الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
لِلنَّاسِ ) (١) . فالحديد وأضرابه ، هو الذي يدير عجلة الحضارة ، وبفقدانه شللها التام .
وأشبه الكفر والظلم ، الزبد الذي يرغو على وجه الماء والمعادن المنصهرة ، لا يستفاد منه ولا يعتمد عليه في شيء .
٢ ـ إنّ الباطل ربما يصير حجاباً عن الحق ، فيكون مانعاً بينه وبين طالبه ولكن هذا الحجاب سرعان ما يزول ويتجلى وجه الحقيقة بصورته الواقعية ، تماماً كما أنّ الزبد يعلو وجه الماء ويوجب برغوته حدوث غشاوة ساترة لما تحته ، والإنسان الجاهل يحسب أن لا شيء تحته سوى العفن والطين والتراب ، ولكن سرعان ما تخمد رغوته ، وتنقشع غشاوته ، ويتجلى الماء صافياً زلالاً ، أو الأتربة المنصهرة ، معادن وفلزات نفيسة ونافعة .
فالأفكار الإلحادية ربما تستر وجه الحق ، وتحول بينه وبين طالبه ، لكن تعلقت مشيئته سبحانه على إحقاق الحق ومحو الباطل .
قال سبحانه : ( وَيَمْحُ اللَّـهُ الْبَاطِلَ ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) (٢) .
وقال سبحانه : ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) (٣) .
٣ ـ إنّ الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات ، خال في نفسه عن الصور والأقدار ، وإنّما يَتَقَدَّر من ناحية الأشياء ، أنفسها ، كماء المطر النازل من السحاب على ساحة الأرض ، خال في نفسه عن الصور والأقدار ، وإنّما يحتمل من القدر والصورة ما يطرء عليه من ناحية قوالب الأودية ، ومجاري الأنهار ، والسواقي ، والأحواض والبرك والمستنقعات ، المختلفة في الأقدار والصور .
فالحق فيض إلهي ، يأخذ منه كل إنسان بحسب لياقته وسعة ذهنه . فمن
__________________
(١) سورة الحديد : الآية ٢٥ .
(٢) سورة الشورى : الآية ٢٤ .
(٣) سورة الإسراء : الآية ٨١ .
الناس من يكون واسع الصدر ، كامل الإستعداد فيأخذ منه القسط الأكبر ، ومنهم من لا يزيدون عن معشار ذلك .
ويُلَوّح إلى ما ذكرنا آيات كثيرة ، منها قوله سبحانه : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (١) .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّ هذه القلوب أوعيةٌ ، فخيرها أوعاها » (٢) .
٤ ـ إنّ الباطل في ثورانه وجولانه في أمده القصير ، فرع اعتماده على الحق ، واتّخاذه واجهة لأعماله . فلو تجرّد عن الحق بالكلية ، لما كان له حتى هذا السهم القصير ، كالزبد لا يتجلى إلّا بركوبه الماء ، كما أشار إليه سبحانه بقوله : ( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا ) (٣) .
٥ ـ إنّ الباطل لا يظهر إلّا في الأجواء الصاخبة والمجتمعات المتضاربة . كالزبد الذي لا يظهر إلّا عند تدفق المياه واجتياحها القنوات الضيقة ، فإذا انتهت إلى السهول الفسيحة ، زال الزبد شيئاً فشيئاً ، ولا يبقى بعده إلّا الماء الزلال . وكذلك الزبد الناجم عند عملية الصهر ، فطالما أنّ المعادن في حالة الغلي والفَوَران يكون الزبد على وجهها ، فإذا هدأت النار وتوقف الغليان لم يبق إلّا المعادن الخالصة .
فهذه بعض التصويرات للمفاهيم القيمة العميقة التي جاءت بها هذه الآية المباركة على وجازتها ، وكلما تعمّق الإنسان فيها انفتحت له أبواب من المعارف
__________________
(١) سورة الحجر : الآية ٢١ .
(٢) نهج البلاغة ، قِصار الكَلِم ، رقم ١٤٧ .
(٣) خذ على ذلك شاهداً ما يستتر به الرأسماليون في نهبهم لثروات بلدانهم من الأقنعة الحقة ، كإنشاء النقابات لعمّالهم ، والضمان الإجتماعي وضمان الشيخوخة والتقاعد ، وغير ذلك الكثير . وما تتستر به الحكومات الإستعمارية من عناوين حقة ، كرعاية حقوق الإنسان ، ونبذ التمييز العنصري ، ومكافحة الإرهاب ، وحرية الرأي والتعبير ، وغير ذلك ، وكله لتغطية الوجه القبيح لإرهابهم وامتصاصهم لثروات الشعوب المستضعفة ، وتضعيف عقائدهم ، والمسّ بمقدساتهم . . .
