الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
بعمد غير مرئية الخ » . بمعنى : إنّ للسموات عمداً ، ولكن لا ترونها . فما هذه الأعمدة التي يثبتها القرآن للسموات ، ولا نراها ؟ . فإذا كانت الجاذبية العامة ، والقوة المركزية الطاردة ، عمد تمسك السموات ، فتكون الآية ناظرة إلى تلكما القوتين المتعاندتين ، وإنّما جاء القرآن بتعبير عام حتى يفهمه الإنسان في القرون الغابرة والحاضرة ، ولو أتى بما اكتشفه العلم الحديث ، لَرُمِيَ القرآن قبل الإكتشاف ، بالخطأ والزلل .
أضف إلى ذلك ما رواه الصدوق ، عن أبيه ، عن الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، قال : قلت له : « أخبرني عن قول الله تعالى : ( . . . رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) » . فقال : « سبحان الله ، أليس يقول : ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) ؟ » فقلت :
« بلى » . فقال : « ثَمَّ عَمَد ، ولكن لا تُرى » (١) .
وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : « هذه النجوم التي في السماء مدائن ، مثل المدائن التي في الأرض ، مربوطة كل مدينة إلى عمود من نور » . وفي بعض النسخ : « عمودين من نور » (٢) .
وعلى كل تقدير فقد اختار القرآن في إفهام هذا الناموس تعبيراً صادقاً في جميع الأدوار ، مفهماً أنّ هذه المُعَلَّقات في الفضاء ، تحملها أعمدة غير مرئية ، ممسكة لها .
* * *
٢ ـ القرآن وكروية الأرض
إنّ في القرآن الكريم آيات صريحة ناطقة بكروية الأرض ، يعرفها من أمعن
__________________
(١) البرهان ، ج ٢٢ ، ص ٢٧٨ .
(٢) سفينة البحار ، مادة نجم ، ج ٢ ، ص ٥٧٤ . وراجع مجمع البحرين ، مادة « كوكب » ، ولعلّ المراد من عمودين ، القوّتان الساريتان في الكون ، الجاذبة والطاردة .
فيها . يقول سبحانه : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ، مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) (١)
ويقول سبحانه : ( رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ) (٢) .
ويقول : ( فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ) (٣) .
ومن المعلوم أنّ الأرض على فرض انبساطها لا تخلو من مشرق واحد ومغرب كذلك ، وإنّما تتعدد مشارقها ومغاربها إذا كانت كروية ، فتكون النقاط الشرقية ، غربية لسكنة النقاط الشرقية ، والنقاط الغربية ، شرقيةً لسكنة النقاط الغربية .
روى زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قال : سمعته يقول : صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر . وكنت أنا أُصلي المغرب إذا غربت الشمس ، وأُصلي الفجر إذا استبان الفجر . فقال لي الرجل : ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ؟ فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا ، وهي طالعة على قوم آخرين بعد . قال : فقلت : إنّما علينا أنْ نُصلي إذا وجبت الشمس عنّا ، وإذا طلع الفجر عندنا ، ليس علينا إلّا ذلك ، وعلى أولئك أن يصلّوا إذا غربت الشمس ، عنهم » (٤) .
والظاهر من الرواية أنّ الإمام ، ومصاحبَه ، كانا يتفقان على كروية الأرض ، وأنّ الشمس تطلع على قوم قبل أن تطلع على قوم آخرين ، وأنّها تغرب عن قوم قبل أن تغرب عن قوم آخرين ، ولو كانت منبسطة لطلعت على الجميع مرة واحدة ، وغربت عن الجميع كذلك غير أنّ الإمام عليه السلام يعتقد بأنّ على كل مكلّف رعاية مَشْرِقه ومغربه ، وطلوع الشمس عليه وغروبها عنه ، وليس
__________________
(١) سورة الأعراف : الآية ١٣٧ .
(٢) سورة الصافات : الآية ٥ .
(٣) سورة المعارج : الآية ٤٠ .
(٤) الوسائل ، ج ٣ ، كتاب الصلاة ، الباب ١٣ ، أبواب المواقيت ، الحديث ٢٢ .
طلوعها على قوم وغروبها عنهم ميزاناً له ، ولأجل ذلك جاء في بعض الأحاديث : « إنّما عليك مشرقك ومغربك » (١) .
نعم ، كان للفلاسفة الأقدمين نظريات شتى حول شكل الأرض وكرويتها ، وكان الإعتقاد بكرويتها منتشراً عند ظهور نظرية بطلميوس ، غير أنها لم تكن معروفة في الحجاز ، وإنّما كان تفكير الأُميين من العرب حول الأرض ، تفكير إنسان بدوي يعيش في الصحراء القاحلة . فالإجهار بهذه الحقيقة في تلك البيئة البعيدة عن الحضارة ، لا يصحّ إلّا إذا اعتمد المخبر ، على منطق الوحي .
