الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٦١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الموت فيها على غيرنا كُتِب ، وكأنّ الحق فيها على غيرنا وَجَب ، وكأنّ الذي نُشَيّع من الأموات سَفَر ، عمّا قليل إلينا يرجعون » .

وأنت إذا قارنته بما ورد في الذكر الحكيم في هذا المضمار ترى التفاوت بينهما بينا .

يقول سبحانه : ( وَمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (١) .

فهما قد اتّفقا على وصف معنى واحد ، وهو الموت والعود إلى الآخرة ، وتصرّم الدنيا وانقضاء أحوالها ، وطيّها ، والورود إلى الآخرة ، ولكن القرآن متميز في تحصيل هذا المعنى وتأديته بأسلوب خاص ، تمييزاً لا يدرك بقياس ، ولا يعتوره التباس .

وهكذا ، لاحظ قول علي عليه السلام : « أَمْ هذا الذي أنشأه في ظُلُمات الأرحام ، وشُغُف الأستار ، نُطفة دهاقا ، وعلقة محاقا ، وجنينا ، ووليدا ، ويافعا » (٢) .

ثم قارنه إلى قوله تعالى : ( فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ، ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) (٣) .

فإنك ترى الأسلوبين يتغايران جوهراً ، ولا يجتمعان في شيء .

نوع آخر من المقارنة

وهناك نوع آخر من المقارنة يتجلى فيها التفاوت بوضوح بين الأسلوبين ، وهو ملاحظة خطَب الرسول الأعظم وأمير المؤمنين عليهما السلام ، عندما يخطبان

__________________

(١) سورة العنكبوت . الآية ٦٤ .

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٨٣ .

(٣) سورة الحج : الآية ٥ .

٣٢١
 &

ويعظان الناس بأفصح العبارات وأبلغها ، ثم يستشهدان في ثنايا كلامهما بآي من الذكر الحكيم ، فعندها يُلمس البون الشاسع بين الأسلوبين ، من دون مداخلة شك وريب .

خطَب النبي الأكرم يوم فتح مكة في المسجد الحرام ، فقال : يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء . الناس من آدم وآدم خلق من تراب ؛ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) » (١) .

وقال أمير المؤمنين عليه السلام ، في خطبته المعروفة بالشقشقية : « فما راعني إلّا والناس كعُرْف الضبع إليَّ ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد وُطىء الحسنان ، وشُقّ عِطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم . فلما نهضت بالأمر ، نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) » .

وقال عليه السلام في كلام له لأصحابه في بعض أيام صفين : « وطيبوا عن أنفسكم نفساً ، وامشوا إلى الموت مشيا سُجحاً ، وعليكم بهذا السواد الأعظم ، والرِّواق المُطَنَّب ، فاضربوا ثَبَجَه ، فإنّ الشيطان كامن في كِسْرِه ، قد قدّم للوثبة يداً ، وأخر للنكوص رِجلاً ، فصَمْداً صمدا ، حتى ينجلي لكم عمود الحق ؛ ( وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ ، وَاللَّـهُ مَعَكُمْ ، وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) (٢) .

وقال عليه السلام في خطبة له عند ذكر المشبهة : « لم يعقد غَيْبَ ضَميرِهِ على معرفَتِك ، ولم يُباشِر قَلْبَهُ اليقينُ بأنّه لا نِدَّ لك ، وكأنّه لم يسمع تَبَرُّؤَ التابعين من المتبوعين ، إذ يقولون : ( تَاللَّـهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٣) .

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ، ج ٣ ، ص ٢٧٣ . تاريخ الطبري ، ج ٣ ، ص ١٢٠ .

(٢) نهج البلاغة ، بتعليق محمد عبده ، ص ١١٥ .

(٣) نهج البلاغة ، بتعليق محمد عبده ، ص ١٦٤ .

٣٢٢
 &

وقال عليه السلام في خطبة له عند ذكر أهل القبور : « وكأن صرتم إلى ما صاروا إليه ، وارتهنكم ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور ، وبعثرت القبور : ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ، وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) » (١) .

وأخيراً ، يجب التنبيه على أنّ الأسلوب وحده لا يكفي لجعل الكلام فوق كلام البشر ، ما لم ينضم إليه الدعائم الثلاث الأخر ، خصوصاً سمو المعاني وعلو المضامين ، فإن له القسط الأكبر في جعل الأسلوب ممتازاً ، تمتدّ إليه الأعناق ، وإلّا فمحاكاة الأسلوبَ القرآني ملموس في كلام المدّعين للمعارضة مثل مسيلمة وغيره ، كما سيوافيك ، ولكنه يفقد المضمون الصحيح ، والمعنى المتزن ، وقد عرفت أن إعجاز القرآن بمعنى كونه خلاباً للعقول ، ومبهراً للنفوس رهن أمور أربعة توجب حصول تلك الحالات للإنسان فلا يجد في نفسه أمام القرآن إلّا السكوت والسكون .

