الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٦١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

٤ ـ الأسود العنسي

كان رجلاً فصيحاً معروفاً بالكهانة ، والسجع ، والخطابة ، والشعر ، والنسب . وقد تنبّأ على عهد النبي وخرج باليمن وهو ممن أراد أن يحذو حذو نبينا الأمين ، لكن بتسجيع الكلم وحده . فأراد أن يباري سورة الأعلى فقال :

« سبّح اسم ربّك الأعلى ، الذي يسّر على الحبلى ، فأخرج منها نسمة تسعى ، من بين أضلاع وحشى ، فمنهم من يموت ويدسّ في الثرى ، ومنهم من يعيش ويبقى » . وهي ـ كما ترى ـ صفر من الحكمة العالية ، إلّا الجملة الأولى .

فقد جاء هؤلاء إلى حلبة المعارضة لأنّهم كانوا بمكان من الإنحطاط الفكري والأخلاقي ، وأمّا المحنكون ذوو الضمائر الحرّة من العرب فلم ينزلوا إلى ميدان المعارضة لوقوفهم على أنها تبوء بالفشل ، وحفظوا كرامتهم من التسرع إلى حركات صبيانية .

وأمّا هؤلاء فهمّوا أن يعارضوا القرآن ، فكان ما أتوا به باسم المعارضة لا يخرج عن أن يكون مجادلات مضحكة مخجلة ، أخجلتها أمام الجماهير وأضحكت الجماهير منهم ، فباءوا بغضب من الله وسخطٍ من الناس ، فكان مصرعهم هذا ، كسباً جديداً للحقّ ، ورهاناً آخر على أنّ القرآن كلام الله القادر وحده ، لا يستطيع معارضته إنس ولا جان ، ومن ارتاب فأمامه الميدان .

هؤلاء هم الذين حاولوا معارضة القرآن من القدماء ، الذين عاصروا النبي أو عاشوا بعده بُرهة من الزمن ، ولم يكن ما أتوا به إلّا سقطات من الكلم أو الفاظًا جوفاء ، أو أسجاعاً سخيفة . وهناك رجالات آخرون رُموا بأنّهم عارضوا القرآن الكريم ، وهم في الثقافة والأدب بمكان عالٍ ، غير أنا نشك في صحة نسبة المعارضة إليهم ، وإنّما رموا بها إمّا لكونهم من الملاحدة المعروفين كعبد الله بن المقفع ، أو من الشخصيات البارزة التي يحسدها أعداؤها فأوقعوها بافتراءات الزندقة ، ثم معارضة القرآن الكريم ، فمنهم :

٣٦١
 &

١ ـ عبد الله بن المُقَفّع ( م ١٤٥ هـ )

عبد الله بن المقفع أحد الأدباء في القرن الثاني ، كان مجوسياً وأسلم ، وتضلّع في اللغتين العربية والفارسية ، وقام بترجمة بعضها إلى اللغة العربية ، مثل كتاب « كليلة ودمنة » . والرجل مع أنّه رمي بالإلحاد ، قد صرّح بإسلامه في مقدمة ترجمته ، وقد قتل حرقاً في التنور عام ١٤٥ هـ لإفساده عقائد الناس . وعلى كل تقدير ، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بتأليف كتاب الدّرة اليتيمية ، ولكن لم يعلم إلى الآن أنّ الرجل قام بتأليف ذلك الكتاب لأجل هذه الغاية ، وليس فيه ما يصدّق ذلك ، والكتاب مطبوع منشور في عدّة طبعات .

٢ ـ أحمد بن الحسين المتنبي ( ت ٣٠٣ ـ م ٣٥٤ )

من الشعراء البارزين الذين ربما يحتجّ أو يستشهد بكلامهم ، وله ديوان كبير إعتنى به الأُدباء بالشرح والتعليق ، والده كوفي ، ولد في بيت الإسلام ، ولكن قيل إنّه تنبّأ عام ٣٢٠ وله من العمر سبعة عشر عاماً .

ونسب إليه أنّه تلا على أهل البادية كلاماً زعم أنّه قرآن أُنزل عليه ، يحكون منه سوراً . قال علي بن حامد : نسخت واحدة منها ، فضاعت مني ، وبقي في حفظي من أولها : « والنجم السيّار ، والفلك الدّوّار ، والليل والنّهار ، إنّ الكافر لفي أخطار ، إمضِ على سُنَّتِك ، واقْفُ أَثَرَ مَنْ قبلك من المرسلين ، فإنّ الله قامعٌ بك زيغ من أَلْحَدَ في دينه وضلّ عن سبيله » ، هذا .