* * *
٣ ـ القرآن والعالم الجديد
من الأسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرناً ، وجود العالم الذي اكتشفه البَحّار كريستوف كولمبوس .
قال سبحانه : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) (٢) .
وقد شغلت الآية بال المفسّرين ، ففسّروها تارة بمشرقي الشمس والقمر ، ومغربيهما ، وأُخرى بمشرقي الصيف والشتاء ، ومغربيهما . ولكن الظاهر هو الإشارة إلى وجود قارة أُخرى ، على الوجه الآخر من الكرة الأرضية ، يلازم شروق الشمس عليها ، غروبها عنّا ، وذلك لقوله سبحانه ـ حاكياً عن المجرمين يوم القيامة ـ : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) (٣) . فالظاهر أنّ المشرقين في الآيتين متحدّان أوّلاً ، وأَنَّ البُعْد بينهما أطول مسافة محسوسة للمتمني ثانياً . وليست المسافة بين مشرقي الشمس والقمر أو مشرقي الصيف والشتاء أطول مسافة محسوسة ، فلا بدّ من أن يكون المراد منها
__________________
(١) الوسائل ، ج ٣ ، كتاب الصلاة ، الباب ٢٠ ، من أبواب المواقيت ، الحديث ٢ .
(٢) سورة الرحمن : الآية ١٧ .
(٣) سورة الزخرف : الآية ٣٨ .
المسافة التي ما بين المشرق والمغرب . ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقاً لجزء آخر من الكرة الأرضية ، ليصحّ هذا التعبير . فالآية تدلّ على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلّا بعد مئات السنين من نزول القرآن ، كما أنّ إِفراد المشرق والمغرب في قوله سبحانه : ( وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ ) (١) ، لأجل الإشارة إلى المشرق والمغرب المحسوسين لمن يعيش على هذا الوجه من الأرض .
وبالجملة ، إنّ تفسير المشرقين بالمعنى الأول والثاني ، بعيد عن الأفهام العرفية ، وإنّما يختصّ التفسير بهما بالفلكيين الأخصائين في هذا الفن ، والقرآن ينقله عن المجرم المتمني يوم القيامة .
* * *
٤ ـ القرآن وحركة الأجرام السماوية
إنّ القرآن المجيد يخبر عن حركة الأجرام السماوية المحدودة ، يقول سبحانه : ( لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٢) .
والفَلَكَ في اللغة العربية ـ كما صرّح به الراغب في مفرداته ـ مجرى الكواكب ، وتسميته بذلك لكونه كالفُلْك (٣) .
وعلى ذلك فالفَلَك ليس بجسم وإنّما هو مدار النجوم .
وقد شبَّه سبحانه حركة الشمس والقمر ، بحركة الأسماك في البِحار حيث يقول : ( يَسْبَحُونَ ) والسَّبْح : المَرُّ السريع في الماء ، واستعير لمرّ النجوم في الفلك (٤) .
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ١١٥ .
(٢) سورة يس : الآية ٤٠ .
(٣) مفردات الراغب ، مادة فلك ، ص ٣٨٥ .
(٤) مفردات الراغب ، مادة سبح ، ص ٢٢١ .
ولعلّ قوله سبحانه : ( وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ) (١) ، إشارة إلى سباحة النجوم في الفضاء .
يقول سبحانه : ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٢) . والتحديد بقوله : ( لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ) سَبَبُهُ أَنّ حركتيهما محدودتان إلى أَمد معين ، فإذا جاء أمر الله ، ينطوي النظام الكوني ويتبدل . وذلك عندما يخطو العالَم خطوته نحو الكهولة ، وتستوي فيه الحرارة والبرودة . ففي ذلك الظرف تنتهي صفحة الحياة ، ويُطوى كتابها (٣) .
وما ذكرنا لا يخالف ما ثبت من أنّ الشمس مركز للكواكب ، فإنّ استقرارها إستقرار نسبي بالنسبة إلى سائر المجموعة الشمسية ، ولكن هذه المنظومة بعامَّتها متحركة ، في حركة داخل مَجَرَّتها .
* * *
٥ ـ القرآن وحركة الأرض
إنّ الهيئة اليونانية كانت تصرّ على سكون الأرض ، ومركزيّتها بمعنىٰ أنّ الشمس وجميع الكواكب والنجوم تدور حولها . وأوّل من خالف هذه النظرية ـ في الغرب ـ وكشف حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس ، العالم الپولوني « كوپرنيك » ( ١٤٧٣ ـ ١٥٣٤ م ) . وقد أيّده العالم الايطالي « جاليلو » ( ١٥٥٤ ـ ١٦٢٤ م ) بعد أن صنع لنفسه منظاراً فلكيّاً صغيراً ليشهد به حركة الأرض بالدقّة والحسّ . ولكنّه لقي بسبب تأييده هذا معارضة الكنيسة وملاحقتها حتى حكم عليه بالاعدام بعدما سجن طويلاً . ولأجل ذلك كان العلماء يكتمون اكتشافاتهم خوفاً من الكنيسة الرومية .