وهناك من خفي عليه دور الأسلوب في رفع شأن القرآن ، وزَعَم أنّ إعجاز القرآن ينحصر في الدعائم الثلاثة الأُول قال : « إنّ الأُسلوب لا يمنع من الإتيان بأسلوب مثله ، لأنّ الإتيان بأسلوب يماثله ، سهل ويسير على كل واحد ، بشهادة أن ما يحكى عن مسيلمة الكذاب من قوله : « إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلّ لربِّك وجاهر » ، يشبه أسلوب القرآن » (٢) .

ولكنه غفل عن أنّ الأسلوب أحد الدعائم لا الدعامة المنحصرة ، حتى أنّ ما ادعاه من أن إعجاز القرآن لأجل الفصاحة ، والبلاغة ، وجودة النظم وحسن السياق ، ليست دعائم كافية لإثبات الإعجاز ، إذ في وسع البشر صياغة كلام في غاية الفصاحة والبلاغة مع حسن السياق وجودته ، ومع ذلك لا يكون معجزاً لإمكان منافحته ومقابلته والإتيان بمثله ، فيلزم على ذلك عدم كون القرآن من تلك الجهة معجزاً . والذي يقلع الإشكال أنّ الإعجاز رهن هذه القيود الأربعة ، وأنّ

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١٦٤ .

(٢) الطراز ، ص ٣٩٦ .

٣٢٣
 &

الإتيان بكلام فصيح غايتها ، وبليغ نهايتها ، منضماً إلى روعة النظم ، في هذا الأسلوب الخاص المعهود من القرآن ، أمر معجز . ولذلك لم تجد طيلة هذه القرون حتى يومنا هذا كلام يناضل القرآن في آياته وسوره .

ونضيف ، أنّه ليس هنا مقياس ملموس كالأوزان الشعرية لتبيين حقيقة أسلوب القرآن ، وإنّما هو أمر وجداني يدركه كل من له إلمام بالعربية .

ولأجل تقريب المطلب نذكر آية ، ثم نذكر مضمونها بعبارة أخرى ، فترى أنّ العبارة الثانية بشرية ، والأولى قرآنية .

قال سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ) (١) .

هذا هو الكلام الإلهي .

فلو أراد إنسان أن يصب هذا المعنى بصورة أُخرى ، يتغير الأُسلوب ، مهما بلغ في الفصاحة والبلاغة من العظمة ، فيقال مثلاً :

« ومن أعظم علاماته الباهرة ، جري السُفُن على الماء ، كالأبنية العظيمة ، إن يرد هبوب الريح تجري بها ، وإن يرد سكون الريح فتركد على ظهره ، أو يرد إهلاكها بالإغراق بالماء فيهلكهم بسيئات أعمالهم . وفي ذلك آيات للمؤمنين » .

فانظر الفرق بين الأُسلوبين ، والإختلاف في السبكين ، مضافاً إلى افتقاد الثانية بعض النكات الموجودة في الآية .

*       *      *

إلى هنا تمّ الكلام حول الدعائم الأربع التي بني عليها صرح الإعجاز ، وشيدت أركانه . غير أنّه بقي هنا أمور لا غنى عن الإشارة إليها والتنبيه عليها ، لأنّها تقع في طريق تكميل مباحث إعجاز القرآن البياني ، وفيما يلي بيانها .

*       *      *

__________________

(١) سورة الشورى : الآيات ٣٢ ـ ٣٤ .

٣٢٤
 &

التنبيه الأول

آيتان على منضدة التشريح

بعد أن وقفت على الدعائم الأربع التي يتحقق معها إعجاز القرآن ، فهلمّ إلى تحليل آيتين من آياته ، نستجلي فيهما حقيقة الإعجاز ، ونقف على المزايا الفريدة الموجودة فيهما ـ مضافاً إلى اشتمالهما على الدعائم الأربع ـ فسترى أنّ كل واحدة منهما كافية في إثبات أنّها أعلى من أن تكون مصنوعة للبشر ، وإن بلغوا في الفصاحة والبلاغة كلّ مبلغ .

١ ـ آية ( يَا أَرْضُ ابْلَعِي )

قال ـ عَزَّ مِنْ قائل ـ : ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ، وَغِيضَ الْمَاءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ، وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) .

هذه الآية الكريمة من بدائع آيات القرآن الكريم ، وهي التي أُنْزِلَتْ ، فأَنْزَلَتْ قُريشُ معلقاتها السبع عن جدران الكعبة ، وهي التي شغلت بال باقعة الأُدباء ، عبد الله بن المقفع (٢) ، وهي التي شغلت بال أساتذة البديع ، لأنّها

__________________

(١) سورة هود : الآية ٤٤ .

(٢) روى هشام بن الحكم ، قال : اجتمع ابن أبي العوجاء وأبو شاكر الديصاني ، وعبد الملك البصري ، =

٣٢٥
 &

اشتملت على عشرات الأنواع من المحسنات البديعية ، بينما هي لا تتجاوز سبعة عشر لفظاً . وإليك الإشارة إلى بعضها :

١ ـ المناسبة التامة بين « إِبْلَعي وأَقْلِعي » .

