الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
فهذا المقطع من الآية يدلّ على أنّ ظرف الإنشقاق كان في زمن الرسول ، ولأجل ذلك اتَّخذ منه المشركون موقفاً متعنتاً مجادلاً ، وقال قائلهم : « سَحَرَكُمْ إِبن أبي كبشة » (١) . وقد كان المشركون يدعون الرسول الأعظم به ، وأبو كبشة من أجداد النبي من ناحية أُمه .
٢ ـ إسراء ومعراج النبي صلى الله عليه وآله
إنّ إسراء النبي ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أحد المعاجز العظيمة التي أنعم الله سبحانه بها على نبيه ، وأخبر عنها القرآن حيث قال : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (٢) .
وقد تحقق عبور تلك المسافة الطويلة في زمن قصير ، في ظرف لم يكن يتوفّر فيه شيء ممّا يتوفر الآن من وسائل النقل السريعة ، وهذا هو الوجه في إعجازها .
إنّ القرآن الكريم يثبت هذا الإعجاز ، في سورة أُخرى أيضاً ، ويدعمها بقوة لا تُبقي في النفس شكاً بها ، ويخبر أنّ رحلة النبي تجاوزت المسجد الأقصى ( الوارد في الآية السابقة ) إلى سدرة المنتهى (٣) .
٣ ـ مباهلة النبي لأهل الكتاب
تعرّض القرآن لقضية المباهلة ، في قوله تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٤) .
إنّ قصة المباهلة مذكورة في التفاسير (٥) ، ومعجزة النبي ـ وهي حلول
__________________
(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٣٣ ، وقد جمع كلمات الصحابة حول شقّ القمر .
(٢) سورة الأسراء : الآية ١ .
(٣) لاحظ سورة النجم : الآيات ٥ ـ ١٨ .
(٤) سورة آل عمران : الآية ٦١ .
(٥) تقدمت إليها الإشارة في مباحث النبوة العامة .
العذاب على نصارى نجران ـ وإن لم تتحقق بسبب انصرافهم عن المباهلة ، إلّا أنّ ذهاب الرسول إلى المباهلة واستعداده لذلك من جانب ، وانسحاب نصارى نجران من خوض معركة التباهل من جانب آخر ، يكشفان عن أنّ حلول العذاب ـ بدعاء الرسول ـ كان حتمياً لو تباهلوا ، فقد أدركوا الخطر وأحسُّوا بعواقب الموقف ، فتنازلوا وتصالحوا .
٤ ـ طلب المعاجز من النبي (ص) الواحدة تلو الأُخرى
إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ النبي كان كلما أتى قومه بآية ، طالبوه بآية أخرى ، وكانوا يصرّون على أن تكون مثل معاجز السابقين ، وهذا يدلّ على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن حتى جاء الطلب منهم بعد الطلب .
قال سبحانه : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّـهِ ) (١) وليس المراد من ( آيَةٌ ) نفس القرآن ، ولا الآية القرآنية ، لوجهين :
١ ـ أنّها جاءت بصورة النكرة ، وهذا يكشف عن نوع خاص من الآيات .
٢ ـ لو كان المقصود هو القرآن أو الآية القرآنية ، كان المناسب إلقاء الكلام بنحو آخر بأن يقول بدل المجيء ، « النزول » ، فيقول : « إذا نَزَلت عليهم آية » . وعلى هذا فلفظ « آية » ، فيها ، نظيرها في قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) (٢) .
وفي قوله سبحانه حاكياً عن المسيح عليه السلام : ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ . . . ) الآية (٣) .
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ١٢٤ .
(٢) سورة يونس : الآيتان ٩٦ و ٩٧ .
(٣) سورة آل عمران : الآية ٤٩ .
وأمّا علّة اختلاف الأنبياء في أصناف المعاجز ، فقد قدمنا ذكره في صدر هذا الفصل .
٥ ـ وصف معاجز النبي بالسحر
إنّ هناك آيات تصرّح بأنّ المشركين كلما رأوا من الرسول آية ، وصفوها بالسحر . قال سبحانه : ( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) (١) .
إنّ تنكير ( آيَةً ) ، واستعمال ( رَأَوْا ) ، دليلٌ على أنّ المقصود من الآية ، غير القرآن من المعاجز ، وإلّا لكان المناسب تعريف الآية ، ووصفها بالسماع أو النزول .
وهذه الآية نظير قوله سبحانه : ( وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا . . ) (٢) .
٦ ـ النبيُّ الأعظم وبيِّناته
يشير القرآن الكريم إلى أنّ النبيَّ الأعظم بُعث مع البينات ، والمراد منها المعاجز ، كما تشهد به الآيات الأُخر .
قال سبحانه : ( كَيْفَ يَهْدِي اللَّـهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ، وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (٣) .
