الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٦١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

للأعداء . يقول سبحانه : ( وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .

ولكن نيل هذا الهدف السامي لم يكن يتطلب في السابق ما يتطلبه اليوم من وجود الأخصائيين من المسلمين في المسائل السياسية والإقتصادية والإجتماعية . فالقرآن يوجب على المسلمين دراسة هذه العلوم دراسة وافية ، حتى تتحقق لهم العزّة . فليست هذه العلوم مطلوبة بالذات ، بل المطلوب هو حفظ العزّة والعظمة والإستقلال . والتدرع بهذه العلوم ، ليس إلّا سبب وأداة لنيل المطلوب .

٤ ـ الإسلام يدعو المرأة إلى العفة والستر والحجاب خارج بيتها وفي محيط عملها . ولكنه لم يقيّده بشكل خاص من اللباس ، بل يكفي في ذلك كل لباس يكون مؤمِّناً لهذا الغرض . فلو كان التشريع الإسلامي في هذا المجال على أساس إلزام المرأة باتّخاذ شكل خاص من الحجاب لربما تصادم مع حاجات الزمان المتطورة ، أو استلزم تهديم التقاليد العرفية المحترمة عند الأُمم . فلأجل ذلك ترك الكيفية والشكل إلى المجتمع نفسه وطلب منه اللُّب وهو الستر ، وعدم الإغراء .

قال سبحانه : ( وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ) (٢) .

وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ) (٣) .

٥ ـ في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية الأصل الثابت هو رعاية مصالح الإسلام والمسلمين ، وأمّا كيفية تلك الرعاية فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية . فتارة تقتضي المصلحة ، السلام والمهادنة ، ومصالحة العدو . وأُخرى تقتضي ضدّ ذلك .

__________________

(١) سورة المنافقون : الآية ٨ .

(٢) سورة النور : الآية ٣١ .

(٣) سورة الأحزاب : الآية ٥٩ .

٤٠١
 &

يقول سبحانه : ( وَلَن يَجْعَلَ اللَّـهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (١) .

ويقول سبحانه : ( لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ ، أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ ، أَن تَوَلَّوْهُمْ ، وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

فالإسلام لا يفرض الحرب دائماً مع الكفار ، كما لا يفرض السلم والصلح كذلك ، وإنّما الحرب والسلم يتبعان مصالح الإسلام والمسلمين .

٦ ـ العلاقات الدولية التجارية ، وإنشاء مؤسسات صناعية مشتركة بين المسلمين وغيرهم ، يتبع ذلك الأصل الثابت ، وهو تَبَنِّي صلاح الإسلام والمسلمين . ولأجل ذلك ربما يكون عقد إتفاقية تجارية حراماً في ظرف وحلالاً في ظرف آخر . فلو كان التحريم هو الحكم الثابت لما أَمكن تطبيقه في الظروف التي توجب عقد الإتفاقية ، وهكذا العكس . وهذا ما نرومه في هذا المقام من أنّ المعنى ثابت والتعابير مختلفة ، وكل الإتفاقيات تُسْتَمَدُّ من الأصول الثابتة في الإسلام ، كقوله سبحانه : ( وَلَن يَجْعَلَ اللَّـهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) (٣) . وقوله سبحانه : ( فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ) (٤) .

وقس على ذلك سائر التشريعات ؛ فللإسلام خاصيّة الإهتمام باللُّب والجوهر ، وهذا أحد العناصر التي تجعله يساير ويماشي عامة الحضارات الإنسانية إلى قيام يوم الدين .

ب ـ الأحكام التي لها دور التحديد

من الأسباب الموجبة لانطباق التشريع القرآني على جميع الحضارات ،

__________________

(١) سورة النساء : الآية ١٤١ .

(٢) سورة الممتحنة : الآيتان ٨ و ٩ .

(٣) سورة النساء : الآية ١٤١ .

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٧٩ .

٤٠٢
 &

تشريعه لقوانين خاصة ، لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته . فهذه القوانين الحاكمة ، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كل الأجيال والقرون .

يقول سبحانه : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) .

ويقول سبحانه : ( يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ، وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٢) .

ويقول سبحانه : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (٣) .

ويقول سبحانه : ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) (٤) .

ويقول سبحانه : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) (٥)

وما ورد حول النهي عن الضرر من الآيات ، كلها تحدّد التشريعات القرآنية بحدود الحرج والعسر والضرر . فإذا صارت الأحكام مبدأ لواحدٍ منها ، تكون مرتفعة غير لازمة الإمتثال . فلولا هذه التحديدات الحاكمة ، لما كانت الشريعة الإسلامية مماشية لجميع الحضارات البشرية .