٢ ـ الإستعارة فيهما .

٣ ـ الطِّباق بين الأرض والسماء .

٤ ـ المجاز في قوله : « يا سماء » . فإنّ الحقيقة يا مطرَ السَّماء .

__________________

= وابن المقفع ، عند بيت الله الحرام يستهزئون بالحاج ، ويطعنون بالقرآن فقال ابن أبي العوجاء : « تعالوا ننقض كلُّ واحد منا ربع القرآن وميعادنا من قابل في هذا الموضع ، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلِّه ، فإنّ في نقض القرآن إبطال نَبوَّة محمد ، وفي إبطال نبوَّته إبطال الإسلام ، وإثبات ما نحن فيه » . فاتّفقوا على ذلك وافترقوا .

فلما كان من قابل ، اجتمعوا عند بيت الله الحرام ، فقال ابن أبي العوجاء : « أمّا أنا فمتفكر منذ افترقنا في هذه الآية : ( فلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ) ( سورة يوسف : الآية ٨٠ ) ، فما أقدر أن أَضُمَّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً ، فشغلتني هذه الآية عن التفكر في سواها » .

وقال عبد الملك : « أنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) ( سورة الحج : الآية ٧٣ ) ، ولم أقدر على الإتيان بمثلها » .

فقال أبو شاكر : « أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا ) ( سورة الأنبياء : الآية ٢٢ ) ، ولم أقدر على الإتيان بمثلها .

فقال ابن المقفع : « يا قوم إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر ، وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية : ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ، وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ، وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( سورة هود : الآية ٤٤ ) ، لم أبلغ غاية المعرفة بها ، ولم أقدر على الإتيان بمثلها » .

قال هشام بن الحكم : فبينما هم في ذلك إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق (ع) فقال : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( سورة الإسراء : الآية ٨٨ ) .

فنظر القوم بعضهم إلى بعض ، وقالوا لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهى أمر وصية محمد إلّا إلى جعفر بن محمد ، والله ما رأيناه قطُّ إلّا هِبْناه ، واقشعرت جلودنا لِهَيْبَتِه . ثم تفرّقوا مُقرِّين بالعجز . ( الإحتجاج للطبرسي ، ج ٢ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٣ ، ط النجف الأشرف ) .

٣٢٦
 &

٥ ـ الإشارة في : ( وَغِيضَ الْمَاءُ ) ، فإنّه عَبَّرَ به عن معان كثيرة ، لأنّ الماءَ لا يغيض حتى يُقْلِع مَطَرُ السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء .

٦ ـ الإرداف في قوله : ( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) فإِنَّه عَبّر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظه الحقيقي .

٧ ـ التمثيل في قوله : ( وَقُضِيَ الْأَمْرُ ) . فإنّه عبّر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بلفظ بعيد عن المعنى الموضوع .

٨ ـ التعليل ، فإنّ : ( وَغِيضَ الْمَاءُ ) ، علّة الإستواء .

٩ ـ صحّة التقسيم ، فإنّه استوعب أقسام الماء حالة نقصه ، إذ ليس إلّا احتباس ماء السماء ، والماء النابع من الأرض ، وغَيْض الماء الذي على ظهرها .

١٠ ـ الإحتراس في قوله : ( وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ، إذ الدعاء يشعر بأنّهم مستحقوا الهلاك احتراساً من ضعيفٍ يتوهم أنّ الهلاك لعمومه ، ربما يشمل غير مستحقه .

١١ ـ المساواة ، لأنّ لفظ الآية لا يزيد على معناها .

١٢ ـ حسن النسق ، فإنّه تعالى قصّ القِصّة وعطف بعضها على بعض بحسن الترتيب .

١٣ ـ ائتلاف اللفظ مع المعنى ، لأنّ كل لفظة لا يصلح معها غيرها .

١٤ ـ الإيجاز ، فإنّه تعالى أمر فيها ونهى ، وأخبر ونادى ، ونعت وسمى وأهلك وأبقى ، وأسعد وأشقى ، وقصّ من الأنباء ما لو شرح لاستغرق كتاباً مفرداً .

١٥ ـ التفهيم ، لأنّ أوّل الآية يدلّ على آخرها .

١٦ ـ التهذيب ، لأنّ مفرداتها موصوفة بصفات الحُسن ، إذ كل لفظة عليها رونق الفصاحة ، سليمة عن التنافر ، بعيدة عن البشاعة وتعقيد التركيب .

٣٢٧
 &

١٧ ـ حُسْن البيان ، لأنّ السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه .

١٨ ـ الإعتراض ، وهو قوله : ( وَغِيضَ الْمَاءُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) .