العُلْيا ، والحقائق السامية ، وأقَرَّ بأنّ هذا القرآن : « باطنه عميق » ، وأنّ « أعلاه لمثمر ، وأسفله لمُغْدق » .
* * *
٥ ـ آية تحتمل مليوناً وماءتين وستين ألف احتمال
هناك نمط آخر من عمق المعنى ، يغاير النمط السابق منه ، وهو أنّه يوجد في القرآن آيات يتردد المقصود منها بين احتمالات تدهش العقول وتحيّر الألباب ، وهي بَعْدُ معتمدة على أريكة حسنها ، متجملة في أجمل جمالها ، متحلية بحليِّ بلاغتها وفصاحتها . ونذكر من هذا النمط نموذجاً واحداً ، ونشير في آخر الكلام إلى نموذج آخر :
قال سبحانه : ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ، يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ ، هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ، فَلَا تَكْفُرْ ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ، وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ، وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (١) .
إنّ هذه الآية تحتمل من المعاني الكثيرة ما يدهش الإنسان ويثير إعجابه ، وهي ناشئة من كيفية تبيين مفرداتها وجملها . وهذه الإحتمالات يراها المتتبع في كتب التفاسير ، وهي :
١ ـ ما هو المراد من الضمير في قوله : « اتّبعوا » ، أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان ، أو الذين في عهد رسول الله ، أو الجميع ؟ .
__________________
(١) سورة البقرة : الآيتان ١٠٢ و ١٠٣ .
٢ ـ ما هو المراد من قوله : ( تَتْلُو ) ، فهل هو بمعنى تتبع ، أو بمعنى تقرأ ، أو بمعنى تكذب ؟ .
٣ ـ ما هو المراد من الشياطين : فهل هم شياطين الجن أو شياطين الإنس أو كلاهما ؟ .
٤ ـ ماذا يراد من قوله : ( عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) ، فهل هو بمعنى : « في ملك سليمان » ، أو : « في عهد ملك سليمان » ، أو : « على ملك سليمان » ، بحفظ ظاهر الإستعلاء الموجود في معنى على ، أو بمعنى : « على عهد ملك سليمان » ، كذلك ؟ .
٥ ـ ما هو المراد من قوله : ( وَلَـٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) . أهو بمعنى : « كفروا بما أخرجوه من السحر إلى الناس » ، أو بمعنى : « إنّهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر » ، أو بمعنى : « إنّهم سحروا » ، فعبر عن السحر بالكفر ؟ .
٦ ـ ماذا يراد من قوله : ( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ، فهل هو بمعنى : « ألقوا السحر إليهم فتعلموه » ، أو بمعنى : « إنّهم دلّوا الناس على استخراج السحر » ، وكان مدفوناً تحت كرسي سليمان فاستخرجوه وتعلّموه ؟ .
٧ ـ ما هو المراد من « ما » في قوله : ( مَا تَتْلُو ) . فهل هي موصولة عطفت على قوله : « السحر » ، أي « يعلمونهم ما أنزل على الملكين » . أو نافية ، والواو استئنافية ، أي « ولم ينزل على الملكين سحرٌ كما يدّعيه اليهود » ؟ .
٨ ـ ماذا يراد من قوله : ( أُنزِلَ ) . فهل المراد « إنزال من السماء » ، أو : « من نجود الأرض وأعاليها » ؟ .
٩ ـ ماذا يراد من قوله : ( الْمَلَكَيْنِ ) . فهل كانا من ملائكة السماء ، أو كانا إنسانين مِلكَين ( بكسر اللام ) ، كما في بعض القراءات ، أو مَلَكَيْنِ ( بفتح اللام ) أي صالحين ، أو متظاهِرَيْن بالصلاح ؟ .
١٠ ـ ما هو المراد من قوله : ( بِبَابِلَ ) ، فهل هي بابل العراق ، أو بابل دماوند ، أو من نصيبين إلى رأس العين ؟ .
١١ ـ ماذا يراد من قوله : ( وَمَا يُعَلِّمَانِ ) . فهل « علم » بمعناه الظاهر ، أو بمعنى « أعلم » ؟ .
١٢ ـ ماذا يراد من قوله : ( فَلَا تَكْفُرْ ) . فهل المراد : « لا تكفر بالعمل والسحر » ، أو المراد : « لا تكفر بتعلمه » ، أو كلاهما ؟ .