*       *      *

السمة الثانية : تشريعاته معتمدة على الفطرة

إنّ الحياة البشريّة في تغيُّر دائم ، وتبدُّل مطَّرد ، ورسوم وتقاليد تزول ، وأُصول وحاجات جديدة تطرأ ، تحتاج إلى تلبيتها ورفعها ، هذا من جانب .

ومن جانب آخر إنّ الهدف من التقنين هو رفع حاجات المجتمع في المجالين الفردي والاجتماعي .

__________________

(١) سورة الحج : الآية ٧٨ .

(٢) سورة البقرة : الآية ١٨٥ .

(٣) سورة البقرة : الآية ١٧٣ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ١١٩ .

(٥) سورة النحل : الآية ١٠٦ .

٤٠٣
 &

وبملاحظة هذين الجانبين ، يتّضح أنّ أيَّ تقنين لن تكتب له الحياة ، ولن يكتسي ثوب البقاء إلَّا إذا كان متكئاً ومعتمداً في تقنينه على مبدءٍ ومَرْتكَز ثابت لا يتبدل ولا يتغير ، وليس هو إلّا الفطرة الإنسانية التي لا تتبدل مع الأجيال ، وعبر القرون ، وفي خضم التحوّلات الطارئة على الحضارات الإنسانية .

وقد تنبّه التقنين القرآني إلى هذا الأساس فبنى مُثُلَه العليا وتشريعاته ، على وفق ما تقتضيه الفطرة الإنسانية ويتماشى معها .

يقول سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ، ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .

فجعل الملاك في ثبات تشريعه وبقائه ، خلقة الإنسان وطبعه ، الثابتين في جميع ألوان الحياة ومتغيراتها ، فعلى الرغم من أنّ الحضارة الصناعية غيّرت لون الحياة ، ورفعت الحواجز بين الإنسان وأمانيه ، وقدّمت إليه حياة ناعمة كانت ممتنعة في عصر الحجر والسيف والسهم والحضارات البدائية ـ فمع ذلك كلّه ـ لم تصل يد التغيّر إلى طبع الإنسان وفطرته ، بل هي ثابتة كما كانت مُذْ داس الإنسان هذه الكرة ، ولأجل ذلك ترى أُموراً مشتركة بين الإنسان الذي عاش في الحضارات البدائية ، والذي يعاصر الحضارات الصناعية ، وهكذا بين الإنسان القطبي والإستوائي . وفي ضوء ذلك جاء القرآن بقوانين ثابتة في عالمٍ ، التحوّلُ والتبدّلُ حليفة وأليفه . وإليك نماذج من هذه القوانين :

١ ـ إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس . فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً ، على رغم كل الدعايات السخيفة الكاذبة التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما . ولأجل ذلك اختلفت أحكام كلٍّ منهما في التشريع الإسلامي إختلافاً يقتضيه طبعُ كلٍّ منهما . فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ، ومسايراً لطبعهما ، ظلّ ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان ، لثبات الموضوع ، المُقْتضي لثبات محموله .

__________________

(١) سورة الروم : الآية ٣٠ .

٤٠٤
 &

ومن جملة تلك الأحكام قوله سبحانه : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ، وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) (١) . فهو تشريع مطابق للفطرة .

٢ ـ التشريع القرآني حريص جداً على صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والإنحلال ، وممّا لا يشك فيه أن شرب الخمر واللعب بالميسر ، والإباحة الجنسية ، ضربات تقصم ظهر القِيَم والأخلاق . ولأجل ذلك حرّمها الإسلام وجعل الحدود على مقترفيها . فالأحكام المتعلقة بها ، من الأحكام الثابتة ، لأنّ ضررها ثابت لا يتغير بتغير الزمان ، فالخمر يزيل العقل ، والميسِر ينبت العداوة في المجتمع ، والإباحة الجنسية تفسد النَّسل .

يقول سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) (٢) .

إنّ الميل الجنسي من الميول الطبيعية التي لا تنفك عن الإنسان من زمان مراهقته إلى فترات متقدمة من عمره ، فلأجل ذلك دعا إلى النكاح وحذّر من الرهبانية .

قال سبحانه : ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ، إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٣) .

وقد ورد في السُّنة : « من سنتي التزويج ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » (٤) .

٣ ـ إنّ الجهاد ـ بمعنى السعي في طريق الحياة ـ من الأُمور الطبيعية المشتركة

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٣٤ .

(٢) سورة المائدة : الآية ٩١ .

(٣) سورة النور : الآية ٣٢ .

(٤) مستدرك الوسائل : ج ١٤ ، كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح ، الحديث ١٥ ، الطبعة الحديثة .

٤٠٥
 &

بين الإنسان والحيوان ، وحتى النبات . فجذور الشجرة المشتملة على الشعيرات الدقيقة ، تَشُقُّ طريقها في أعماق التراب لتنمو الشجرة وتبقى حية . وهكذا الكريات الحمراء في الدم ، تلاحق باستمرار الجراثيم والميكروبات الطارئة على البدن وتقتلها لتصون البدن عن الأمراض .

