الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
آدم وامرأته من وجه الرَّبِّ الإله في وسط شجر الجنة * فنادى الرَّبُّ الإله آدم وقال له : أين أنت ؟ * فقال سمعت صوتك في الجنة ، فخشيت ، لأَنِّي عريان فاختبأت * فقال من أعلمك أنّك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها ؟ * فقال آدم : المرأة التي جعلتَها معي هي أعطتني من الشجرة فأَكلت » .
إلى أن تقول : « وقال الرَّبُّ الإِله : هو ذا الإنسان قَدْ صار كواحد منّا عارفاً الخير والشر ، والآن لعلّه يمدّ يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد * فأخرجه الرّب الإله من جنة ليعمل الأرض التي أخذ منها * وأقام شرقي جنّة عدن ، الكَرُوبيمَ ، ولهيب سيف متقلِّب ، لحراسة طريق شجرة الحياة » (١) .
إنّ في هذه الأسطورة ، قضايا غريبة تمسّ الله جلّ جلاله وتحطّ من كرامة نبيّه ، وكلّ واحدة منها إساءة في حدّ ذاتها ، وخِزْيٌ وعارٌ .
أولاً ـ تنسب الكذب إلى الله سبحانه كما في قوله : « وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ ، فلا تأكل منها ، لأنّك يوم تأكل منها تموت موتاً » . والحال أنّها شجرة المعرفة .
ثانياً ـ تنسب إلى الله تعالى أنّه خشي من معارضة آدم إياه ، وأن يكون مثله في معرفة الخير والشر ، والخلود ، ولكن آدم نال المقام الأول ( المعرفة ) ، وخشي سبحانه من نيله المقام الثاني ( الخلود ) فأخرجه .
ثالثاً ـ تصفه سبحانه بالجسمية ، إذ تقول : « وسمعا صوت الربّ الإِله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار » .
رابعاً ـ تنسب الجهل إلى الله سبحانه ، وأنّه غير عالم بما يحدث قريباً منه ، إذ تقول : « فاختبأ آدم وامرأته من وجه الربّ الإِله في وسط شجر الجنة ، فنادى الربّ الإِله آدم ، وقال له : أَين أَنت ؟ الخ » .
__________________
(١) لاحظ العهد القديم ، سِفْر التكوين ، الأصحاحين الثاني والثالث ، ص ٥ ـ ٧ ، طبعه دار الكتاب المقدس .
خامساً ـ الحيّة ( الشيطان ) أعطف من الله على آدم ، كما تقول : « بل الله عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفَيْن الخير والشر » .
سادساً ـ أنّه سبحانه عاقب الشيطان ( الحيّة ) من غير ذنب ، وأقصى ما ارتكبه هو أنّه علّم آدم وثَقَّفَه ، ونصحه ، وأَخرجه من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة .
سابعاً ـ إنّما أُخرج آدم من الجنة لكونه أصبح إنساناً عالماً بالخير والشر ، فصار عِلْمُهُ وَبالاً عليه .
إلى غير ذلك من المخزيات الواردة في هذه القصة .
* * *
٢ ـ نوح في القرآن والتوراة
إنّ الذكر الحكيم يعظّم شيخ الأنبياء نوحاً ويصفه بأنّه « محسن » ، و « مؤمن » ، و « صالح » ، و « شكور » ، ومطّلع على المعارف الغيبية .
يقول سبحانه : ( سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .
ويقول سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) (٢) .
ويقول سبحانه : ( ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ، كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ ) (٣) .
ومن أسمى المعارف التي أُثرت عن شيخ الأنبياء أنّه كان يعتقد برابطة وثيقة بين عمل المجتمع ، الحسن أو القبيح ، والظواهر الطبيعية . وأنّ عمل الإنسان ،
__________________
(١) سورة الصافات : الآيات ٧٩ ـ ٨١ .
(٢) سورة الإسراء : الآية ٣ .
(٣) سورة التحريم : الآية ١٠ .
يؤثّر في انفتاح أبواب الخير من نزول المطر ، وكثرة الأموال والأولاد ، وجريان الأنهار ، وخصب الأرض .
وفي هذا المجال يحكي عنه سبحانه قوله : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) (١) .
وإنّ القرآن يصفه بالصمود والثبات أمام أعداء دعوته ، صموداً قليل النظير ، ويقول حاكياً عنه : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) (٢) .
وإِنَّك لترى صحيفةً نَضِرةً من صحائف ثباته في دعوته فيما يحكيه سبحانه من صنع سفينته ، بقوله : ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ، قَالَ : إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) (٣) .
وَظَلَّ شيخُ الأنبياء يعيش مع قومه الأَلداء أَلف سنة إلّا خمسين عاماً ، حتى جاء أمر الله ، ففار التنور وغرق من غرق ، ونجا من نجا ، يقول سبحانه : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (٤) .