ولو كان للرجل سور كثيرة يحاول بها المعارضة ، لحفظها التاريخ ولو ازدراءً عليه ، مع أنّه لم ينقل عنه إلّا هذه الجمل (١) .

وما بقي من أشعاره تعرب عن أنانية الرجل وأنّه يرى نفسه مقدّماً في كل شيء ، كما يظهر من قوله :

الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني

والسيفُ والرّمحُ والقرطاسُ والقلمُ

__________________

(١) إعجاز القرآن للرافعي ، ص ٢٠٨ .

٣٦٢
 &

وقد اكتسب شهرة في الأدب والشعر ، كما نال بذلك أعداءً حاقدين ، ومن المحتمل أنّه عزي إليه التنبوء ومعارضة القرآن الكريم من جانب أعدائه .

وقد قتل عام ( ٣٥٤ ) ، ولم يكن قتله إلّا لهجوه رجلاً يسمّى ضبّة .

٣ ـ أبو العلاء المعرّي ( ت ٣٦٣ ـ م ٤٤٩ )

أحمد بن عبد الله من معرّة النعمان ، أحد الأدباء الفحول ، والشعراء البارزين ، وبما أنّه كان أعمى ، وكان حليف بيته في أُخريات عمره ، كان يسمّي نفسه رهين المحبِسين ، وقد كان معاصراً للسيد المرتضى ، وكان بينهما مساجلات ومناظرات .

ومع ذلك لما سئل عن فضل السيد وكماله ، أجاب بالبيتين التاليين :

يا سائلي عنه لما جِئْتُ تسألُهُ

أَلا هُوَ الرجلُ العاري من العارِ

لو جئته لرأيت الناس في رجل

والدَّهْرَ في ساعةٍ والأَرْضَ في دارِ

ومات ولم يتزوج ولم يعقّب ، وأوصى أن يُكتب على صخرة قبره :

هذا جناة أبي عـ

ـليَّ وما جنيت على أحد

وقد اختلف المؤرخون في إيمانه وكفره ، فهناك من الناس من يرمونه بالكفر كياقوت الحَمَوي ، والذَّهبي ، وسعد الدين التفتازاني ، ومعاصره الخطيب البغدادي . والأشعار التي عزيت إليه تدلّ على انحرافه عن الإسلام .

وهناك من ذهب إلى خلاف ذلك منهم كمال الدين عمر بن أحمد بن عديم الحلّي ، المتوفى عام ٦٦٠ ، ألّف كتاباً باسم « الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجرّي عن أبي العلاء المعرّي » . وقد طبعت خلاصته في تاريخ حلب ، فطرح دلائل المتخاصمين في المعري ، ثم قضى بينهم على نهج أدى به إلى الحكم بكونه رجلاً غير منحرف عن الإسلام . وممّا قال فيه : « إنّ سائر ما في ديوانه من الأشعار الموهمة ، فهي إمّا مكذوبة عليه أو هي مؤولة » (١) .

__________________

(١) تاريخ حلب ، ج ٤ ، ص ٧٧ ـ ١٨٠ .

٣٦٣
 &

وممّا يؤيّد قول ابن عديم ، ما ذكره ياقوت من أنّ المعرّي كان يُرمى من أهل الحسد له ، بالتعطيل ، وتعلّم تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار . يضمنونها أقاويل الملاحدة .

والذي يمكن أن يقال إنّ بعض شعره يدلّ على سوء عقيدته ، غير أنّ قيام الرجل بمعارضة القرآن ، موضع شكّ وترديد ، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بكتاب أسماه : « الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات » ، وقد نشرت بعض فصوله .

وممّا يورث الشكّ في كون الهدف من تأليف هذا الكتاب هو المعارضة ، ما ذكره هو نفسه في مقدمته ، قال : « علم ربّنا ما علم ، أنّي ألّفت الكلم ، آمل رضاه المسلّم ، واتّقي سخطه المؤلم ، فهب لي ما أبلغ رضاك من الكلم ، والمعاني الغِراب » (١) .

على أنّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد شكّ في صحّة نسبة هذا الكتاب إليه ، في قوله : « وقد خيّل إلى بعضهم ـ إنْ كانت الحكاية صحيحة ـ شيء من هذا ( وهو كون التحدّي إلى فصول الكلام بأن يكون لها أواخر أشباه القوافي ) ، حتى وضع على ما زعموا « فصول الكلام » ، أواخرها كأواخر الآي ، مثل : « يعملون » ، و « يؤمنون » ، وأشباه ذلك » (٢) .

كما نسبت إليه الجمل التالية :

« أقسم بخالق الخيل ، والريح الهابّة بِلَيْل ، بين الشرط مطلع سُهَيْل ، إِنّ الكافر لطويل الويل ، وإن العمر لمكفوف الذيل ، تعدّى مدارج السيل ، وطالِع التوبةَ من قُبيل ، تَنْجُ وما أخالك بناج » .

والذي يعرب عن كون هذه الجمل مفتريات على الرجل ما نقل عنه في كتابه « الغُفران » ، قال ـ رداً على ابن الراوندي ـ : « وأَجْمَعَ مُلْحَدٌ ومهتدي ، وناكب

__________________

(١) الفصول والغايات ، ص ٦٢ .

(٢) دلائل الإعجاز ، لعبد القاهر الجرجاني ، ص ٢٩٧ ، ط المنار .

٣٦٤
 &

عن المحجة ومُقتدي ، أنّ هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر بالإعجاز ، ولقي عدوه بالأرجاز ، ما هذا على مثال ، ولا أشبه غريب الأمثال ، ما هو من القصيد الموزون ، ولا في الرجز من سهل وحزون ، ولا شاكل خطابة العرب ، ولا سجع الكهنة ذوي الإرب . . . وإنّ الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون ، فتكون فيه كالشهاب المتلأليء في جنح غسق ، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق ، فتبارك الله أحسن الخالقين » (١) .

هذا ، وإن أكثر من ينسب المعارضات إلى أبي العلاء ، يستند إلى ما كَتَبَهُ ياقوت عنه . ويبدو للإنسان من مطالعة ما كَتَبَه ، أنّه متحامل على أبي العلاء ، ويكفي في ذلك قوله : « كان المعرّى حماراً لا يفقه شيئاً » ! . وهذه عبارة لا يقولها إلّا أشدّ الخصوم والمتعصبين على الرجل .

*       *      *

__________________

(١) رسالة الغُفْران ، ص ٢٦٣ .

٣٦٥
 &

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعق الجزء الثالث

٣٦٦
 &

الأمر الرابع

الشواهد الدّالة على كونه كتاباً سماوياً

قد تعرفت على الإعجاز البياني للقرآن الكريم وأنّه بفصاحته وبلاغته ونظمه وأُسلوبه ، تحدّى البشر ، وأعجز أرباب النُّهى ، وقادة الكلام والبيان . فمن كان عربياً صميماً ، عارفاً بأساليب الكلام ، واقفاً على خصوصيات اللغة ، لا يتردد في كونه معجزاً . ومن لم يبلغ تلك المرتبة ، أو لم يكن له إلمام بخصوصيات هذه اللغة ، فعليه الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة ، حتى يقف على كونه معجزاً .

غير أنّ حكمته سبحانه اقتضت أنْ يُتم الحُجَّة على البَشَر أجمعين ، عربيِّهم وعجميِّهم ، وذلك من طريق آخر غير الإعجاز البلاغي ، فحضْهُ سبحانه بقرائن وفيرة موجودة في نفس هذا الكتاب ، وفيمن جاء به . ولو تدارس محايد هذا الكتاب ، مجتنباً كل رأي مسبق ، لوقف على أنّه من الممتنع أن يقوم بتأليف هذا الكتاب إنسان عادي ، ليس له صلة بعالم الغيب ، وهذا ما نبتغيه في هذا المقام ، ذاكرين كلّ شاهد تحت عنوان خاص .

*       *      *

٣٦٧
 &

شواهد إعجاز القرآن

(١)

أُمِّيَّةُ حامِل الرسالة

لم يختلف اثنان من الأُمّة الإسلامية في أنّ النبيَّ كان أُمِّيّاً لا يحسن القراءة والكتابة قبل بزوغ فجر دعوته ، وصحائف حياته أوضح دليل على ذلك ، فلم يدخل مدرسة ، ولم يحضر على أحد للدراسة وتعلُّم الكتابة ، بل كان ربيب البادية ، بعيداً عن حضائر الفنون ، نائياً أيَّ نأي عن محاضر الحكماء ، ومجالس العلماء . بل ليس شيء في تاريخ النبي أوضح من أُمِّيَّته .

