الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (١) .
إنّ في هذه السورة من أنواع البلاغة ما يَبْهَرُ العقول ، وفي الدراسة التالية نشير إلى بعض منها .
( وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ) .
الواو في الموضعين للقسم . والضحى ، والليل حال السجي ، هو المقسم به . وقوله سبحانه فيما يأتي : ( مَا وَدَّعَكَ ) هو المقسم له ، بمعنى جواب القسم .
وقد ورد في القرآن الكريم ، ثمان وثلاثون قَسَماً ، أفردها إبن القيم بالتصنيف في كتاب أسماه « التبيان في أسماء القرآن » . وقد وقع القَسَم فيها على أشياء مختلفة كالملائكة والنبي الأكرم والقرآن والقيامة ، والنفس الإنسانية ، والقلم ، والكتاب والشمس ، وضوئها ، والليل وغير ذلك . واهتمّ المفسّرون ببيان سرّ القسم بهذه الأُمور ، ولكنهم غفلوا عن مهمة أُخرى في هذه الأقسام ، وهي المناسبة بين المُقْسَم به والمُقْسَم له ، أي بيان الصلة بين الشيء الذي وقع الحلف عليه ، كالنَّهار والليل ، وما رتب عليه من الجواب . وهذا من الأُمور المهمة التي إذا كشفها المُفَسِّر ، لأدرك أنّ تخصيص شيء معين بالقَسَم في هذا المجال دون غيره ، ليس إلّا لرابطة بينه وبين جوابه ، وليس هو أمراً إعتباطياً فاقداً للمناسبة . وإليك البيان في المقام .
إنّ المُقْسَم به في آيتي « والضحى » ، صورة مادية ، وواقع حسّي يشهد به الناس تألّق الضوء في صحوة النهار ، ثم يشهدون من بعده فتور الليل إذا سجى وَسَكَن ، يشهدون الحالين معاً في اليوم الواحد دون أن يختل نظام الكون أو يكون في توارد الحالين عليه ما يبعث على إنكار . بل دون أن يخطر على بال أحد ، أنّ
__________________
(١) سورة « والضحى » ، وآياتها ١١ .
السماء قد تخلّت عن الأرض ، وأسلمتها إلى الظلمة ، والوحشة بعد تألّق الضوء في ضحى النهار .
فإذا كان هذا حال الفيض المحسوس ، الذي به حياة البشر ، فهكذا حال الفيض المعنوي ، فينزل الوحي ويغرق المجتمع في بهاء نوره ، ثم يسكن ، فلا عجب في أن يجيء ـ بعد أُنس الوحي ، وتَجَلّي نوره على النبي الأكرم ـ فترة سكون يفتر فيها الوحي على نحو ما نشهد من الليل الساجي ، يوافي بعد الضحى المتألّق .
فإِذن ، القَسَم بالضحى ، وبالليل إذا سجى ، بيان لصورة حسيّة ، وواقع مشهود ، يمهّد لموقف مماثل لكن غير حسيّ ولا مشهود ، وهو فتور الوحي بعد إشراقه وتجلّيه .
فعند ذلك ، يتجلّى تخصيصهما بالقسم دون غيرهما ممّا ورد في القرآن من الأُمور المقسم بها . كما يتّضح أنّ نزول الوحي تدريجاً ، ليس دليلاً على أنّه سبحانه ترك نَبِيَّه أو قَلاه . وذلك لأنّ فتور الوحي ، كنزول الليل بعد الضحى ، فكما هو ليس دليلاً على تخلّي السماء عن الأرض ، وتسليمها إلى الظلمة ، فهكذا نزول الوحي نجوماً ، ليس دليلاً على أنّه سبحانه تخلّى عن رسوله ، وتركه بين أعدائه أو قلاه .
وبذلك يظهر إتّقان جواب القسم أعني قوله سبحانه :
( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .
ومن لطائف ما ورد في الجواب هو أنّه حذف المفعول من قوله : ( وَمَا قَلَىٰ ) ، ولم يقل : « قَلَاكَ » . وليس ذلك رعاية للفاصلة ، لأنّه عَدَلَ عن رعايتها في آخر سورة الضحى ، حيث قال : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) إذ ليس في السورة ، حرف الثاء على الإطلاق ، وكان بوسعه أن يقول مكان حَدِّث ، فَخَبِّر ، لتتفق الفواصل على مذهب أصحاب الصنعة . فهذا دليل على أنّ الحذف لوجه آخر ، كما أنّ العناية بذكر بلفظة « حدّث » ، مكان « خَبّر » ، لنكتة موجودة في الأولى دون الثانية .
والظاهر أنّ حذف المفعول هو لتحاشي خطابه تعالى حبيبه المصطفى في مقام الإيناس ، بقوله : « ما قلاك » ، لما في القلي من الطرد ، والإبعاد وشدّة البغض . وهو في الوقت نفسه أَظهر المفعول في « وَدّعك » ، إذ ليس فيه شيء يُكْرَه ، بل هو يؤذن بالفراق على كُرْه ، مع رجاء العود .
( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ ) .