١٣ ـ ماذا يراد من قوله : ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ) ، فهل المراد : « يتعلمون من هاروت وماروت » ، أو المراد : « يتعلمون من السحر والكفر » ، أو المراد النهي إلى فعله ؟ .
١٤ ـ ما هو المراد من قوله : ( يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) فهل أُريد منه أنّهم يوجِدون به حبّاً وبُغضاً بينهما ، أو أنّهم يغرون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك فَيفَرِّق بينهما اختلاف الملة والنحلة . أو أنّهم يسعون بينهما بالنميمة والوشاية فيؤول إلى الفرقة ؟ (١) .
فهذه احتمالات تحتملها الآية . وأنت إذا ضربت عدد الإحتمالات التي ذكرناها في بعضها ارتقى عدد الإحتمالات إلى كمية عجيبة تقرب من مليون وماءتين وستين ألف احتمال (٢) .
وليست هذه الآية وحيدة في بابها ، وإن كانت قليلة النظير ، بل لها نظائر منها قوله سبحانه :
( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ، وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ، أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ، فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ) (٣) .
__________________
(١) لاحظ الميزان ، ج ١ ، ص ٢٣٣ ـ ٢٣٤ .
(٢) وهو حاصل ضرب الإحتمالات المذكورة وصورتها الرياضية : ٢٤×٣٩×٤ = ١٢٥٩٧١٢ احتمالاً . والمراد من ٢٤ ، ٢ مضروب في نفسها أربع مرات و ٣٩ ، ٣ مضروب في نفسها تسع مرات . نعم الكثير من الإحتمالات ربما لا تتناسق مع بعضها ، فينخفض عدد احتمالات التفسير الصحيحة .
(٣) سورة هود : الآية ١٧ .
فإنّك لو تفحصت الإحتمالات التي ذكرها المفسّرون لمفرداتها وجملها ، لوقفت على أنّ الآية تحتمل من المعاني ما يدهش العقول .
قال العلّامة الطباطبائي : « وأَمْرُ الآية فيما يحتمله مفردات ألفاظها وضمائرها عجيب ، فلو ضرب بعضها في بعض يرقى عدد الإحتمالات إلى أُلوف منها ، بعضُها صحيح وبعضها غير صحيح » (١) .
وقد ذكر هو قدس سرّه أُصول الإحتمالات في تفسيره ، فمن أراده فليرجع إليه .
* * *
__________________
(١) الميزان ، ج ١٢ ، ص ١٤٢ ، طبعة طهران .
دعائم إعجاز القرآن (٣) |
|
النظم : رصانة البيان واستحكام التأليف .
تعريف النظم
١ ـ النظم هو لجام الألفاظ ، وزمام المعاني ، وبه تنتظم أجزاء الكلام ويلتئم بعضها ببعض ، فتقوم له صورة في النفس ، يتشكل بها البيان .
٢ ـ النَّظْمُ هو وضع كلِّ لفظ في موضعه اللائق به ، بحيث لو أُبدل مكانه غيره ، ترتب عليه إمّا تبدل المعنى ، أو ذهاب رونقه وسقوط البلاغة معه .
٣ ـ النظم هو رعاية قوانين اللغة وقواعدها ، على وجه لا يكون الكلام خارجاً عمّا هو المرسوم بين أهل اللغة .
هذه تعاريف ثلاثة للنظم ، غير أنّ المقصود منه هنا هو تماسك الكلمات والجمل ، ووضع كل كلمة مكانها . وأمّا رعاية القوانين ، فهي وإن كانت دخيلة في تحقق النظم ـ فإنّ الكلام الخارج عن إطارها متخلخل ـ غير أنّ القرآن أرفع شأناً من أن يعرض على القواعد ، بل هي تعرض عليه ، كما تقدم . ولأجل ذلك نركّز في النظم على الأمرين الأولين ، الإنسجام أولاً ، ووضع كل كلمة مكانها ، ثانياً .
وقد أعطى الشيخ عبد القاهر الجرجاني
للنظم القسط الأوفر من إعجاز القرآن ، بل جعله السبب الوحيد فيه ، وقال ـ بعد ردّ كل ما يمكن أن يكون وجهاً
للإعجاز ـ : « فلم يَبْقَ إلّا النظم ، وليس هو شيئاً غير توخي معاني النحو ، وأحكامه . وإنّا إن بقينا الدهر نُجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكاً ينظمها ، وجامعاً يجمع شملها ، ويؤلفها ، ويجعل بعضها بسبب من بعض ، غير توفّي معاني النحو وأحكامه فيها ، طلبنا ما كلُّ محال دونه » (١) .