١٩ ـ الكناية ، فإنّه لم يُصَرِّح بمن أَغاض الماء ، ولا بمن قُضيَ الأمر ، ولا بمن سوى السفينة وأقرّها في مكانها ، ولا بمن قال : ( وَقِيلَ بُعْدًا ) . كما لم يصرّح بقائل : ( يَا أَرْضُ ابْلَعِي ) ، و( يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) في صدر الآية ، سالكاً في كل واحد من ذلك سبيل الكناية ، لأنّ تلك الأمور العظام لا تتأتى إلّا من ذي قدرة قهّارة لا يغالب . فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره سبحانه قائل : ( يَا أَرْضُ ابْلَعِي ) ، ( وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) ، ولا أن يكون غائض ما غاض ، ولا قاضي مثل ذلك أمر الهائل ، غيره .

٢٠ ـ التعرّض ، فإنّه تعالى عرّض بكل من سلك مسلكهم في تكذيب الرُّسل ظلماً ، وأنّ الطوفان وتلك الأُمور الهائلة ما كانت إلّا لأجل ظلمهم .

٢١ ـ التمكين ، لأنّ الفاصلة مستقرة في محلّها ، مطمئنة في مكانها غير قلقة ولا مستدعاة .

٢٢ ـ الإنسجام ، لأنّ الآية بجملتها منسجمة ، كالماء الجاري في السلاسة .

٢٣ ـ اشتمالها على بعض البحور الشعرية ، إذ قوله : ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ) ، على وزن « مستفعلن مستفعلن فاعل » . و( يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) على وزن « مفاعلن مفاعل » .

٢٤ ـ تنزيل من لا يعقل منزلة من يعقل في النداء والمخاطبة .

٢٥ ـ الإبهام في قوله : ( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) وهو إسم الجبل الصغير ، والزق المنفوخ الذي تستقر عليه السُفُن المائية .

٢٦ ـ المحافظة على فواصل الآيات فإنّ الرويّ في قوله : ( بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) مطابق للآيات المتقدمة والمتأخرة .

٣٢٨
 &

٢٧ ـ التكرار ، كما في « الماء » ، معرَّفاً باللام تارة وبالإضافة أُخرى .

٢٨ ـ تخيّل مالكية الأرض ، بحيث لها سلطة في إرجاع الماء .

إلى غير ذلك من المحاسن البديعية التي يدركها الممعن في الآية .

فهذه بعض الميزات الواردة في الآية الكريمة ، وليس كل واحد منها ولا جميعها أمراً معجزاً ، ولكن المجموع أعطى للآية نظماً خاصاً ، وأُسلوباً بديعاً ، يعرف الذوق العربي أنّه يغاير سائر الأساليب والنظم الكلامية . وهذا الجمال الطبيعي ، يخلق في النفس جذبة روحية خاصة ، كأنّها كهرباء القلوب ومغناطيس الأرواح ، ولأجل ذلك يقول الكرماني في كتاب « العجائب » :

« أجَمع المعاندون على أنّ طَوْقَ البشر قاصرٌ عن الإتيان بمثل هذه الآية ، بعد أن فَتّشوا جميعَ كلام العرب والعجم ، ولم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها ، وحسن نظمها ، في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال » (١) .

ويقول العلامة الشهرستاني بأنّه أفرد بلاغة هذه الآية بالتأليف (٢) .

٢ ـ آية ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ )

قال تبارك وتعالى : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ، وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٣) .

وهذه الآية الكريمة من بدائع آيات القرآن ، وهي على وجازتها ، قد جمعت فعلين من الماضي ( أوحينا ، وخِفْتِ ) ، وفعلين من الأمر ( أرضعيه ، وأَلقيه ) ، وفعلين من النهي ( لا تخافي ولا تحزني ) ، ووزنين من اسم الفاعل ( رادّوه ،

__________________

(١) العجائب ، نقلاً عن المعجزة الخالدة للشهرستاني ، ص ٦٠ .

(٢) المصدر السابق .

(٣) سورة القصص : الآية ٧ .

٣٢٩
 &

جاعلوه ) ، ووزنين من إسم المفعول ( موسى ، مرسل ) ، وإسمين خاصين ( موسى ، وأُمّه ) .

ثم قد تكررت فيها « فاء الجواب » مرتين ( فإذا ، فأَلقيه ) ، وحرف « إلى » مرتين ( إلى أُم موسى ، إليك ) . ثم قد كرر الخوف مرتين ، وعبّر عن أُمّ موسى باسم مزدوج بدل أن يسميها باسمها .

وفيها نبأ غيبي وهو الإخبار بردّ موسى إلى أُمّه ، وفيها وعدان : الردّ ، والنبوّة .

فاجتماع هذه الأمور في الآية يوجد في الإنسان عند سماعها ، لذّة وانجذاباً واستغراقاً ، وتطرأ عليه الحالة التي طرأت على عتبة بن ربيعة عندما سمع من رسول الله آيات من سورة فصلت ، فألقى يديه خلف ظهره ، معتمداً عليهما مذهولاً مبهوتاً ، كما تقدّم .