هذه صحائف حياته المشرقة الوضّاءة ، وفي مقابل ذلك نقف على التصوير القاتم الذي تُصَوِّرُهُ التوراةُ لهذا الرجل العظيم ، تقول :
« وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً * وشرب من الخمر فسكر وتعرّى
__________________
(١) سورة نوح : الآية ١٠ ـ ١٢ .
(٢) سورة نوح : الآيات ٥ ـ ٩ .
(٣) سورة هود : الآية ٣٨ .
(٤) سورة العنكبوت : الآيتان ١٤ و ١٥ .
داخل خبائه * فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجاً * فأخذ سام ويافث الرِّداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء ، فلم يُبصرا عورة أبيهما * فلمّا استيقظ نوحٌ من خمره علم ما فعل به ابنُهُ الصغير * فقال ملعون كنعان ، عبد العبيد يكون لإخوته » (١) .
ولا نعلّق على هذا النصّ شيئاً ، ونحمّل القضاء فيه إلى الباحثين الكرام .
* * *
٣ ـ إبراهيم في القرآن والتوراة
إنّ قصة إبراهيم في الذكر الحكيم تعرب عن مكانته السامية عند الله سبحانه ، مكانة لا يصل إليها إلّا الأمثل من الأنبياء ، حيث إنّه سبحانه ذكر له ما يقرب من خمسة عشر وصفاً ، كل منها يدلّ على عظمته وسمو مكانته عند الله فهو : « إمام » ، « صالح » ، « حنيف » ، « مسلم » ، « موقن » ، « أَوّاه » ، ـ « حليم » ، « منيب » ، « قانت » ، « شاكر » ، « مؤمن » ، « أُمّة » بنفسه ، « خَيِّر » ، « مصطفى » ، و« صاحب قلب سليم » . (٢) .
وهذه السمات بكثرتها وفخامتها ، لم ترد في حق نبي آخر .
وأمّا بطولته وثباته في مقابل الوثنيين ، فحدّث عنها ولا حرج ، ويكفي في ذلك أنّه دخل معبدهم ، ( فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ . . . ) (٣) .
__________________
(١) العهد القديم ، سفر التكوين ، الأصحاح التاسع ، الجملات ٢٠ ـ ٢٥ ، ص ٥ ، ط دار الكتاب المقدّس .
(٢) لاحظ السور التالية :
ـ البقرة : ١٢٤ و ١٣٠ |
ـ آل عمران : ٦٧ . |
ـ الأنفال : ٦٥ . |
ـ التوبة : ١١٤ . |
ـ هود : ٧٥ . |
ـ النحل : ١٢٠ و ١٢١ . |
ـ الصافات : ٤٨ و ١١٠ . |
ـ ص : ٤٧ . |
(٣) لاحظ سورة الصافات : الآيات ٩١ إلى ٩٩ .
وأي مقام أكرم وأعظم من إراءته ملكوت السموات والأرض ، كما يقول تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (١) .
وأي تفانٍ في جنب الله ، وطلب مرضاته سبحانه ، أقوى من تفانيه بإستعداده لتضحية ولده وذبحه إمتثالاً لأمره سبحانه (٢) .
هذا هو إبراهيم ، بطل التوحيد ، في الذكر الحكيم ، فهلم نقرأ صحيفة حياته التي صوّرتها التوراة المحرّفة ، بما يندى له الجبين من قراءته وسماعه ، تقول :
« وحدث جوع في الأرض فانحدر أَبرام إلى مصر ليتغرّب هناك ، لأن الجوع في الأرض كان شديداً * وحدث لما قرب أنْ يدخل مصر أنّه قال لساراي إمرأته : إني قد علمت أنّك إِمرأَة حسنة المنظر * فيكون إذا رآك المصريون أنّهم يقولون هذه إِمرأَته ، فيقتلونني ويستبقونك * قولي إِنَّك أُختي ، ليكون لي خير بسببك ، وتحيا نفسي من أجلك * فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أنّ المصريين رأوا المرأة أنّها حسنة جداً * ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون ، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون ، فصنع إلى إبراهيم خيراً بسببها ، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإِماء وأُتن وجمال * فضرب الربّ فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي إِمرأَة أَبرام * فدعا فرعون أَبرام وقال : ما هذا الذي صنعت بي ، لماذا لم تخبرني أنّها إِمرأَتك ؟ * لماذا قلت هي أُختي حتى أَخذتُها إليَّ لتكون زوجتي . والآن هو ذا إِمرأَتك ، خذها واذهب * فأَوصى عليه فرعون رجالاً فشيّعوه وامرأَته وكل ما كان له » (٣) .
فمغزى هذه الأُسطورة أَنّ إِبراهيم صار سبباً لأخذ فرعون سارة ، زوجة
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ٧٥ .
(٢) لاحظ سورة الصافات : الآيات ١٠٢ إلى ١٠٧ .