و « البيِّنات » جمع « البيِّنة » ، وهي الدليل على الشيء ، وربما يحتمل أنّ المراد هو القرآن ، أو البشائر الواردة في الكتب النازلة قبله حول النبي ، ولكن
__________________
(١) سورة الصافات : الآيتان ١٤ و ١٥ .
(٢) سورة الأنعام : الآية ٢٥ .
(٣) سورة آل عمران : الآية ٨٦ .
ملاحظة الآيات الأُخر التي استعملت فيها هذه الكلمة ، تؤيّد أنّ المراد المعاجز والأَعمال الخارقة للعادة .
قال سبحانه : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ) (١) .
وقال سبحانه : ( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) (٢) .
وقال سبحانه : ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ ) (٣) .
وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) (٤) .
إلى غير ذلك ممّا ورد فيه لفظ البينات ، وأُريد منه الأفعال الخارقِة للعادة . والظاهر أنّ المراد منه في الآية السابقة هو نظائر تلك المعاجز .
٧ ـ إخبار النبي عن الغيب ، كالمسيح
إنّ القرآن المجيد يَعُدُّ إِخبار المسيح عليه السلام ، عن المغيبات ، من معاجزه ، في قوله ـ حاكياً عنه ـ : ( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (٥) .
فإذا كان الإخبار عن الغيب ، آية معجزة للمسيح ، فقد أخبر النبي عن المغيِّبات بكتابه الذي جاء به ، كما تقدم في الشواهد على إعجاز الكتاب .
* * *
الدليل الثالث ـ معاجز النبيِّ في الحديث والتاريخ
إنّ كُتُبَ الحديث والتاريخ ، زاخرةٌ بمعاجز النبي ، التي لا يمكن نقل
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ٨٧ .
(٢) سورة النساء : الآية ١٥٣ .
(٣) سورة المائدة : الآية ١١٠ .
(٤) سورة المائدة : الآية ٣٢ .
(٥) سورة آل عمران : الآية ٤٩ .
معشارها في هذا الكتاب . وقد قام بعض المحدِّثين ، بتآليف مفردة في هذا المجال ، أجْمَعُها فيه ما أَلَّفه الشيخ الحرّ العاملي ( م ١١٠٤ ) ، وأسماه بـ « إثبات الهُداة بالنصوص والمعجزات » ، وطبع في ثلاث مجلدات كبار . وقد جمع فيها معاجز النبي من كتب الشيعة والسنّة ، جزاه الله عن الإسلام . خير الجزاء .
* * *
مقارنة بين معاجز النبي وغيره من الأنبياء
إنّ أحاديث المسلمين حول معاجز النبي ، تمتاز على روايات اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم من ناحيتين :
الأولى : قلّة الفترة الزمنية بيننا وبين حوادث العهد النبوي ، وكثرتها بيننا وبين حوادث عهود النبيَّيْن موسى وعيسى عليهما السلام ، وغيرهما ، وهذا يوجب الإطمئنان إلى روايات المسلمين أكثر من روايات غيرهم .
الثانية : تواتر الروايات الإسلامية حول معاجز النبي الأكرم وعدمه في الجانب الآخر ، فإنّها تنتهي إلى أفراد قلائل .
ومن أراد الوقوف على معاجز النبي فعليه المراجعة إلى الكتاب الذي أشرنا إليه حتى تتضح مصادر ما ذكره ، ويتبين تواترها إجمالاً ، وإن لم يكن بعضها متواتراً لفظاً (١) .
* * *
__________________
(١) التواتر ينقسم إلى لفظي ومعنوي وإجمالي ، والفرق بينهما واضح لمن كان له إلمام بعلم الدراية ، وحاصله أنّ الحديث إذا كان بنصّه متواتراً فهو التواتر اللفظي . وإذا كان كل واحد من الأحاديث غير متواتر نصّاً لكن الجميع يشهد عن قدر مشترك بينها ، كالأخبار الواردة حول سَخاء خاتم ، وبطولة الإمام علي ، فإنّ كلَّ واحد ، وإن كان لا يتجاوز أخبار الآحاد ، لكن الجميع يتفق في حكاية سماحة الأول ، وشجاعة الثاني ، فهذا الجامع ، متواترٌ معنىً . وأمّا الثالث فهو ما إذا كثرت الأخبار في موضوع ، ونعلم بصدور عدّة منها ، وإن لم يكن كل واحد معلوم الصدور ، كما في المقام ، فإنّ كلّ واحد من الأخبار حول معاجزه وإن كان غير متواتر ، لكن نعلم بصدور البعض قطعاً ، فهو متواتر إجمالاً .
خاتمة المطاف
لقد حصحص الحق ، وثبت لك وقوع المعاجز على يد النبي الأكرم ، سواء معجزته الخالدة أم غيرها من المعاجز الواردة في القرآن ، وكتب الحديث ، والتاريخ . وما ذكرناه كاف في إثبات نبوته ، على وجه لا يَدَعُ لقائلٍ مقالاً ، ولا لمرتاب شكّاً وريبةً .