ولم يكن هو فقط مختصاً بهذا الوصف ، بل كان علية القوم والسواد الأعظم في أمّ القُرى وحولها ، محرومين من هذا الكمال ، ولأجل ذلك يصفهم القرآن بالأُميين ، في قوله سبحانه :

( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) (١) .

كما يصف حال النبي بالنسبة إلى القراءة ، والكتابة بقوله : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) (٢) .

وبالرغم من مغالطة قساوسة الغرب والمستغربة ، وتشبثاتهم بمراسيل عن

__________________

(١) سورة الجمعة : الآية ٢ .

(٢) سورة العنكبوت : الآية ٤٨ .

٣٦٨
 &

مجاهيل ، وانتحالات الملاحدة في هذا الأمر ، فإنّ أميّة النبي وقومه تموج بالشواهد الواضحة من الكتاب والتاريخ والحديث (١) .

لقد جاء قومه بهذا القرآن وبلاده آنذاك جرداء بلا مِراء ، كبعض القُرى الوحشية ، ببطنان بوادي أفريقيا ، وخُلْوٌ من وسائل العلم والعمران ، وأهلوها البسطاء صفر الأكف من وسائل الرقي والحضارة .

وكان الحجازيون من العرب ترتكز دائرة معارفهم ، في أسواق عُكاظ ومواسم الحجيج والنوادي ، على الأُمور التالية :

١ ـ أنساب القبائل والخيل .

٢ ـ القصائد والأشعار في التهاني والمراثي ، والحماسة والإغارة .

٣ ـ علم القِيافة (٢) .

٤ ـ علم العِيافة (٣) .

٥ ـ علم الفِراسة (٤) .

٦ ـ علم الزجر (٥) .

٧ ـ علم الرّيافة (٦) .

٨ ـ تأويل الأطياف .

٩ ـ أنواء النجوم وأسماء الكواكب ، والظواهر الجوية .

١٠ ـ الطب ، وكان لا يتجاوز الكي والميسم وعقاقير الحشائش .

__________________

(١) ومن أراد الوقوف على دلائله الساطعة ونقد تسويلات المستشرقين ، فليرجع إلى « مفاهيم القرآن » ، ج ٣ ، ص ٣٢١ ـ ٣٧٤ .

(٢) علم القيافة : هو علم باحث عن تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر .

(٣) علم العيافة : هو علم زجر الطير لِيُتَفأَّل من كيفية طيرانها وجهته أو يتشأم . وهي مأخوذة من عاف الطير عيفاً بمعنى استدارت وحامت حول الشيء . والنسور العوائف : التي تعيف على القتلى وتتردد .

(٤) علم الفراسة : هو علم الإستدلال بهيئة الإنسان وشكله ولونه وأقواله ، على أخلاقه .

(٥) علم الزجر : هو علم الإستدلال بأصوات الحيوانات وحركاتها وسائر أحوالها ، على الحوادث .

(٦) علم الريافة : هو علم استنباط وجود الماء في الأرض بشمّ التراب ، أو برائحة بعض النباتات فيها ، أو بحركة حيوان مخصوص .

٣٦٩
 &

١١ ـ الموسيقى ، وكانت لا تتجاوز حدّي الإبل .

١٢ ـ سحر النفّاثات .

١٣ ـ الكهانة والعرافة (١) .

١٤ ـ الصنائع البدائية ، ولا تتجاوز صنع السهام والأقواس والرماح والجِنان .

فهذا مبلغهم من العلم والكمال . وأين هو ممّا جاء في القرآن الكريم في مجال العقائد والمعارف والتشريع العادل ، ونظام المدنية والأخلاق الفاضلة ، والأخبار الغيبية ، إلى غير ذلك ممّا سيمرّ عليك من فنون المعارف .

فمن لاحظ هذا المعهد البسيط ، يذعن بأنّ من الممتنع أن يخرج من هذا الحقل القاحل ، شخصية فذَّة كشخصية النبي ، وكتاب مثل كتابه ، إلّا أن يكون له صلة بقدرة عظيمة مهيمنة على الكون .

وهذا أحد الشواهد الدالّة على أنّ الكتاب ليس من صنع النبي ، بل هو كتاب سماوي ، وإذا ضمَّت إليه الشواهد الأخر الآتية تتجلى هذه الحقيقة بأوضح تجلّياتها .