(٣) العهد القديم ، سفر التكوين ، الأصحاح الثاني عشر ، الجملات ١٠ ـ ٢٠ ، ص ١٩ ، ط دار الكتاب المقدس .
إبراهيم ، زوجةً له . وحاشا إِبراهيم ، وهو من أكرم أنبياء الله ، أن يرتكب ما لا يرتكبه أدنى الناس . وهو وإِنْ فَعَلَ ذلك طلباً لنجاة نفسه ، لكن أصحاب الغيرة والشهامة من الرجال يضحّون بأنفسهم دون أعراضهم .
ثم من أين علم إِبراهيم أنّه لو عرفها المصريون إِمرأَته يقتلونه ، مع أنّ المستقبل لم يصدِّق ذلك ، وأظْهَرَ فرعون رجلاً موضوعياً ، لا يتجاوز أعراض الناس .
* * *
٤ ـ لوط في القرآن والتوراة
إنّ لوطاً ، أحد الأنبياء المعاصرين لإبراهيم المقتفين لشريعته ، وكان رجلاً صموداً في مجال النهي عن المنكر ، يقول سبحانه ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) (١) .
والقرآن يذكر لوطاً في عِداد الأنبياء العظام ويقول : ( وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ، وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٢) .
وفي آية أخرى يقول : ( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ) (٣) .
فَهَلمّ نرى ما تذكره التوراة في حقّه تقول :
« وصعد لوط من صُوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه ، لأنّه خاف أن يسكن
__________________
(١) سورة الشعراء : الآيات ١٦١ ـ ١٧١ .
(٢) سورة الأنعام : الآية ٨٦ .
(٣) سورة الأنبياء : الآية ٧٤ .
في صوغر ، فسكن في المغارة هو وابنتاه * وقالت البكر للصغيرة أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كلِّ الأرض * هَلُمّ نسقي أبانا خمراً ونضطجع معه ، فنحيي من أبينا نسلاً * فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة ، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها * وحدث في الغد أَنَّ البكر قالت للصغيرة إِنِّي قد اضطجعت البارحة مع أبي ، نسقيه خمراً الليلة أيضاً فادخلي إِضطجعي معه ، فنحيي من أبينا نسلاً * فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً ، وقامت الصغيرة واضطجعت معه ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها * فحبلت إبنتا لوط من أبيهما * فولدت البكر إبناً ودعت إسمه مُوآب ، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم * والصغيرة أيضاً ولدت إبناً ودعت إسمه بَنْ عَمّي ، وهو أَبو بني عَمّون إلى اليوم » (١) .
عجباً والله ، أي منطق هذا ! وما قيمة نبيّ لا يفرّق بين الخمر والماء ، ويسكر إلى حدّ يفعل ما ذكرته مع بنتيه . ولو صحت هذه القصة ، فالموآبيين ، وبني عمّون ، ينتهي نسبهم إلى الفسق والفجور ، أعاذنا الله من الوقيعة في الأنبياء .
وكفى في هذا النصّ دلالة على أنّ القرآن لم يُتّخذ من التوراة ، لأنّه لم يذكر في حقّ بنات نوح سوءاً ، وإنّما ندّد بزوجته ، كما عرفت .
* * *
٥ ـ يعقوب في القرآن والتوراة
إنّ يعقوب أحد الأنبياء العظام ، يصفه سبحانه بأنّه كان محسناً ، وصالحاً ، ومصطفى ، وخيِّراً ، وبصيراً ، وقد جعل النبوة في نسله .
يقول سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن
__________________
(١) العهد القديم ، سِفْر التكوين ، الأصحاح التاسع عشر ، الجملات ٣٠ ـ ٣٨ ، ص ٢٩ ، ط دار الكتاب المقدس .
قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ، وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) (١) .
ويقول سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) (٢) .
ويقول سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ . . . ) (٣) .
ويقول سبحانه : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) (٤) .
ولم يزل يعقوب يكافح الوثنية ، وقد أوصى بالتوحيد أولاده في آخريات حياته ، كما يقول سبحانه :
( إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي ، قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (٥) .
فَهَلُمَّ معنا نقف على نصّ التوراة في حقّ هذا النبي العظيم ، فهي تُعرِّفه بأنّه كاذب مخادع ، كما تصف أباه بأنّه شارب للخمر .
إنّ إسحاق أراد أن يعطي إبنه « عيسو » بركة النبوة ، فخادعه يعقوب وأوهمه أنّه « عيسو » ، وقد كان أمر يعقوب « عيسو » أن يصنع طعاماً كما يجب ، ويأتي به ليأكل حتى يباركه قبل أن يموت . وقد علم بذلك يعقوب ، تقول التوراة :
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ٨٤ .
(٢) سورة الأنبياء : الآية ٧٢ .
(٣) سورة العنكبوت : الآية ٢٧ .
(٤) سورة ص : الآيات ٤٥ ـ ٤٧ .
(٥) سورة البقرة : الآية ١٣٣ .