وقد عرفت في صدر الفصل أنّ للتعرف على صدق مدّعي النبوة طرقاً ثلاثة :
الأول : التحدّي بالمعاجز .
الثاني : تنصيص النبي السابق على نبوّة النبي اللاحق .
الثالث : جَمْعُ القرائن والشواهد القاضية بصدق المُدَّعي .
وقد فرغنا من سلوك الطريق الأول ، وفيما يلي نسلك الطريق الثاني .
* * *
الطريق الثاني
لإثبات نبوة نبي الإسلام
بشائر خاتم الرسل في العهدين
إنّ النبيَّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم ، كان يحتجّ على اليهود والنصارى ، بأنّه قد بُشِّر به في العهدين ، وأنّ الكليم والمسيح بشَّرا برسالته ، وأنّ أهل الكتاب لو رجعوا إلى كتبهم ـ حتى بعد التحريف ـ لوجدوا بشائره فيها ، وتعرّفوا عليه ، كتعرّفهم على أبنائهم . كان يحتجّ بهذه الكلمات ، ولم يكن هناك أيّ ردّ من الأحبار والرهبان في مقابله ، بل غاية جوابهم كان السكوت وإخفاء الكتب ، وعدم نشرها بين أتباعهم .
ولو كان النبي الأكرم غير صادق ـ والعياذ بالله ـ في هذا الإدّعاء ، لثارت ثورتهم عليه ، ولملأوا الأجواء والطوامير بنقده وردّه ، غير أنّ صراحة النبي وصموده أمام علمائهم بشدّة ، يكشف عن انهزام العدو أمام ذلك الإدّعاء .
يقول القرآن الكريم : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ، يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (١) .
ويقول : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ) (٢) .
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ١٤٦ .
(٢) سورة الأعراف : الآية ١٥٧ .
ويقول : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ، وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (١) .
ثم إنّ علماء المسلمين في الأعصار السابقة نقبوا في العهدين ، وجمعوا البشارات الواردة فيهما . وَنْقلُ هذه البشائر ، يوجب الإسهاب في الكلام والخروج عن وضع الكتاب ، ونكتفي في ذلك بهذه البشارة التي تكشف عنها الآية الأخيرة ، فإنّ فيها تنصيص على الإسم مكان التنصيص على الصفات ، وهذه الإشارة وردت في إنجيل يوحنا في الأصحاحات : الرابع عشر ، والخامس عشر ، والسادس عشر . وإليك نصوصها من الإنجيل الحالي المترجم إلى اللغة العربية :
١ ـ ( إِنْ كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعَزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد ) (٢) .
٢ ـ ( وأَمّا المُعَزِّي ، الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي ، فهو يعلّمكم كل شيء ، ويذكّركم بكل ما قُلتُه لكم ) (٣) .
٣ ـ ( وَمتى جاءَ المُعَزِّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق ، فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الإبتداء ) (٤) .
٤ ـ ( لكني أقول لكم الحق ، إنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّي ، ولكن إن ذهبتُ أُرسله إليكم * ومتى جاء ذاك يُبَكِّتُ العالم على خَطِيَّةٍ وعلى بِرٍّ وعلى دينونة ) (٥) .
٥ ـ ( وأمّا متى جاء ذاك ، روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنّه
__________________
(١) سورة الصف : الآية ٦ .
(٢) إنجيل يوحنا ، الأصحاح الرابع عشر : الجملتان ١٥ و ١٦ ، ط دار الكتاب المقدس .
(٣) إنجيل يوحنا ، الأصحاح الرابع عشر : الجملة ٢٦ ، ط دار الكتاب المقدس .
(٤) إنجيل يوحنا ، الأصحاح الخامس عشر : الجملة ٢٦ ، ط دار الكتاب المقدس .
(٥) إنجيل يوحنا ، الأصحاح السادس عشر : الجملتان ٧ و ٨ ، ط دار الكتاب المقدس .
لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يَسْمَع ، يتكلّم به ، ويخبركم بامور آتية ) (١) .
وجه الإستدلال يتوقف على بيان نكتة ، وهي أنّ المسيح عليه السلام ، كان يتكلم بالعبرية ، وكان يعظ تلاميذه بهذا اللسان ، لأنّه وُلِدَ وشَبّ بين ظهرانيهم ، وأُمُّه أيضاً كانت عبرانية ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ المُؤَرِّخين أَجْمعوا على أنّ الأناجيل الثلاثة غير متى ، كتبت من أوّل يومها باللغة اليونانية ، وأمّا إنجيل متى فكان عبرياً من أوّل إنشائه .