فالإنسان المثالي الذي يتبنّى أيْديولوجية إلهية ، لا مناص له في نشر دعوته وبثّ أفكاره عن السعي وراء هدفه . وهذا ما يعبر عنه القرآن بالجهاد في سبيل الله ، وقد جاءت الكلمة ( الجهاد ) ثمانية وعشرين مرة مع مشتقاتها في الكتاب العزيز ، وهذا يعرب عن أنّ مسألة الجهاد ليس مجرّد مسألة قتل وقتال وسفك دماء وتدمير بيوت ، وإنّما هو سعي في نشر الإيديولوجية الإلهية بأنواع الوسائل الممكنة ، فإذا واجه الداعي ، في طريق نشر دعوته ، مقاومةً من العدو ومنعاً من الطواغيت ، فلا مناص له عندئذٍ من رفع المانع بالجهاد والقتال .

يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّـهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (١) .

٤ ـ إِنّ الميل إلى النظافة والطهارة من الأُمور الفطرية ، وكل إِنسان يَشْمَئِزُّ من القذارة والوساخة . والتشريع القرآني دعا إلى مقتضى الفطرة في هذا المجال فقال سبحانه : ( وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا . . . مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) (٢) .

*       *      *

السمة الثالثة : التقنين الوسط بين المادية والروحية

إنّ الناس قبل ظهور الإسلام كانوا على قسمين :

قسم لا يهمهم إلّا الحظوظ المادية ، كاليهود والمشركين .

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ٢٤ .

(٢) سورة المائدة : الآية ٦ .

٤٠٦
 &

وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية ، كالنصارى والصابئين وطوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات .

فجاء التقنين القرآني وجمع بين الحقّين : حقِّ الروح وحقِّ الجسد ، ولعلّه إلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (١) . فعدّل الغرائز والميول تعديلاً يضمن سعادة الإنسان .

فدعا إلى الإلتذاذ بملاذ الحياة وقال : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّـهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (٢) .

وفي الوقت نفسه ، دعا إلى النكاح وحسن معاشرة النساء وقال : ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) (٣) وقال : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (٤) .

ودعا إلى الضرب في الأرض سعياً لطلب الرزق ، فقال : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (٥) .

ومع ذلك كلّه فلم يفسح له المجال للإلتذاذ المطلق بل حدده في مجال إعمال الغريزة الجنسية وجمع الثروة وغير ذلك من ملاذ الحياة ، بحدود وقيود . فمنع الفجور والزِّنا ، وأَكْلَ المالِ بالباطل ، وأَخْذَ الربا ، وغصب الأموال ، والسرقة فالقرآن دعا إلى طلب الدنيا في نفس الوقت الذي دعا فيه إلى طلب الآخرة ، فقال : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) (٦) .

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٤٣ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ٣٢ .

(٣) سورة النور : الآية ٣٢ .

(٤) سورة النساء : الآية ١٩ .

(٥) سورة المُلْك : الآية ١٥ .

(٦) سورة القصص : الآية ٧٧ .

٤٠٧
 &

السمة الرابعة : رعاية الموضوعية في التقنين

التقنين القرآني يتبنّى الموضوعية في تشريعه ولا يتبنّى ترضية المجتمع وأهواء بني البشر ، وبما أنّ الإنسان موجود مركّب من جسم وروح ، فالتقنين القرآني يتبنّى سلامة الجسم والروح معاً ، فما كان مُضِرّاً بواحد منهما ، يُحَرِّمُهُ ، وإنْ كانت تلبية رغبات المجتمع على خلافه .

فَحَرّم الإسلام أكل الخنزير وشرب الخمر ، والدم ، وكل خبيث ، لأنّ كل ذلك ينافي صحة الإنسان في بدنه وعقله . كما حَرّم الكذب ، والتهمة ، والنمامية ، والغِيبة ، وغير ذلك من رذائل الأخلاق ، لأنّ في ذلك ضرر بالإنسان بجسمه وروحه ، وفرده ومجتمعه . يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ) (١) .

*       *      *

السمة الخامسة : ضمان الإجراء

إنّ العصر الحديث يواجه في سبيل تطبيق قوانينه الوضعية ، مشكلة كبرى ، ناتجة عن فقدان قوانينه للضمانات الكفيلة بتطبيقها بنحو كامل ، وليس لديه غير عقوبات جزائية ، من المعلوم أنّها لا تكفي في تطبيقها ، ما لم يكن هناك وازع داخلي يمنع من التخلّف عنها ولأجل ذلك يواجه المجتمع البشري مشكلة انعدام الأمن الإجتماعي بألوانه وصوره .