إنّ الآخرة إذا قرنت بالأُولى ، يراد منها اليوم الآخر ، كما في قوله سبحانه : ( فَلِلَّـهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَىٰ ) (١) . وقوله سبحانه : ( فَأَخَذَهُ اللَّـهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ ) (٢) .
ولكن يرجح أن يكون المراد من الآخرة في الآية ، هو الغد المرجو من أيام بعثته ، لتخصيص كونها خيراً في الآية بالنبي الأكرم ، حيث قال : ( خَيْرٌ لَّكَ ) فالآية تبشّر بالمستقبل الزاهر للنبي الأكرم ، وبهذا يتمّ تأكيد نفي التوديع والقلي ، ليذهب عن الأذهان أثر فتور الوحي .
والصلة بين هذه الآية وبين ما تقدمها ، واضح على هذا البيان ، والكلّ كسبيكة واحدة .
( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) .
اللام لتأكيد لزوم العطاء ، وأنّه أمر محقَّق . ( وَلَسَوْفَ ) للتراضي . والجمع بين التوكيد مع التسويف الصريح ، لبيان أنّه موضع عناية ربّه في أمسه وغده ، وأُولاه ، وأُخراه .
وأمّا العطاء الذي يحصل به رضا النبي ، فغير محدّد بشيء . وليس وراء الرضا مطمح ، ولا بعده غاية ، ولا حاجة لتحديد هذا الذي يُرضي الرسول ، حتى تقلّل من روعة ذاك البيان المعجز الذي يتجلى سرّه في إطلاقه العام وانتهائه إلى الرضا .
__________________
(١) سورة النجم : الآية ٢٥ .
(٢) سورة النازعات : الآية ٢٥ ، ولاحظ سورة القصص : الآية ٧٠ ، وسورة الليل : الآية ١٣ .
( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ ) .
هذه الآيات تبث في نفس الرسول الطمأنينة ، وتثبت قلبه ، بإلفاته إلى ما أسبغه الله عليه في أُولاه ، من نِعَم : كان يتيماً ، فآواه ، ووقاه مسكنة اليُتْم ، وكان ضالّاً ، فهداه تعالى إلى دين الحق (١) وكان عائلاً فأغناه الله بفضله وكرمه . أفما يكفي هذا ليطمئن كلُّ أحد إلى أنّ الله غير تاركه ولا قاليه ؟ وهل تَرَكَه حين كان صبياً يتيماً متعرضاً لما يتعرض له اليتامى من قهر وضياع ؟ وهل قلاه حين كان ذا عيلة ؟ كلا ، لا .
واليتيم مظنة الضياع والقهر ، قال سبحانه : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ) (٢) . وقد وجه الله محمداً يتيماً عائلاً ، فأعفاه سبحانه من تلك الآثار البغيضة ، وحفظ جوهره من الآفات التي كان معرَّضاً لها بحكم يتمه وعيلته ، وبذلك تمّ فيه الإستعداد النفسي لتلقّي الرسالة الكبرى ، التي بعث بها ليقي الناس من المذلَّة والضلال .
( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) .
أتى بكلمة : « فلا تقهر » ، مع أنّ في وسعه أن يستخدم كلمة أُخرى ، نحو : « فلا تظلم » ، « فلا تمنع حقه » وغيرهما ، وذلك لأنّ في عبارة : « فلا تقهر » ، معنى أعمق وأدق ممّا يفيده ذانك اللفظان ومشابههما ، إذ يجوز أن يقع
__________________
(١) المراد من الضلال ، هو الضلال الطبيعي العام ، فكل إنسان ضال بالطبع ، ويخرج منه بهداية من الله سبحانه ، فليست الآية دليلاً على أنّه صلى الله عليه وآله كان ضالّاً غير عارف بالله في فترات من عمره ، ثم هداه الله سبحانه . وليس الضلال مرادفاً للكفر . بل هو بمعنى عدم الإهتداء إلى الصواب . وقد رموا يعقوب بالضلال كما في قوله سبحانه : ( تَاللَّـهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ) سورة يوسف : الآية ٩٥ . وليس الضلال هناك كفراً ، وإنّما هو الشغف بيوسف . وقالت النسوة في إمرأة العزيز ويوسف ( قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) سورة يوسف : الآية ٣٠
(٢) سورة النساء : الآية ٩ .
القهر مع إنصاف اليتيم وإعطائه ماله ، وعدم التسلّط عليه بالأذى ، لأنّ حساسية اليتيم إلى حدّ أنّه يتأثّر بالكلمة العابرة ، واللفتة الجارحة من غير قصد . والنبرة المؤلمة بلا تنبه ، وإن لم يصحبها تسلّط بالأذى ، أو غلبة على مالِه وحقِّه .
ويحتمل أن يكون المراد من النعمة هو الرسالة التي أكرمه الله تعالى بها ، وتفضل بها عليه ، وعند ذلك يكون المراد من التحدّث بها هو إبلاغ رسالة ربّه .