وكلامه هذا لا ينافي ما ذكرناه ، لأنّه يرمي إلى أنّ الإنسجام التام بين جمل الآية حصل في ظل تحقيق هذه القواعد ورعايتها فيها .
وقال الزملكاني : « إنّ وجه الإعجاز يرجع إلى التأليف الخاص به ، بأن اعتدلت مفرداته تركيباً وزِنَةً ، وعلت مركباته معنىً ، بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى » (٢) .
ثم ليعلم أنّ الكلام يقوم على ثلاثة أشياء :
١ ـ لفظ حامل .
٢ ـ معنى قائم باللفظ .
٣ ـ ورباط لهما .
وهذه الأمور الثلاثة توجد في القرآن على الوجه الأحسن ، فالألفاظ عذبة ( الدعامة الأولى ) ، والمعاني سامية وراقية ( الدعامة الثانية ) ، والكلمات والجمل مترابطة ومتلاحمة أشدّ التلاحم والتشاكل ، وهذه هي الدعامة الثالثة التي نبحث فيها .
ونحن نبحث في تبيين النظم القرآني في مقامين :
الأول : إنسجام الجمل والكلمات ، وتعانقها .
الثاني : وضع كل كلمة موضعها .
* * *
__________________
(١) دلائل الإعجاز ، ص ٣٠٠ . وثلاث رسائل ، الرسالة الشافية لعبد القاهر الجرجاني ، ص ١٨٤ .
(٢) الإتّقان في علوم القرآن ، ج ٤ ، ص ٨ .
١ ـ تجاذب الكلمات وتعانق الجمل
إنّ القرآن بلغ من ترابط أجزائه ، وتماسك كلماته وجمله وآياته ، مبلغاً لا يدانيه فيه أي كلام آخر ، مع طول نَفَسه ، وتنوع مقاصده ، وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد . وآية ذلك أنّك إذا تأمّلت في القرآن الكريم ، وجدت منه جسماً كاملاً ، تربط الأعصاب والأغشية بين أجزائه ، ولمحت فيه روحاً عاماً يبعث الحياة ، والحسن ، على تشابك وتساند بين أعضائه .
فبين كلمات الجملة الواحدة من التآخي والتناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب . وبين جمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها وحدة متآخذة الأجزاء ، متعانقة الآيات . ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) (١) .
والآيات القرآنية ، وإن كانت كلّها مظاهر لهذا الإنسجام ، كما يلاحظه التالي لها ، غير أنا نختار من بينها آية تشع نوراً بين الآيات في حسن الإنسجام وروعة النظم ، كأنّها سبيكة واحد ، مع طولها ، وكثرة جملها ، وغزارة معانيها .
يقول سبحانه : ( اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ، لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ، مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ، وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (٢) .
وبما أنّ مسألة الترابط والتآخي في الآيات القرآنية واضحة لمن أمعن فيها ، فلذلك نطوي الكلام عن الإكثار فيها ، ونعطف نظر الباحث إلى نمط خاص من النظم :
__________________
(١) سورة الزمر : الآية ٢٨ .
(٢) سورة البقرة : الآية ٢٥٥ .
نمط خاص من النظم في بعض الآيات
إنّ الأهرام التي أقامها فراعنة مصر ، فكانت إحدى عجائب الدنيا ، قد بنيت حجراً على حجر دون أن تتماسك أحجارها بأيّة مادة غريبة دخلت بينها ، وإنّما كان تماسكها تماسكاً ذاتياً ، وتجاذباً أحكمته هندسة البناء ، فاستدعى الحجر صاحبه إليه ، واعتنقه في تآلف وترابط . وإنّه بقدر ما كان بين هذه الأحجار من روابط ذاتية ، بقدر ما يكون لها من ثبات وروعة على الزمن ، ولكنها ـ مع هذا ـ صنعة إنسان ، مقدور عليه الفناء ، وإذن فلا خلود لها ، لأنّ الفاني لا يخلق إلّا فانياً .
فكان من إعجاز القرآن أن أقام أبنية من النظم الكلامي غير مستندة إلّا على ما بينها من تناسق هندسي ، وتجاذب روحي ، وترابط الكلمات ، وتعانق الآيات ، أحكمه الحكيم العليم ، وقدَّره اللطيف الخبير .
وإليك نماذج من هذا النوع من النظم :
١ ـ يقول سبحانه : ( الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ ، لَا رَيْبَ فِيهِ ، هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) (١) .
هذه جمل أربع لم يتوسط فيها حروف العطف ، حتى تعطف بعضها على بعض وتجعل منها كياناً واحداً . ومع ذلك نرى فيها من التلاحم والتناسق ما يجعلها تبدو جملة واحدة ، بل كلمة واحدة .