وعلى هذا ، فالمسيحُ بَشَّر بما بَشَّر باللغة العبرية أولاً ، وإنّما نقله إلى اليونانية ، كاتب الإنجيل الرابع « يوحنا » وكان عليه التحفّظ على لفظ المسيح في مورد المُبَشَّرِ به ، لأنّ القاعدة الصحيحة ، عدم تغيير الأعلام ، والإتيان بنصِّها الأَصلي ، لا ترجمة معناها . ولكن « يوحنا » لم يراع هذا الأصل ، وترجمه إلى اليونانية ، فضاع لفظه الأصلي الذي تكلّم به المسيح ، وفي غِبّ ذلك حصل الإختلاف في المراد منه .
وأمّا اللفظ اليوناني الذي وضعه الكاتب « يوحنا » مكان اللفظ العبري ، فهو مردد بين كونه « پاراقْلِيطوس » (٢) الذي هو بمعنى المُعَزِّي والمُسَلِّي والمُعين والوكيل ، أو « پِرِيقْلِيطوس » (٣) الذي هو بمعنى المحمود ، الذي يرادف أحمد . ولأجل تقارب الكلمتين في الكتابة والتلفظ والسماع ، حصل التردد في المُبَشِّر به . ومُفَسِّروا ومترجموا إنجيل يوحنا ، يصرّون على الأول ، ولأجل ذلك ترجموه إلى العربية بـ « المعزّي » ، وإلى اللغات الأُخرى بما يعادله ويرادفه ، وادّعوا أنّ المراد منه هو روح القدس ، وأنّه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقدان المسيح ، كما ذُكر تفصيله في كتاب أعمال الرسل (٤) . وزعموا أنّهم بذلك خلعوا
__________________
(١) إنجيل يوحنا ، الأصحاح السادس عشر : الجملة ١٣ ، ط دار الكتاب المقدس .
(٢) في اليونانية هكذا : IIAPAKAHTOE . وبالأفرنجى هكذا : Paracletos .
(٣) في اليونانية هكذا : IIEPIKAHOTE . وبالأفرنجية هكذا : Pericletos .
(٤) أعمال الرسل ، الأصحاح الثاني : الجملات ١ ـ ٤ ،
يقول : ( ولما حضر يوم
الخمسين كان ، =
المسلمين عن السلاح الذي كانوا يحتجون به عليهم .
ومع ذلك ، فهناك قرائن تلقي الضوء على أنّ المُبَشَّر به هو الرسول الأعظم ، لا روح القدس ، وإليك تلك القرائن :
١ ـ إنّ المسيح بدء خطابه إلى تلاميذه بقوله : ( إِن كنتم تحبونني ، فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم « معزياً » آخر ، ليمكث معكم إلى الأبد ) .
وهذا الخطاب يناسب أن يكون المُبَشِّر به نبياً ، لأنّ المسيح يحتمل ـ في هذا الكلام ـ أن يتخلّف عدّة منهم عن اقتفاء أثره ودينه ، ولذلك أثار عواطفهم في هذا المجال لئلا يتخلّفوا . ولو كان المراد منه روح القدس لما احتاج إلى تلك المقدمة ، لأنّ تأثيره في القلوب تأثير تكويني لا يمكن لأحد التخلّف عنه ، ولا يبقى في القلوب معه شكٌّ ، وهذا بخلاف تأثير النبي فإنّه يؤثر ببيانه وكلامه في القلوب والأرواح ، وهو يختلف حسب اختلاف طبائع المخاطبين واستعدادهم .
ولأجل ذلك أصرّ على إيمانهم به في بعض خطاباته وقال : ( وقلت لكم الآن قبل أن يكون ، حتى متى كان تؤمنون ) (١) .
٢ ـ إنّه وصف المُبَشَّر به بلفظ « آخر » ، وهذا لا يناسب كون المبشر به نظير روح القدس لعدم تعدده ، وانحصاره في واحد ، بخلاف الأنبياء فإنّهم يجيئون واحداً بعد الآخر ، في فترة بعد فترة .
٣ ـ إنّه ينعت ذلك المبشر به بقوله : ( لِيَمْكُثَ معكم إلى الأبد ) وهذا يناسب نبوة النبي الخاتم التي لا تُنْسخ .
__________________
= الجميع معاً بنفس واحدة ، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة ، وملأ كلّ البيت حيث كانوا جالسين ، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار ، واستقرّت على كل واحد منهم ، وامتلأ من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أُخرى ، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا ) . وسيوافيك عند التحليل أنّه لم يتحقق في يوم الدار هذا كلَّ ما ذكره المسيح ومنه قوله : « يبكت العالم على خطيّة الخ . . » .
(١) إنجيل يوحنا ، الأصحاح الرابع عشر : الجملة ٢٩ ، ط دار الكتاب المقدس .