ثم في الآيات الثلاث الأخيرة نكتة بديعة ، فإنّا نرى أنّه سبحانه قَدّم النهي عن قهر اليتيم ونهر السائل ، على التحدّث بنعمته تعالى ، فأخَّر حَقَّ نفسه وهو التحدث بالنعمة ، وقدّم حقّ اليتيم والسائل . وما هذا إلّا لأنّه غنيّ وهما محتاجان ، وتقديم حَقِّ المحتاج أَولى .
وهناك نكتة أُخرى ، وهي أنّه تعالى لم يرض في حقهما إلّا بالفعل ، ورضى في نفسه بالقول (١) .
* * *
فهاتان السورتان المتقدمتان أوقفتانا على نموذج من بلاغة القرآن ـ بمعنى المطابقة لمقتضى الحال ـ وزيادة في بيان هذا الجانب البلاغي ، نأتي بنماذج أخرى من آياته ، حصل فيها تقديم وتأخير وعكس في العبارات ، ممّا قد يتخيل معه أنّه تنويع وتفنن في الكلام ، ولكن بالتأمّل فيها يتّضح أنّه ليس كذلك ، وإنّما اختلاف التعبير نشأ من اختلاف المقتضيات .
١ ـ يقول سبحانه في سورة الأنعام : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (٢) .
ويقول سبحانه في سورة الإسراء : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ
__________________
(١) ما ذكرناه في هذا العرض ، اقتبسناه من كتاب « التفسير البياني للقرآن الكريم » ، ج ١ ، ص ٢٣ ـ ٥٥ . بتلخيص وتصرّف .
(٢) سورة الأنعام : الآية ١٥١ .
نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) (١) .
والنهي في كلتا الآيتين متوجه إلى الوالدين . ووجه الإختلاف بينهما أنّ الداعي إلى القتل في الآية الأُولى هو الفَقْرُ المُحَقَّق ، السائد في حياة الوالدين ، بدلالة قوله : ( مِّنْ إِمْلَاقٍ ) . وفي الثانية هو الفَقْر المتوقع ، بدلالة قوله : ( خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ) . فاختلفت حال الوالدين .
ففي الآية الأُولى ، الخطاب متوجه إلى الوالدين الفقيرين ، حال الخطاب ، فناسب أن يبدأ وعده بالرزق بهما ثم بأولادهما .
وهذا بخلاف الآية الثانية ، فإنّ الخطاب فيها متوجه إلى الوالدين الميسورين المرزوقين بالفعل ، ويخافان العيلة والعجز عن رزق أولادهم ولأجل ذلك كانوا يرتكبون ذلك العمل الأسود الوبيل ( قتل أولادهم ) ، فناسب أن يبدأ وعده بالرزق ، بالأولاد أوّلاً ، وبالوالدين ثانياً .
٢ ـ يقول سبحانه في عرض مشهد من مشاهد يوم القيامة وما يكون الناس عليه من فزع وكرب : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (٢) .
وفي سورة أُخرى ، في عرض مشهد من هذا اليوم ، يقول : ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ) (٣) .
ففي الآيتين ألفاظ مشتركة ، مثل « بنيه » و « صاحبته » و « أخيه » . لكن قَدّم في الأولى الأخ ، فالأُم ، فالأَب ، فالصاحبة ، فالبَنين ، مبتدءً بالعزيز فالأَعزّ .
وفي الثانية عَكَس فقَدَّم البنين ، فالصاحب ، فالأَخ ، فالفصيلة ، فسائر
__________________
(١) سورة الإسراء : الآية ٣١ .
(٢) سورة عبس : الآيات ٣٤ ـ ٣٧ .
(٣) سورة المعارج : الآيات ١١ ـ ١٤ .
الناس ، مقدّماً الأعزّ فالعزيز . فما هو الوجه في هذا التقديم والتأخير ؟ .
الجواب : إنّ الآية الأُولى تُصَوّر مشهد الفرار من العذاب والبلاء ، والآية الثانية تمثّل مشهد دفع العذاب عن النفس .
ففي المقام الأول يتخلّى الإنسان عن العزيز فالأَعزّ ، حتى لا يبقى معه شيء يمكنه أن ينخلع عنه لينجو بنفسه . فلأجل ذلك بدأ في الآية الأُولى بالأخ ، فالأُم ، فالأَب ، فالصاحبة ، فالبنين .
وأمّا في المقام الثاني ، فالإنسان فيه في حالة الإفتداء من العذاب الشديد الرهيب ، ففي هذا الحال يفدي بعض جوارحه ببعض ليدفع عنه لهيب جهنم . فإن لم ينجع ، يتناول للوقاية أقرب شيء وأحبّه إليه لعلّه ينجو ، وهم البنون ، فالصاحبة ، فالأخ .
فصار الموقفان مختلفين متباينين ، فالحالة الأُولى تمثّل حركة فرار ، والثانية تمثّل حركة دفاع من خطر داهم . وهذه النكتة ، أوجبت اختلاف النظم بين الآيتين ، وعليها جرى قول الشاعر :
ألقى الصحيفةَ كي يُخَفِّفَ رَحْلَهُ |
والزادَ حتى نَعْلَهُ أَلقاها |
فإنّ النعل للمسافر الراجل في الصحراء ، أعزّ الأشياء . وبما أنّ الموقف موقف حركة فرار ، إبتدأَ بالقاء العزيز فالأعز حتى وصل إلى النعلين .