٢ ـ يقول سبحانه : ( الرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (٢) .
فهذه الآيات تراها كأنّها جملة واحدة في اتّساقها وتجاذبها ، وتعانقها لفظاً ومعنى . فإنّها تساوقت ألفاظها ، وتناغمت حروفها في هذا النغم العُلْوي ، كما
__________________
(١) سورة البقرة : الآيات ١ ـ ٣ .
(٢) سورة الرحمن : الآيات ١ ـ ٥ .
تآخت معانيها وتناسبت فكانت نبعاً سماوياً يتدفق في تسلسل وترابط ، لا ترى العين منه إلّا كياناً واحداً من منبعه إلى مصبّه .
٣ ـ يقول سبحانه : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّـهِ ذِي الْمَعَارِجِ ) (١) .
فليس في هذه الآيات حرف عطف يجمع كلمة إلى كلمة ، أو آية إلى آية . وهي مع هذا يسودها التلاحم والتآخي والتساند ، يجذب بعضها بعضاً . فهناك سائل يسأل ، وموضوعُ سؤالِهِ عذابٌ واقع ، والذين وقع بهم العذاب هم الكافرون ، وهو عذاب لا يدفع ، لأنّه عذابٌ من الله ذي المعارج .
* * *
٢ ـ وضع كلّ كلمة في موضعها
إنّ لكل نوع من المعنى ، نوعاً من اللفظ هو به أولى وأصلح ، وضروباً من العبارة ، هي بتأديته أقوم ، ومأخذاً إذا أُخذ منه كان إلى الفهم أقرب وبالقبول أَلْيَقْ ، وكان السمع له أوعى ، والنفس إليه أميل .
إنّ في لغة العرب ألفاظاً متقاربة في المعاني ، ربما يحسب غير المطّلع ترادفها ، وتساويها في إفادة المقصود ، كالعلم والمعرفة ، والحمد والشكر ، والبخل والشُّح ، والقعود والجلوس ، حتى بين الحروف كـ « بلى » و « نعم » ، وغير ذلك من الأسماء والأفعال . فإنّ لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها ، وإن كانا يشتركان في بعضها .
وقد اهتمّ القرآن ، باستعمال كل كلمة في موضعها بحيث لو أُزيلت الكلمة وأُقيمت مكانها ما يظن كونه مرادفاً لها ، لفسد المعنى ، وزال الرونق .
ولأجل إيقاف الباحث على هذا النوع من النظم ، نأتي بنماذج :
__________________
(١) سورة المعارج : الآيات ١ ـ ٣ .
١ ـ نرى أنّه سبحانه يأمر عبده بحمده ، ويقول : ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) (١) .
وفي موضع آخر يأمر بالشُكر ويقول : ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ) (٢) .
وما هذا إلّا لأنّ الحمد هو الثناء على الجميل ، والشكر هو الثناء في مقابل المعروف ، فالحمد ضد الذم ، والشكر ضد الكفران . وبما أنّه سبحانه يصف نفسه في الآية الأولى ، بقوله : « الذي لم يتخذ ولداً » ، فناسب الأمر بالحمد . وبما أنّه يذكر معروفه وإحسانه على آل داود في الآية الثانية ، ناسب الأمر بالشكر على المعروف .
٢ ـ نرى أنّه سبحانه يستعمل كلمة السهو تارة بلفظة « في » ، ويقول : ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ) (٣) .
وأخرى بلفظة « عن » ويقول : ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ) (٤) .
وما هذا إلّا لأنّ المراد من الآية الأولى أنّ الغفلة تعلوهم وتغمرهم ، وأنّهم في ضلالتهم متمادون ، فناسب لفظة « في » الدالّة على الظرفية . ولكن المراد من الآية الثانية هو السهو عن نفس الصلاة وعدم الإتيان بها في مواقيتها فناسب لفظة « عن » ، ولو كان المراد السهو في نفس الصلاة ، كأن لا يدري المصلي أنّه في شفع أو وتر ، لقال « في صلاتهم » .
٣ ـ يقول سبحانه عن لسان إخوة يوسف : ( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) (٥) . مع أنّ الرائج في فعل السباع هو الإفتراس لا
__________________
(١) سورة الإسراء : الآية ١١١ .
(٢) سورة سبأ : الآية ١٣ .
(٣) سورة الذاريات : الآيتان ١٠ و ١١ .
(٤) سورة الماعون : الآيتان ٤ و ٥ .
(٥) سورة يوسف : الآية ١٧ .