__________________
(١) سورة النازعات : الآية ٣ .
(٢) سورة الرعد : الآية ٢ .
(٣) لاحظ برهان حدوث المادة الذي أشرنا إليه في الجزء الأول من هذا الكتاب ، ص ٧٣ ، الطبعة الأولى .
ولكن القرآن أشار إلى حركة الأرض بعبارات لم تتضح إلّا بعد قرون من الزمن ، وقد جاء ذلك في ضمن آيتين :
الأولى ـ قوله تعالى : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ) (١) فقد استعار للأرض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع ويُهَزّ بهدوء لينام فيه مستريحاً هادئاً . وكذلك الأرض ، مهدٌ للبشر ، وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والإنتقالية . فكما أنّ الغاية من حركة المهد رعاية الطفل وطمأنينته ، فكذلك الأرض ، فإنّ الغاية من حركتها اليومية والسنوية ، تربية الإنسان ، بل وجميع ما عليها من الحيوان والنبات والجماد . وإنّما أشار إلى الحركة ولم يصرّح بها ، لأنّها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها ، حتى أنّه كان يُعَدُّ مِنَ الضروريات التي لا تقبل التشكيك .
الثانية ـ قولُه تعالى : ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) (٢) .
إنّ بعض المفسّرين يخصّ الآية بيوم القيامة ، لأنّها وردت في سياق آياتها ، فقد ورد قبلَها : ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّـهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) (٣) .
ويلاحظ عليه أنّ الآية المتقدمة على هذه الآية ، تبحث عن الحياة الدنيوية ، يقول سبحانه : ( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٤) . فَتَوَسُّطُ الآيةِ الراجعةِ إلى يوم القيامة ، لا يمنع صلة الآية بالحياة الدنيوية ، إذا كان هناك صلة وتناسب بين الآيات ، هذا .
مع أنّ القرائن الموجودة في نفس الآية تؤيّد خلافه ، أَمّا أَوّلاً : فإنّه سبحانه يقول : ( تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ) ، مع أنّ يوم القيامة ، يومُ ظهور الحقائق وكشف
__________________
(١) سورة طه : الآية ٥٣ .
(٢) سورة النمل : الآية ٨٨ .
(٣) سورة النمل : الآية ٨٧ .
(٤) سورة النمل : الآية ٨٦ .
البواطن ، وليس هناك ظَنٍّ وحسبان ، بل كلُّ ما هنالك إذعان ويقين ، يقول سبحانه : ( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (١) .
وثانياً : فإنّ الآية تبحث عن الجبال الموجودة ، مع أنّ يوم القيامة يوم تبدّل النظام وتغيّره ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) (٢) .
ويقول سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ، فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ) (٣) .
ويقول سبحانه : ( وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ) (٤) .
ويقول سبحانه : ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ) (٥) .
فالكل يدلّ على زوال النظام بما فيه الجبال ، فكيف تكون الآية ناظرة إلى يوم القيامة ؟ .
وثالثاً : إنّ قوله سبحانه في ذيل الآية : ( صُنْعَ اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) ، دليل على أنّه لا صلة للآية بالقيامة ، إذ الصنع يناسب حياتنا الدنيوية ، وأمّا يوم القيامة ، فهو يوم إبادة نظام الحياة ، فالجبال تتلاشى وتتمزق ، فلا يناسبه التركيز على إتقان الصنع .
ورابعاً : فإنّ قوله في ذيل الآية : ( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) ، صريح في أنّ الآية راجعةٌ إلى الحياة الدنيوية ، ولو كانت ناظرة إلى يوم القيامة ، لكان المناسب أن يقول : « خبير بما فعلتم » .
__________________
(١) سورة ق : الآية ٢٢ .
(٢) سورة إبراهيم : الآية ٤٨ .
(٣) سورة طه : الآيتان ١٠٥ و ١٠٦ .
(٤) سورة التكوير : الآية ٣ .
(٥) سورة القارعة : الآية ٥ .
فهذه القرائن تؤيّد كون الآية راجعة إلى حياتنا الدنيوية .