٣ ـ يقول سبحانه : ( لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (١) . فَقَدَّمَ الجِهادَ بالأَمْوالِ على الجِهادِ بالأنفس في مَوْردين من هذه الآية .
ويقول سبحانه في آية أخرى : ( إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ
__________________
(١) سورة النساء : الآية ٩٥ .
وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ) (١) . فقدم هنا الأنْفَس على الأموال ، مع أنّها واردة أيضاً في مجال الجهاد .
فهل هذا للتفنن في العبارة ؟ أو أنّ الحال يقتضي في الآية الأُولى ونظائرها ، تقديم الجهاد بالأموال على الأنفس ، وفي الآية الثانية العكس .
التحقيق هو الثاني ، بل هو المتعين ، لأنّ الآية الأُولى بصدد بيان جهاد المؤمنين بالأموال والأنفس ، ومن المعلوم أنّ الإنسان يبتديء في الجهاد بالعزيز فالأعز ، فيجاهد بماله أولاً ثم بنفسه . وأمّا الآية الثانية فهي بصدد بيان شراء الله سبحانه من المؤمنين ، ومن المعلوم أنّ المشتري يبتغي الأعزّ فالعزيز ، ويختار لنفسه الأغلى فالغالي . والنفوس أغلى من الأموال .
والعجب أنّ القرآن راعى هذه النكتة في جميع الموارد التي ذكر فيها الجهاد بهما (٢) .
٤ ـ يقول سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم عليه السلام : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ، إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (٣) فقدم فيها التعليم على التزكية .
ولكن في موضع آخر عكس وقدم التزكية على التعليم ، فقال : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) (٤) . فعكس في هذه الآية وقَدّم فيها التزكية على التعليم .
__________________
(١) سورة التوبة : الآية ١١١ .
(٢) لاحظ الآيات التاليات : الأنفال : ٧٢ ، التوبة : ٢٠ و ٤١ و ٤٤ و ٨١ و ٨٨ ، الحجرات : ١٥ ، الصف : ١١ .
(٣) سورة البقرة : الآية ١٢٩ .
(٤) سورة الجمعة : الآية ٢ .
ونحن نترك للباحث الكريم استكشاف وجه الإختلاف بين الآيتين ، ليستنبطه على ضوء ما ذكرنا . وكم لهذا من نظير في كتاب الله المجيد .
* * *
الأمر الثاني ـ سمو المعاني
إنّ التالي لآيات الذكر الحكيم ـ إذا كان ممعناً في تلاوته ـ يرى في كل سورة وآية عظة وتنبيهاً ، وإعلاماً وتذكيراً ، وترغيباً وترهيباً ، وتشريعاً وتقنيناً ، وقصصاً ، وعبراً ، وبراهين وحُجج ، ترقى بروح الإنسان وتحلّق بها في سماء المعنويات . فهذه المعاني العالية السامية الدقيقة ، إذا حَمَلَتْها ألفاظ فصيحة ، وصِيغَتْ في نُظُم رصينة ، وَرُصِّعَتْ بأُسلوب بديع ، وأُلقيت على مقتضى الحال ، بهرت العقول ، وخَلَبَتْ النفوس ، وسَلَّمَتْ بعجزها عن معارضته والإتيان بمثله .
وقد ركّز النبي الأعظم في حديثه عن القرآن ، على هذا الأمر ، حيث قال : « وباطنه عميق » . كما اعترف به عدوّه اللدود ، الوليد بن المغيرة ، حيث قال : « إنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لَمُغْدق » .
إنّ النظرة الفاحصة ، في آثار الكُتّاب والمؤلفين ، تدفعنا إلى القول بأنّهم لا يخرجون عن طائفتين : طائفة تهتم بتزيين الألفاظ دون العناية بسمو المعنى .
وطائفة أُخرى تهتم بإبداع المعاني من دون عناية بتحسين اللفظ .
وقلما يتّفق من يراعي كلا الأمرين ، والجمع بينهما مشكل . لأنّ الألفاظ والجمَل الخلّابة لا تطابق الموضوعية والواقعية . فالذين يرغبون في إفهام المعاني لا يفتشون عن الألفاظ والعبارات الخلّابة . فالجمع بين الجمالين ، رهن عبقرية ونُبوغ قادرين على تحمّل عبئهما .
والقرآن الكريم أَبْرَزُ نَموذَجٍ للقسم الثالث . فألفاظه في منتهى العُذوبة ، ومقاطع الآيات وفواصلها في غاية الأناقة ، والأُسلوب في منتهى البداعة ، وقد ضمّ إلى هذا الجمال الظاهر ، عمقاً في المعنى ، لا تجد له مثيلاً في زبر الأولين وكتب الآخرين .
إن التصوير الدقيق لسمو معاني القرآن لا يتأتى إلّا بذكر نماذج من الآيات في مجالات مختلفة .