الأكل ، وما هذا إلّا لإفادة أنّ الذئب أتى على جميع أجزاء يوسف وأعضائه ، فلم يترك منه شيئاً ، حتى لا يطالبهم والدهم بالإتيان ببقية أجزاء بدنه .
٤ ـ يقول سبحانه عن لسان عبدة الأصنام : ( وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ، إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) (١) . ولم يقل : « ان امضوا وانطلقوا » ، وذلك لإفادة أنّ الدفاع عن الآلهة أمر يطابق سجيتهم ، كالمشي وراء الحوائج .
٥ ـ يقول سبحانه : ( وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٢) ، مع أنّ لله سبحانه ما سكن فيهما وما تحرك . وما ذلك إلّا لأنّه ليس المراد من السكون ما يضاد الحركة ، وإنّما المراد من السكون هو الإستقرار في نظام العالم ، سواء كان متنقلاً عن موضعه أو ساكناً فيه .
فالسكون في الآية ، نظيره في قوله سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ) (٣) . فليس المراد من السكون فيها الإستقرار بلا حراك ، بل الطُمَأْنينة الروحية .
ولأجل ذلك لو وضعت مكان « سَكَنَ » أية كلمة أخرى ترادفها ، مثل « خَمَدَ » ، « استَقَرّ » ، « وَقَفَ » ، تخرج الآية من روعتها ، وربما يفسد المعنى .
وبذلك ينفتح بابٌ واسعٌ للدِّقةِ في نَظْمِ القرآن ، فنأتي بنموذجين مع إحالة الإجابة عنهما إلى الباحث الكريم ، ليقف على جوابهما بالإمعان .
٦ ـ يقول سبحانه : ( وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ) (٤) ولم يقل « قريب » ، « حاضر » أو « عتيد » ، لماذا ؟ .
٧ ـ يقول سبحانه ـ حاكياً عن زكريا ـ : ( إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) (٥)
__________________
(١) سورة ص : الآية ٦ .
(٢) سورة الأنعام : الآية ١٣ .
(٣) سورة الروم : الآية ٢١ .
(٤) سورة الرحمن : الآية ٥٤ .
(٥) سورة مريم : الآية ٤ .
ولم يقل « فتر » ، « ضعف » أو « تخاذل » ، لماذا ؟
وبعد هذا ، تقف على سبب ما اشتهر بين أئمة البلاغة من أنّ الكلمة في نظم القرآن ، تأخذ أعْدَلَ مكانٍ في بناء هذا البُنْيان ، ولا يصلح للحلول مكانها أي كلمة أُخرى ، لاستلزامه إما فساد المعنى ، أو عدم إفادة المقصود ، وإنِ اشْتَهَر في وضع اللغة قيام المترادفات مقام بعضها .
* * *
هل في القرآن سَجع ؟
من الملاحظ ، أنّ كثيراً من آيات القرآن الكريم ، تختم بفواصل فيها حروف متشاكلة في المقاطع ، فهل هو من السجع أوْ لا ؟ .
ربما يرى بعض الأساتذة عدم اشتمال القرآن على السجع ، بحجة أنّ الفواصل غير الأسجاع ، لأنّ شأنَ القرآن أرفع من أن يُسجع فيه ، فإنّ السجع مأخوذ من سجع الحمامة ، وليس فيه إلّا الأصوات المتشاكلة (١)
يلاحظ عليه : إنّ إنكار السجع في بعض السور القصار ، خلاف الإنصاف ، غير أنّ السجع على قسمين ، ونربأ بالقرآن عن اشتماله على السجع الذي يكون المعنى فيه تابعاً له ، دون السجع الذي يكون تابعاً للمعنى .
فالأول مردود ، وهو السائد في الخطب الرائجة أيام الأُمويين والعباسيين .
وأمّا الثاني فهو يوجب حسناً في الكلام ، لأنّه على عفو الخاطر ، يأتي به المتكلم مرتجلاً بلا تكلّف ، كما هو الملموس في خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .
وقد نبّه ابن سنان الخفاجي على هذه النكتة حيث قال ، ردّاً على الرماني : « إنّه إنْ أراد بالسجع ، ما يكون تابعاً للمعنى ، ـ وكأنّه غير مقصود ـ فذلك
__________________
(١) لاحظ النكت في إعجاز القرآن ، ص ٨٩ ـ ٩٠ .
بلاغة ، وفواصل الآيات مثله ، وإن كان يريد بالسجع ما تقع المعاني تابعة له ، فذلك عيب ، وأظن أنّ الذي دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل ، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعاً ، هو رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عند الكهنة وغيرهم » (١) .