« فَدَخل إلى أبيه وقال : يا أبي . فقال : ها أنذا ، من أنت يا ابني * فقال يعقوب لأبيه : أنا عيسو بكرك ، قد فعلت كما كلّمتني ، قم اجلس وكُلْ من صيدي لكي تباركني نفسك * فقال إسحاق لابنه : ما هذا الذي أسرعت لتجديا إبني ؟! فقال إِنّ الربّ إلهك قد يَسّر لي * فقال إسحاق ليعقوب : تقدّم لأجُسَّكَ يا ابني ، أأنت هو إِبني عيسو أم لا ؟ * فتقدّم يعقوب إلى إسحاق أبيه ، فجسَّه ، وقال : الصوتُ صوت يعقوب ، ولكن اليدين يدا عيسو * ولم يعرفه ، لأنّ يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه ، فباركه * وقال هل أنت هو ابني عيسو ، فقال : أنا هو * فقال : قدّم لي لآكل من صيد إبني حتى تباركك نفسي ، فقدّم له ، فأكل وأحضر له خمراً فشرب !! . . . » إلى أن تقول :
« وحدث عندما فرغ إسحاق من بركة يعقوب ، ويعقوب قد خرج من لدن إسحاق أبيه ، أنّ عيسو أخاه أتى من صيده ، فصنع هو أُطْعِمةً ، ودخل بها إلى أبيه ، وقال لأبيه : ليقم أبي ويأكل من صيد إِبنه حتى تباركني نفسك * فقال له إسحق : أبوه : من أنت ؟ فقال : أنا إِبنك بكرك عيسو * فارتعد إسحاق إِرتعاداً عظيماً » . . . « فقال : قد جاء أخوك بمكرٍ وأخذ بركتك » (١) .
٦ ـ داود وسليمان في القرآن والعهدين
يحدّث القرآن عن داود ويصفه بالشجاعة ، وأنّه أحد من أُعطي الكتاب ، وجُعل خليفة في الأرض ليحكم بين الناس بالحق ، وأنّه أُوتي العلم والحكمة وفَصْلَ الخطاب . وقد بلغت عظمته الروحية إلى حدّ أنّه كان عندما يسبّح ، تسبِّح الجبال والطير معه .
كما أنّه يصف إبنه سليمان بالعلم والسيطرة على الفضاء ، وإليك بعض الآيات الواردة في هذا المجال .
__________________
(١) العهد القديم ، سِفْر التكوين ، الأصحاح السابع والعشرون ، لاحظ : الجملات ١٨ ـ ٣٨ ، ص ٤٢ ـ ٤٣ ، ط دار الكتاب المقدس .
يقول سبحانه : ( وَآتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ) (١) .
ويقول سبحانه : ( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) (٢) .
ويقول سبحانه : ( اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) (٣) .
ويقول سبحانه : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (٤) .
هذا بعض ما ذكره القرآن في داود ، كما يذكر ولده البارّ بقوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) (٥) .
وإليك ما ينسبه العهد القديم إليهما ، ممّا يندى له الجبين :
« وأمّا داودُ فأقام في أُورشَليم * وكان في وقت المساء أنّ داود قام عن سريره ، وتمشّى على سطح بيت الملك ، فرأى من على السطح إمرأة تستحم ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً * فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد : أليست هذه بَتْشَبَع بِنْتَ أَليعام ، إمرأة أوريّا الحِثيّ (٦) * فأرسل داود رسلاً وأخذها ، فدخلت إليه ، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ، ثم رجعت إلى بيتها * وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت : إنّي حبلى » .
ثم يستمر في سرد هذه الخرافة ، وأنّ داود استدعى زوجها وسأله عن مسار
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ٢٥١ .
(٢) سورة النساء : الآية ١٦٣ .
(٣) سورة ص : الآيات ١٧ ـ ٢٠ .
(٤) سورة ص : الآية ٢٦ .
(٥) سورة النمل : الآيتان ١٥ ـ ١٦ . وقد اكتفينا بهذا المقدار من الآيات .
(٦) وهو من قادة جيوشه .
الحرب ووضع الجيوش ، وأمره أن يرجع إلى بيته ، لكن الزوج لم يرجع بل نام على باب بيت الملك ، ولما علم داود بالأمر اعتذر الزوج بأنّه كيف يذهب إلى بيته ليأكل ويشرب ويضطجع مع امرأته والجيوش نازلة في الصحراء ويهوذا ساكنون في الخيام ، وفي اليوم التالي أرسل داود رسالة إلى قائد جيشه يأمره فيها أنْ يجعل هذا الزوج في مقدم الجيوش ليقتل ، ففعل ذلك ، فقتل .
« فلما سمعت امرأة أُوريّا أنّه قد مات أُوريا رجلُها ، ندبت بعلها * ولما مضت المناحة أرسل داود وضمّها إلى بيته وصارت إمرأة له وولدت له إبناً ، وأمّا الأمر الذي فعله داود فَقَبُحَ في عيني الرَّبّ » (١) .