*       *      *

__________________

(١) الكهانة : إدّعاء علم الغيب ، كالإخبار بما سيقع في الأرض ، والأصل فيها التلقّي من الجن .

٣٧٠
 &

شواهد إعجاز القرآن

(٢)

عدم الإختلاف في الأُسلوب

إنّ القرآن الكريم نزل نجوماً في مدّة تقرب من ثلاث وعشرين سنة (١) ، في فترات مختلفة وأحوال متفاوتة من ليل ونهار ، وحضر وسفر ، وحرب وسِلْم ، وضرّاء وسرّاء ، وشدّة ورخاء ، ومن المعلوم أنّ هذه الأحوال تؤثّر في الفكر والتعقّل وفي قرائح قادة الكلام ، وأصحاب البلاغة ، فربما يقدر البليغ على إلقاء خطابة بليغة في حالة ، ولا يقدر عليها في أُخرى . أو الشاعر المُفْلِق يجود بقريض معجِب في ظروف روحيّة خاصة ، يعجز عنه في أُخرى . وذلك أمر ملموس لمن مارس إلقاء الخُطب ونظم القريض .

ولكن القرآن جاء على خلاف هذه القاعدة ، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة . كما أنّ الأُسلوب في جميع السور النازلة في هذه المدة المديدة ، واحد . « فسورة العلق » التي هي أوّل سورة نزلت على النبي ، نظير سورة « النصر » التي نزلت عليه في أُخريات أَيامه ، في الأُسلوب والبيان ، من دون أن يكون هناك اختلاف بينهما .

__________________

(١) قد تضافرت الآيات على أنّ القرآن نزل نجوماً ، وكان هذا أحد الإشكالات التي وجهها الكفّار والمشركون إلى النبي صلى الله عليه وآله ، فقد كانوا يطلبون منه أن يأتي بكتاب مجموع مُدَوّن مرة واحدة ، وهذا ما يحكيه سبحانه مجيباً عنه في قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ، كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) ( الفرقان : الآية ٣٢ ) .

٣٧١
 &

إنّ السور المكية التي تتراوح بين ثلاث وثمانين ، وخمس وثمانين سورة ، نزلت كلّها في ظروف قاسية كانت الرهبة فيها حليف صاحب الرسالة ، وكان الاستضعاف مسيطراً على المؤمنين به ، ومع ذلك فهي لا تتفاوت في بداعة الأُسلوب ، وروعة النظم ، وكمال الفصاحة والبلاغة ، مع السور المدنية التي نزلت في ظروف هادئة كان الأمن والهدوء مستتبين فيها . فلم يكن لتلك الأحوال القاسية ، ولا لهذه الظروف الهادئة ، تأثير في فصاحة القرآن وبلاغته ، وروعة نظمه ، وبداعة أُسلوبه ، فجاء الكلّ على نمط معجز لا يُدْرَك شأوه ، ولا يُشَقُّ غُبارُه .

فهذا يدلّ على أنّ هذا الكتاب ، ليس وليد قريحة النبي ونتاج ذهنه وتفكّره ، وإلّا لكثر فيه الإختلاف وتفاوت في نظمه وبلاغته ، فكان بعضه بالغاً حدّ الإعجاز ، وبعضه قاصراً عنه .

*       *      *

٣٧٢
 &

شواهد إعجاز القرآن

(٣)

عدم الإختلاف في المضمون

قد عرفت في القرينة السابقة أنّ المعجزة الخالدة نزلت على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، طيلة أعوام مختلفة من حيث الشدّة والرخاء ، والرغبة والرهبة ، هذا من جانب .

ومن جانب آخر ، إنّ الإنسان جُبل على التكامل ، فهو يرى نفسه في كل يوم أعقل من سابقه ، وأنّ ما أتى به من عمل ، أو اخترعه من صنعه ، أو دَبّره من رأي ، أو أَبْدَعَهُ من نَظَر ، يراه ناقصاً مفتقراً إلى الإصلاح والتجديد . وهناك كلمة قيمة للكاتب الكبير عماد الدين أبو عبد الله محمد بن حامد الأصبهاني ( ت ٥٩٧ ) ، يقول فيها : « إنّي رأيت أنّه لا يكتب إنسانٌ كتاباً في يومه ، إلّا قال في غده لو غُيِّر هذا لكان أحسن ، ولو زيد كذا لكان يستحسن ، ولو قُدّم هذا لكان أفضل ، ولو تُرك هذا لكان أَجمل . وهذا من أعظم العِبَر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر » .

وهذا في الكاتب الصادق ، وأمّا الكاتب الذي يبني أمره على الكذب والإفتراء في أنظاره وآرائه وأحكامه وإخباراته ، فلا يمكن أن يتخلص عن التناقض والإختلاف ، ولا سيما إذا تعرّض لكثير من الأُمور المهمة في مجال العقائد والتشريعات والنُّظم الإجتماعية والأخلاقية التي تتطلب لنفسها تبنّي أدقّ القواعد وأحكم الأُسس ، ولا سيما إذا طالت على ذلك المفترى أيام ، ومرّت عليه عقود ،

٣٧٣
 &

فإنّه سيرتبك ويقع في التناقض والتهافت من حيث لا يريد ، وقد قيل قديماً : « لا ذاكرة لكذوب » .

وإنّا نرى العالِم النابغ في علمٍ معينٍ ، يؤلّف الكتاب ويستعين عليه بالباحثين ، ثم يطيل التأمّل فيه وينقّحه ويطبعه ، فلا تمرّ سنوات قليلة إلّا ويظهر له الخطأ والإختلاف ، فلا يعيد طبعه إلّا بعد أن يغيّر منه ويصحح ما شاء .

وإنّ هذا القرآن قد تعرّض لمختلف الشؤون ، وتوسّع فيها أحسن التوسّع ، فبحث في الإلهيات والنبوات وسياسة المُدْن ونظم المجتمع ، وقواعد الأخلاق ، وقوانين السلم والحرب ، كما وصف الموجودات السماوية والأرضية ، من شمس وقمر وكواكب ورياح ، وبحار ونبات ، وحيوان وإنسان ، ووصف أهوال القيامة ومشاهدها . ومع ذلك لا تجد فيه تناقضاً واختلافاً ، أو شيئاً متباعداً عند العقل والعقلاء .

والعجب أنّه ربما يستعرض حادثة واحدة ، فيطرحها مرتين أو مرّات ، كقصة الكليم ، والمسيح ، ومع ذلك لا تجد فيها اختلافاً في الجوهر .

والحاصل أنّ الكتاب الذي يستعرض جميع الشؤون المرتبطة بالإنسانية ، كمعرفة المبدأ والمعاد والفضائل الأخلاقية والقوانين الإجتماعية والفردية ، والقصص والعبر ، والمواعظ والأمثال ، وينزل في مدّة تعدل ثلاثاً وعشرين سنة ، على اختلاف الأحوال والظروف ومع ذلك لا تجد في معارفه العالية ، وحكمه السامية ، وقوانينه الإجتماعية والفردية ، تناقضاً ولا اختلافاً ، بل ينعطف آخره على أوله ، وترجع تفاصيله وفروعه إلى أصوله وعروقه .

إنّ مثل هذا الكتاب ، يقضي الشعور الحي في حقّه أنّ المتكلم به ليس ممّن يحكم فيه مرور الأيام ويتأثّر بالظروف والأحوال ، بل هو الله الواحد القهار .

ولعلّ قوله سبحانه : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (١) ، ناظر إلى كلتا القرينتين ، ويبين أنّ مقتضى الطَبع

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٨٢ .

٣٧٤
 &

الإنساني الناقص إذا خلا من التسديد ، العجزُ عن الإتيان بكتاب على سبك واحد ، ومضمون يؤكّد بعضه بعضاً ، فكيف إذا كان يعتمد في ادّعائه على الكذب والإفتراء ، فإنّ هذا سيكون وجهاً آخر لوقوعه في التهافت والتناقض . والعرب أحسُّوا بالإستقامة في أُسلوب القرآن ، ومرور الزمن قد أثبت عدم التناقض والتهافت في ما يدعو إليه .

وأمّا « كثيراً » في قوله سبحانه : ( اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) ، فهو وصف توضيحي لا احترازي ، والمعنى : لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً ، وكان ذلك الإختلاف كثيراً على حدّ الإختلاف الكثير الذي يوجد في كل ما هو من عند غير الله . ولا تهدف الآية إلى أنّ المرتفع عن القرآن هو الإختلاف الكثير دون اليسير (١) .

*       *      *

__________________

(١) لاحظ الميزان في تفسير القرآن ، ج ٥ ، ص ٧ .