وأمّا قوانين الإسلام التي نادى بها القرآن ، ففيها الدوافع والحوافز المفقودة في غيرها من القوانين ، وذلك لأسباب :

الأول ـ المجتمع الإسلامي يرى القانون مظهراً لإرادة الله سبحانه ، وأنّ مخالفته ، مخالفة لدعوة قدرة كبرى لا يمكن الفرار منها ، وأنّ العقوبة لفي المرصاد

__________________

(١) سورة الحجرات : الآية ١٢ .

٤٠٨
 &

للمجرم ، لا مَفَرَّ له منها ، وستناله يد العدالة الإِلهية ، وإن كان غائباً عن أبصار الناس ، مختلياً بجرمه في أعماق مغارات الأرض .

إنّ الكون كلَّه في نظر المؤمن المسلم عيون تراقب أفعاله ، وأسماع تسمع كلامه ، وتسجل كل ما يفعل ويقترف :

يقول سبحانه : ( هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) .

ويقول سبحانه : ( مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٢) .

وإنّما تتجلى تلك الحقيقة إذا كان المجتمع معتقداً بأنّ العقاب الأُخروي ، وجودٌ أُخروي لعمل المرء الدنيوي ، وأنَّ لكل عمل ـ خيراً كان أو شراً ـ وجودين متناسبين لظروفهما ، فاكتناز الذهب والفضة ، وعدم إنفاقهما في سبيل الله ، يَتَمَثَّلُ في الآخرة ، ناراً تَكوي جباه الكانزين وظهورَهم وجنوبهم ، ويقال لهم : هذا الذي يَكْوي أعضاءكم هو نفس الذهب والفضة التي كنزتموها (٣) .

الثاني ـ إنّ التشريع القرآني ليس دين الرهبة فقط ، بل هو دين الرَّغبة أيضاً ، حيث وعد المطيعين ، ثواباً عظيماً قال سبحانه : ( مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) (٤) .

وقال سبحانه : ( وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا . . .) (٥) .

الثالث ـ قَرَن هذا الوازع الداخلي بوازع خارجي ، فأوعد المتمردين عقوبات دنيوية من حدود وتعزيرات ، فأكمل بذلك حوافز التطبيق .

__________________

(١) سورة الجاثية : الآية ٢٩ .

(٢) سورة ق : الآية ١٨ .

(٣) سورة التوبة : الآيتان ٣٤ و ٣٥ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ١٦٠ .

(٥) سورة النساء : الآية ١٣ .

٤٠٩
 &

بل إنّه ضَمَّ إلى تلك الحوافز أمراً رابعاً وهو أنّه فَرَضَ الأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المجتمع الإسلامي ، فرأى سكوت المسلم والمجتمع أمام المخطيء والمجرم خطأً وجُرماً ، قال سبحانه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (١) .

وبذلك أصبح التشريع القرآني متكامل الجوانب في مجالي التسنين والتطبيق .

*       *      *

السمة السادسة : سعة القوانين

إنّ التشريع الإسلامي ، في مختلف الأبواب ، مشتمل على أُصول وقواعد عامة تفي باستنباط الآلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري ، على امتداد القرون والأجيال ، وهذه الثروة العلمية التي اختصّت بها الأُمّة الإسلامية من بين سائر الأمم ، أَغنت الشريعة الإسلامية عن التمسّك بكل تشريع سواها .

قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام ـ في هذا المجال ـ : « إنّ الله تعالى لم يَدَعْ شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إِلّا أنزله في كتابه وبَيَّنه لرسوله ، وجعل لكل شيء حَدّاً ، وجعل عليه دليلاً يَدُلُّ عليه » (٢) .

والدليل الواضح على ذلك ، أنّ المسلمين عندما بسطوا ظلال دولتهم على أكثر من نصف المعمورة ، وأمم الأرض المختلفة العادات والتقاليد والوقائع والأحداث ، رفعوا ـ رغم ذلك ـ صرح الحضارة الإسلامية ، وأداروا المجتمع الإسلامي طيلة قرون ، في ظل الكتاب والسنّة ، من غير أن يستعينوا بتشريعات أجنبية . وهذا العلامة الحلّي أحد عظماء فقهاء الإمامية في القرن الثامن ، ألّف كتاباً باسم « تحرير الأحكام الشرعية » ، أودع فيه من الأحكام والقوانين ما يربو

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ١٠٤ .

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ٥٩ .

٤١٠
 &

على أربعين ألف مسألة ، استنبطها من الكتاب والسنة (١) .

وهذا صاحب الجواهر جاء في مشروعه الوحيد « جواهر الكلام » ، بأضعاف ما جاء به العلّامة الحلي .

وقد استعارت منّا الأُمم الغريبة كثيراً من قوانيننا ، وليس ذلك إلّا لكون التقنين الإسلامي ذا قواعد متموجة تستطيع أن تجيب على كل ما يطرأُ .