٤ ـ إنّه يقول : ( وأَمّا « المعزّي الروح القدس » الذي سيرسله الأب باسمي ، فهو يعلمكم كل شيء ، ويذكركم بكل ما قلته لكم ) وهذه الجملة تناسب أن يكون المبشر به نبيّاً يأتي بعد فترة من رسالة النبي السابق بعد أن تصير الشريعة السابقة على وشك الإضمحلال والإندثار . فيأتي النبي اللاحق ، يذكر بالمنسيّ ، ويزيل الصدأ عن الدين .
وأمّا لو كان المراد هو روح القدس فقد نزل على الحواريين بعد خمسين يوماً من فَقْد المسيح ، حسب ما ينصّ عليه كتاب أعمال الرسل (١) . أفيظن أنّ الحواريين نسوا في هذه المدة اليسيرة معالم المسيح وتعاليمه حتى يكون النازل هو الموعود به ؟! .
٥ ـ ويصف المسيح المبشر به ، بقوله : ( فهو يشهد لي ) . وهذه العبارة تناسب أن يكون المبشر به هو النبي الخاتم حيث بُعِثَ مصدِّقاً للشرائع السابقة والكتب السالفة ، وقد أمره سبحانه أن يخاطب أهل الكتاب بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم ) (٢) ، وغير ذلك . ومن المعلوم أنّ الرسول الأكرم شهد برسالة المسيح ، ونَزَّه أُمَّه وابنها ، عن كل عيب وشين ، وردّ كلَّ ما أُلصق بهما من جهلة اليهود من التهم التافهة . وهذا بخلاف ما إذا فسِّر بروح القدس ، إذ لم يكن للمسيح يومذاك أي حاجة لشهادته ، ودينُه وشريعتُه بَعْدُ غضّانِ طريّان .
٦ ـ إنّه يقول : ( لأنّه إن لم انطلق ، لا يأتيكم « المعزي » ، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم ) . وهذا يناسب أن يكون المُبَشّر به نبياً ، حيث علّق مجيئه بذهابه ، لأنّه جاء بشريعة عالمية ، ولا تصحّ سيادة شريعتين مختلفتين على أُمةٍ واحدةٍ .
ولو كان المُبَشَّر به هو روح القدس ، لما كان لهذا التعليق معنى ، لأنّ روح
__________________
(١) أعمال الرسل ، الأصحاح الأول : الجملة ٥ . والأصحاح الثاني : الجملات ١ ـ ٤ ، ط دار الكتاب المقدس .
(٢) سورة النساء : الآية ٤٧ .
القدس حسب تصريح إنجيلَيْ متى ولوقا ، نزل على الحواريين عندما بعثهم المسيح للتبشير والتبليغ (١) .
٧ ـ ويقول : ( ومتى جاء ذاك يُبكّت العالم على خَطِيَّةٍ ، وعلى بِرّ ، وعلى دينونة . . . ) . وهذا يؤيّد أن يكون المُبَشَّر به نبيّاً ، إذ لو كان المراد هو روح القدس ، فهو نزل في يوم الدار على الحواريين حسب زعمهم ، فما وَبَّخ اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلاً ، لعدم رؤيتهم إيّاه . ولم يوبخ الحواريين ، لأنّهم كانوا مؤمنين به .
٨ ـ ويقول : ( ومتى جاء ذاك ، روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنّه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية ) .
وهذا يتناسب مع كون المُبَشَّر به نبيّاً خاتماً ، صاحب شريعة متكاملة ، لا يتكلم إلّا بما يوحى إليه ، وهذه كلّها صفات الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فجميع هذه القرائن تشهد بوضوح على أنّ المراد من « المعزي » المُبَشّر به ، هو النبي الأكرم لا روح القدس ، ولو أمعنت النظر في سائر القرائن التي ذكرها المحققون من المسلمين في تفسير هذا اللفظ ، لعالت القرائن (٢) .
غير أنّ البشارات لا تنحصر بذلك بل هي موجودة في العهدين ، واستقصاء البحث وجَمْعها ، يستدعي تأليف كتاب منفرد حافل ، إلّا أنّا نلفت إلى نكتة وهي :
إنّ الكتاب الذي جاء به المسيح كان كتاباً واحداً ، وهو عبارة عن هَدْيِهِ
__________________
(١) لاحظ إنجيل متى : الأصحاح العاشر ، الجملة الأولى فما بعدها . وإنجيل لوقا : الأصحاح العاشر ، الجملة ١١ ، وفيها : ( ولكن إعلموا هذا : إنّه قد اقترب منكم ملكوت الله ) .
(٢) من أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى كتاب أنيس الأعلام في نُصرة الإسلام ، ج ٥ ، ص ١٣٩ ـ ١٧٢ .