هذا ما يذكره في حقّ الوالد ، وأمّا الولد فيعرفه العهد القديم والإنجيل أيضاً بأنّه ابن داودَ من أُوريّا هذه (٢) .
والعجب أنّ الولد اقتفى أثر الوالد في المعاشقة ومغازلة النساء ، فانظر إلى ما جاء في « الملوك الأَول » :
« وأحب سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون ، موآبيات ، وعَمُّونيات ، وأدوميات ، وصيدونيات ، وحثيات * من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنّهم يُميلون قلوبكم وراء آلهتهم ، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة * وكان له سبع مئة من النساء السيدات ، وثلاث مئة من السراري ، فأمالت النساء قلبه * وكان في زمان شيخوخة سليمان أنّ نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ، ولم يكن قلبه كاملاً مع الربّ إلهِهِ كقلب داود أبيه * فذهب سليمان وراء عشتروت إلاهة الصيدونيين ، وملكوم رجس العمونيين * وعمل سليمان الشرّ في عيني الرب ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه * حينئذٍ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي
__________________
(١) لاحظ : العهد القديم ، صموئيل الثاني ، الأصحاح الحادي عشر ، ص ٤٩٧ ـ ٤٩٩ ، ط دار الكتاب المقدس .
(٢) العهد القديم ، صموئيل الثاني ، الأصحاح الثاني عشر ، الجملة ٢٤ ، ص ٥٠١ . وإنجيل متى ، الأصحاح الأول ، الجملة السادسة ، ص ٢ ، ط دار الكتاب المقدس .
تجاه أُورشليم ولمولك رجس بني عمّون * وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي يوقدن ويذبحن لآلهتهن * فغضب الربّ على سليمان . . . » . وهكذا يتابع نقل غضب الرب عليه ثم تهديده إيّاه بتمزيق مملكته (١) .
هَبْ أَنَّ النبي لا يلزم أَنْ يكون معصوماً ـ مع أنّ الأدلّة العقلية قائمة على لزوم عصمته ـ فهل يجوز في حكم العقل أن يعبد الأصنام ويبني لها المرتفعات ، ثم يكون داعية للناس إلى التوحيد وعبادة الله ؟! .
٧ ـ المسيح في القرآن والإنجيل
إنّ المسيح المبشِّر بالنبي الأعظم ، من الأنبياء العظام ، وصفه سبحانه بقوله :
( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) (٢) .
وبقوله : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ، وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) (٣) .
وقد بلغت عناية الله تعالى به أنْ أقدره على التكلّم وهو في المهد صبياً ، يقول سبحانه : ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ) (٤) .
وممّا نلفت النظر إليه أنّه سبحانه ينقل عنه قوله : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) (٥) .
__________________
(١) العهد القديم ، الملوك الأول ، الأصحاح الحادي عشر ، الجملات ١ ـ ١٣ ، ص ٥٥٣ ـ ٥٥٤ . ط دار الكتاب المقدس .
(٢) سورة النساء : الآية ١٧١ .
(٣) سورة البقرة : الآية ٨٧ .
(٤) سورة المائدة : الآية ١١٠ .
(٥) سورة مريم : الآيتان ٣١ و ٣٢ .
فاتل هذه الآية وتأمّل فيما أوصاه الله سبحانه من البرّ بوالدته ، ثم قارن ذلك بما ينقله عنه الإنجيل من ترك إكرامه لوالدته ، يقول الإنجيل :
« فَجاءت حينئذٍ إخوته وأُمُّه وَوَقفوا خارجاً وأرسلوا إليه يدعونه * وكان الجَمْع جالساً حوله فقالوا له هوذا أُمَّكَ وإِخْوَتُك خارجاً يطلبونك * فأجابهم قائلاً : مَنْ أُمِّي وإِخوتي ؟ * ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال : ها أُمي وإِخْوتي ، لأَنَّ من يَصْنَعْ مشيئة الله هو أَخي وأُختي وأُمّي » (١) .
فأين المسيح الذي ينكر أُمَّه القديسة البارّة ، ويحرمها رؤيته ، ويُعَرِّضُ بِقَداسَتِها ، ويُفَضِّل تلاميذه عليها ، مِنَ المسيح الذي عرّفه القرآن بقوله : ( وبَرًّا بِوالِدَتِي ) ، مع أنّ هؤلاء التلاميذ هم الذين تركوه ، ووصفهم المسيح بقوله : « ما بالكم خائفين هكذا ، كيف إيمان لكم » (٢) .
المسيح يحول الماء خمراً ليشرب الناس
إنّ الخمر إحدى الخبائث التي حرّمها الله سبحانه في الشرائع السماوية ، من غير فرق بين شريعة وأُخرى ، وها هو سِفْر اللاويين ، من العهد القديم يقول :
« وَكَلّم الله هارون قائلاً ، خمراً ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الإجتماع ، لكيلا تموتوا ، فرضاً دهرياً في أَجيالكم ، وللتمييز بين المقدَّس والمحلِّل ، وبين النجس والطاهر » (٣) .