*       *      *

٣٣٠
 &

التنبيه الثاني

مزايا القُرآن البيانية

قد تعرفت على الدعائم الأربع المحقِّقة لإعجاز القرآن ، وكفى بذلك عظمة لهذا الكتاب . غير أنّ لهذه المعجزة الخالدة مزايا أخرى يناسب ذكرها هنا ، وترجع جميعها إلى المزية البيانية التي نحن بصدد بيانها . وحيث إنّه لا يسع المقام الإتيان بجميع ما ذكره المحققون ، فنأتي ببعضه ، الذي يتجلى معه هذا الكتاب السماوي بمزاياه البيانية المنفردة .

١ ـ الصراحة في بيان الحقائق

إنّ الصراحة إحدى الميزات التي يتصف بها القرآن الكريم ، وتظهر بوضوح في آياته . فمن ذلك صراحته في التنديد بالوثنية ، والطعن في الأصنام المعبودة يومذاك ، ودعوته إلى تحطيمها .

يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) (١) .

إنّ الصراحة وليدة الشجاعة المختمرة بالإيمان ، في حين أنّ السكوت عن

__________________

(١) سورة الحج : الآية ٧٣ .

٣٣١
 &

الحق ، أو التلوّن والتحفظ في الحديث ، دليلٌ على جُبْن القائل وعدم اعتقاده بالقول الذي يلقيه على الناس ، وتخوّفه من المستمعين .

غير أنّ هذا الكتاب المعجز ، منزّه عن هذه الوصمات . فهذا هتافه في أُذن الكافرين ، يقول : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (١) .

هذه هي سيرة الأنبياء العظام ، فهم يمتلكون الصراحة في البيان ، ويمتازون بها عن غيرهم ، فيعلنون الحقائق ، بلا تتعتع ولا تحفّظ . هذا هو إبراهيم الخليل ـ بطل التوحيد ـ يندد بعمل عبدة الأصنام بقوله : ( أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (٢) .

قل لي بربِّك ، هل تجدُ كلاماً أصرح وأمتن وأبلغ في التنديد بمن يتخذ ولياً غير الله من قوله سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (٣) .

وليست الصراحة ميزة القرآن في مجال المعارف والعقائد فحسب ، بل هي سارية أيضاً في مجال العلاقات السياسية فها هو يقول : ( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ) (٤) .

هذه إلمامَةٌ عابرة في تبيين هذه الميزة ، تُعْرِب عن إيمان القائل وإذعانه بما يقول ويطرح في مختلف المجالات والأصعدة .

__________________

(١) سورة الكافرون .

(٢) سورة الأنبياء : الآيتان ٦٦ و ٦٧ .

(٣) سورة العنكبوت : الآية ٤١ .

(٤) سورة التوبة : لاحظ الآية ١ .

٣٣٢
 &

٢ ـ علو الجهة المنزل منها القرآن

ومن مزايا بيان القرآن ، تَكَلُّمُه من موقع الإستعلاء وتحدّثه بلسان من يملك الأمر كلّه ، ومن بيده ملكوت السموات والأرض ، وفي قبضته كلُّ شيء . فهو في مخاطباته ومجادلاته وأوامره ونواهيه ، وفي وعده ووعيده ، وفي أمثاله وقصصه ، وفي مواعظه ونُذُره ، يتَّسم بالعلو الشامخ ، ويتصدر المقام الرفيع الذي لا يُنال ، ويتحدث إلى الناس حديث من يملك كل شيء ، ومن يقوم على كل شيء ، ومن يدبّر ويُقَدّر ، دون أن يقف أحد أمام سلطانه ، فاستمع لقوله سبحانه :

( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ، مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ) (١) .

وقوله سبحانه : ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٢) .

وقوله سبحانه : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، فَسَيَقُولُونَ اللَّـهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ) (٣) .

٣ ـ العفة والإحتشام

إِمتاز القرآن المجيد في تعابيره بالنزاهة والعفة ، مع أنّه ظهر في بيئة لا تعرف للعفَّة مفهوماً ، فلا تجد فيه تعبيراً سيئاً ، ومَنْهجاً ركيكاً ، يخالف الأدب حتى في

__________________

(١) سورة المُلْك : الآيات ١ ـ ٤ .

(٢) سورة المُلْك : الآيتان ١٣ و ١٤ .

(٣) سورة يونس : الآيتان ٣١ و ٣٢ .

٣٣٣
 &

سرده لقصة غرامية ، هي قصة يوسف وزُلَيْخاء ، قِصَّةُ عشق امرأة حسنة فاتنة ، لفتى طاهرٍ جميلٍ ، يُخْجِل وجهُهُ القَمرَ .

إنّ الكاتب في حقل القصص عندما يسرد أمثال هذه القصة الغرامية ، لا يملك زمام قلمه ، ويخرج عن النزاهة والعفة ، ولكن القرآن قد شرح تلك القصة وصوّرها ووضع خطوطها الغرامية بدقة فائقة في البيان ، مع وافر الإحتشام والإتزان .