وأمّا دلالتها على حركة الأرض ، فلا شكّ أنّ حركة الجبال متّصلة بحركة الأرض وتابعة لها ، لرسوخها فيها ، وتَشَعُّب أُصولها في بواطنها ، فحركتها تلازم حركة الأرض . ومعنى الآية : إنّ الأرض والجبال وما عليها وما فيها ، في حركة مستمرة كحركة السحاب . وأمّا تخصيص الجبال بالذكر ، فلأجل ما فيها من الوزن والثقل والإرتفاع ، وقدرة الله تسيرها كالسحاب . والقرآن ذكر الجبال لعظمتها وثقلها ، ليبرهن بها على أنّ قدرة الله نافذة في كل موجود ، ووسعت كل شيء .
وأمّا تشبيه حركتها بحركة السَّحاب ، فلإفهام أمرين :
١ ـ كما أنّ حركة السَّحاب تكون بسكون وهدوء ، بدون صخب واضطّراب ، فكذلك حركة الجبال تتحقق بسكون وطمأنينة .
٢ ـ سرعة الحركة ، حيث تتحرك كتحرك السحاب حين تهب الريح . فإنّ حركة السُّحب عند هبوب الرياح والعواصف حركة سريعة ، ولأجل ذلك يشبهون مرور الفُرَص بمرّ السحاب ، كما يقولون : « الفرصة تَمُرُّ مَرّ السحاب » .
* * *
٦ ـ القرآن وزوجية الموجودات
إنّ القرآن يدعو المسلمين عامة إلى التدبّر في الآيات الكونية ، ويجعل ذلك علامة للإيمان ، ويقول :
( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) (١) .
ويقول سبحانه : ( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا ، سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) (٢) .
__________________
(١) سورة الفرقان : الآية ٧٣ .
(٢) سورة آل عمران : الآية ١٩١ .
فالتدبُّر في الآيات الكونية ، وكشف السنن السائدة عليها ، آية الإيمان ، ورمزُ العبودية .
وعلى ذلك ، فَهَلُمَّ نتدبر في آي الذّكر الحكيم التي تصف النباتات بالزوجية .
يقول سبحانه : ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) (١) .
وفي آية أُخرى يُعمّم وصف الزوجية إلى جميع الموجودات ، ويقول : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (٢) .
وقد شغلت الآيتان ، وما ورد في مضمونهما ، بال المفسّرين . ففسّروا الزوجية في النباتات بالأنواع والأصناف المتشابهة . قال الراغب : « قوله : ( أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ ) أي أنواعاً متشابهة » .
كما فسّروا الزوجية في الموجودات بتركّبها من جوهر وعرض ، أو مادة وصورة ، قال الراغب : « قوله : ( مِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) تنبيهٌ على أنّ الأشياء كلَّها مركبة من جوهر وعرض ، ومادة وصورة ، وأنْ لا شيء يتعرى من تركيب يقتضي كونه مصنوعاً ، وأنّه لا بدّ له من صانع ، تنبيهاً على أنّه تعالى هو الفرد ، فبيّن أنّ كلَّ ما في العالم زوج ، حيث إِنّ له ضداً ، أو مثلاً ما ، أو تركيباً ما ، بل لا ينفك بوجه من تركيب وإنّما ذكر هاهنا زوجين ، تنبيهاً على أنّ الشيء وإن لم يكن له ضِدّ ولا مِثْل ، فإنّه لا ينفك من تركيبِ جوهرٍ وعرض ، وذلك زوجان » (٣) .
وما ذكره الراغب هو عصارة ما في التفسير ، فترى أنّ تفسيرهم لا يخرج عن
__________________
(١) سورة الشعراء : الآية ٧ . وبهذا المضمون طه : الآية ٥٣ ، ولقمان : الآية ١٠ ، والشعراء : الآية ٧ ، ويس : الآية ٣٦ ، وق : الآية ٧ ، والرحمن : الآية ٥٣ .
(٢) سورة الذاريات : الآية ٤٩ .
(٣) مفردات الراغب ، مادة زوج ، صفحة ٢١٦ .
كونِ ملاك الزوجية ، هو وجود الأصناف المتشابهة ، أو التركب من جوهر وعرض ، أو مادة وصورة ، أو كون الشيء ذا ضد .
وكان في وسع هؤلاء المفسّرين ، مكان التفكر فيما ورثوا من العلوم الطبيعية من الأُمم السالفة ، سلوك طريق التجربة والإختبار في المختبرات . ولو سلكوا هذا الطريق لربما كشفوا عن الزوجية الحقيقية في عالم النبات .
لقد توصل أحد علماء النبات ، وهو « لينه » ، إلى تلك الحقيقة ، فأعلن أنّ في كل فصل ونوع من أنواع النباتات ذكراً وأُنثى ، وأنّ إنتاج الأثمار رهن هذه الزوجية ، وقد يستقلّ الزوجان عن بعضهما فيحصل اللقاح بينهما بواسطة الريح أو الحشرات كالنحل ، وقد يجتمعان في نبتة واحدة ، وزهرة واحدة ، كما هو مفصَّل في الكتب العلمية . وكان لإظهار هذه النظرية ردّ فعل من أصحاب الكنائس ، فأصدروا بياناً حكموا فيه بضلالة كُتُبه .