ومع ذلك فالمسيح يصنع للمحتفلين بالعُرس خمراً ليشربوا كما يقول الإنجيل :
« وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أمّ يسوع هناك * ودعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس . ولما فرغت الخمر قالت أمُّ يسوع له ليس لهم
__________________
(١) إنجيل مُرقس ، الأصحاح الثالث ، الجملات ٣١ ـ ٣٥ ، ط دار الكتاب المقدس .
(٢) إنجيل مرقس ، الأصحاح الرابع ، الجملة ٤٠ ، ط دار الكتاب المقدس .
(٣) سِفْر اللاويين ، الأصحاح العاشر ، الجملات ٨ ـ ١١ ، ص ١٧١ ، ط دار الكتاب المقدس .
خمر * قال لها يسوع : ما لي ولك يا إمرأة ، لم تأت ساعتي بعد !! * قالت أُمُّه للخدّام : مهما قال لكم فافعلوه * وكانت ستة أجرانٍ من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود ، يَسَع كل واحد مِطْرَيْنِ أو ثلاثة * قال لهم يسوع : إِملأوا الأجران ماءً ، فملأوها إلى فوق * ثم قال لهم : إستقوا الآن ، وقدِّموا إلى رئيس المتكأ ، فقدَّموا * فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمراً ـ ولم يكن يعلم من أين هي لكن الخدّام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا ـ دعا رئيس المتكأ العريس * وقال له : كل إنسان إنّما يضع الخمر الجيدة أولاً ومتى سكروا فحينئذٍ الدون . أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن * هذه بداية الآيات التي فعلها يسوع في قانا الجليل ، وأظهر مجده ، فآمن به تلاميذه » (١) .
* * *
هذه نماذج ممّا في العهدين من الأضاليل والأباطيل التي لا تتفق مع البرهان ، ولا يصدّقه المنطق ، وهي تثبت أمرين :
الأول : أنّ هذه الكتب السخيفة ليست من وحي السماء ، وإنّما هي من منشآت الأحبار والرهبان ، خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، فموّهوا الكتب السماوية بخرافاتهم .
الثاني : أنّ النبي الأكرم لم يقتبس معارفه وقصصه وأحكامه من هذه الكتب ، وإنّما هي مأخوذة من وحي السماء على قلبه ، ليكون من المنذرين (٢) .
وبهذا تقف على مدى صدق قوله سبحانه : ( إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) (٣) .
__________________
(١) إنجيل يوحنا ، الأصحاح الثاني ، الجملات ١ ـ ١٢ ، ص ١٤٧ ـ ١٤٨ ، ط دار الكتاب المقدس .
(٢) أنظر للتبسط في هذا البحث : « الهدى إلى دين المصطفى » ، و « الرحلة المدرسية » كلاهما لشيخنا الحجة البلاغي ( م ١٣٥٢ ) . و « إظهار الحق » للعالم الهندي . و « أنيس الأعلام في نصرة الإسلام » لمحمد صادق فخر الإسلام في خمسة أجزاء ، وغير ذلك .
(٣) سورة النمل : الآية ٧٦ .
وقوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) (١) .
ولنكتف بهذا المقدار ، ونترفع عن نقل العار ، وأشنع القبائح ، التي يرمي بها العهدان أنبياءَ الله تعالى ، ممّا تشمئز النفوس من سماعه ، والأقلام عن الجريان به .
* * *
__________________
(١) سورة المائدة : الآية ٤٨ .
شواهد إعجاز القرآن (٥) |
|
إعجازه من ناحية إتقان التشريع والتقنين
جاء الإسلام برسالة عالمية ، وبعقيدة وطقوس لا تنفرد بشعب أو مجتمع بعينه ، ولا تَخْتص بصَقْع أو أقطار معينة ، بل ظهر ديناً متكامل الجوانب في العقيدة والتشريع ، يسري على الأفراد على إختلافهم في اللون ، والوطن ، واللسان ، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً بين بني الإنسان ، ولا يعترف بأيّة فواصل أو تحديدات عرقية أو إقليمية .
ويظهر هذا من تاريخ دعوة الرسول وسيرته في نشر دينه ، وقبل كل شيء ، نداءات القرآن وهتافاته الموجهة إلى الناس كلهم . وهذا ما يراد من كون الإسلام ديناً عالمياً .
ولم تكن هذه سمته الوحيدة بل له سمة أخرى هي سمة الخاتمية فهو خاتم الشرائع ، كما أنّ نبيّه خاتم الأنبياء وعلى هذا كلمات الرسول وأوصيائه ، وقبلها النصوص القرآنية (١) .