*       *      *

وهنا نكتة نلفت نظر الباحث إليها ، وهي أنّ العدالة هي الركيزة الأولى للقوانين الإسلامية في مجالي التشريع والتطبيق ، فما سنّ الإسلام قانوناً إلّا على أساس العدالة ، وما أمر بتطبيقه وإجرائه إلّا بشكل عادل .

يقول سبحانه في القضاء ـ الذي يرجع إلى مجال تطبيق القانون : ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (٢) .

ويقول سبحانه : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَ ) (٣) .

ويقول سبحانه : ( فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ) (٤) .

كما أنّه أمَرَ بالعدالة في التبادل الإقتصادي وقال : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) (٥) .

كما أمر بها في إِدارة أموال اليتامى ، فقال : ( وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ ) (٦) .

وبالجملة يجب أن يكون التشريع والتطبيق على هذا الأساس . قال

__________________

(١) الذريعة ، ج ٤ ، ص ٣٧٨ .

(٢) سورة النساء : الآية ٥٨ .

(٣) سورة الأنعام : الآية ١٥٢ .

(٤) سورة النساء : الآية ١٣٥ .

(٥) سورة الأنعام : الآية ١٥٢ .

(٦) سورة النساء : الآية ١٢٧ .

٤١١
 &

سبحانه : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ ، وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) .

وقد استعان القرآن في تطبيق تشريعه ، ببسط روح الأُخوة في المجتمع الإنساني ، فأعلن الوحدة والترابط بين المُسْلِمَيْنِ ، حتى كأنّهما غصنان من دوحة مثمرة . وليست الأُخوة الإسلامية أُخُوّة شعارية كالتي يحملها أبناء الماركسية ، باسم الرفيق والزميل ، فإنّها شعارات فارغة عن كل حقيقة تربطهم إليها ، فلأجل ذلك ترى أجسامهم متقاربة ولكن قلوبهم متشتتة ، بل هي أُخُوّة عميقة راسخة على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر ، وعلى أساس أنّهما يرجعان إلى أصل واحد في الخلقة والولادة ، وأنّ الميزات القومية والقَبَلِيَّة والطَبَقِيَّة كلّها سدود اجتماعية لا قيمة لها عند الله ، إِلّا أن تكون سبباً للتعارف ورفعاً للتناكُر ؛ قال سبحانه : ( إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) (٢) .

وعند ذلك لا يفقد المجتمع الإسلامي حافز التطبيق والإجراء ، بل يجد من داخله ما يبعثه إلى الأمانة ، دون الخيانة ، والأُخُوّة دون العداوة ، وغير ذلك ممّا يدعو إلى وحدة المجتمع وترابطه وتراصّه .

*       *      *

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٩٠ .

(٢) سورة الحجرات : الآية ١٣ .

٤١٢
 &

شواهد إعجاز القرآن

(٦)

الإخبار عن الغيب

الغيب في اللغة العربية يقابل الحضور ، ويضاد الشهود . قال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) (١) .

وفي الحديث النبوي : « لِيُبلّغ الشاهدُ الغائبَ » (٢) .

وفي كلام علي عليه السلام : « وَنَصحتُ لكم فلم تقبلوا ، أَشُهودٌ كغُيّاب ، وعَبيدٌ كأَرباب » (٣) .

وأصول المُغَيَّبات في القرآن ترجع إلى ثلاثة :

الأول : الإخبار عن الله سبحانه ، وأسمائه وصفاته ، والإخبار عن الملائكة والجن وعالم البرزخ والمعاد وما فيه من نعيم أو جحيم ، والقرآن يموج بهذه المعاني الغيبية ، التي لا يتعرّف عليها الحسّ ، ولا تقع في أُفقه في هذا الظرف .

الثاني : الإخبار عن بعض النواميس السائدة على الكون ، وقد كانت مغيّبة ، عند نزول الوحي ، عن إدراك الحواس المجرّدة عن الأدوات المخترعة في

__________________

(١) سورة الرعد : الآية ٩ .

(٢) مسند أحمد ، ج ٤ ، ص ٣١ و ٣٢ . ومواضع كثيرة أخرى .

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ٩٧ .

٤١٣
 &

هذا الزمان ، وهذا ما نبحث عنه في المقام التالي ، وهو إعجاز القرآن من جهة المعارف الكونية المستكشفة حديثاً .

الثالث : الإخبار عن أُمم قد خلت من قبل وطويت صفحات حياتها ، فأصبحوا ممّا لا يرى حتى آثار مساكنهم ومواطنهم ، من دون مراجعة إلى كتب السير والتاريخ ، أو سؤال الكهنة والمؤرخين ، وهي القَصص الواردة في القرآن الكريم ، التي تشكّل قسماً وافراً من الآيات القرآنية .

