الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
٤ ـ وقال الشيخ المفيد في جهة إعجاز القرآن : « إنّ جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي صلى الله عليه وآله بمثله في النظام عند تحدّيه لهم ، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ـ وإن كان في مقدورهم ـ دليلاً على نبوته . واللُّطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان . وهذا أوضح برهان في الإعجاز ، وأعجب بيان . وهو مذهب النظّام ، وخالف فيه جمهور أهل الإعتزال » (١) . هذا .
وقد نقل القُطب الراوندي ( م ٥٧٣ ) في كتاب « الخرائج » ، قولاً آخر للشيخ المفيد ، ولا نعلم أَيّاً من الرأيين هو المتقدم . قال في بيان وجوه إعجاز القرآن : « ما ذهب إليه الشيخ المفيد ، وهو أنّه إنّما كان معجزاً من حيث اختصّ برتبة في الفصاحة خارقة للعادة ، قال : لأنّ مراتب الفصاحة إنّما تتفاوت بحسب العلوم التي يفعلها الله في العباد ، فلا يمتنع أن يجري الله العادة بقدر من المعلوم ، فيقع التمكين بها من مراتب في الفصاحة محصورة متناهية ، ويكون ما زاد على ذلك غير معتادة ، معجزاً خارقاً للعادة » (٢) .
٥ ـ وقال السيد المرتضى : « إنّ الله تعالى سلب العرب العلوم التي كانت تتأتّى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة ، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم » (٣) .
٦ ـ قال الشيخ تقي الدين أبي الصلاح الحلبي ( ت ٣٧٤ ـ م ٤٤٧ ) بعد استعراضه الوجوه المحتملة لإعجاز القرآن : « وإذا بطلت سائر الوجوه ، ثبت أنّ جهة الإعجاز كونهم مصروفين » . ثم قال : « معنى الصرف هو نفي العلوم بأضدادها أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة التي لولا انتفاؤها لصحّت المعارضة ، وهذا الضرب مختصّ بالفصاحة والنّظم معاً ، لأنّ التحدي واقع بهما ، وعن الجمع بينهما كان الصَّرف » (٤) .
__________________
(١) أوائل المقالات ، ص ٣١ .
(٢) البحار ، ج ٩٢ ، ص ١٢٧ .
(٣) الإقتصاد ، ص ١٧٢ .
(٤) تقريب المعارف ، ص ١٠٧ ، ط ١٤٠٤ هـ .
٧ ـ وقال الشيخ الطوسي : « القرآن معجز سواء كان معجزاً خارقاً للعادة بفصاحته فلذلك لم يعارضوه ، أو لأنّ الله تعالى صرفهم عن معارضته ، ولولا الصرف لعارضوه » .
وقال : « إنّ التحدّي إنّما وقع لعجزهم عن معارضته في المستقبل ، لا لأنّه ليس في كلامهم مثله ، ولو كان في كلامهم مثله لكان ترك المعارضة أبلغ وأعظم في باب العجز » .
وقال : « إنّ القائلين بالصَّرفة يقولون إنّ مثل ذلك كان في كلامهم وخطبهم ، وإنّما صُرفوا عن معارضته في المستقبل ، فلا معنى لكونه أفْصح » (١) .
وقال : « وأما قولُهم إنّه كان في كلامهم ما هو مثل القرآن ، فلا يتوجه على أصحاب الصرفة لأنّهم يسلمون ذلك ، لكنهم يقولون إنّهم منعوا من مثله في المستقبل فلا ينفع بأن ذلك فيما مضى منهم موجود ، بل ذلك يؤكّد الحجة عليهم » (٢) .
وقال : « إنّ من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بالفصاحة والبلاغة ، وإنّما يقول هذه المزية ليست ممّا تخرق العادة ويبلغ حدّ الإعجاز . فليس في طرب الفصحاء وشهادتهم بفصاحة القرآن وفرط براعته ، ما يوجب بطلان القول بالصرفة » (٣) .
__________________
(١) الاقتصاد ، ص ١٦٦ ، وص ١٧٠ ، وص ١٧١ .
(٢) تمهيد الأصول في علم الكلام ، ص ٣٣١ .
(٣) المصدر السابق ، ص ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، وهذا الكتاب شرح على كتاب « جُمَل العلم والعمل » ، للسيد المرتضى ، فإنّه يشتمل على قسمين :
قسم يختص بالعقائد ، وهو الذي شرحه الشيخ الطوسي وأسماه : « تمهيد الأصول في علم الكلام » ، نشرته جامعة طهران ، وقد جعل المتن في أول الكتاب والشرح بعده ، وليس المتن متميزاً في الشرح عمّا علّق عليه .
وقسم يختصّ بالأحكام ، وهو الذي شرحه تلميذ السيد ، القاضي ابن البراج المتوفى عام ٤٨١ ، وطبع باسم : « شرح جُمل العلم والعمل » .
ثم إنّ للسيد نفسه شرحاً على هذا الكتاب أملاه على بعض تلامذته ، وهو بعد مخطوط لم ير النور ، وستقوم مؤسسة الإمام الصادق بنشره محقَّقاً إنشاء الله تعالى .
وقد كان الشيخ الطوسي قائلاً بالصرفة ، ولكنه عدل عنه بعد ذلك ، كما يعترف به هو نفسه في كتابه « الإقتصاد » ، قال : « وأقوى الأقوال عندي قول من قال إنّما كان معجزاً خارقاً للعادة لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص ، دون الفصاحة بإنفرادها ، ودون النظم بانفراده ، ودون الصرفة . وإن كُنْتُ نصرتُ في شرح الجمل القولَ بالصَّرْفة على ما كان يذهب إليه المرتضى رحمه الله ، من حيث شرحت كتابه فلم يحسن خلاف مذهبه » (١) .
٨ ـ وقال ابن سنان الخفاجي : « إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن ، صرف العرب عن معارضته ، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك » .
ثم قال : « إنّ الصحيح أنّ إعجاز القرآن هو صرف العرب عن معارضته ، وأنّ فصاحته كانت في مقدورهم لولا الصرف » .
وقال في موضع آخر : « متى رجع الإنسان إلى نفسه ، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار ، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه » (٢) .
٩ ـ وبسط ابن حزم ( م ٥٤٨ ) الكلام في إعجاز القرآن ، وذكر لإعجازه خمسة وجوه وردّها ، وممّا قاله :
« والنحو الرابع : ما قالت طائفة : وجهُ إعجازه ، كونه في أعلى مراتب البلاغة . وقالت طوائف إنّما وجه إعجازه أنّ الله منع الخلق من القدرة على معارضته .
فأمّا الطائفة التي قالت إنّما إعجازه لأنّه في أعلى دَرْج البلاغة ، فإنّهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) .
وَمَوّهَ بعضهم بأن قال : « لو كان كما تقولون من أنّ الله تعالى منع من
__________________
(١) الإقتصاد ، ص ١٧٣ .
(٢) سرّ الفصاحة ، ص ٨٩ ، وص ٢١٧ .
معارضته فقط ، لوجب أن يكون أغثّ ما يمكن أن يكون من الكلام ، فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ » .
ثم ردّ على هذين الدليلين بوجه تافه غير قابل للنقل ، وقال في آخر كلامه : « فإنّها معجزة لا يقدر على المجيء بمثلها أبداً ، لأنّ الله تعالى حال بين الناس وذلك » (١) .
١٠ ـ قال المحقق الطوسي : « وإعجاز القرآن قيل : الفصاحة ، وقيل : الأُسلوب وفصاحته معاً ، وقيل : للصرفة ، والكلُّ محتمل » (٢) .
هذه حقيقة نظرية الصرفة ، ذكرناها على وجه رفعنا عن وجهها الغشاوة والإبهام .
* * *
مناقشة نظرية الصَّرفة
إنّ نظرية الصرفة ، نظرية قاصرة وسقيمة من جهات :
أما أوّلاً : فلأنّه لو كان القرآن من حيث الفصاحة والبلاغة وروعة النظم وبداعة الأسلوب ، غير بالغ حدّ الإعجاز ، وكان العرب قبل البعثة متمكنين من إلقاء الخطب والأشعار على هذا النمط من الكلام ، فيجب أن ينتشر ما يضاهي القرآن في البلاغة ، والفصاحة بين أوساطهم وأندية شعرهم وأدبهم ، ويكون مثله متوفراً بينهم ، فعندئذٍ نسأل : أين هذه الخطَب والجمَل المضاهية للقرآن الكريم ، الرائجة بينهم ؟ وهل يمكن لأصحاب مذهب الصرفة إراءة نماذج منها ؟! ونحن مع ما بذلنا من الفحص والتتبع عنها في مظانها من مجاميع الكتب الأدبية ، لم نجد حتى النزر اليسير منها .
وثانياً : فإنّ مذهب الصرفة يبتني على حصول الحيلولة بين العرب
__________________
(١) الفصل ، ج ٣ ، ص ١٧ وص ٢١ .
(٢) كشف المراد ، ص ٢٢٣ ، ط صيدا .
والمقابلة ، بعد البعثة ، بما تقدم ، لا قبلها ، فعندئذٍ كان في وسع العرب القاء كلم وجمل وخطب مضاهية للقرآن الكريم من دون أن يتحملوا عبء المقابلة بإنشاء مثله ، حتى يقال بأنّهم صرفوا عن المقابلة بسلب الهمم والعلوم والقدرة ، لأنّ الإتيان بما هو دارج بين العرب لا يتوقف على مؤنة . إلّا أن يقال إنّهم صرفت هممهم حتى عن هذا المقدار ، وهو كما ترى .
وثالثاً : فلو كان العرب قبل البعثة قادرين على الإتيان بكلام يشبه القرآن ويضاهيه ، فلماذا اندهش الوليد بن المغيرة عندما سمع آيات من سورة فصلت وقال : « لقد سمعت من محمد كلاماً لا يشبه كلام الإنس والجن » (١) . ولماذا ارتمى عتبة بن ربيعة مدهوشاً مبهوتاً ملقياً يديه وراء ظهره متكياً عليهما ، مشدقاً بفيه مصعوقاً عندما سمع بعض آيات القرآن من النبي الصادع بالحق . فلو كانت فصاحة القرآن وبلاغته أو نظمه وأُسلوبه من حيث العذوبة والأناقة على نمط كلام الآخرين من فصحاء العرب وبلغائهم ، فلم اهتزوا وتأثّروا بسماع آية أو آيات منه ، ولم تكن لهم هذه الحالة في سماع شعر امرىء القيس ، ولا عنترة ، ولا غيرهما من أصحاب المعلقات ، ولا من سماع خطب قس بن ساعدة وسحبان بن وائل وغيرهما من أصحاب الخطب والكلام .
وإلى هذا الوجه يشير الإمام يحيى بن حمزة العلوي في نقد هذا المذهب ، ويقول : « لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة كما زعموا ، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن ، فلمّا ظهر منهم التعجّب لبلاغته وحسن فصاحته ، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال : « إنّ أعلاه لمورق ، وإنّ أسفله لَمُعْذِق ، وإنّ له لطلاوة ، وإنّ عليه لحلاوة » ، فإنّ المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه فإنّه يدهش عقله ويحيّر لبّه ، وما ذاك إلّا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف وحسن موانع التصريف في كل موعظة ، وحكاية كل قصة ، فلو كان كما زعموه من الصرفة ، لكان العُجب من غير ذلك ، ولهذا فإنّ نبيّاً لو قال : إنّ معجزتي أن أضع هذه الرمانة في كفي . وأنتم لا تقدرون على ذلك ، لم يكن
__________________
(١) السيرة النبوية لابن هشام ، ج ١ ، ص ٢٩٣ ـ ٢٩٤ .