فعندما يعرض اجتماع هذه المرأة الجميلة ، مع ذاك الشاب الطاهر ، واختلاءهما في بيتها ، وتعلّقها به ، يشرح تلك الواقعة من غير أن يثير الغريزة الجنسية الحيوانية ، لئلا يناقض هدفه الذي لأجله جاء بها ويقول :

( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ ، وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ، قَالَ مَعَاذَ اللَّـهِ ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ، إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) (١) .

ففي هذه الآية تتجلى عفة القرآن واحتشامه من جهات :

أولاً : استعمل كلمة « راود » ، وهي تستعمل في الإصرار على الطلب مع اللّين والعطف ، فكأنّ زليخا طلبت من يوسف ما طلبت بإصرار وحنان .

وثانياً : لم يصرّح باسم المرأة ، حفظاً لكرامتها ، وإنّما عبّر عنها بقوله : « التي هو في بيتها » ، مشيراً ـ إضافة إلى ذلك ـ إلى قوة الضغط وشدّة سيطرتها على يوسف ، فزمام أمره بيدها ، ولا مجال للهروب والتخلّص منها ، لأنّه في بيتها .

وثالثاً : قالت الآية : ( وغَلَّقَتِ الْأَبْواب ) ، إعراباً عن أَنّ يوسف لم يجد باباً للفرار ، وكانت مقدمات الإستسلام مهيئة .

ورابعاً : وقالت الآية : ( هَيْتَ لَكَ ) ، وهذه كناية عن دعوتها إيّاه إلى التلذذ الجنسي ، لكن بكناية فائقة ، فإنّ هَيْتَ لك ، اسم فعل بمعنى هَلمّ .

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٢٣ .

٣٣٤
 &

خامساً : أجاب يوسف طلبها بقوله : ( مَعَاذَ اللَّـهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) ، أي أعوذ بالله معاذاً . فيعرب عن أنّ يوسف لم يعرف خيانة ، ولم يَدُرْ بخلده أنْ يخون صاحبه ( العزيز ) ومُنْعِمَه ومربّيه ، في امرأته . والضمير في « إنّه » ، يرجع إلى « العزيز » . ولأجل ذلك بعدما اتّضحت الحقيقة ، وبانت خيانة الإمرأة ، أرسل يوسف من أعماق زنزانته إلى الملك ، ووزيره « العزيز » ، بقوله : ( ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) (١) .

وفي القصة مسرحية غرامية أُخرى هي دعوة إمرأة العزيز ، نِسْوَةَ أَشرافِ المدينة ، إلى مأدُبة ليقفن على بهاء جمال هذا الفتى ، وأَنّ التعلق به ليس أَمْراً اختيارياً ، بل كل من رآه يتعلق فؤاده به في أول لقاء . ويحكيه القرآن بقوله :

( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ، إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ، وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا ، وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّـهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) (٢) .

أنظر إلى العفة والإحتشام في التعبير عن جمال يوسف حيث قال : ( أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّـهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) .

كل ذلك يعرب عن أنّ القصة سُردت على أساس الدعوة إلى العفة والعبرة ، والإنصراف عن الإنهماك في الشهوات . فهل يستطيع إنسان أُمِّي ، غير متعلم ، ترعرع بين شعب متوحش ، أن يعرض تلك المسرحية الغرامية ، ولا يخرج عن حدود العفة ونطاق النزاهة ؟ كلا ، لا (٣) .

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٥٢ . لاحظ الميزان ، ج ١١ ، ص ٢١٥ .

(٢) سورة يوسف : الآيتان ٣٠ و ٣١ .

(٣) أضف إلى ذلك أنّ القرآن يستمد في بيان ما يستقبح التصريح به ، بالكلمات الكنائية ، ككلمات « الفَرْج » ( لاحظ المؤمنون : الآية ٥ ) و « الغائط » ( المائدة : الآية ١٦ ) فإنّ الفرج ليس عَلَماً للموضع الخاص من المرأة ، وإنّما يراد منه الخلل بين الشيئين . كما أنّ الغائط ، بمعنى الموضع المنخفض ، وقس على ذلك غيرها من الكلمات التي جاءت في بيان المسائل الراجعة إلى الزوج =

٣٣٥
 &

هذه بعض الميزات الموجودة في بيان القرآن الكريم ، والممعن في الذكر الحكيم يجد له ميزات كثيرة سامية يستنتج من مجموعها أنّ هذا الكتاب ليس نتاج وإبداع إنسان أُمّي ولد ونشأَ في أُمّة متقهقرة ، بل هو كتاب إلهي نزل على ضميره وقلبه ؛ ﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِين ) (١) .

__________________

= والزوجة كقوله تعالى : ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) ( النساء : الآية ٢١ ) ، وغيره ، فكلها كنايات .

(١) اقتباس من قوله سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ) ( سورة الشعراء : الآيتان ١٩٣ و ١٩٤ ) .