وهناك قسم آخر من هذا ، وهو الإخبار عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره ، والإخبار بملاحم وفتن وأحداث ستقع في مستقبل الزمن ، وهذا ما نتبناه في هذا المقام .

إنّ الإخبار عن المغيبات وعن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره ، وما يلم به من ملاحم وفتن ، إن دَلَّ على شيء فإنّما يدلّ على كون القرآن كتاباً سماوياً أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه الذين ارتضاهم من البشر ، لأنّه أخبر عن حوادث كان التَكَهُّن والفراسة يقتضيان خلافها ، وصَدَق هو في جميع ما أخبر به ، ولم يخالف الواقع في شيء منها . ونحن نأتي هنا بقسم من تلك الإخبارات ، ولا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة ، أو على كونها على غرار إخبار الكهنة والعرّافين والمنجمين . فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم . على أنّ دَأْبَهُم هو التعبير عن أحداث المستقبل برموز وكنايات وإشارات ، حتى لا يظهر كذبهم عند التخلّف ويَقْبَلَ كلامُهم التأويل ، وهذا بخلاف إخبار القرآن ، فإنّه ينطق عن الأحداث بحماس ومنطق قاطع ، وإليك الأمثلة :

١ ـ التنبؤ بعجز البشر عن معارضة القرآن

قال سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (١) .

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٨٨ . ولاحظ البقرة : الآيتان ٢٣ ـ ٢٤ ، يونس : الآية ٣٨ ، هود : الآية ١٣ .

٤١٤
 &

ترى في هذه الآية ونظائرها التنبؤ الواثق ، بعجز الجن والإنس عن معارضة القرآن عجزاً أبدياً ، ولكن المستقبل ـ كما يقال ـ غَيْبٌ ، لا يملكه النبيُّ ولا الوصيُّ ولا شخص آخر غيرهما . غير أنّ النبي صار صادقاً في تنبؤه هذا ، ولا يزال صادقاً إلى الحال . فعلى أيّ مصدر اعتمد هو في هذا التحدّي غير الإيحاء إليه ، الذي صَدَرَ عنه أيضاً في جميع تشريعاته ؟ .

٢ ـ التنبؤ بانتصار الروم على الفرس

قال سبحانه : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ، لِلَّـهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّـهِ ، يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّـهِ ، لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ وَعْدَهُ ، وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .

ينقل التاريخ أنّ دولة الروم ـ وكانت دولة مسيحية ـ إنهزمت أمام دولة الفرس وهي وَثَنيّة ، بعد حروب طاحنة بينهما سنة ٦١٤ م ، فاغتمّ المسلمون لكونها هزيمة لدولة إلهية أمام دولة وثنية ، وفرح المشركون ، وقالوا للمسلمين بشماتة : إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب وقد غَلَبهم المجوس ، وأنْتُم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أُنزل عليكم ، فسنغلبكم كما غلبت الفرس الروم .

فعند ذاك نزلت هذه الآيات الكريمات تنبيء بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها إنتصار لهم في بضع سنين ، وهي مدّة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع . تنبّأً بذلك ، وكانت المقدمات والأسباب على خلافه ، لأنّ الحروب الطاحنة أنهكت الدولة الرومانية حتى غزيت في عقر دارها ، كما يدلّ عليه قوله : ( فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ) . ولأنّ دولة الفرس كانت دولة قوية ، منيعة ، وزادها الإنتصار الأخير قوة ومنعة . ولكن الله تعالى أنجز وعده ، وحقّق تنبؤ القرآن ، في بضع سنين ، فانتصر الروم سنة ٦٢٤ م ، الموافقة للسنة الثانية للهجرة .

__________________

(١) سورة الروم : الآيات ١ ـ ٦ .

٤١٥
 &

وفي الآية تنبؤ آخر ، وهو البشارة بأنّ المسلمين سيفرحون في الوقت الذي ينتصر الروم فيه ، وقد صدق الله وعده حيث وقع في ذلك الظرف ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى ، فتحققت النبوءتان في وقت واحد .

٣ ـ التنبؤ بصيانة النبي عن أذى الناس

قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ، بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (١) .

روى الفريقان (٢) أنّ الآية نزلت يوم الغدير حينما أُمر النبي بنصب علي عليه السلام إماماً للناس ، وكان على حَذَر منهم في تنصيب إبن عمه وصهره للخلافة ، فأخبر الله سبحانه بأنّه سيعصمه من أذى الناس وشرّهم ، ولا يتمكنون من اغتياله ، وتحقّق نبأ القرآن ، وصدّق الخُبْرُ الخَبَر .

٤ ـ التنبؤ بالقضاء على العدو قبل لقائه

قال سبحانه : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّـهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، وَيُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) (٣) .