تعجّب القوم من وضع الرمانة في كفه ، بل كان من أجل تعذّره عليهم ، مع أنّه كان مألوفاً لهم ، ومقدوراً عليه من جهتهم . فلو كان كما زعمه أهل الصرفة ، لم يكن للتعجّب من فصاحته وجه . فلمّا علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة ، دلّ على فساد هذه المقالة » (١) .
وما أجاب به الشيخ الطوسي عن هذا الدليل بأنّ من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بالفصاحة والبلاغة ، وإنّما يقول هذه المزية ليست مما تخرق العادة ويبلغ حدّ الإعجاز ، فليس في طرب الفصحاء وشهادتهم بفصاحة القرآن وفرط براعته ما يوجب بطلان القول بالصرفة (٢) ، غير تام ، إذ لو كان مثل القرآن متوفراً في الأوساط الأدبية قبل البعثة ، لما كان لهذا الطرب والإهتزاز والإنبهار والتضعضع ، وجه وجيه ، لأنّ المفروض أنّ القرائح العربية لم تكن قاصرة قبل البعثة عن إبداع أمثاله ، وسمعت آذانهم كثيراً من هذا النمط من الكلام وإن قصرت من بعد . ولو كانت قرائحهم قادرة قبل البعثة على إنشاء كلام مثل القرآن ، فلماذا جمع الوليد صناديد قريش وقال لهم : « إنّ العرب يأتونكم فينطلقون من عندكم على أمر مختلف ، فأجمعوا أمركم على شيء واحد ، ما تقولون في هذا الرجل ؟ الخ (٣) » . فلو كانت قرائحهم كافية قبل صرف هِمَمِهِم ، أو سلب علومهم ، أو الجائهم على الإنقباض في مقام معارضته ـ لكان الجواب عن قرآن الرجل واضحاً ، وهو أنّه كلام عادي ما أكثره بيننا ، وأكثر مثله في كلام خطباء العرب وشعرائهم .
ورابعاً : فإنّ القول بالصرفة نجم من الإغترار بما روي من رشيق الكلمات ، وبليغ العبارات ، عن العرب ، فزعم هؤلاء أنّ كل من قدر على تلك الأساليب البلاغية ، يقدر على المعارضة ، إلّا أنّه سبحانه عرقلهم عنها وثبّطهم فيها .
ولكن أين الثرى من الثريا ، وأين المدر من الدُرَر ، وليس إعجاز القرآن
__________________
(١) الطراز ، ص ٣٩٣ ـ ٣٩٤ .
(٢) تمهيد الأُصول ، ص ٣٣٨ .
(٣) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٨٦ .
رهن العذوبة والأناقة فقط ، وإنّما هو رهن حلاوة ألفاظه وسمو معانيه ، ورصانة نظمه ـ على وجه لو غُيِّرت كلمة أو جملة منه ، لم يمكن أن يؤتى بدلها بلفظة هي أوفق من تلك اللفظة ـ وبداعة أسلوبه ، مجتمعة . فهذه الأُمور بجملتها ، أضفت على الكلام جمالاً رائعاً لا يجد الإنسان له مثيلاً في كلام مَنْ غَبَر وسَبَق ، أو تَبِعَ وَلَحَق . فهو بنظمه العجيب ، وأُسلوبه الغريب ، وملاحته وفصاحته الخاصة ، ومعانيه العميقة ، تحدّى الإنس والجن ، ولأجل ذلك لم يجد العرب لإغراء البسطاء ، إلّا تفسيره بالسحر ، لأنّه يأخذ بمجامع القلوب ، كما يأخذ السحر بها .
وخامساً : فإنّ المتبادر من آيات التحدّي أنّها تعرف القرآن بأنّه فوق قدرة الإنس والجن ، وأنّه مصنوع لا تصل إليه يد المخلوق ، وهذا لا يجتمع مع مذهب الصرفة الذي لا يضفي على القرآن ذاك الجمال الرائع الذي يجعله متفوّقاً على القدرة البشرية ، وإنّما يضعه في عداد كلام عامة الفصحاء والبلغاء ، غاية الأمر أنّه سبحانه ـ كلما همّت العرب بمباراته ـ صرف عنهم الهمة والقوة ومنعهم من الإتيان بما اقترحه عليهم .
وبعبارة أخرى : إنّ المتبادر من ظواهر الآيات ، أنّ القرآن في ذاته متعال ، حائز أرقى الميزات ، وكمال المعجزات ، حتى يصحّ أن يقال في حقّه بأنّه لو اجتمع الجن والإنس الخ . .
يقول الخطابي بأنّ قوله سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ ) الآية ، يشهد بخلاف هذه النظرية ، لأنّها تشير إلى أمْرٍ ، طريقُهُ التكلّف والإجتهاد ، وسبيله التأهّب والإحتشاد ، وما فُسِّرت به الصرفة لا يلائم هذه الصفة (١) .
وسادساً : فلو كان وجه الإعجاز في نكتة الصرفة ، لكفى في ذلك أن يكون القرآن كلاماً مبذولاً ومرذولاً للغاية ، وركيكاً حدّ النهاية ، لكن كلّما أراد سفلة الناس وأوباشهم ، الذين يقدرون على صنع مثل تلك الكلم ، الإتيان بمثله ، حال سبحانه بينهم وبين مباراته . وهو كما ترى ، لا يتفوّه به من له إلمام بهذه المباحث .
__________________
(١) بيان إعجاز القرآن ص ٢١ .
وسابعاً : فلو كان عجز العرب عن المقابلة ، لِطاريءٍ مباغتٍ أبطل قواهم البيانية ، لأُثر عنهم أَنَّهم حاولوا المعارضة ففوجئوا بما ليس في حسبانهم ، وَلَكان ذلك مثار عجب لهم ، ولأعلنوا ذلك في الناس ، ليلتمسوا العُذْر لأنفسهم وليقللوا من شأن القرآن في ذاته (١) .