نعم ، كان سكنة المناطق الحارة ملمّين بوجود الزوجية في النخيل ، فأدركوا أنّه إذا لم يُلَقَّح ويُطَعَّم بمادة الذُّكورية ، لا يثمر ، ولكن الحالة العامة لم تتجاوز هذه المعرفة ، حتى اكتشف ذاك الناموس العام .
وأمّا في جانب الزوجية في عامة الموجودات ، فقد توصّل العلم إلى أنّ المادة وجود متكاثف من الذرّات ، وكل ذرّة تشتمل على نواة مكوّنة من جُسَيْمات تحمل شحنات كهربية موجبة تسمى البروتونات ، وجُسَيْمات محايدة لا تحمل شحنات كهربية باسم النيوترونات ، ويدور حولها جُسَيْمات تحمل شحنات كَهْرَبية سالبة تعرب بالإلكترونات وعددها يساوي عدد البروتونات لتتعادل الذرّة كهربياً . فذرّة الأوكسجين ، مثلاً ، في نواتها ثمانية بروتونات يدور حولها ثمانية الكترونات .
وقد عبّر القرآن عن هذين الجزئين الحاملين للشحنتين المختلفتين ، بالزوجية ، حتى لا يقع موقع التكذيب والردّ ، إلى أن يكشف الزمان مغزى الآية ومفادها .
وبذلك يتجلّى إعجاز القرآن ، حيث كشف
عن هاتين الزوجيتين ، قبل
قرون من الزمن ، في عصر متخلّف ، منحط ، تنعدم فيه كل وسائل التجربة والإختبار .
والعجب أنّ تلميذ النبي الأعظم ، وربيبه ، ووصيَّه ، علي بن أبي طالب عليه السلام ، يفسّر الآية بقوله : « مُؤَلِّفٌ بين متعادياتها ، مفرقٌ بين متدانياتها ، دالّةٌ بتفريقها على مُفَرِّقِها ، وبتأليفها على مُؤَلِّفها ، وذلك قوله : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) » (١) .
* * *
٧ ـ القرآن والحياة في الأجرام السماوية
لا يزل التحقيق والبحث مستمراً للتيقن من وجود حياة حيوانية في غير الكرة الأرضية ، بعد أن كشف العلم عن وجود مظاهر للحياة النباتية على بعض الكرات ، هذا . مع أنّ القرآن الكريم قد أخبر عن وجود الدوابّ في السموات والأرض بقوله : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ، وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ) (٢) .
والدَّابَّة ، عبارة عن كل ما يدبّ ويتحرك ، وبحكم عود ضمير التثنية ( فيهما ) إلى السموات والأرض ، نستكشف أنّ الحياة ليست مقصورة على الكرة الأرضية ، وأنّها توجد أيضاً في السموات والأجرام العُلْوية .
وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بقوله : « هٰذِهِ النُّجُومُ التي في السماء مدائن ، مثل المدائن التي في الأرض » (٣) .
* * *
__________________
(١) التوحيد ، للصدوق . الباب ٤٣ ، الحديث الثاني ، ص ٣٠٨ . وقد نقله في ص ٣٧ ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، والحديث الثاني عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام .
(٢) سورة الشورى : الآية ٢٩ .
(٣) سفينة البحار ، مادة نجم ، ج ٢ ، ص ٥٧٤ .
٨ ـ القرآن ودور الجبال في إثبات القشرة الأرضية
القرآن الكريم يبحث عن أسرار الجبال ، والآثار المترتبة عليها في آياتٍ شتّى ، تكشف لنا دورها في ثبات القشرة الأرضية ، وتأثيرها في جريان الأنهار الكبيرة .
قال سبحانه : ( وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (١) .
وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ) (٢) .
وقال سبحانه : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) (٣) .
ويستفاد من هذه الآيات أنّ للجبال دوراً عظيماً في الأُمور التالية :
١ ـ الجبال هي الحافظة لقطعات القشرة الأرضية ، تقيها من التفرق والتبعثر ، كما أنّ الأوتاد والمسامير تمنع القطعات الخشبية عن الإنفصال .
٢ ـ الجبال تمنع المواد السائلة الملتهبة الواقعة تحت الأرض ، من الإنفجار والإندلاع ، حسب طاقات المواد ، ولولاها لكانت الأرض على غير هذه الصورة ، ولوجدتها إِثْر الضغط المستمر الناتج بسبب المواد الكامنة في جوفها ، في مَيَدان دائم واضطراب ، وإذا كنا نجد في بعض المواضع جبالاً تتدفق منها الحِمَم فما ذلك إلّا لبلوغ الضغط مبلغاً عظيماً في الشدّة ، يفوق قدرة الجبال ، وتنوء عن تحمّله .