٣٧٥
 &

شواهد إعجاز القرآن

(٤)

هَيْمَنَةُ القرآن على الكتب السماوية

بُعث النبي الأكرم وتحدّى بالقرآن المجيد ، ولما أعْجَزَ فُصحاء العرب وبُلَغاءهم في المعارضة ، وجّهوا إليه سهام التهم . فكان ممّا ألصقوه بكرامة كتابه أنّه ليس سوى أساطير الأوّلين تُملى عليه بكرة وأصيلا (١) .

وربما يتهمون النبي بأنّه يأخذه من بَشَر ، كما يحكيه سبحانه بقوله : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) (٢) .

قال في الكشاف : « أراد بالبشر غلاماً كان لحُوَيْطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه ، اسمه عائش أو يعيش ، وكان صاحب كتب . وقيل هو « جبر » غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي ، وقيل عبدان « جبر » و « يسار » ، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل ، وقيل هو سلمان الفارسي » (٣) .

__________________

(١) اقتباس من قوله سبحانه : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ، فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان : الآية ٥ ) وفسّر في الكشاف قوله بـ ( اكْتَتَبَهَا ) بمعنى اكتتبها لنفسه ، فكأنّ التاء للدلالة على أنّ كتابته كانت لنفسه .

(٢) سورة النحل : الآية ١٠٣ .

(٣) تفسير الكشاف ، ج ٣ ، ص ٢١٨ .

٣٧٦
 &

وعلى كل تقدير ، كان العدو يتهم النبي بأنّه أخذ ما جاء به ، من الكتب السماوية الماضية .

فعلى ذلك ، من الجدير أن نقارن بين القرآن ، وسائر الكتب السماوية المتقدمة عليه ، حتى يتّضح مدى الإختلاف بينهما . وهذه المقارنة من أحدث المناهج التطبيقية التي تفيد علماً بأنّ النبي الأكرم لم يعتمد فيما جاء به على هذه الكتب . ولنركز على ما جاء به العهدان في مجال الأنبياء ، فنذكر ما جاء به القرآن أوّلاً ، ثم نتبعه بما جاء فيهما .

وقبل الخوض في المقصود نذكر بأمرين :

الأول ـ إنّ الذكر الحكيم يعترف بعظمة التوراة وحجيتها ، وأنّها كتاب سماوي مثل القرآن ، وأنّه يجب على كل مسلم أن لا يُفَرِّق بين نبيٍّ وآخر ، ولا يفرق بين كتبهم ، يقول سبحانه : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ، وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (١) .

إنّ القرآن يصف التوراة في آياته ، بقوله :

( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ) (٢) .

( وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّـهِ ) (٣) .

كما يصف الإنجيل بقول : ( وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ ، فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ) (٤) .

ويصفهما معاً ، بقوله : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ، وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ ، لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) (٥) .

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٨٥ .

(٢) سورة المائدة : الآية ٤٤ .

(٣) سورة المائدة : الآية ٤٣ .

(٤) سورة المائدة : الآية ٤٦ .

(٥) سورة المائدة : الآية ٦٦ .

٣٧٧
 &

وعلى ضوء ذلك ، فهذه الكتب السماوية كلّها نور وهداية ، غير أنّه في مواضع أخرى يندد بعلماء اليهود والنصارى متهماً إيّاهم بأنّهم حرّفوا كتبهم ودسُّوا فيها ما ليس من الله ، وكتموا آيات الله تبارك وتعالى .

يقول سبحانه : ( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) (١) .

ويقول : ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّـهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ) (٢) .

ويقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ، أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (٣) .

وفي ضوء هذه الآيات يقف الباحث على أنّ سهم الإعتراض في هذا المجال ليس متوجهاً إلى الكتب الصحيحة السماوية ، بل إلى المحرَّف منها ، الذي هو نتيجة تكالب الأحبار والرهبان على الدنيا ، وتغيير حكم الله طلباً لمرضاة الحُكّام ، وأصحاب الأموال .