١ ـ المعارف العُلْيا
يتجلى سمو معاني القرآن في مجال المعارف بشكل واضح . فقد جاء هذا الكتاب بأسمى المطالب ، وأغزر المضامين ، في الدعوة إلى التوحيد ورفض الأصنام ، ونفي الشرك والإثنينيّة ، بل في باب إثبات الصانع ، وصفاته . مضافاً إلى ما جاء من المضامين الدقيقة الفلسفية في الدعوة إلى عالم الغيب ، وبقاء الروح بعد فناء البدن ، وحشر الإنسان وعوده إلى الحياة ، إلى غير ذلك ممّا ذكرنا بعضاً منه في الجزء الأول ، ونذكر بعضاً آخر فيما يأتي من المباحث . ولكن لأجل عرض نموذج منه نأتي في هذا المقام بآيات :
أ ـ يقول سبحانه : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ) (١) .
أُنظر إلى هذا البيان الجزل ، كيف يشير إلى برهان الإمكان بصورة موجزة مستحكمة لم يكن العرب ولا حكماؤهم عارفين به . وتتّضح حقيقة سمو المعنى إذا أمعنت النظر في كل شقّ من هذه الشقوق الأربعة .
ب ـ يقول سبحانه : ( مَا اتَّخَذَ اللَّـهُ مِن وَلَدٍ ، وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـٰهٍ ، إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ ، وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٢) .
ويقول سبحانه : ( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا ، فَسُبْحَانَ اللَّـهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٣) .
__________________
(١) سورة الطور : الآيات ٣٥ ـ ٣٧ . وقد تعرضنا إلى مفاد الآيات في الجزء الأول من الكتاب .
(٢) سورة المؤمنون : الآية ٩١ .
(٣) سورة الأنبياء : الآيتان ٢١ و ٢٢ .
فترى أنّه يستدلّ في هذه الآيات على التوحيد في التدبير ، وأنّ النظام الجُمَلي يدار بمدبّر واحد لا غير .
ج ـ إنّ القرآن يستدلّ على إمكان المعاد وعود الإنسان إلى الحياة ثانياً بطرق مختلفة ، بشكل يقنع المتحري للحقيقة ، المتجرّد عن العناد . وإليك نظرة عابرة عليها .
فتارة يستدلّ عن طريق عموم القدرة على كل شيء ، على إمكان المعاد ، ويقول : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) .
وأخرى عن طريق قياس الإعادة على الحياة الأولى ، ويقول : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) (٢) .
وثالثة عن طريق قياس إمكان إحياء الموتى بإحياء الأرض ـ بعد موتها ـ بالمطر والنبات ، ويقول : ( وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ) (٣) .
ورابعة عن طريق قياس قدرة الإعادة ، على القدرة على إخراج النار من الشجر الأخضر ، ويقول : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) (٤) .
وخامسة عن طريق الإستدلال بالوقوع على إمكان العود . فإن أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، ولأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني إسرائيل (٥) وحديث عُزَيْر (٦)
__________________
(١) سورة الأحقاف : الآية ٣٣ .
(٢) سورة الأنبياء : الآية ١٠٤ .
(٣) سورة الروم : الآية ١٩ .
(٤) سورة يس : الآيتان ٧٩ و ٨٠ . وسيوافيك مفاد الآية بشكل ألطف مما ذكر كثير من المفسّرين . ورائدنا فيه التدبير في ذيل الآية .
(٥) سورة البقرة : الآيات ٦٧ ـ ٧٣ .
(٦) سورة البقرة : الآية ٢٥٩ .
وسادسة عن طريق الإستدلال بالنَّوْمات الطويلة التي امتدت أكثر من ثلاثمائة سنة ، فإنّ النوم أخو الموت ، ولا سيما الطويل منه ، والإستيقاظ منه يشبه تطور الحياة وتجددها (١) .
فهذا النوع من البرهنة على عقيدة هي كالعمود الفقري في باب العقائد ، ممّا لا ترى له مثيلاً في كتب الأقدمين ، فإنّ هذه المعاني البديعة إذا انضمّ إليها الإستحكام في البيان ، تبهر العقول وتدهش النفوس .
وهذا النوع من العمق وافر في الآيات الواردة حول المعارف والعقائد ، وقد اكتفينا بما ذكرناه .
* * *
٢ ـ سطوع براهينه
إنّ القرآن الكريم كتاب الهداية ، نزل للناس أجمعين ، ليبقى خالداً على جبين الدهر ، يرجع إليه كل من تحرّى الحقيقة ، وارتاد الواقع ، ولأجل ذلك اعتمد على البراهين اللامعة ، لا على الأساليب المعقّدة التي كانت ولم تزل ، رائجة بين الفلاسفة . فأخذ من المسلّمات برهاناً على النظريات ، ومن المشاهدات دليلاً على الحقائق غير المحسوسة ، كل ذلك ببيان واضح ، لا يقبل الخدش والشك . ويستلذّ به الذوق ، وتستسلم له العقول . وإليك نماذج من هذه البراهين :
١ ـ قال تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) (٢) .
فلاحظ ما أحلى استدلاله على نَفْي الولد ، بأنّه لو كان له وَلَدٌ كما يقول هؤلاء ، فاللائق للاتخاذ ولداً ، هم الأنبياء والمرسلون ، الذين عبدوه ، وخضعوا له ، وائتمروا بأمره .