٣ ـ وجود علاقة بين الجبال وتوفير الماء ، حيث عطف قوله : ( وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ) ، على قوله : ( وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ) .
وذلك لأنّ ارتفاع الجبال يوجب انخفاض الحرارة فيها ، وقلّة تأثير الشمس
__________________
(١) سورة النَّحْل : الآية ١٥ ولاحظ سورة لقمان : الآية ١٠ .
(٢) سورة المرسلات : الآية ٢٧ .
(٣) سورة النبأ : الآيتان ٦ و ٧ .
عليها . فعندئذٍ تجتمع عليها الثلوج ثم تذوب في الفصول الحارّة ، وتجري المياه الذائبة على وجه الأرض بهدوء وسكون ، لتتشكل بعدها الأنهار والجداول ، ويرتوي منها الإنسان ، ويروي دوابَّه ومزارعه ، ولولا الجبال لانجذبت المياه إلى باطن الأرض ، ولما استفاد منها الإنسان إلّا بالمكائن والأدوات الصناعية المعقّدة ، وربما لا تكون الآبار مفيدة ولا تسدُّ حاجة المزارع وعموم الناس من الماء .
هذا بعض ما يرجع إلى فوائد الجبال التي يذكرها القرآن الكريم ، ألمعنا إليها بصورة مبسطة . وأساتذة الفيزياء ، والتضاريس الأرضية ، يفسّرون كون الجبال أوتاداً للأرض بشكل علمي خاص ، لا يقف عليه إلّا المتخصص في تلك العلوم ، والمطّلع على قواعدها ، ولأجل ذلك اكتفينا بما ذكرنا (١) .
* * *
وفي الختام نؤكّد ما سبق في صدر البحث من أنّ القرآن ليس كتاباً يعالج قضايا العلوم الطبيعية والرياضية والهندسية ، وإنّما يتعرض لبعض القوانين السائدة على الكون لأجل الإهتداء بها إلى المعارف والأُصول العقلية ، كالتعرف على الله وصفاته وأفعاله ، وعلى ذلك فلا يصحّ لنا الإكثار من هذا النوع من الإعجاز ، وتطبيق الآيات على القوانين الكونية ، حتى وإن لم يكن ظاهراً فيها . فما يُرى من الإسراف في بعض التفاسير في هذا المجال ، ليس بِمَرْضيٍّ عند من يقف في تفسير القرآن الكريم على باب النصّ من نفس الكتاب ، على اختلاف وجوهه وأقسامه ، أو الأثر المأثور من صاحب الشريعة وآله ، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين .
* * *
__________________
(١) ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تفسير الأستاذ ـ دام ظلّه ـ على سورة الرعد : « القرآن وأسرار الخلقة » . وهو فارسي ، لم يترجم بعد .
شواهد إعجاز القرآن (٨) |
|
الأخلاق
نزل القرآن الكريم على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه وآله ، في عصر الظلمة والجهل ، حيث لم يكن من فضائل الأخلاق ومكارِمِها ، ذِكْرٌ ولا أثر إلّا النذر اليسير . ففي ذاك الظرف جاء القرآن مستقصياً للأخلاق الفاضلة ، ومبيّناً للأخلاق الرذيلة ، فدعا إلى التزيُّن بالأُولى ، والإنتهاء عن الثانية ، وأقام بذلك أشرف مدرسة أخلاقية زاهرة ، بِجُمَلِ كَلِمِهِ وجوامِعِها ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه :
( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ ، وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّـهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ، وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّـهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ، إِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) (١) .
وفي الآيات التالية اجتمعت أُصول أخلاقية عشرة فيها حياة المجتمع ، قال سبحانه : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ، وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ،
__________________
(١) سورة النحل : الآيتان ٩٠ ـ ٩١ .
ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ، لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ، وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ، وَبِعَهْدِ اللَّـهِ أَوْفُوا ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .
هذه نماذج من الأُصول الأخلاقية الواردة في القرآن الكريم ، وللتوسع مجال ليس هنا موضعه .
نعم ، نرى أنّ التوراة أَمَرَتْ بني إسرائيل بالحكم بالعدل لأقربائهم ، ونَهَتْهُم عن الحقد على أبناء شعبهم ، وعن السعي بالوشاية وشهادة الزور على أقربائهم وأن يَغْدُرَ أحدُهم بصاحبه ، ولكنها شَوَّهت جمال هذه الأُصول الأخلاقية ، بتخصيص تعاليمها ببني إسرائيل ، وبتخصيصها بالقريب والشعب والصاحب . وهذا بخلاف القرآن ، فإنّه يوجّه خطاباته الأخلاقية إلى الناس أجمعين ، من دون فرق بين قوم وقوم ، وعنصر وآخر .