وبما أنّ الموجود في زمن النبي ، والدارج عند نزول القرآن ، هو الكتب المحرَّفة لا الأصلية ، فالبحث المقارن يثبت ، أنّ النبي لم يعتمد على شيء من هذه الكتب ، فيما يسرد من القصص والأحكام ، أو ما يبيّن من المعارف والعقائد ، وإلّا يجب أن تظهر فيه سمات الأخذ والتقليد . ولا يصحّ لأحد أن يحتمل أنّ النبي اطّلع على الصحيح من هذه الكتب ، وذلك لأنّ الأُمة العربية كانت أُميّة ، غير واقفة على هذه الكتب ، ولا متدارسة لها ، وكانت إنّما توجد هذه الكتب عند الأحبار والرهبان ، وأولئك لم يكن في أيديهم إلّا ما تطرّق إليه التحريف والدسّ طيلة قرون .

الثاني : قد اخترنا في مجال المقارنة ، موضوع الأنبياء ، وذلك لأنّ هذا

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٤٦ .

(٢) سورة البقرة : الآية ٧٥ .

(٣) سورة البقرة : الآية ١٥٩ .

٣٧٨
 &

المجال من أبرز ما يفترق فيه القرآن عن العهدين . والأنبياء هم رجال الوحي والهداية ، ورجال الإصلاح والتربية ، قاموا بخدمة النوع الإنساني ، ولاقوا من المصائب والمتاعب الكثير في سبيل دعوتهم ، فيصفهم سبحانه في القرآن بقوله : ( وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) (١) .

وبقوله : ( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٢) .

إذا عرفت ذلك فلنبدأ بالمقارنة ، ونكتفي بالأنبياء العظام : آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، ولوط ، ويعقوب ، وداود ، وسليمان ، والمسيح ، عليهم السلام .

وبعد المقارنة يتجلى أنّ القرآن لم يتأثر في تقييمهم وتوصيفهم بفضائل الأخلاق ، بالعهدين الذَّيْن يصفان رجال الوحى برذائل الأوصاف وسيئات الأعمال ، كما سترى . نعوذ بالله من سوء الظن برجالات الوحي والهداية .

*       *      *

١ ـ آدم في القرآن والتوراة

يقول سبحانه في خلق الإنسان : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ، فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ، وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ، وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي

__________________

(١) سورة ص : الآية ٤٧ .

(٢) سورة آل عمران : الآية ٣٣ .

٣٧٩
 &

الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١) .

هذه هي قصة أول الخليقة ، وتلك مكانته عند الله سبحانه ، وذلك سجود الملائكة إجلالاً لمقامه ، وتكريماً له ، وهذا عِلْمُ آدم بالأسماء وحقائق الأشياء ، وأنّ الشيطان وسوس إليه ، فأزَلَّه ، فأكل من الشجرة الممنوعة ، فكانت النتيجة هبوطه إلى الأرض .

أمّا التوراة ، فتذكر في الأصحاحين الثاني والثالث من سِفر التكوين قصة آدم وحواء فتقول في الأصحاح الثاني :

« وأَخَذَ الرَّبُ الإِلٰه ، آدَمَ ، وَوَضَعَهُ في جنّة عدن ليعملها ويحفظها * وأوصى الرَّب الإِلٰه آدَمَ قائلاً : من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً * وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكُلْ منها ، لأنَّك يوم تأكل منها تموت موتاً » . ثم بعد أن تروي خلقة حَوّاء من ضلع آدم ، تقول :

« وكانا كلاهما عريانين ـ آدمُ وامرأتُه ـ وهما لا يخجلان » (٢) .

ثم جاء في الأصحاح الثالث : « وكانت الحية أحْيَلَ جميع حيوانات البريّة التي عملها الرب الإله . فقالت للمرأة : أحقاً قال الله لا تأكُلا من كُلِّ شجر الجنة * فقالت المرأة للحيّة : من ثمر الجنة نأكل * وأمّا ثمر الشجرة التي في وسط الجنة ، فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا * فقالت الحيّة للمرأة : لن تموتا * بل الله عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعْيُنُكُما ، وتكونان كالله عارِفَين الخَيْرَ والشَّرَّ * فرأت المرأة أنّ الشجرة جيدة للأكل ، وأنّها بَهِجة للعيون ، وأنّ الشجرة شهيّة للنظر ، فأخذت من ثمرها ، وأكلت ، وأعطت رَجُلَها أيضاً معها فأكل * فانفتحت أعينهما وعلما أنّهما عريانان ، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر » .

« وسمعا صوت الرَّب الإِله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار ، فاختبأ

__________________

(١) سورة البقرة : الآيات ٣١ ـ ٣٧ .

(٢) لأنّهما لم يكونا يدركان بعدُ الخير والشر .

٣٨٠