نزلت الآيتان قبل لقاء المسلمين العدو في ساحة المعركة ، فأخبر سبحانه عن هزيمة المشركين واستئصال شأفتهم ، ومحق قوتهم ، كما يدلّ عليه قوله : ( وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . . ) .

وليس تنبؤ القرآن بالقضاء على مشركي قريش في معركة بدر منحصراً بهذه الآية ، بل تنبَّأَ به في آية أخرى ، وهي قوله سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٦٧ .

(٢) لاحظ الغدير ، ج ١ ، ص ١٩٤ ـ ٢١٧ . ووقاية المرام ، ص ٣٣٥ .

(٣) سورة الأنفال : الآيتان ٧ و ٨ .

٤١٦
 &

مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (١) .

فأخبر عن انهزام الكفار وفرارهم عن ساحة الحرب ، وقد تحقق التنبؤ يوم بدر ، وكانت المقدمات والأسباب الطبيعية على خلاف النتيجة ، حيث إنّ المشركين كانوا تامِّي العِدّة ووافري العَدَد ، ولم يكن عدد المسلمين يتجاوز ثلثَ عدد المشركين ، لكنّه سبحانه حقّق كلمته وصَدَّق نَبَأَ نبيِّه .

٥ ـ التنبؤ بكثرة ذرّية النبي ( صلى الله عليه وآله )

قال سبحانه : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) (٢) .

الكوثر هو الخير الكثير ، والمراد هنا ، بقرينة قوله : ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) ، كثرة ذُرِّيتِه ، ويؤيّده أنّ السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يَبْقون على مرّ الزمان .

قال الرازي : « فانظر كم قُتل من أهل البيت ، ثم العالَم ممتلىء منهم ، ولم يبق من بني أُمَيَّة أَحد يعبأُ به ، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء ، كالباقر ، والصادق ، والكاظم ، والرضا ، والنفس الزكية ، وأمثالهم » (٣) .

هذه نماذج من تنبؤات الذكر الحكيم ، أتينا بها ليقف الباحث على معشار ما ورد فيه من التنبؤات الغيبية (٤) .

هذا وقد عرفت أنّ بعض العلماء ، خصُّوا إعجاز القرآن بإخباره عن الغيب ، غير أنّه غير ظاهر بخصوصه ، لأنّ القرآن يتحدّى حتى بسورة واحدة من سوره الكثيرة ، ومن المعلوم أنّه ليست كلُّ سورة مشتملة على الأخبار الغيبية .

__________________

(١) سورة القمر : الآيتان ٤٤ و ٤٥ .

(٢) سورة الكوثر .

(٣) مفاتيح الغيب ، ج ٨ ، ص ٤٩٨ ، ط مصر .

(٤) ومن أراد استقصاء تنبؤات القرآن فليرجع إلى ما دوّنه الأستاذ دام ظلّه ، في موسوعته « مفاهيم القرآن » ، ج ٣ ، ص ٣٧٧ ـ ٥٣٤ .

٤١٧
 &

شواهد إعجاز القرآن

(٧)

إخباره عن الظواهر والقوانين الكونية

لا يصحّ لعارف أنْ يتجاهل أنّ القرآن كتاب الهداية والتزكية وليس كتاب العلوم الطبيعية ، يقول سبحانه : ( الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) (١) .

فالقرآن نزل لهداية الناس وسوقهم إلى الحياة السعيدة ، ولم ينزل لتبيين القضايا الطبيعية ، والقواعد الرياضية وما يتعلق بعلم التشريح ، ولا لتبيين خواصّ الأدوية والعقاقير .

ومع ذلك كلّه ، ربما يتوقف غرض الهداية ـ خصوصاً في الدراسات التوحيدية ـ على إظهار عظمة العالَم ودقّة نظمه ، والقوانين السائدة عليه ، فعند ذلك يصحّ لهذا الكتاب الهادي ، إلفات النظر إلى تلك المظاهر والقوانين الكونية .

ومن هذا المنطلق ، نرى أنّ القرآن أشار إلى رموز سائدة في الكون ، وسنن جارية فيه ، تتطابق مع القضايا العلمية الثابتة ـ حديثاً ـ بالحسِّ واليقين . وقد كانت تلك السنن مجهولة على الأخصائيين في هذه العلوم ، وأصحاب الحضارات في بلاد الفرس والروم ، وإنّما اهتدى إليها العلماء بعد قرون متطاولة من نزول القرآن وذكره لها .

__________________

(١) سورة البقرة : الآيتان ١ و ٢ .

٤١٨
 &

روي عن ابن عباس أنّه قال : « القرآنُ يُفَسِّرُهُ الزَّمان » (١) .