__________________
(١) سورة الكهف : الآيات ٩ ـ ٢٩ .
(٢) سورة الزخرف : الآية ٨١ .
٢ ـ وقال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (١) . إذا كان الخصم معترفاً بأنّ الله هو الذي بدأ الخلق . . . إذن فالإعادة أهون من البدأة ، لأنّها من شيء ، وتلك لا من شيء .
٣ ـ وقال تعالى : ( وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) (٢) . فقد رتّب دخولهم الجنة على ولوج الجمل في خرم الأبرة . ولما كان ذلك أمراً ممتنعاً ، كان ذاك أيضاً مثله . فقد أبدى امتناع دخولهم الجنة بهذا الشكل القياسي بكناية بديعة .
٤ ـ وقال تعالى : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) (٣) . فقد رتّب النتيجة على صغرى القياس مع حذف الكبرى لظهورها ، وهي : أنّ من أعطاه الله الكوثر ـ وهي مجموعة المكرّمات ـ فينبغي له أن يؤدّي شكره الواجب ، بالإبتهال إلى الله والمثول لديه بكل الوجود .
٥ ـ وقال تعالى : ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ) (٤) . قياس استثنائي مركّب من قضيّة شرطية مضمونها : ( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ) (٥) . وأُخرى حملية استثنائية مضمونها : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ ) (٦) .
__________________
(١) سورة الروم : الآية ٢٧ .
(٢) سورة الأعراف : الآية ٤٠ .
(٣) سورة الكوثر : الآيتان ١ و ٢ .
(٤) سورة الأعراف : الآية ١٧٦ .
(٥) سورة الإسراء : الآية ١٩ .
(٦) سورة طه : الآيات ١٢٤ ـ ١٢٦ .
٦ ـ وقال تعالى : ( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) (١) . الكبرى مطوية ، أي وَكُلُّ آفلٍ غير مستحق للعبادة .
* * *
٣ ـ بداعة التصوير والتعبير
إنّ للقرآن طريقة موحدة في التعبير يتّخذها في أداء جميع الأغراض على السواء ، حتى أغراض البرهنة والجدل ، وتلك طريقة صوغ المعاني العالية في قالب التجسيم والتمثيل . ونحبّ أن نزيد المسألة إيضاحاً بالنماذج ، وأنّه كيف يصوّر المعاني السامية والحالات النفسية ويبرزها في صور حسيّة ، من غير فَرْقٍ بين المشاهد الطبيعية ، والحوادث الماضية والقصص المروية ، ومشاهد القيامة ، وصور النعيم والعذاب ، فيعبّر عن الكلّ كأنّها حاضرة شاخصة ، ولا شكّ أنّ هذه الطريقة تتفوق على نقل المعاني والحالات النفسية في صورها الذهنية التجريدية ، ونقل الحوادث والقصص أخباراً مروية ، والتعبير عن المشاهد والمناظر تعبيراً لفظياً لا تصويراً خيالياً . وإليك الأمثلة .
١ ـ معنى النفور الشديد من دعوة الإيمان ، يعبّر عنه بوجهين : أحدهما تجريدي ، والآخر تصويري .
فيقال في الأول : « إِنَّهُمْ لَيَنْفِرونْ أَشَدَّ النِّفْرَةِ مِنْ دَعْوَةِ الإِيمان » . فيتملَّى الذهن وحده معنى النفور في برود وسكون .
ويقال في الثاني : ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ) (٢) فتشترك مع الذهن حاسة النظر ، وملكة الخيال ، وانفعال السخرية من هؤلاء الذين يفرون ، كما تَفر حُمُر الوحش من الأسد ، لا لشيء إلّا
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ٧٦ .
(٢) سورة المدثّر : الآيات ٤٩ ـ ٥١ .
لأنّهم يدعون إلى الإيمان . فتأخذ النفس روعة الجمال الذي يرتسم فيه صورة شرود هذه الحمر يتبعها قسورة المرهوب .
٢ ـ معنى عجز الآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله يُعَبَّر عنه بوجهين : أحدهما ذهني مجرّد ، والآخر تصويري .
ففي الأول يقال : « إنَّ ما تَعْبُدونَ مِنْ دُونِ الله لأَعْجَزُ عَنْ خَلْقِ أَحْقَرِ الأَشْياء » . فَيَصِلُ المعنى إلى الذهن مجرّداً باهتاً .
وفي الثاني يقال : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) (١) .
ففي الثاني أُبرز هذا المعنى بِصُوَرٍ متحركةٍ متعاقبةٍ .
« لن يَخْلُقُوا ذُباباً » ، هذه درجة .
« وَلَوْ اجْتَمعوا له » ، هذه أُخرى .
« وإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ » ، وهذه الثالثة .
ففيها تصوير للضعف المُزري ، والتدرّج في تصويره بما يثير في النفس السخرية اللاذعة والإحتقار المهيب .