وبشارته بمن يجيء بعده ، ليتم دين الله الذي شرعه على لسانه وألسنة الأنبياء من قبله ، فكان كل منهم يبين للناس منه ما يقتضيه استعدادهم ، وإنّما كثرت الأناجيل لأنّ كلَّ من كتب سيرته سماه إنجيلاً ، لاشتماله على ما بَشَّر وهدى به الناس ، ومن تلك الأناجيل إنجيل « برنابا » . و « برنابا » حوريٌّ من أنصار المسيح الذي يلقّبهم رجال الكنيسة بالرُّسل ، صحبه « بولص » زمناً ، بل كان هو الذي عرّف التلاميذ ببولص ، بعدما اهتدى بولص ورجع إلى أُورشليم ، ولم يكن من هذا الإنجيل أثر في المجتمع المسيحي حتى عثروا في أُوروبا على نسخة منذ قرابة ثلاثة قرون ، وهذا هو الإنجيل الذي حرم قراءته « جلاسيوس الأول » في أواخر القرن الخامس للميلاد .
وهذا الإنجيل يباين الأناجيل الأربعة في عدّة أُمور :
١ ـ ينكر ألوهية المسيح وكونه ابن الله .
٢ ـ يعرّف الذبيح بأنّه اسماعيل لا إسحاق .
٣ ـ أنّ المسيح المنتظر هو « محمد » ، وقد ذكر « محمد » باللفظ الصريح المتكرر في فصول ضافية الذيول .
٤ ـ أنّ المسيح لم يصلب بل حُمل إلى السماء ، وأنّ الذي صلب إنّما كان يهوذا الخائن . فجاء مطابقاً للقرآن .
ومن أراد الوقوف على بشائر هذا الإنجيل بوضوح ، فعليه بالرجوع إليه (١) .
* * *
__________________
(١) وقد قام بترجمته من الإنكليزية الدكتور خليل سعادة ، وقدم له مقدمة نافعة ، وطبع في مطبعة المنار بتقديم السيد محمد رشيد رضا أيضاً ، عام ١٣٢٦ هـ ، ١٩٠٨ م .
الطريق الثالث
لإثبات نبوة نبي الإسلام
القرائن الدالّة على نُبوّة الرسول الأعظم
قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ من الطرق التي يستكشف بها صدق دعوى المدّعي للنبوّة ، شهادة القرائن الداخلية والخارجية .
وهذا الطريق متين يستخدم في المحاكم القضائية في هذا العصر ، لتبيين صدق المدّعي والمنكر أو كذبهما ، والتوصّل إلى كنه الحوادث (١) . ولكنه لا يختصّ بالمحاكم ، بل يمكن تعميمه إلى مسائل مهمّة ، منها إثبات صدق دعوى المتنبِّيء (٢) .
وأُصول هذه القرائن في المقام عبارة عن الأُمور التالية :
١ ـ سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة وبعدها .
٢ ـ الظروف التي فيها نشأ وتربّى وادّعى النبوّة .
٣ ـ المفاهيم التي تبنّاها ودعا إليها .
٤ ـ الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته .
__________________
(١) والفرق بين هذا المقام وما ذكرنا من الشواهد ، هو أنّ الغاية من جمع الشاهد فيما مضى ، إثبات كون القرآن كتاباً سماوياً ، ولكن الغاية من جمع القرائن في المقام إثبات كون حامله رسولاً إلهياً ، لا مصلحاً اجتماعياً .
(٢) وقد ذكرنا في النبوة العامة أنّ قيصر الروم هو أول من اعتمد هذا الأسلوب ، وتبعه من أتى بعده .
٥ ـ شخصية أتباعه الذين آمنوا به ولزموه وصحبوه .
٦ ـ ثباته في سبيل أهدافه ، وصموده في دعوته .
٧ ـ أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها .
ومن هذه القرائن يمكن أن يستنتج صدق الدعوى على وجهٍ ، وكذبها على وجه آخر ، ولا ندّعي اختصاص القرائن بها ، بل يمكن للممعن في رسالته ، وحياته ، استخراج قرائن أُخر ، يستدلّ بها على صدق دعواه ، وإليك بيانها ، واحدة بعد أُخرى .
* * *
القرينة الأولى ـ سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة وبعدها
نشأ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في أرفع بيت من بيوت قريش ، وأعلاها كعباً ، وأشرفها شأناً . فسيرة جدّه عبد المطلب ، وعمّه أبي طالب ، في الكرم والسخاء وإغاثة الملهوفين ، وحماية الضعفاء ، معروفة في التاريخ والسِيَر .