كما أنّ له سمة ثالثة ، وهو كونه ديناً متكامل الجوانب ، وشاملاً لجميع النواحي الحيوية في حياة البشر ، فلم يقتصر في تربية الإنسان وتنمية طاقاته على تشريع الأدعية والطقوس فحسب ، بل قَرَن إليها تشريعات وتقنينات رفع بها
__________________
(١) سيأتي الكلام مفصلاً في عالمية الرسالة الإسلامية وخاتميتها .
حاجة الإنسان إلى كل تشريع وتقنين ، سواء في مجال الأخلاق أو الإجتماع أو السياسة والإدارة ، أو الإقتصاد .
وإنّ نفس وجود تلك القوانين في جميع تلك الجوانب ، معجزة كبرى لا تقوم بها الطاقة البشرية ، واللجان الحقوقية ، خصوصاً مع اتّصافها بمرونة خاصة ، تجامع كل الحضارات والمجتمعات البدائية ، والصناعية المتطورة .
ثم إنّه تظهر عظمة ذلك التقنين إذا وقفنا على أنّ دعوة الإسلام بزغت بين أقوام متأخرين في المجالات الخلقية والثقافية ، ولم يكن لهم منها نصيب سوى الإغارة والنهب والقتل والتفاخر . ويشهد لذلك صفحات تاريخ الجزيرة العربية ، ولنكتف من ذلك بشاهد واحد يكشف لنا واقعية الحياة في ذلك العصر .
روى أهل السير والتاريخ أنّ رجلاً من « زبيد » قدم مكة ببضاعة ، فاشتراها منه العاص بن وائل ، فحبس عنه حقّه ، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف : عبد الدار ، ومخزوماً ، وجمحاً ، وسهماً ، وعدي بن كعب ، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وانتهروه ، فلما رأى الزبيدي الشرّ ، أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس ـ وقريش في أنديتهم حول الكعبة ـ فنادى بأعلى صوته :
يا آل فهر لمظلوم بضاعته |
ببطن مكة نائي الدار والنَّفَرِ |
|
ومُحْرم أشعث لم يَقْضِ عُمْرته |
يا للرجال وبين الحِجْر والحَجَرِ |
|
إنَّ الحرامَ لمن تَمَّتْ كرامتُه |
ولا حرام لثوبِ الفاجر الغَدِرِ |
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب ، وقال : ما لهذا مترك .
فاجتمعت « هاشم » و « زهرة » و « تميم بن مرة » ، في دار « عبد الله بن جدعان » فصنع لهم طعاماً ، وتحالفوا في ذي القعدة الحرام ، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكوننّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدَّى إليه حقُّه ، أبداً .
فسمَّت قريش ذلك الحلف ، حلف الفُضول ، وقالوا : « لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر » .
ثم مشوا إلى العاص بن وائل ،
فانتزعوا منه سلعة الزبيدي ، ودفعوها
إليه (١)
فهذه الحادثة تكشف عن أنّ المجتمع في الجزيرة العربية أو في قسم الحجاز ، كان خلواً من أي محكمة وقضاء ، ولم يكن سائداً فيها إلّا قوة الزور وشريعة الغاب ، فلما اتّحد هؤلاء للدفاع عن المظلوم ، اشتهر اسم ذلك الحلف ، وصار نجماً لامعاً بينهم ، وكأنّ شيئاً عجيباً قد حصل .
ففي مثل هذا المجتمع ظهر رجل ، وفي يده كتاب ، يدعو إلى الأخوّة الدينية أوّلاً ، وصيانة حقوق الإنسان في ظل العدالة في جميع المجالات ثانياً ، وأتى بتشريعات بعث بها النور والحياة في المجتمع . وهذا أوضح دليل على أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة طبيعية للبيئة .
إذا عرفت ذلك فلنعد إلى تبيين سمات التشريع الإسلامي ، وذكر نزر يسير منها في بعض المجالات ، والمهم هو الوقوف على تلك السمات ، وهي :
١ ـ مرونة التشريعات الإسلامية ، وملاءمتها لجميع الحضارات الماضية والسائدة ، والآتية .
٢ ـ إنّ التشريعات القرآنية تعتمد قبل كل شيء على الفطرة الإنسانية التي لا تتغير في خضم التحوّلات والتبدّلات . فلا تجد تشريعاً قرآنياً يضاد الفطرة .
٣ ـ التشريع القرآني ينظر إلى الإنسان ، بما هو موجود مركب من جسم وروح ومادة ومعنى ، ولكل حاجته ورغبته ، فأباح اللذائذ الجسمانية في إطارٍ لا يمسّ كرامة الإنسان ، كما دعا إلى المثل الأخلاقية العليا ، فصار بذلك ديناً وسطاً ، لا يجنح إلى جانب خاص فينسى الجانب الآخر .
٤ ـ الملاك في التشريع القرآني هو السعادة الإنسانية ومصالح المجتمع ومفاسده ، فأرسى قوانينه على ذلك الأساس من دون جنوح إلى إرضاء عموم الناس وإشباع ميولهم ، لأنّ إرضاءهم ربما يكون مخالفاً لسعادتهم .