وهذه الكلمة سواء أصحّت نسبتها إلى تلميذ الإمام عليّ (عليه السلام ) أوْ لا ، كلمةٌ قيمة ، فإنّ مرور الزمان وتكامل الحضارات ، يزيد من قدرة الإنسان على استجلاء حقائق القرآن ومعارفه في شتى المجالات .

وما هذا إلّا لأنّ القرآن ، كلام الموجود اللا متناهي ، فيجب أن يكون في كلامه أثر من ذاته ، فيكون ذا آفاق وأبعاد لا متناهية ، ويجد الإنسان في كل جيل وعصر ، الشيء الجديد فيه ، الذي غفل عنه الأقدمون ولم يصلوا إليه . وعلى ذلك فلا غرو في أنْ نجتني نحن من هذه الدوحة المثمرة ، ثماراً لم يجتنها الأَوّلون ، فما أعذب قول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ، في جواب من سأله عن سبب غضاضة القرآن وطراوته في كل عصر ، وأنّ النَشْر والدراسة لا يزيده إلّا طراوة : « إنّ الله تعالى ، لم يجعله لزمانٍ دون زمان ولا لناسٍ دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعند كل قوم غضٌّ إلى يوم القيامة » (٢) .

نعم ، لسنا من المكثرين في تطبيق الآيات القرآنية على فروض متزلزلة ، فإنّه دخول في المزالق الوعرة ، فسوف تتبدل تلك الفروض بفروض أُخرى ، كما لسنا من المتحجرين الجامدين الذين يسدّون باب التعمّق والإمعان في الآية . وإنّما نسلك في هذا طريقاً وسطا ، وهو أنّه إذا تمّت دلالة الآية على نظرية علمية ، على ضوء القواعد الأدبية من دون تجشّم التأويل والتقدير ، وثبتت القضية العلمية ثبوتاً واضحاً حتى عُدَّت من القواعد الموضوعية ، ودخلت في نطاق القوانين العلمية ، كحركة الأرض ودورانها حول الشمس ، والزوجية في النباتات ، وغير ذلك من الأُصول العلمية التي أصبحت في عِداد البديهيات ، ففي هذه الظروف يصحّ لنا استنطاق الآية والقضاء بأنّها تشير إلى ذلك القانون العلمي الثابت .

ولأجل ذلك نأتي في المقام بنماذج في هذا المجال .

__________________

(١) حكاه شيخنا المغفور له العلامة الشيخ محمد جواد مغنية عن مفتي موصل العبيدي في كتابه « النواة » .

(٢) البرهان في تفسير القرآن ، للعلّامة البحراني ، ج ١ ، ص ٢٨ .

٤١٩
 &

١ ـ القرآن والجاذبية العامة

اكتشف العالم الإنكليزي نيوتن ( ت ١٦٤٢ ـ م ١٧٢٧ ) ناموس الجاذبية العامة ، وأثبت به وجود جاذبية بين الكواكب والسيارات ، وحتى في باطن الذرّة . وقد كان لاكتشاف هذا القانون في القرن السابع عشر أهمية عظمى ، حتى سمّي ذلك القرن باسم كاشفه .

وحاصل ما كشفه أنّ الأجرام السماوية كلّها متجاذبة فيما بينها ولا يشذّ جرم منها عن هذا الأثر العام ، وأنّه كلما قربت الأجسام من بعضها ، زادت الجاذبية بينها ، وكلما تباعدت قلَّت الجاذبية بينها . وعلى ضوء ذلك ، فلو كان القانون السائد هو قانون الجاذبية فحسب ، للزم صيرورة الكون كله كتلة واحدة ، ولكن هناك قوّة أُخرى مقابلة تحفظ النظام الكوني ، هي قوة طاردة ناتجة عن الفرار من المركز . فالكواكب التي تدور حول الشمس ، تتنازعها قوّتان ، قوة جاذبة إلى الشمس ، وقوة طاردة عنها ، ناتجة من دورانها حولها . وفي ظل تعادل هاتين القوتين ، يأخذ النظام الكوني حالة الإستقرار ، وتقع الأجرام الكبيرة في الفراغ من دون ماسك لها .

هذه خلاصة النظرية ، بلفظها البسيط الواضح . وهي نظرية علمية محقّقة ، هذا .

وبالرجوع إلى آيات الذكر الحكيم والتأمّل فيها ، يظهر أنّ القرآن الكريم ، قد أشار إلى هذا القانون الكوني ، حيث يرى أنّ السموات مرفوعة في الفضاء بلا عمد مرئية ، يقول تعالى : ( اللَّـهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ، ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (١) .

إنّ الضمير في قوله : ( تَرَوْنَهَا ) ، يرجع إلى ( عَمَدٍ ) لا إلى ( السَّمَاوَاتِ ) ، لقرب الأول وبُعْد الثاني ، والمعنى « الله الذي رفع السموات

__________________

(١) سورة الرعد : الآية ٢ .

٤٢٠