وأمّا سيرة النبي الأكرم ، فكفى في إشراقها أنّه كان يُدعى بـ « الأمين » ، وكان محلّ ثقة واعتماد العرب في فضّ نزاعاتهم . فالتاريخ يروي أنّه لولا حنكة الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكّة ، وإجماعهم على قبول قضائه ، لسالت دماؤهم وهلكت نفوسهم . وذلك أنّهم لما بلغوا في بناء الكعبة ـ التي هدمها السيل ـ موضع الركن ، اختصموا في وضع الحجر الأسود مكانه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأُخرى ، حتى تحالفوا واستعدّوا للقتال ، فَقَرَّبَتْ بنو عبد الدار جُفنة مملوءة دماً ، ثم تعاقدوا هم وبنو عُدَيْ على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة . فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً ، تُفَكِّر في مَخْلَص من هذه الورطة .
ثم إنّ أبا أُمية ابن المغيرة ، الذي
كان أَسن قريش كلها ، إقترح عليهم اقتراحاً ، قال : « يا معشر قريش ، إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه ، أَوَّلَ من يدخل من باب هذا المسجد ، يقضي بينكم فيه » . ففعلوا . فكان أول داخل
عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما رأوه قالوا : « هذا « الأمين » ، رضينا ، هذا محمد » ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ، قال صلى الله عليه وآله : « هَلمّ ثوباً » ، فأتي به . فأخذ الركن ، فوضعه فيه بيده . ثم قال : « لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوه جميعاً » . ففعلوا . حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده ، ثم بنوا عليه كما أرادوا .
وقد أنشد هبيرة بن وهب المخزومي هذه الحادثة بأبياتٍ ، منها :
رضينا وقلنا : العدلُ أَوَّلُ طالع |
|
|
يجيء من البطحاء من غير موعدِ |
ففاجأنا هذا الأمين محمد |
|
|
فقلنا : رضينا بالأمين محمدِ |
بخير قريش كلّها أمس شيمة |
|
|
وفي اليوم مع ما يحدث الله في غدِ |
فجاء بأمر لم ير الناس مثله |
|
|
أَعَمَّ وأَرضى في العواقب وألبدِ |
وتلك يد منه علينا عظيمة |
|
|
يروب لها هذا الزمان ويعتدي (١) |
هذه لمحة موجزة عن خلقه وسيرته المحمودة المعروفة بين الناس ، وقد احتفظ بها صاحب الرسالة بعد بعثته ، وبعد غلبته على أعدائه الألداء ، حتى في نصره النهائي حين فتح مكة ودخل صناديد قريش الكعبة ، وهم يظنون أنّ السيف لا يرفع عنهم ، فأخذ رسول الله بباب الكعبة ، وقال : « لا إله إلّا الله ، أنجز وَعْدَه ، ونَصَرَ عَبْدَهُ ، وغَلَبَ الأحزابَ وَحْدَهُ » . ثم قال : « ما تظنون » ؟ . فأجابت قريش « نظن خيراً ، أخ كريم » . فقال : « فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف : ( لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، يَغْفِرُ اللَّـهُ لَكُمْ ، وَهُوَ أَرْحَمُ
__________________
(١) السيرة النبوية لابن هشام ، ج ١ ، ص ١٩٢ ـ ١٩٩ . لاحظ الكافي للكليني ، ج ٤ ، ص ٢١٧ ـ ٢١٨ .
الرَّاحِمِينَ ) (١) » (٢) .
والعجب أنّ الذين أحاطوا ببيته ليلة الهجرة ، وهمُّوا باغتياله ، وإراقة دمه ، كانت أموالهم بين يديه ، وأمانةً عنده ، فلأجل ذلك لما همّ بالخروج من البيت والهجرة إلى المدينة ، أمر عليّاً أن يقيم صارخاً ، يهتف بالأبطح ، غدوة وعشياً : « من كان له قِبَلَ محمدٍ أَمانة أو وديعة ، فليأت ، فَلْنُؤَدِّ إِليه أَمانته » ! .
فأقام عليٌّ بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدّى عن رسول الله صلى الله عليه وآله الودائع التي كانت عنده للناس (٣) .
ومن ظريف أخلاقه عفوه عن العدو الغادر ، الذي أراد قتله ، بمجرد التجائه إليه :
فقد نقل أصحاب المغازي أنّه في إحدى الغزوات ، ذهب النبي الأكرم لحاجته ، فأصابه المطر ، فبلّ ثوبه ، فنزعه صلى الله عليه وآله ونشره ليجف ، فألقاه على شجرة ، ثم اضطجع تحتها . فرآه العدو وحيداً بعيداً عن أصحابه ، فاختار أحدهم سيفاً صارماً ، ثم أقبل حتى قام على رأس النبي بالسيف المشهور ، فقال : « يا محمد ، من يمنعك مني اليوم ؟ » .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « الله » .
عندئذٍ وقع السيف من يده فأخذه الرسول الأكرم وقام به على رأسه فقال : « من يمنعك مني اليوم ؟ » .
قال : « لا أحد » . ثم قال : « فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، والله لا أُكْثِرُ عليك جمعاً أبداً » .