وأمّا الأناجيل الرائجة ، فقد أفرطت في الدعوة إلى التصوّف البارد ، حتى نهت عن ردع الظالمين بالإنتصاف من الظالم ، وقطع مادة الفساد ، بل قالت : « لاتقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدّك الأيْمَن ، فحوّل له الآخر أيضاً * ومن اراد أن يُخاصِمَك ويأخُذَ ثَوْبَكَ ، فاترك له الرداء أيضاً !! » (٢) .
إنّ للأخلاق القرآنية صبغة خاصة وميزة فريدة ، فلا هي أخلاق يونانية تجعل الغاية من التزين بالأخلاق هي النفع المادي العائد من الإنسان ، كالدعوة إلى إكرام الجار ، حتى لا يسرق متاعاً عند غيابك ، أو يردع الطاغية الظالم عنها . ولا هو أخلاق روحانية بحتة ، لا ترى إلّا ترقية الروح وإسعادَها ، وتنسى أنّ البشر مخلوق ممزوج من مادة ومعنى ، وجسم وروح ، ولا تتحقق السعادة إلّا
__________________
(١) سورة الأنعام : الآيات ١٥١ ـ ١٥٣ .
(٢) لاحظ العهد الجديد ، إنجيل متى ، الأصحاح الخامس ، الجملتان ٣٩ و ٤٠ ، ص ٩ ، ط دار الكتاب المقدس .
بإعطاء كلٍّ حقَّه . بل هي مُثُل أخلاقية وسطى ، تضمن سعادة الإنسان في كلا الجانبين .
* * *
هذه ثمانية من الشواهد الدالّة بوضوح على أنّ القرآن ليس تَقَوُّلاً على الوحي ، ولا نتاج فكر إنسان عادي منقطع عن التعليم الإلهي ، وأنّ هذا الكتاب بهذه المزايا والسمات ، يمتنع أن يقومَ به إنسان مهما بلغ في العقل والذكاء ، أو فاق أقرانه وأماثله من بني البشر ، إلّا أن يكون متصلاً بالوحي السماوي ، مستمداً تعاليمه من خالق البشر .
* * *
المقام الثاني
الإستدلال على نبوته بمعاجزه الأخَر
إنّ أوّل ما كان الأنبياء يُطالَبون به ـ كوثيقة تثبت صحّة مدعاهم ، وصحة إنتسابهم إلى الله تعالى ـ هو الإتيان بالبيّنات والمعجزات . وهذا هو القرآن يحدّثنا أنّ صالحاً عليه السلام عندما حَذّر قومه من سخط الله ، وأخبرهم بأنّه رسولُهُ إِليهم ، طالبوه بالمعجزة قائلين : ( مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا ، فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (١) .
وقد جرت سيرة الناس مع النبي الأكرم على ذلك ، حيث طالبوه بالإتيان بالمعاجز في بدء دعوته ، وكان الرسول العظيم يلبّي طلباتهم . وبالرغم من كثرة هذه المعاجز التي حفظها الحديث والتاريخ ، أبى بعض من ناوىء الإسلام ، إلّا إنكارها ، والإصرار على أنّ نبيَّ الإسلام لم يأت بمعجزة سوى القرآن .
إنّ هذه الشبهة حول معاجز الرسول الأكرم ، نجمت من الكُتَّاب المسيحيين ، تقليلاً من أهمية الدعوة المُحَمَّدية ، وحطّاً من شأن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
فهذا هو « فندر » ـ القسيس الألماني ـ يقول في كتابه « ميزان الحق » : إنّ
__________________
(١) سورة الشعراء : الآية ١٥٤ . وقد وردت آيات بهذا المضمون في سُوَرٍ شتّى .
محمداً لم يأت بأية معجزة قط » (١) . وتبعه سائر القساوسة ، ولاكوه بين أشداقهم ، وما زالوا إلى يومنا هذا . وإليك فيما يأتي تفنيد هذه المزعمة بأدلة ثلاثة .
١ ـ المحاسبة العقلية .
٢ ـ الرجوع إلى نفس القرآن .
٣ ـ معاجز الرسل في الحديث والتاريخ .
* * *
الدليل الأول ـ المحاسبة العقلية
إنّ القرآن الكريم وصف الرسول الأعظم بأنّه خاتم الأنبياء ، وأنّ رسالته خاتمة الرسالات ، وكتابه خاتم الكتب (٢) .
وأخبر عن وقوع معاجز على أيدي الرسل والأنبياء ، فنقل في شأن موسى قوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) (٣) .
كما تحدّث عن المسيح ودعوته ، وبيّناته فقال : ( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ، فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (٤) .