__________________
(١) البداية والنهاية ، لابن كثير ( م ٧٧٤ ) ، ج ٢ ، ص ٢٤١ ـ ٢٤٢ .
٥ ـ إنّ التشريعات القرآنية ليست تقنينات جافة ، خالية من الضمانات الإجرائية ، بل لم تغفل عنها ، فجعلت لتنفيذها ضمانات إجرائية داخلية وخارجية ، فإيمان الرجل بدينه وقرآنه وما يترتب عليه من مثوبات وعقوبات أُخروية ، أقوى وازع داخلي وعاطفي في الإنسان يدفعه إلى التطبيق ، ويردعه عن المخالفة . إضافة إلى العقوبات البدنية والغرامات المالية التي حددها .
٦ ـ إنّ التشريع القرآني ذو مادة حيوية ، خلاقة للتفاصيل ، بحيث يقدر معها علماء الأُمة والإخصائيون منهم على استنباط ما يحتاج إليه المجتمع في كل عصر . فإذا انضمت إليها الأحاديث النبوية ، وما وصل إلى الأُمة ، من أوصياء النبي ، نجد التشريع الإسلامي وافياً باستنباط آلاف الفروع التي يحتاج إليها المجتمع على امتداد القرون والأجيال .
هذا ما نتبناه في هذا البحث ، ولا تظهر حقيقته إلّا بشرح كل واحدة من هذه السمات شرحاً إجمالياً ، يوقفنا على قوة التشريع القرآني وإتقانه .
* * *
السمة الأولى : مرونة التشريع القرآني
من الأسباب ، الدافعة إلى صلاح الإسلام للبقاء والخلود ، مرونة أحكامه التي تُمَكِّنه من أن يماشي جميع الأزمنة ، والحضارات .
وقد تمثلت هذه المرونة بأُمور نذكر منها اثنين :
أ ـ النظر إلى المعاني لا المظاهر
إنّ التشريعات القرآنية تنظر إلى المعاني والحقائق لا إلى المظاهر والقشور ، ولذلك لا تجد في الإسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة له من القداسة ما يمنع من تغييره ، ويوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص ، ولأجل ذلك لا يقع التصادم بين تعاليمه والتقدم العلمي الهائل في مظاهره وأشكاله الخارجية ، وإليك بعض الأمثلة :
١ ـ إنّ الإسلام دعا إلى بثّ العلم والتربية ، ولكن الذي يهم الإسلام ، في جميع الأزمنة هو الحقيقة والجوهر من ذينك الأمرين ، وأمّا الكيفية والشكل ، فلا يهمّانه ، بل الهدف إشاعة العلم بأي وسيلة كانت ، وإرساخ التربية في نفوس الناس بأي سبب تحقق .
وإنّ أجهزة نشر العلم ، وأسباب التربية ، قد ترقت من أبسط الأساليب إلى أعقدها ، فمن الكتابة بالقصب على أوراق الشجر وعظام الحيوانات وجلودها ، إلى نشر العلم عن طريق الأجهزة الإذاعية والدوائر الإلكترونية .
فلو كانت هناك قداسة لأسباب معينة ، كالكتابة بالحبر أو بالجصّ ، لما كتب للإسلام البقاء (١) .
٢ ـ إنّ القرآن يدعو الأُمّة الإسلامية إلى التأهُّب في مقابل الأعداء ، وإعداد ما استطاعوا من قوة ، يقول تعالى : ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ) (٢) . فما هو المطلوب ، هو كسب القوة والإقتدار على كفاح المخالفين .
والمراد من القوة هو الآلات الحربية وأدوات النضال ، سواء أكانت أسهماً ورماحاً وسيوفاً ، أو دبابات ومدافع وطائرات وصواريخ . فالكلُّ أشكال ، واللُّب واحد ، وهو دوام الإستعداد في مقابل الأعداء .
فلو كانت الفروسية والرمي بالسهام هي مظاهر الكفاح العسكري الذي يدعو إليه الإسلام ، فقد حلّ مكانها أدوات مهيبة مدمّرة قويّة ، والإقتصار على الأولى كان سينجر حتماً إلى إبادة المسلمين . غير أنّ الجهاد بالسهم والرمح ، أو الجهاد بالصواريخ والدبابات ، أشكال وألبسة للحكم الإسلامي بالجهاد ، فاللِّباس يتغير ويحتفظ باللُّب .
٣ ـ القرآن يدعو المسلمين إلى العزّة والعظمة والإستقلال ، ورفض التبعية
__________________
(١) لاحظ ما ورد حول بثّ العلم والكتابة والتربية في الكتاب العزيز . وأظن أن الباحث الكريم في غنىً عن الإشارة إلى الآيات الواردة في هذا المجال .
(٢) سورة الأنفال : الآية ٦٠ .