وقد أشار إلى هذا الوجه علي بن عيسى الرماني في نكت الإعجاز ، كما أشار إليه الإمام يحيى بن حمزة العلوي ، قال : « إنّهم لو صُرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها ، لوجب أن يَعْلَموا ذلك من أنفسهم بالضرورة ، وأنْ يُمَيِّزوا بين أوقات المنع والتخلية . ولو علموا ذلك ، لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجّب . ولو تذاكروه ، لظهر وانتشر على حدّ التواتر . فلمّا لم يكن ذلك ، دَلّ على بطلان مذهبهم في الصرفة » (٢) .
وثامناً : فإنّ القول بالصرفة ، يستلزم القول بأن العرب قد تراجعت حالها في الفصاحة والبلاغة ، وفي جودة النظم وشرف الأسلوب وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم ، وعدموا الكثير ممّا كانوا يستطيعون ، وأن تكون أشعارهم التي قالوها ، والخطب التي قاموا بها من بعد أن أوحى الله إلى النبي ، قاصرةً عمّا سمع منهم من قبل ذلك ، القصور الشديد ، وأن يكون قد ضاق عليهم في الجملة مجال كان يتسع لهم ، ونضبت عنهم موارد قد كانت تغزر ، وخذلتهم قوى كانوا يصولون بها ، وأن تكون أشعار شعراء النبي التي قالوها ، في مدحه عليه السلام ، وفي الردّ على المشركين ، ناقصة متقاصرة عن شعرهم في الجاهلية ، وأن يكون شعر حسان بعد الإسلام دون شعره قبله ، والكل كما ترى .
وتاسعاً : فإنّ الظاهر من مذهب الصرفة أنّ النقصان حدث فيهم من غير أن يشعروا به ، ولازمه أن لا تتم الحُجَّة عليهم ، لأنّهم وإن عدموا فضلهم في مجال الفصاحة والبلاغة ، لكنهم غير شاعرين بهذا النقصان . وإذا كانوا لا يعلمون أنّ كلامهم الذي يتكلمون به بعد التحدّي ، قاصرٌ عن الذي تكلموا به أمس ،
__________________
(١) لاحظ مناهل العرفان في علوم القرآن ، للزرقاني ، ج ٢ ، ص ٣١٤ .
(٢) الطراز ، ج ٣ ، ص ٣٩٣ .
إستحال أن يعلموا أنّ لنظم القرآن فضلاً على كلامهم الذي يسمع منهم . وإذا لم يتصوروا للقرآن تلك المزية ، كان كلامُهم بعد التحدّي عندهم مساوياً للقرآن . فلازم ذلك أن يعتقدوا أنّ في جمله ما يقولونه في الوقت ويقدرون عليه ، ما يشبه القرآن ويوازيه ، فعندئذٍ لا تتم الحُجَّة عليهم ، إذْ لهم أن يقولوا بأنّ أشعارنا وخطبنا لا تقصر عن قرآنك ، لأنّ المفروض أنّهم غير واقفين على نزول كلامهم عن الذروة والقمة السالفة ، ومتصورين أنّه بعد التحدي كما كان قبله . ومن كانت له هذه الحالة ، لا يتصور للقرآن مزية .
وعاشراً : فإنّ القائل بدخول النقصان على قرائح العرب ، إمّا أن يستثني النبي من ذلك ، أوْ لا . فعلى الأَوّل يجب أن يقول بأنّ النبيّ عندما كان يتلو عليهم قوله تعالى : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ ، عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (١) كان يستطيع أن يأتي بمثل القرآن ، ويقَدَر عليه .
وعلى الثاني يلزم أنّ النبوة صارت وسيلة لنقصان مرتبة النبي في حلبة الفصاحة والبلاغة ، اللهم إلّا أن يقولوا بأنّ النبي كان دونهم في الفصاحة والبلاغة قبل التحدي ، مع أنّ الأخبار تحكي عن أنّه كان أفصح العرب (٢) .
ولأجل وَهْن هذه النظرية ، صار السائد بين المسلمين عامّة ، وأكابر الشيعة خاصة ، كون القرآن معجزاً من حيث الفصاحة المفرطة والبلاغة السامية ، والنَّظم المخصوص ، والأسلوب البديع ، الذي جعله ـ مجتمعاً ـ كلاماً خارقاً للعادة . وزيادة في إيضاح الحال نورد ما ذكره الشيخ الطبرسي ( ت ٤٧١ ـ م ٥٤٨ ) في تفسير قوله سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (٣) ، قال :
__________________
(١) سورة الإسراء : الآية ٨٨ .
(٢) الإشكالات الثلاثة الأخيرة ، ذكرها الرماني في كتابه « النكت في إعجاز القرآن » ، ص ١٣٣ ـ ١٥٥ ، وقد نقلناها بتلخيص وتصرّف .
(٣) سورة الإسراء : الآية ٨٨ .
« المراد أنّه لئِن اجتمعت الجن والإنس متعاونين متعاضدين ، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته ونظمه على الوجوه التي هو عليها من كونه في الطبقة العُليا من البلاغة ، والدرجة القُصوى من حسن النظم ، وجودة المعاني وتهذيب العبارة ، والخلو من التناقض ، واللفظ المسخوط ، والمعنى المدخول على حدّ يشكل على السامعين ما بينهما من التفاوت ، لعجزوا عن ذلك ، ولم يأتوا بمثله ، ( وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ، أي معيناً على ذلك مثلما يتعاون الشعراء على بيت شعر » (١) .
وقال العلامة الحلّي في كشف المراد : « أمّا إعجاز القرآن ، فقد تحدّى به فصحاء العرب بقوله تعالى : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) ، ( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) ، ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) . والتحدي مع امتناعهم عن الإتيان بمثله ، مع توفّر الدواعي عليه ، إظهاراً لفضلهم ، وإبطالاً لدعواه ، وسلامة من القتل ، يدلّ على عجزهم وعدم قدرتهم على المعارضة » (٢) .