٣٣٦
 &

التنبيه الثالث

مذهب الصَّرْفة (١)

اهتمّ المسلمون من الصدر الأول بالبحث عن وجه إعجاز القرآن ، وكان الرأي السائد بينهم في إعجازه هو كونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القُصْوى من البلاغة ، مع ما له من النَّظم الفريد ، والأسلوب البديع . وهذه الأُمور الأربعة أضْفَتْ على القرآن وصف الإعجاز حتى صار معجزة القرون والأعصار .

نعم نَجَم في القرن الثالث مذهب اشتهر بمذهب الصَّرْفة ، وإليه ذهب جماعة من المتكلمين ، وهو يقوم على أساس أنّ العرب لم يقدروا على الإتيان بمثل القرآن ، لا لإعجازه بحدّ ذاته ، وأنّ القرآن بلغ في فرط الفصاحة والبلاغة ، وروعة النظم وبداعة الأُسلوب شأواً لا تبلغه الطاقة البشرية ، بل لأجل أنّه سبحانه صرَفَ بُلَغَاء العرب وفصحاءَهم عن المعارضة بطريق من الطُرق الآتي ذكرها .

وقد حُكي هذا المذهب عن أبي إسحاق النَّظام ، وهو أقدم من نسب إليه هذا القول . وتبعه أبو إسحاق النصيبي ، وعبّاد بن سليمان الصَّيمري ، وهشام بن عمرو الفوطي ، وغيرهم .

__________________

(١) التاء في الصَّرفة ، تاء المصدرية التي تلحق كثيراً من المصادر مثل : الرحمة ، والرأفة ، وغيرهما .

٣٣٧
 &

واختاره من الإمامية الشيخ المفيد ( ت ٣٣٨ ـ م ٤١٣ ) في أوائل المقالات ، وإن حُكي عنه غيره . والسيد المرتضى ( ت ٣٥٥ ـ م ٤٣٦ ) في رسالته الخاصة بهذا الموضوع التي أسماها بـ « الموضح عن جهة إعجاز القرآن » . والشيخ الطوسي ( ت ٣٨٥ ـ م ٤٦٠ ) في شرحه لجمل السيد ، وإن رجع عنه في كتابه « الإقتصاد » . وابن سنان الخفاجي ( م ٤٦٤ ) في كتابه « سِرّ الفصاحة » .

ولما كان هذا المذهب قد أحاط به الإبهام ، واضطربت في تفسيره الأذهان ، فأقرب ما يمكن اعتماده في الوَقوف على حقيقته ، الرجوع إلى نفس عبارات المتمسكين به .

حقيقة الصَّرْفَة

إنّ القائلين بأنّ القرآن معجز من حيث الفصاحة ، والبلاغة ، وروعة النظم وجماله ، وبداعة الأُسلوب والسَّبك ، يقولون بأنّ القرآن وصل من فرط كمالِهِ فيها إلى حدّ تقصر القدرة البشرية عن الإتيان بمثله ، من غير فرق بين السابِقين على البِعثة واللاحقين عليها .

وأمّا القائلون بمذهب الصَّرْفة ، فإنهم يعترفون بفصاحة القرآن وبلاغته ، وروعة نظمه وبداعة أُسلوبه ، لكنهم لا يرونه على حدّ الإعجاز ، بل يقولون : ليس الإتيان بمثله خارجاً عن طوق القدرة البشرية ، فهي كافية في مقام المعارضة ، وإنّما العجز والهزيمة في حلبة المبارزة لأمر آخر ، وهو حيلولته سبحانه بينهم وبين الإتيان بمثله .

وبعبارة أخرى : إنّ القائلين بكون إعجاز القرآن من جهة فصاحته وبلاغته ونظمه وأُسلوبه ، يقولون إنّ الإعجاز إنّما يتعلق بأمر ممكن بالذات ، لأنّه لو كان محالاً بالذات ـ كاجتماع النقيضين وارتفاعهما ـ فلا تتعلق به القدرة مطلقاً ، سواء أكانت قدرة إلهية أو قدرة بشرية . وعلى ضوء ذلك ، فالإتيان بكتاب مثل القرآن ، أمر ممكن بالذات ، وليس أمراً محالاً بالذات ، غير أنّه لا تكفي لذلك القدرة البشرية العادية . فالإتيان بمثله محال عادي ، لا تزول استحالته إلّا أن يتجهّز الآتي بمثله بقدرة فوق القدرة العادية .

