهم عليهم السلام ، يستدعي وضع رسالة مستقلة ، فنكتفي بنقل بعضها عن النبي الأكرم ، ووصيِّه الإمام عليّ عليه السلام ، ونترك الباقي إلى محله .

*       *      *

ب ـ الخاتمية في الأحاديث الإسلامية

لقد حصحص الحق ، بما أوردناه من النصوص القرآنية ، وانْحَسَر الشَّكُ عن مُحيّا اليقين ، فلم تَبْقَ لمجادِلٍ شُبْهَةٌ في أنّ رسول الله ، خاتمُ النبيين والمرسلين ، وأنّ شريعته خاتمةُ الشرائع ، وكتابَه خاتم الكتب . وإليك فيما يلي كَلِمٌ ذُرِّيَّة ، من صاحب الشريعة ووصيه في هذا المجال :

١ ـ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من المدينة إلى غزوة تبوك ، وخرج الناس معه ، فقال له عليٌّ ( عليه السلام ) : « أَخْرُجُ معك ؟ » . فقال : « لا » ، فبكى عليٌّ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : « أما ترْضى أن تَكونَ مِنِّي بمنزلة هارونَ من موسى ، إلَّا أَنَّه لا نَبِيَّ بَعْدي » ، أو « ليس بعدي نبي » ؟ .

وهذا الحديث هو المشهور بحديث المنزلة ، لأنّ النبي نزّل نفسه منزلة

٤٩٨
 &

موسى ، ونزّل عليّاً مكان هارون ، وهو صحيح متفق عليه بين الأُمّة ، لم يشكّ أحد في صحّة سنده ، ولا سنح في خاطر كاتب أن يناقش في صدوره ، وحسبُك أنّه أخرجه البخاري في صحيحه ، في غزوة تبوك (١) ، ومسلم في صحيحه في باب فضائل عليّ عليه السلام (٢) ، وابن ماجه في سُنَنه في باب فضائل أصحاب النبي (٣) ، والحاكم في مستدركه ، في مناقب عليّ عليه السلام (٤) وإمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة (٥) ، وأمّا الشيعة فقد أصفقوا على نقله في مجامعهم الحديثية (٦) .

ودلالة الحديث على الخاتمية واضحة ، كدلالته على خلافة علي ( عليه السلام ) للنبي صلى الله عليه وآله بعد رحلته .

٢ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّ مَثَلي وَمَثَل الأنبياء من قبل ، كمثَلَ رجل بنى بيتاً ، فأحسنه وأجمله ، إلّا موضع لَبِنَةٍ من زاوية ، فجعل الناسَ يطوفون به ويعجبون له ، ويقولون : هلّا وضعت هذه اللَّبنة . قال : « فأنا اللَّبنة ، وأنا خاتم النبيين » (٧) .

٣ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لي خمسة أسماء : أنا محمد ؛ وأحمدُ ؛ أنا الماحي ، يمحو الله بي الكفر ؛ وأنا الحاشر ، يُحشر الناس على

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٣ ، ص ٥٨ .

(٢) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ٣٢٣ .

(٣) سنن ابن ماجه ، ج ١ ، ص ٢٨ .

(٤) مستدرك الحاكم ، ج ٣ ، ص ١٠٩ .

(٥) مسند أحمد ، ج ١ ، ص ٣٣١ ، وج ٢ ، ص ٣٦٩ ، ٤٣٧ .

(٦) لاحظ أمالي الصدوق ، ص ٢٩ . ومعاني الأخبار ، ص ٧٤ . وكنز الفوائد ص ٢٨٢ . والخرائج والجرائح ص ٧٥ . ومناقب ابن شهر آشوب ، ج ١ ، ص ٢٢٢ . وكشف الغُمَّة ، ج ١ ، ص ٤٤ . وبحار الأنوار ، ج ٣٧ ، الباب ٥٣ ص ٢٥٤ ـ ٢٨٩ .

(٧) صحيح البخاري ، ج ٤ ، ص ٢٢٦ . ومسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٣٩٨ و ٤١٢ . ولاحظ الدر المنثور للسيوطي ، ج ٥ ، ص ٢٠٤ . وللحديث صور مختلفة تشترك كلها في إثبات الخاتمية للنبي قال رسول الله : « فأنا موضع تلك اللبنة ، فجئت فَخَتَمْتُ الأنبياء » . لاحظ التاج ، ج ٣ ، ص ٢٢ ، نقلاً عن البخاري ومسلم والترمذي .

٤٩٩
 &

قدمي ؛ وأنا العاقب ، الذي ليس بعده النبي » (١) .

٤ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « أُرسلت إلى الناس كافة ، وبي خُتم النبيون » (٢) .

٥ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « فُضّلت بِسِت :

أُعطِيتُ جوامِعَ الكَلِم ، ونُصِرْتُ بالرُّعب ، وأُحلّت لي الغنائم ، وجُعِلَتْ لي الأَرضُ طَهوراً ومسجداً ، وأُرْسِلْتُ إلى الخَلْقِ كافّة ، وخُتم بي النبيون » (٣) .

هذه أحاديث خمسة عن خاتم النبيين ، والمروي في هذا المجال عنه صلى الله عليه وآله أكثر من ذلك (٤) .

تنصيص الإمام عليّ على الخاتمية

٦ ـ قال علي عليه السلام : « . . إِلى أَنْ بَعَثَ الله مُحَمداً صلى الله عليه وآله ، لإنجاز عِدَته ، وتمام نُبُوَّته ، مأخوذاً على النبيين ميثاقُه ، مشهورةً سِماتُه ، كريماً ميلادُه » (٥) .

٧ ـ قال علي عليه السلام : « أَرْسَلَهُ على حين فَتْرَةٍ من الرُّسل ، وتنازُع من الألسن ، فَقَفّى به الرسل ، وختم به الوحي » (٦) .

٨ ـ قال علي عليه السلام وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله : « بأبي أنتَ وأُمّي ، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك ، من النُّبوة والإنباء ، وأخبار السماء ، خصصت حتى صرت مُسَلّياً عمن سواك ، وعَمَمْتَ

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٨ ، ص ٨٩ . الطبقات الكبرى ، ج ١ ، ص ٦٥ ، مسند أحمد ، ج ٤ ، ص ٨١ و ٨٤ .

(٢) الطبقات الكبرى ، ج ١ ، ص ١٢٨ ، ومسند أحمد ، ج ٢ ، صفحة ٤١٢ .

(٣) الجامع الصغير ، ج ٢ ، ص ٢١٦ ، الرقم ٥٨٨٠ ، ط دار الفكر ـ بيروت .

(٤) سيوافيك الإحالة إلى المصدر الجامع لهذه الأحاديث .

(٥) نهج البلاغة ، الخطبة الأُولى . والضميران في « عدته » ، و « نبوته » ، لله تعالى .

(٦) نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٩ .

٥٠٠