وعلى أيّ حال ، فإنّ القائلين بالصرفة ، وإن كانوا من أعلام العلماء ، لكن الحق لا يعرف بالرجال ، وإنّما يعرف بسلامة الإستدلال ، وقد خَفَّت هذه النظرية في ميزان النَّصَفة والبرهنة ، والحق أنّها ليست بنظرية قيّمة قابلة للإعتماد ، وخلافاً صالحاً للإحتجاج .
وليس كلُّ خلاف جاءَ معتبراً |
إلّا خلافٌ له حظٌّ من النَّظَر |
* * *
__________________
(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٤٣٨ .
(٢) كشف المراد ، ص ٢٢١ ، ط صيدا وممن أفاض الكلام في وجوه إعجاز القرآن ، ولم يعتمد على مذهب الصَّرْفة ، السيد عبد الله شُبّر في كتابه حق اليقين في أصول الدين ( ج ١ ، ص ١٥٠ ـ ١٥٤ ) .
وأما المقاربين لعصرنا فممن كتبوا فيه ، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه الدين والإسلام ( لاحظ كلامه في مجلة رسالة الإسلام ، العدد الثالث من السنة الثالثة ، ص ٢٩٨ ) والعلامة الكبير السيد هِبَة الدين الشهرستاني ( المعجزة الخالدة ، ص ٣٢ ـ ٤٣ ) ، والزرقاني في مناهل العرفاء ( ج ٢ ، ص ٣١٠ ) .
الأمر الثالث
عجز البشر عن الإتيان بمثله (١)
قد عرفت أنّ الرسول الأكرم تحدّى العالمين أجمع على الإتيان بكتاب مثل القرآن ، وتَنَزّل حتى تحدّاهم على الإتيان بعشر سُوَر ، بل سورةٍ من مثله .
وإنّ تحليل التاريخ المسطور يكشف لنا عجز العرب أمام هذا التحدّي ، وذلك أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، قد بقي يطالب العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن مدّة عشرين سنة ، مظهراً لهم النكير ، زارياً على أديانهم ، مسفّهاً آراءهم وأحلامَهم ، وهم أهل البلاغة والفصاحة ، وفيهم أساطينها وأركانها ، ولكنهم مع ذلك لم ينبثوا ببنت شفة ، ولم يجرء أحد منهم على إبداع كلام يعارض فيه القرآن ، وإنّما سلكوا مسلكاً آخر ، فنابذوه وناصبوه الحرب ، حتى هلكت فيه النفوس ، وأُريقت المُهَج ، وقطعت الأرحام ، وذهبت الأموال .
ولو كان ذلك في وسعهم وتحت إقدارهم ، لم يتكلّفوا هذه الأُمور الخطيرة ، ولم يتركوا السهل الدمث من القول إلى الحزِن الوعر من الفعل . هذا ما لا يفعله عاقل ، ولا يختاره ذو لبّ . وقد كانت قريش موصوفين برزانة الأحلام ووفرة العقول والألباب . وقد كان فيهم الخطباء المصاقع ، والشعراء المُفْلقون (٢) .
__________________
(١) قد عرفت أنّ إعجاز القرآن يتقوم بأمور ثلاثة : التحدي ، وخرق العادة ، وعجز البشر عن الإتيان بمثله .
(٢) لاحظ بيان إعجاز القرآن ، لأبي سليمان الخطابي ، ص ٩ .
قال الشيخ عبد القاهر : « إنّ المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف وطبائعهم التي لا تتبدل ، أن لا يسلِّموا لخصومهم الفضيلة ، وهم يجدون سبيلاً إلى دفعها ، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم . كيف ، وإنّ الشاعر أو الخطيب أو الكاتب ، إذا بلغه أنّ بأقصى الإقليم من يباهي بشعره ، أو بخطبته أو برسالته التي يعملها ، يَدْخُلُه من الأَنفَة والحميَّة ما يدعوه إلى معارضته ، وإلى أن يُظهر ما عنده من الفضل . هذا فيما لم ير ذلك الإنسان قطّ ، ولم يكن منه إليه ما يهزّ ويحرّك ، فكيف إذا كان المدعي بمرأى ومسمع منه ، فإنّ ذلك أدعى له إلى مباراته ، وأن يُعَرِّف الناس أنّه لا يقصر عنه ، أو أنّه منه أفضل ، فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مباراته ، فذلك الذي يُسْهِر ليله ويسلبه القرار ، حتى يتفرّغ مجهوده في جوابه ، ويبلغ أقصى الحدّ في مناقضته .
هذا ، فكيف إذا ظهر في صميم العرب وفي مثل قريش ، ذوي الأنفس الأبية ، والهمم العليّة ، من يَدّعي النبوة ويخبر أنّه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق ، ثم يقول وحجتي أنّ الله تعالى قد أنزل عليّ كتاباً عربياً مبيناً ، تعرفون ألفاظه ، وتفهمون معانيه ، إلّا أنّكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ، ولا بعشر سُوَر منه ، ولا بسورة واحدة ولو جمعتم جهدكم واجتمع معكم الجن والإنس . فلا يتصور منهم السكوت والسكون في مقابل هذا الإدعاء ، إلّا إذا كانوا عاجزين » (١) .
دَفْعُ تَوَهّم
ربما يتصور الغافل أنّ البلغاء المعاصرين لداعي الحق ، قد عارضوه بكتاب أو سور مثل كتابه وسوره ، ولكنه اختفى أثره في شعاع ضوء قدرة الإسلام والمسلمين وسلطانهم على الجزيرة وخارجها .
والجواب : إنّه رجمٌ بالغيب وتصوّر باطل لا تصدقه الموازين التاريخية والعلمية ، إذ لو كانت ثمة معارضة ومقابلة ، لما اختفى على العرب المعاصرين ولا
__________________
(١) ثلاث رسائل ، الرسالة الشافية ، لعبد القاهر الجرجاني ، ص ١١٠ .
على غيرهم . كيف ، وإن الإتيان بمثل معجزته ، يسجل للمعارض خلود الذكر وسموّ الشرف ، بل لَسَعى أعداء الإسلام في نشره بين المعتنقين لدينه وغيرهم ، لأنّهم يجدون فيه بغيتهم .