٣ ـ يُعَبَّر عن حالة تخلي الأولياء عن تابعيهم أمامَ هول القيامة بصورتين ، كالسابقتين . في إحداهما ، يقال : لا لَقَدْ تَناكَرَ الأَصفْياءُ وتَخَلّى المَتْبوعونَ عن التابِعينَ حينما شاهدوا الهَوْل يَوْمَ الدِّينِ » .
وفي ثانيتهما ، يقال : ( وَبَرَزُوا لِلَّـهِ جَمِيعًا ، فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ، فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّـهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا : لَوْ هَدَانَا اللَّـهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن
__________________
(١) سورة الحج : الآية ٧٣ .
مَّحِيصٍ ) (١) .
ففي هذا الإستعراض يتجسم للخيال مشهدان :
الضعفاء الذين كانوا ذيولاً للأقوياء ، وهم ما يزالون في ضعفهم يلجأون إلى الذين استكبروا في الدنيا ، يسألونهم الخلاص من هذا الموقف ، ويعتبون عليهم إغواءهم في الحياة ، متمشين في هذا مع طبيعتهم الهزيلة ، وضعفهم المعروف .
والذين استكبروا ، وقد ذلّت كبرياؤهم وواجهوا مصيرهم ، وهم لا يملكون لذات أنفسهم خلاصاً ، فضلاً عن تابعيهم ، فما يزيدون على أن يقولوا لهم : « لَوْ هدانا الله لَهَدَيْناكُمْ » .
٤ ـ يُعَبَّر عن بطلان أعمال الكافرين بأنّها : « لا وَزْنَ لَها ولا تَنْفَعْ » . كما يعبر عن ضلالتهم الدائمة ، بأنّهم : « لا مَخْرَجَ لهم منها ولا هاديَ لهم فيها » . ولكن في هذا التعبير ركود وسكون لا تَنْتَعش النفس به أبداً .
وأين هو من التعبير القرآني في كلا الموردين ( بطلان أعمالهم ، وإحاطة الضلالة بهم ) الذي تحيا فيه النفس وتتحرك ، وينتعش فيه الحسّ والخيال : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّـهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّـهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (٢) .
ويقول : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ ، مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ ، مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ، وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّـهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) (٣) .
ففي التعبير الثاني ـ في كلا الموردين ـ صور متينة ساحرة فيها روح القصة ، والخيال العميق .
__________________
(١) سورة إبراهيم : الآية ٢١ .
(٢) سورة النور : الآية ٣٩ .
(٣) سورة النور : الآية ٤٠ .
وأين للريشة في ترسيم هذه الصور لو أُريد تصويرها بالألوان ، وإلى أين للعدسة لو أُريد تصويرها بالحركات .
بل أين هي الريشة ، وأين هي العدسة ، التي تستطيع أن تبرز هذه الظلمات : ( فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ) ؟ . أو تصوّر الظمآن يسير وراء السراب : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) ، ووجد مفاجأة عجيبةً لم تكد تخطر له على بال ، وجد الله عنده ، وفي سرعة خاطفة تناوله ، فوفّاه حسابه .
٥ ـ وَمِنْ هذا الوادي تصوير معنى الضلال بعد الهدى . وضياع الجهد معه سدى ، تلك الصور المتتابعة التي يجيش بها الحسّ والخيال ، وتحيىٰ بها النفس ، يقول سبحانه :
( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ ، فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّـهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّـهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ، كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ، وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) .
إنّ هنا مشهداً من الصور المتتابعة في شرائط متحركة ؛ هؤلاء هم قد أوقدوا النار فأضاءت ، وفَجأة يذهب الله بنورهم ويُخَيِّمُ حولهم الظلام . أو ها هي ذي العاصفة صَيّبٌ من السماءِ فيه ظلمات ورعد وبرق ، وهؤلاء هم مذعورون يتوقعون الصاعقة ، ويخافون الموت ، فيجعلون أصابعهم في آذانهم ، وما تغني الأصابع في الآذان ، ولكنها حركة الغريزة في هذا الأَوان . وها هو ذا البرق يخطف الأبصار ولكنه ينير الطريق لحظة ، فهم يخطون على ضوئه خطوة ، وها هوذا ينقطع فيظلّون واقفين لا يدرون كيف يَخْطون .
__________________
(١) سورة البقرة : الآيات ١٦ ـ ٢٠ .
لون آخر من التصوير الفني
هذه نماذج من التصوير الفني في القرآن الكريم وهناك لون آخر من التصوير يضفي على المعاني الذهنية والحالات المعنوية صوراً حسيّة . مثلاً :
١ ـ الصبح مشهدٌ مألوف متكرر ، ولكنه في تعبير القرآن حيٌّ لم تشهده من قبل عينان ، وأنه ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) (١) .
٢ ـ والليل آن من الزمان معهود ، ولكنه في تعبير القرآن ، حي جديد ، ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ) (٢) ، وهو يطلب النهار في سباق جبّار ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) (٣) .
٣ ـ والظلّ ظاهرة تُشهد وتُعرف ، ولكنه في تعبير القرآن نَفْسٌ تَحُسُّ وتَتَصرّف ، ( وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ) (٤) .
٤ ـ والجدار بُنْيَةٌ جامدة كالجلمود ، ولكنه في تعبير القرآن يحسّ ويريد : ( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ) (٥) .