* * *
__________________
(١) سرّ الفصاحة ، ص ٢٤٧ .
دعائم إعجاز القرآن (٤) |
|
الأسلوب : بِداعة المنهج وغرابة السبك
الأساليب السائدة في كلام العرب عصر نزول القرآن ، كانت تتردد بين أسلوب المحاورة ، وأسلوب الخطابة ، وأسلوب الشعر ، وأسلوب السجع المتكلف الموجود في كلام العرّافين والكُهّان .
فالأسلوب المحاوري ، هو الأسلوب المتداول في المكالمات اليومية في رفع الحوائج ، وتيسير الأمور المعيشية . وهذا الأسلوب دارج في كل لغة ، ولم يكن في العرب بدعاً منهم ، فلم يكن كلامهم عند البيع والشراء ، والمعاشرة مثل كلامهم في مقام الخطابة ، وإظهار المناقب والفضائل .
والأسلوب الخطابي ، هو الأسلوب الرائج بين خطَباء العرب وبُلغائهم . ويكفينا مؤنة بيانه ، التأمل في النموذجين التاليين لأشهر خطباء الجاهلية .
١ ـ وقف قس بن ساعدة في سوق عُكاظ ، وخطب : « أيّها الناس اسمعوا وعوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت . ليل داج ، ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج ، ونجوم تزهر ، وبحار تَزْخر ، وجبال مُرْساة ، وأرض مُدْحاة ، وأنهار مُجراة ، إنّ في السماء لخبرا ، وإنّ في الأرض لعبرا ، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون ، أَرَضوا فأَقاموا ، أم تُرِكوا فناموا ؟ (١) .
__________________
(١) صبح الأعشى ، ج ١ ، ص ٢١٢ . وإعجاز القرآن ، ص ١٢٤
. البيان والتبيين ، ج ١ ،
٢ ـ وخطب المأمون الحارثي في قومه ، فقال : « أرعوني أسماعكم ، وأصغوا إليَّ قلوبكم ، يبلغ الوعظ منكم حيث أريد ؛ طمح بالأهواء الأشر ، وران على القلوب الكدر ، وطخطخ (١) الجهل النظر ، إنّ فيما ترى لَمُعْتَبَراً لمن اعتبر ، ارض موضوعه وسماء مرفوعة ، وشمس تَطْلُعُ وَتَغْرُب ، ونجوم تسرى فَتَعْزُب ، وقمر تطلعه النور ، وتَمْحَقُه أدبار الشهور (٢) .
ويرى هذا الأسلوب في خطب النبي وعليّ عليهما السلام في مواقف مختلفة .
والأسلوب الشعري ، هو الأسلوب المعروف المبني على البحور المعروفة في العَروض .
وأمّا أسلوب السجع المتكلف ، فقد كان يتداوله الكهنة والعرّافون ، كما تراه في قول ربيع الذئبي الشهير بسطيح لابن اخته عبد المسيح حول علامات ظهور النبي العربي : « يسيح عبد المسيح ، على جمل مشيح ، أقبل إلى سطيح ، وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان ، لارتجاج الإيوان ، وخمود النيران ، ورؤيا المؤبذان ، رأى إبلا صعابا ، تقود خيلا عراباً ، حتى اقتحمت الواد ، وانتشرت في البلاد » (٣) .
ولكن القرآن جاء بصورة من صور الكلام على وجه لم تعرفه العرب ، وخالف بأسلوبه العجيب وسبكه الغريب ، جميع الأساليب الدارجة بينهم ، ومناهج نظمهم ونثرهم .
ولأجل ذلك لم تتعامل معه العرب معاملة شعر أو نثر ، بل أنصف المنصفون منهم بأنّه وحيد نسجه في أسلوبه وسبكه .
__________________
= ص ١٦٨ . الأغاني ، ج ١٤ ، ص ٤٠ . العَقْد الفريد ج ٢ ، ص ١٥٦ . ومجمع الأمثال للميداني ، ج ١ ، ص ٧٤ .
(١) أي غلب .
(٢) الأمالي ، لأبي علي القالي ، ج ١ ، ص ٢٧٦ .
(٣) تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ١٣٢ . والعقد الفريد ، ج ١ ، ص ١٠٨ . والسيرة الحلبية ، ج ١ ، ص ٧٠ . والمختصر في أخبار البشر ، لأبي الفداء ، ج ١ ، ص ١١٠ .