قال المحقق الخوئي ـ دام ظلّه ـ : « إنّ هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها ، وشَهَرتها في مواسمها وأسواقها ، وَلأَخذ منه أعداء الإسلام نشيداً يوقعونه في كل مجلس ، وذكراً يرددونه في كل مناسبة ، وعَلَّمَه السلف للخلف ، وتحفّظوا عليه تحفّظ المدعى على حجّته ، وكان ذلك أقرّ لعيونهم من الإحتفاظ بتاريخ السلف . كيف ، وأشعار الجاهلية ملأت كتب التاريخ وجوامع الأدب ، مع أنا لا نرى أثراً لهذه المعارضة » (١) .
يقول الخطابي : « إنّ هذا السؤال ساقط ، والأمر فيه خارج عمّا جرت به عادات الناس من التحدّث بالأُمور التي لها شأن ، وللنفوس بها تعلّق ، وكيف يجوز ذلك عليهم في مثل هذا الأمر الذي قد انزعجت له القلوب ، وسار ذكره بين الخافقين . ولو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عِظَمِ خطره ، وجلالة قدره ، لجاز أن يقال إنّه خرج في ذلك العصر نبي آخر وأنبياء ذوو عدد ، وتنزّلت عليهم كتب من السماء ، وجاءوا بشرائع مخالفة لهذه الشريعة ، وكتم الخبر فيها فلم يظهر ، وهذا ممّا لا يحتمله عقل » (٢) .
أقول : وممّا يدلّ على عدم وجود هذه المعارضة اللائقة بالذكر ، ما ضبطه التاريخ من كلام مسيلمة الكذاب وغيره ممّن ادّعوا النبوة وأرادوا أن يخدعوا بسطاء العقول ، فجاءوا بجمل تافهة ساقطة ، لا يقام لها وزن ولا قيمة ، ما سيأتي عرضه وتحليله بعد هذا البحث .
على أنّ القرآن ما خصّ العرب الجاهليين بالتحدّي ، بل تحدّى جميع الناس سالفهم وحاضرهم ، وهناك مجموعة كثيرة من العرب لا يعتنقون دين الإسلام ويتبعون ثقافات حديثة ، وتؤيدهم القُوَى الكبرى الكافرة . فلو كانت المكافحة
__________________
(١) البيان في تفسير القرآن ، ص ٥٢ .
(٢) بيان إعجاز القرآن ، ص ٥٠ .
أمراً ممكناً لقام هؤلاء بهذه المهمة وأراحوا أنفسهم من بذل الأموال الطائلة في طريق الحطّ من كرامة هذا الدين ، والنيل من نبيّه الأعظم وكتابه المقدّس ، ولاحتفلوا بذلك في أنديتهم ومؤتمراتهم العالمية ، وزعزعوا بذلك إيمان المسلمين ، الذي هو أُمنيتهم الكبرى . ومع ذلك ، لا ترى من هذا الأمر عيناً ولا أثراً .
* * *
ثم إنّه قد نقل في مواضع متفرقة من كتب التاريخ ، عبارات وجمل منثورة ، يشبه ـ بحسب الظاهر ـ أُسلوبها أُسلوب القرآن ، زُعم أنّها لأناس ادّعوا النبوّة ، وعارضوا بها القرآن الكريم ، وهذا ما نطرحه على بساط البحث فيما يلي .
* * *
هل عورض القُرآن الكريم ؟
إنّ المؤرخين ذكروا أسماء قوم زعموا أنّهم عارضوا القرآن الكريم ، وأنّ بعضهم ادّعى النبوة ، وجعل ما يلقيه معجزة لكي لا تكون دعواه بلا أداة وبيّنة . ونحن نذكر بعض من ذكرهم التاريخ ، وننقل بعض ما نسب إليهم ، حتى يُعلم أنّ ما سمّوه مُعارضاً للقرآن الكريم ، ليس إلّا كلاماً ساقطاً ، لا يقام له وزن ، بل لا يداني بلاغة كلام الأُدباء المعروفين .
١ ـ مسيلمة الكذاب
ذكر ابن هشام أنّ مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله : « مِنْ مُسَيْلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك . أمّا بعد ، فإنّي قد أُشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون » .
فلما جاء الكتاب ، كتب رسول الله إلى مسيلمة : « بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب ، السلام على من اتّبع الهُدى . أمّا بعد ، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمُتَّقين » .
وذلك في آخر سنة عشر
وذكر الطبري أنّ وفد بني حنيفة أتوا رسول الله مع مسيلمة ، فلما رجعوا وانتهوا إلى اليمامة ، ارتدّ مسيلمة وتنبّأ وتكذّب له ، وقال : « إنّي قد أُشركت في الأمر معه » . ثم جعل يسجع السجاعات ويقول لهم فيما يقول ، مضاهاةً للقرآن . وذكر من كلامه هذا :
« لقد أَنْعَمَ الله على الحُبْلى ، أَخْرَج مِنْها نَسَمَةً تَسْعى ، بين صِفاقٍ وحَشَى » (٢) .
إنّ هذين الكلامين ، يكفيان شاهداً على ما لم نذكره . أمّا كتابه ، فهو دليل على أنّه جعل دعوى النبوّة ، أداة للحكومة ، فلأجل ذلك قسّم الأرض بينه وبين رسول الله . فانظر إلى جواب رسول الله ، المُقْتَبس من القرآن الكريم : ( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّـهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (٣) .
وأما قرآنه المنحول ، المفترى على الله سبحانه ، فما هو إلّا جُمَل وفصول توازن سجع الكهان ، حاول أن يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه . وممّا اصطنعه في هذا المجال :
« الفيل ، ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل » .
« يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين ، نصفك في الماء ونصفك في الطين ، لا الماء تكدِّرين ، ولا الشارب تمنعين » .