فأعطاه رسول الله سيفه ، ثم أدبر الرجل ، ثم أقبل بوجهه ، فقال : « أما والله ، لأنت خير مني » .
__________________
(١) سورة يوسف : الآية ٩٢ .
(٢) بحار الأنوار ، ج ٢١ ، ص ١٣٢ ، وغيره من المصادر المتوفرة .
(٣) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٤٩٣ . البحار ، ج ١٩ ، ص ٦٢ .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « أنا أحقّ بذلك منك » (١) .
هذه نبذة يسيرة من سيرته الحميدة المعترف بها عند الصديق والعدو ، ولو أردنا الإسهاب لاحتجنا إلى تأليف رسالة حافلة ، في أدبه وخلقه وسيرته ، ولأجل ذلك إعتمد قيصر في استنطاقه أبا سفيان ، على تلك السيرة ، وجعلها جزءً من القرائن التي استفاد منها كونه صادقاً في دعوته (٢) .
* * *
القرينة الثانية ـ الظروف التي فيها نشأ وادعى النُبوّة
كان العرب الجاهليون يضمّون إلى صفاتهم الحسنة من سخاء في الطبع وإكرام للضيف ، وصيانة للأمانة وإلتزام بالعهود ، صفات ذميمة وأخلاق رذيلة ، وعادات قبيحة ، وعقائد خرافية .
فالصورة العامة التي يمكن رسمها عنه ، أنّه كان مجتمعاً غارقاً إلى آذانه في عبادة الحجارة والأوثان ، والفساد الذريع في الأخلاق ، يظهر في شيوع القمار والزنا ، ووأَد البنات ، وأكل الميتة ، وشرب الدم ، والغارات الثأريّة ، وتغيير الأشهر الحرم ، وغير ذلك من التقاليد والأعمال السيئة التي نقلها المؤرخون ، ولا حاجة للتفصيل (٣) .
هذه هي عقائدهم وتقاليدهم ، وعاداتهم ، والنبي الأكرم وليد هذه البيئة المتدهورة ، نشأ وترعرع فيها ، وقضى أربعين عاماً بينهم ، فإذا به قد بعث بأُصول وآداب ومعارف ، تضاد ما كان سائداً في تلك البيئة . فلو كان هو في تعاليمه ، مستمداً من بيئته ، لكان قد تأثّر بها ولو في بعض هذه الصفات والتقاليد .
إنّه ليس من الغريب أن تنبت الأرض الخصبة ، الأشجار النضرة والأزاهير
__________________
(١) المغازي للواقدي ، ( م ٢٠٧ ) ، ج ١ ، ص ١٩٥ ، ط أكسفورد .
(٢) تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٢٩٠ ـ ٢٩١ ، حوادث السنة السادسة للهجرة .
(٣) لاحظ للوقوف على تاريخ العرب الجاهليين ، « بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب » للشيخ الآلوسى ( م ١٢٧٠ ) . وتاريخ العرب للكاتب د . علي جواد ، في عشرة أجزاء . وغير ذلك .
والرياحين ، وإنّما العجب أن يَنْبُت كل أولئك من أرض مجدبة قاحلة ، يلقي عليها شبح الموت ظلاله السوداء ، وهكذا كانت شريعة محمد صلى الله عليه وآله في البيئة التي ظهرت فيها .
* * *
القرينة الثالثة ـ المفاهيم التي تبنّاها ودعا إليها
جاء الرسول الأعظم بمفاهيم راقية في جميع شؤون الحياة البشرية وشجونها .
فدعا إلى التوحيد ، ونبذ الوثنية ، وتنزيهه سبحانه عن كل نقص وعيب ، فَعَرّف الإله الخالق سبحانه ، بقوله : ( هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ، سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّـهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) .
وأين هذا من مفاهيم الشرك والوثنية التي كانت سائدة في ذلك الزمن .
وجاء بمفاهيم سامية حول الحياة الأُخروية ، فَقَرَّرَ أنّ الموت ليس بمعنى ختم الحياة ، وإنّما هو نافذة للحياة الأبدية ، التي يحياها الإنسان بسعادة أو تعاسة ، بحسب أعماله الحسنة أو السيئة ، وأين هو من قولهم : ( مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) (٢) .
وفي حقل الأخلاق والتعاون والتآلف الإجتماعي ، زرع في محيط البغضاء والشحناء ، بذور المحبة والمواساة ، وجعل أبناء المجتمع الواحد أُخوة في الدين ، متعاضدين ، متعاونين ، كأنّهم جسد واحد ، فقال : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (٣) .
__________________
(١) سورة الحشر : الآيات ٢٢ ـ ٢٤ .
(٢) سورة الجاثية : الآية ٢٤ .
(٣) سورة الحجرات : الآية ١٠ .