٣٣٨
 &

وأمّا القائلون بالصرفة ، فيقولون إنّ معارضة القرآن والإتيان بمثله ليس محالاً عادياً حتى يحتاج فيه وراء القدرة العادية إلى قدرة خارقة . ولأجل ذلك كان يوجد في كلام السابقين على البعثة من فُصَحاء العرب وبُلَغائهم ، ما يضاهي القرآن في تأليفه ، غير أنّه سبحانه لأجل إثبات التحدّي ، حال بين فصحاء العرب وبلغائهم ، وبين الإتيان بمثله بأحد الأمور الثلاثة التالية :

١ ـ صَرْف دواعيهم وهممهم عن القيام بالمعارضة ، فكلّما هموا بها وجدوا في أنفسهم صارفاً ودافعاً يصرفهم عن منازلته في حلبة المعارضة . ولم يكن ذلك لعدم قدرتهم على الإنصداع لهذا الأمر ، بل إنّ المقتضي فيهم كان تامّاً غير أنّ الدواعي والهمم صارت مصروفة عن الإلتفات إلى هذا الأمر ، بصرف الله سبحانه قلوبهم عنه ، ولولا ذلك لأتوا بمثله .

٢ ـ سَلْبُهُمْ سبحانه العلومَ التي كانت العرب مالكة لها ، ومتجهزة بها ، وكانت كافية في مقابلة القرآن . ولولا هذا السلب ـ وكان وضع العرب حال البعثة كوضعهم بعدها ـ لأتوا بمثله .

٣ ـ أَنَّهم كانوا قادرين على المعارضة ، ومجهزين بالعلوم الوافية بها ، مع توفّر دواعي المعارضة وعدم صرف هِمَهِم عنها ، ولم يمنعهم عنها إلَّا إلجاؤه تعالى ، فتقهقروا في حلبة المعارضة لغلبة القوة الإلهية على قواهم . وهذا نظير من يريد أن يتحرّك نحو المطلوب ، فيحال بينه وبين مقصده بقاهر يصدُّه عن التقدم .

وفي خلال عبارات أصحاب هذا القول ، إيماءات إلى هذه الوجوه المختلفة (١) ، التي يجمعها قدرة العرب على معارضة القرآن .

١ ـ قال النظام : « الآية والأُعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب ، فأمّا التأليف والنَّظم ، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله

__________________

(١) وقد أشار إلى هذه الوجوه الثلاثة الإمام يحيى بن حمزة العلوى في كتابه « الطراز » ، ج ٣ ، ص ٣٩١ ـ ٣٩٥ ، ط مصر سنة ١٣٣٢ هـ ـ ١٩١٤ م .

٣٣٩
 &

منعهم بمنعٍ وعجزٍ أَحدثهما فيهم » (١) .

وقال أيضاً في إعجاز القرآن : « وإِنَّه من حيث الإخبار عن الأُمور الماضية ومنع العرب عن الإهتمام به جبراً وتعجيزاً ، حتى لو خلّاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله ، بلاغةً وفصاحةً ونظماً » (٢) .

٢ ـ وقال أبو الحسن علي بن عيسى الرماني ( ت ٢٩٦ ـ م ٣٨٦ ) : « أمّا الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة ، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أَهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة ، وذلك خارج عن العادة ، كخروج سائر المعجزات التي دلّت على النبوة ، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر منها للعقول » (٣) .

٣ ـ وقال أبو سليمان حمد بن محمد إبراهيم الخطابي ( ت ٣١٩ ـ م ٣٨٨ ) : « وذهب قوم إلى أنّ العلّة في إعجازه الصَّرفة أي صرف الهِمَم عن المعارضة ، وإن كانت مقدوراً عليها ، غير معجوز عنها ، إلّا أنّ العائق من حيث كان أمراً خارجاً عن مجاري العادات ، صار كسائر المعجزات فقالوا : ولو كان الله عز وجل بعث نبياً في زمان النبوات ، وجعل معجزته في تحريك يده أو مَدّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه ، ثم قيل له ما آيتك فقال آيتي أن أُخرج يدي أو أَمُدّ رجلي ولا يمكن أحداً منكم أن يفعل مثل فعلي ، والقوم أصحاء الأبدان ، لا آفة بشيء من جوارحهم ، فحرّك يده أو مدّ رجله فراموا أن يفعلوا مثل فعله ، فلم يقدروا عليه ، كان ذلك آيةً دالّة على صدقه . وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي ، ولا إلى فخامة منظره ، وإنّما تعتبر صحتها خارجاً عن مجرى العادات ناقضاً لها ، فمهما كانت بهذا الوصف ، كانت آية دالّة على صدق من جاء بها . وهذا أيضاً وجه قريب » (٤) .

__________________

(١) نقله الأشعري في : « مقالات الإسلاميين » ج ١ ، ص ٢٢٥ . ولاحظ « الطراز » ، ج ٣ ، ص ٣٩١ ـ ٣٩٥ ، ط مصر سنة ١٣٣٢ هـ ـ ١٩١٤ م .

(٢) نقله الشهرستاني في « المِلَل والنِحَلْ » ، ج ١ ، ص ٥٦ ـ ٥٧ .

(٣) النكَت في إعجاز القرآن ، ص ١٠١ .

(٤) بيان إعجاز القرآن ، للخطابي ، ص ٢١ . غير أنه يشير في ذيل كلامه إلى أنّ هذه النظرية يخالفها قوله سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ ) الآية . وسيوافيك نصّه عند نقد النظرية .

٣٤٠