وعلى هذا الغرار سائر كلمه المنسوبة إليه . وكلها تعرب عن جهل وحماقة فيه . ولذلك ، لما ذهب الأحنف بن قيس مع عمّه إلى مسيلمة ، وخرجا من
__________________
(١) السيرة النبوية لابن هشام ، ج ٢ ، ص ٦٠٠ . وتاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٣٩٩ .
(٢) تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٣٩٤ ، ولكن رواه في ص ٤٩٩ هكذا : « ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى ، الخ » . والصفاق هو الجلد الأسفل الذي يمسك البطن ، وهو الذي إذا انشق كان منه الفتق .
(٣) سورة الأعراف : الآية ١٢٨ .
عنده ، وقال الأحنف لعمّه . « كيف رأيته ؟ » ، قال : « ليس بمتنبيء صادق ، ولا بكذّاب حاذق » (١) .
ما هي حقيقة المعارضة ؟
معنى المعارضة أنّ الرجل إذا أنشأ خطبة أو قال شعراً ، يجيء الآخر فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين ، فيحكم بالفلج على أحد الطرفين . وليس معنى المعارضة أن يأخذ من أطراف كلام خصمه ، ثم يبدل كلمة مكان كلمة ، فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق ، كما وقع في ذاك الكلام المنسوب إلى مسيلمة . وها نحن نأتي ببعض المعارضات التي وقعت في العصر الجاهلي بين شاعرين كبيرين ، فهذا النابغة الذبياني يصف لَيْلَهُ في أشعاره المعروفة التي يعتذر فيها للنعمان ، ويقول :
كليني لهمّ يا أميمة ناصبِ |
وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكبِ |
|
تَطاوَلَ حتى قُلت ليس بِمُنْقَضٍ |
وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ |
|
بصدرٍ أراح الليْل عازِب همِّه |
تضاعف فيه الحزن من كل جانبِ |
ونرى أنّ امرىء القيس يقول في نفس الموضوع :
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله |
عليّ بأنواع الهُموم ليبتلي |
|
فقلت له لمّا تمطّى بصُلْبه |
وأردف أعجاز وناء بكلكلِ |
|
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي |
بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ |
|
فيا لكَ من ليلٍ كأن نجومه |
بكل مغار الفتل شدّت بِيَذْبُلِ |
هذه هي حقيقة المعارضة ؛ فقول النابغة متناه في الحسن ، بليغ في وصف ما شكاه من همّه وطول ليله ، ويقال إنّه لم يتبديء شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام ، خصوصاً قوله : « بصدر أراح الليلُ عازب همِّه » . وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة . إلّا أنّ في أبيات امرىء القيس من ثقافة الصنعة ،
__________________
(١) لاحظ ما نسب إليه في تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٤٩٨ ـ ٤٩٩ ، وص ٥٠٦ .
وحسن التشبيه ، وإبداع المعاني ، ما ليس في أبيات النابغة ، إذ جعل لليل صلباً وأعجازاً وكلكلاً ، وشبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضاً ، وجعل النجوم كأنّها مشدودة بحبال وثيقة ، فهي راكدة لا تزول ولا تبرح ، وجعل يتمنى تَصَرُّم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الرَّوْح ، ثم ارتجع ما أعطى واستدرك ما كان قدّمه وأمضاه ، فزعم أنّ البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف وانجلاء . . . إلى آخر ما في شعره من النكات .
فبمثل هذه الأمور تعتبر المعارضة ، فيقع بها الفضل بين الكلامين ، من تقديم لأحدهما ، أو تأخير ، أو تسوية بينهما . لا بمثل ما أتى به هؤلاء المهزّلون ، من الإكتفاء بالوزن والفواصل ، من دون نظر إلى المعاني . وهذا هو السائد في كل المعارضات التي نسبت إلى المعارضين .
وللمعارضة صور أُخرى ذكرها الخطابي في بيان إعجاز القرآن (١) .
مثال آخر
نرى أنّ جريراً يمدح بني تميم ويعرفهم بأنّهم كل الناس ، في قوله :
إذا غَضِبَتْ عليك بنو تميمٍ |
حسبت الناسَ كلُّهم غِضاباً |
ويقول أبو نواس في هذا الصدد :
ليس على الله بمستنكَرٍ |
أن يجمعَ العالَمَ في واحدٍ |
وقد زاد عليه أبو نواس زيادة رشيقة ، وذلك أنّ جريراً جعل الناس كلّهم بني تميم ، ولكنّ أبا نواس جعل العالم كلّهم في واحد . فكان ما قاله أبلغ وأدخل في المدح والإعظام (٢) .
إذا ظهرت لك حقيقة المعارضة ، فانظر إلى قوله سبحانه : ( الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) (٣) . وقوله سبحانه : ( الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا
__________________
(١) بيان إعجاز القرآن ، ص ٥٢ ـ ٦٠ .
(٢) لاحظ الطراز ، ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣ .
(٣) سورة الحاقة : الآيات ١ ـ ٣ .
أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ) (١) ، ثم ما أتَبَعٍ قوله هذا بذكر يوم القيامة وبيان أوصافها وعظيم أهوالها بقوله : ( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ) (٢) .
فأين هو من قول القائل : « الفيل ، ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل » . فإنّ مثل هذه الفاتحة تجعل مُقَدِّمَةً لأمر عظيم الشأن متناه الغاية ، فإذا بالمعارض يجعله مقدمة لذكر الذَّنَب والمشفر ، ويتصور أنّه تحققت المعارضة ، ويا ليته أتبع تلك المقدمة ، بما أعطيت هذه البهيمة العجماء من الذهن والفطنة التي به تُفْهِمُ سائسها ما تريده ، فلعلّه كان أقرب إلى مقصوده !! .
الشك في صحة نسبة هذه المعارضات
وهناك احتمال بأن لا تكون هذه الكلمات قد وضعت ليعارض بها القرآن ، وإنّما وضعها أعداء مسيلمة للتفكُّه والسَّمَر ، أو وضعت لغاية دينية وهي تأكيد إعجاز القرآن عندما تُقارَن هذه المفتريات إلى الآيات الباهرة في الكتاب العزيز . مع أنّ إعجاز القرآن ليس في حاجة إلى مثل هذا بعدما سكت فحول البلاغة عن معارضته .