وفي ضوء هذا ، هل يصحّ للقرآن الكريم أن يخبر بهذه المعاجز للأنبياء ، ويصف محمداً بأنّه خاتمهم وآخرهم ، وأفضلهم ، ثم لا يكون له معجزة ؟ وإذا طلبوا منه إظهار الإعجاز ، يتهرب أو يسكت ، أو يقول ليس لي معجزة ؟ .
__________________
(١) ميزان الحق ، ص ٢٧٧ . وقد كتبه حول حياة الرسول .
(٢) لاحظ مفاهيم القرآن ، ج ٣ ، ص ١١٨ ـ ١٨٠ .
(٣) سورة الإسراء : الآية ١٠١ .
(٤) سورة آل عمران : الآية ٤٩ .
ولو فرضنا أنّ النبي الأعظم لم يكن إلّا نابغة من النوابغ الذين نهضوا لإصلاح أُمّتهم ، متستراً برداء النبوة ، لَما صحّ لَهُ أَنْ يُخْبر عن معاجز الأنبياء السالفين ، ثم يصف نفسه بالخاتمية ، ودينه بالأكملية ، وينكص عن الإتيان بمثل معاجزهم عند الطلب منه .
فالمحاسبة العقلية تحكم ببطلان مزعمة القساوسة ، بل تثبت أنّ النبي الأعظم قد أظهر معاجز عديدة لقومه عندما طلبوا منه ذلك ، كيف والقرآن يصفه بما لا يصف به أحداً من أنبيائه ، وهو يقتضي عقلاً أن يكون له أفضل ما أُوتي سائر الأنبياء .
* * *
الدليل الثاني ـ القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن
إنّ القرآن يخبر بصراحة عن وقوع معاجز على يَدَي الرسول الأمين ، وفيما يلي نذكر الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال .
١ ـ انشقاق القمر
قال سبحانه : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ ، مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) (١) .
أطبق أكثر المفسّرين على أنّ المشركين اجتمعوا إلى رسول الله ، فقالوا : إنْ كُنْتَ صادِقاً فَشُقَّ لَنا القَمَرَ فَلْقَتَيْن فقال لهم رسول الله : إِن فَعَلْتُ تُؤْمنونَ ؟ . قالوا : نَعَمْ . وكان ليلة بدر ، فسأَل رسول الله رَبّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشق القمر فَلْقَتَيْن ، ورسول الله ينادي : « يا فلان ، يا فلان ، إشهدوا » (٢) .
__________________
(١) سورة القمر : الآية ١ ـ ٤ .
(٢) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ١٨٦ . تفسير الرازي ، ج ٧ ، ص ٧٤٨ ، ط مصر في ثمانية أجزاء ، الكشاف ، ج ٣ ، ص ١٨١ .
ومعنى قوله : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) ، أنّ القيامة قد قربت ، وقرب موعد وقوعها ، والكفار يتصورونها بعيدة ، قال سبحانه : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) (١) .
وقوله : ( وَانشَقَّ الْقَمَرُ ) ، يدلّ على وقوع انشقاق القمر ، لأنّه فعل ماض . وحمله على المستقبل ، لانشقاق القمر يوم القيامة ، تأويل بلا جهة .
وأمّا وجه الربط بين الجملتين ( اقتراب الساعة وانشقاق القمر ) ، فهو أنّ انشقاقه من علامة نبوّة نبينا ، ونبوّته وزمانه من أشراط الساعة ، وقد أخبر القرآن عن تحقق هذين الشرطين ( ظهور نبي الإسلام ، وانشقاق القمر ) وقال : ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ ، أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) (٢) .
وفي الآية قرينتان على أنّ المراد ، انشقاق القمر بوصف الإعجاز ، لا انشقاقه يوم القيامة .
الأولى : قوله : ( وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ) ، فالمراد من الآية ، الآية المعجزة ، غير الآيات القرآنية ، وذلك لأنّه لو كان المراد هو الآيات القرآنية ، لكان المناسب أن يقول : وإِنْ سمعوا آية ، أو نزلت عليهم آية . وعلى هذا تكون الآية المرئية هي انشقاق القمر الذي تقدم ذكره في الآية .
الثانية : أنّ قوله : ( وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ) ، يُعَيِّن ظرف هذا الحَدَث ، وأنّه هو هذا العالم المنتظم لا يوم القيامة . إذ لو كان راجعاً إليها ، لما كان لأحد أن يتفوّه بغير الحق ، أو يصف فعل الحق بالسحر ، لأنّ ذلك الظرف ظرف الخَتْم على الأفواه ، واستنطاق الأيدي والأرجل ، قال سبحانه :
( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٣) .
__________________
(١) سورة المعارج : الآيتان ٦ ـ ٧ .
(٢) سورة محمد : الآية ١٨ .
(٣) سورة يس : الآية ٦٥ .