كان العرب يعرفون الأساليب الأربعة السالفة ، ولكنهم لم يعرفوا الأسلوب القرآني الذي يأخذ فيه الكلام صورة خاصة ، تأتي فيها الآيات ، وتختم كل واحدة منها بفاصلة ذات نظم ورنين ، فيجد الصدر لذلك راحة عند الوقوف على الفاصلة .
إنّ الأسلوب القرآني الذي تفرّد به ، كان أبين وجه من وجوه الإعجاز ، في نظر الباحثين عن إعجازه ، وإن جعلناه أحد الأسس الأربعة التي يبنى عليها صرح الإعجاز القرآني .
ولأجل أهمية الأسلوب في رفع القرآن إلى درجة الإعجاز ركّز القاضي الباقلاني عليه وحصر وجه إعجازه فيه ، وقال : « وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف (١) وأنّه خارج عن وجوه جميع النظم المعتاد في كلام العرب ومبائن لأساليب خطاباتهم ، ولهذا لم يمكنهم معارضته » .
وأضاف : « ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر ، لأنّه ليس ممّا يخرق العادة ، بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنع به ، كقول الشعر ، ورصف الخطب ، وصناعة الرسالة ، والحذق في البلاغة ، وله طريق تسلك . فأمّا شأو نظم القرآن ، فليس له مثال يحتذى ، ولا إمام يقتدى به ، ولا يصحّ وقوع مثله اتّفاقاً » (٢) .
وممّن حصر وجه إعجاز القرآن بأُسلوبه الراقي هو الأصفهاني ـ على ما حكاه السيوطي ـ فإنّه بعدما أشار إلى أقسام الكلام من المحاورة ، والنثر المسجع ، والشعر ، قال : « ولكل من ذلك نظم مخصوص ، والقرآن جامع لمحاسن الجميع ، على نظم غير نظم شيء منها ، يدلّ على ذلك أنّه لا يصح أن يقال له : « رسالة » ، أو « خطابة » ، أو « شعر » ، أو « سجع » . كما يصح أن يقال هو كلام . والبليغ إذا قرع القرآن سمعه ، فصل بينه وبين ما عداه من النظم ، ولهذا
__________________
(١) مراده من النظم والتأليف والترصيف هو الأسلوب لا النظم الذي اصطلحنا عليه في الدعامة الثالثة ، كما يظهر من القرائن .
(٢) الإتقان في علوم القرآن ، ج ٤ ، ص ٨ .
قال تعالى : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) (١) ، تنبيهاً على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر ، فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحال الكتب الأخرى » (٢) .
وممّا يدلّ على أنّ القرآن ليس كلام النبي الأعظم هو وجود البون الشاسع بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي . فمن قارن آية من القرآن الكريم مع الأحاديث القطعية الصادرة منه صلى الله عليه وآله ، أحس مدى التفاوت البعيد بين الأسلوبين ، وآمن بأنّ أسلوب التنزيل يغاير أسلوب الحديث . وهذا يدلّ على أنّ القرآن ينزل من عالم آخر على ضمير النبي ، بينما الحديث يتكلم به النبي من إنشاء نفسه .
وعلى الجملة ، جاء القرآن في ثوب غير الأثواب المعروفة للكلام عند العرب ، وفي صورة غير الصور المألوفة ، جاء نسيج وحده ، وصورة ذاته ، لا يشبه غيره ، ولا يشبهه غيره . فلا هو شعر ، ولا هو نثر ، ولا هو من قبيل سجع الحكماء أو العرّافين والكُهّان .
والذي يمكن أن يقال إنّه قرآن فصّلت آياته ، وكل آية لها مقطع تنتهي به ، وهو الفاصلة ، وهذه هي الظاهرة المحسوسة فيه ، يقف عليها من يتصل بالقرآن الكريم ، قارئاً كان أو مستمعاً ، مؤمناً كان أو غير مؤمن .
وأنت إذا أردت أن تلمس الأسلوب القرآني عن كثب ، وتقف عليه وقوف لامس للحقيقة ، ومستكشف لها عن قرب . فلاحظ موضوعاً واحداً ورد في القرآن المجيد ، وفي كلام النبي الأعظم أو الوصي . فكلاهما يهدفان إلى أمر واحد ، ولكن لكل أُسلوبه الخاص لا يختلط أحدهما بالآخر .
يقول الرسول صلى الله عليه وآله في وصف الغفلة عن الآخرة : « وكأنّ
__________________
(١) سورة فصلت : الآيتان ٤١ و ٤٢ .
(٢) الإتقان ، ج ٤ ، ص ١١ . وهو يشير إلى أنّ التغيير في القرآن يوجب التغيير في تأليفه أوّلاً ، وأُسلوبه ثانياً .