وممّا يثير الشكّ في كون مسيلمة قائل هذه الجمل التافهة ، ما أثر عنه من بعض الكلمات التي هي في البلاغة بمكان عال ، كقوله عندما اجتمع مع سجاح التميمية : « هل لَكِ أن أَتَزَوَّجُكِ فآكلَ بقومي وقومك العرب ؟ » (٣) . فإن هذه الكلمة تدلّ على مكانة الرجل في الفصاحة وجميل التأتي لما يريد . فخيّل لسجاح أنّه سيأكل بقومه وقومها العرب ، وهل كانت تقصد سجاح غير هذا ؟ وهل كان يقصد من اتبعوها إلّا أكل العرب والإستيلاء عليهم ؟ فإذا قارنّا بين كلمته هذه ،
__________________
(١) سورة القارعة : الآيات ١ ـ ٣ .
(٢) سورة القارعة : الآيتان ٤ و ٥ .
(٣) تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٤٩٩ .
وما عزي إليه من المعارضات ، وجدنا فارقاً كبيراً بينهما في الأُسلوب والروح . فهذه الكلمة صادرة عن نفس جادة حازمة تتطلب أمراً عظيماً ، وأمّا ما نسب إليه فصادر عن نفس ماجنة عابثة ، لا تدرك ما وراء هذه المغامرة من المخاطر .
وهناك كلمة أُخرى نسبت إليه حين استحرّ القتل في قومه ، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل مكان ، وقد سأله قومه ما وعد به ، فقال : « أمّا الدين فلا دين ، قاتلوا عن أحسابكم » . فأي إيجاز ، وأيّ قوة ، وأيّ إيحاء وتحميس أقوى من هذا : قاتلوا عن أحسابكم ؟ والمنصف لا يشك في أنّ صاحب هذه الكلمات الموجزة ليس صاحب هذه المعارضات الركيكة المسهبة (١) .
٢ ـ طليحة بن خويلد الأسدي
قدم على النبي في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع ، فأسلموا . ثم لما رجعوا ، تنبّأ طليحة ، وعظم أمره بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وآله . وكان يزعم أنّ ذا النون يأتيه بالوحي .
ومن كلماته : « إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم ، وقبح أدباركم شيئاً . فاذكروا الله قياماً ، فإنّ الرغوة فوق الصريح » (٢) . فهو يريد بكلامه هيئة الصلاة من الركوع والسجود ، فكانت الصلاة في شرعه قياماً .
ومنها : « والحمام واليَمام ، والصّرد الصوام ، ليبلغ ملكنا العراق والشام » .
ولو كان الرجل ذا لبّ وعقل ، لما عارض القرآن الكريم بهذه الكلمات الساقطة . فانظر كيف حلف على أمر عظيم وهو بلوغ ملك العراق والشام بهذه الطيور !! .
وممّا يثير الشك في صحة عزو هذه الجمل الجوفاء إلى طليحة ، ما نقله
__________________
(١) لاحظ مقال الشيخ علي العماري المصري ، في « رسالة الإسلام » العدد الثالث من السنة الحادية عشرة .
(٢) معجم البلدان ، كما نقله الرافعي في إعجاز القرآن ، ص ١٩٩ ـ ٢٠٠ .
الطبري (١) عنه ، حيث قال : إنّ طليحة وفد على عمر ـ وكان طليحة قد أسلم ـ فقال له عمر : أنت قاتل عكاشة وثابت ـ يريد عكاشة بن محصن وثابت بن أكرم وهما سيدان من سادات المسلمين ، وفارسان من فرسانهم ـ فقال طليحة في جواب عمر : « ما تَهُمُّ من رجلين كرَّمهما الله بيدي ، ولم يُهِني بأيديهما » .
فهناك فرق واضح بين ما عزي إليه من المعارضات ، وعبارته أمام عمر ، فإن كلمته الأخيرة فيها روح أمكن بها الرجل أن يؤثر على عمر ، حيث قال له إن الرجلين ذهبا إلى الجنة ، فأكرمهما الله على يدي طليحة . وأي شيء أحبّ إلى عمر من أن تكون الجنة نصيب عكاشة وثابت ! .
٣ ـ سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية
إنّ قبيلة بني تغلب كانت راسخة في النصرانية ، فادعت سجاح المذكورة ، بعد وفاة رسول الله ، النبوة ، فاستجاب لها بعضهم ، وترك التنصّر ، وكان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ واشتدّت شوكة أهل اليمامة ، فنهدت له بجمعها فمن قولها المزعوم : « إنّه الوحي ، أعدّوا الركاب ، واستعدوا للنّهاب ، ثم أغيروا على الرباب ، فليس دونهم حجاب » . فلما توجهت لحرب مسيلمة قالت : « عليكم باليمامة ، ودفّوا دفيف الحمامة ، فإنّها غزوة صرامة ، لا يلحقكم بعدها ملامة » .
وخافها مسيلمة ، ثم اجتمعا وعرض عليها أن يتزوجها ، وقال : « هل لك أن أتزوجك ، فآكل بقومي وقومك العرب » ؟ فأجابت ، وانصرفت إلى قومها . فقالوا : « ما عندك » ؟ . قالت : « كان على الحق فاتبعته فتزوجته » . ولم تَدّع قرآناً ، وإنّما كانت تزعم أنّه يوحى إليها بما تأمر ، وتسجع في ذلك سجعاً ، كالنَّموذجين المتقدمين .
والتاريخ يحكي أنّها أسلمت بعدُ وحَسُن إسلامها (٢) . وفي الحقيقة لم تكن نبوتها إلّا زفافاً على مسيلمة ، وما كانت هي إلّا إمرأة ! .
__________________
(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٢٣٩ .
(٢) راجع فيما نقلناه تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٤٩٦ ـ ٥٠٠ .