٥ ـ والطَّير أبنية حية ، ولكنها مألوفة لا تلفت الإنسان ، أمّا في تعبير القرآن فمشهد رائعٌ ، يثير الجَنان : ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ، مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَـٰنُ ) (٦) .
٦ ـ والأرضُ والسماءُ ، والشَّمْسُ والقَمَرُ ، والجبال والوديان ، والدُور العامرة ، والآثار الداثرة ، والنبات والأشجار والأفنان ، أمواتٌ عند الناس ، لكنها في القرآن أحياء ، أو مشاهد تخاطب الأحياء ، فليس هناك جامد ولا ميت بين الجوامد والأشياء (٧) .
__________________
(١) سورة التكوير : الآية ١٨ .
(٢) سورة الفجر : الآية ٤ .
(٣) سورة الأعراف : الآية ٥٤ .
(٤) سورة الواقعة : الآيتان ٤٣ و ٤٤ .
(٥) سورة الكهف : الآية ٧٧ .
(٦) سورة المُلك : الآية ١٩ .
(٧) ما ذكرناه اقتبسناه من « التصوير الفني في القرآن » ، للسيد قطب ، ص ١٩٣ ـ ٢٠٣ .
٤ ـ الأمثال
يشتمل القرآن الكريم على أكثر من خمسين مثلاً في مجال هِداية الناس . وهذه الأمثال مع بساطتها غزيرة المعاني ، عالية المضامين . ونحن نذكر في المقام نموذجاً منها يتبلور فيه عمق المعنى بشكل آخر .
الصراع بين الحق والباطل
يصوّر القرآن الكريم الصراع القائم بين الحق والباطل بصورة مثل بديع ، يشتمل على نكات بعيدة الأغوار ، عميقة الإشارات ، في ألفاظ قليلة ، وعبارات متناسقة ، ويقول :
( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ، وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ، كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ، كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ ) (١) .
إنّ هذه الآية من أعمق الآيات القرآنية ، فهي ـ بلباس المثل ـ تطرح معاني سامية تبين فيها مكانة الباطل من الحق . ففي هذا المثال ، تشبّه الآية كلا من الحق والباطل بأمرين :
الأول : إنّ الحق كالماء النازل من السماء ، المتجمع في أعماق الأرض ، أو الجاري جداول وأنهاراً ، بعد انحداره من سفوح الجبال إلى الأودية والسهول .
والباطل كالزبد والرغوة التي تعلو وجه الماء حال سيلانه واندفاعه ، التي لا تلبث أن تتلاشى كأنّ لم تكن شيئاً مذكوراً .
الثاني : إنّ الحق كرواسب الأتربة المعدنية المذابة في الأفران ، فإنّها خالص المعادن والفلزات .
__________________
(١) سورة الرعد : الآية ١٧ .
والباطل كالزبد والفقاعات التي تعلو هذه الأتربة حال غليانها ، التي سرعان ما تنفجر وتتبخر .
فالصورة العامة التي يعطيها هذا المثل ، ترسيم ثبات الحق ودوامه بتشبيهه ، بالماء النازل من السماء ، الجاري في الأودية والوهاد ، الغائر في أعماق الأرض ، ثم الظاهر ، بصورة العيون والينابيع ، التي تستفيد المخلوقات منها في دوام حياتها . وبالمعادن المذابة ، الراسبِ خالصها في أعماق الأفران ، التي يستفيد منها الناس في زينتهم وأمتعتهم .
وكذلك ترسيم سرعة أُفول الباطل بعد نجومه بتشبيهه بالزبد الذي يرغو فوق الماء ، والمعادن المنصهرة ، الذي يتصوره الجاهل شيئاً ثابتاً قائماً ، ولكن ما أسرع اختفاءه وزواله ، فلا يرى منه عين ولا أثر .
وعلى ذلك فللحق ثبات ودوام ، وللباطل جولة وزوال .
ومع هذا ، ففي هذا المثل معانٍ عميقة ، وإشارات دقيقة إلى مكانة كل من الحق والباطل ، نشير إلى بعضها . .
١ ـ إنّ الحق والباطل يتمثّلان في مجال العقيدة ، في الإيمان والكُفْر ، والعَدْل والظُلم .
فبالإيمان بالله تبارك وتعالى تحيا القيم الإخلاقية ، كما أنّ بالكفر موت المثل والفضائل وانعدام الكمالات الإنسانية .
ومثل ذلك العدل والظلم ، ففي ظِلّ العدل تتفجّر الطاقات وتترقى المجتمعات ، وينال كل إنسان الغاية التي يليق بها ، كما أنّ في الظُلم كبت الإستعدادات ، وتقديم المفضول وتأخير الفاضل ، ولن يزال المجتمع الظالم يتدهور إلى أن لا يرى له أثر .
فأشبه الإيمان والعدل ، الماء الذي
به حياة كل شيء ، وخالص المعادن المترسب في قعر أفران الصَّهْر ، إذ عليها تعتمد حياة الإنسان الدنيوية ، وتترتب المنافع الكثيرة ، قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