الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٦١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

علوماً كونية ، ولا نجد إخباراً بالغيب يقع بعد سنين ، ومع ذلك سحر عقول العرب وتحدث عنه ابن المغيرة بعد التفكير والتقدير ، بما تحدّث .

لا بدّ إذن أنّ السحر الذي عناه ، كان كامناً في مظهر آخر غير التشريع والغيبيات والعلوم الكونية ، لا بدّ أنّه كامن في صميم النسق القرآني ذاته ، وكان هذا يتجلى من خلال التعبير الجميل المؤثّر المعمّر المصوّر .

وعلى ذلك فالجمال الفنّي الخالص ، عنصر مستقل في إثبات إعجاز القرآن (١) ، ويتجلى ذلك في أمور أربعة تضفى على القرآن ـ مجتمعة ـ إعجازه وتفوّقه ، وهي :

١ ـ فصاحةُ ألفاظه وجمالُ عباراته .

٢ ـ بلاغةُ معانيه وسموُّها .

٣ ـ روعة نظمه (٢) وتأليفه . ويراد منه : ترابط كلماته وجُمَله ، وتناسق آياته ، وتآخي مضامينه ، حتى كأنّها بناء واحد ، متلاصق الأجزاء ، متناسب الأشكال ، لا تجد فيه صَدْعاً ولا انشقاقاً .

٤ ـ بداعة أُسلوبه الذي ليس له مثيل في كلام العرب ، فإنّ لكل من الشعر والنثر بأقسامه ، أسلوباً وسبكاً خاصاً ، والقرآن على أُسلوب لا يماثل واحداً من الأساليب الكلامية والمناهج الشعرية .

وهذه الدعائم الأربع إذا اجتمعت ، تخلق كلاماً له صنع في القلوب ، وتأثير في النفوس . فإذا قرع السمع ، ووصل إلى القلب ، يحسّ الإنسان فيه لذّة وحلاوة في حال ، وروعةً ومهابةً في أخرى ، تقشعر منه الجلود ، وتلين به القلوب ، وتنشرح به الصدور ، وتغشى النفوس خشية ورهبة ووجد وانبساط ، ويحسّ البليغ بعجزه عن المباراة والمقابلة . ولأجل ذلك ، كم من عدو للرسول من

__________________

(١) لاحظ التصوير الفنّي في القرآن الكريم سيد قطب فصل سحر القرآن ، ص ١١ ـ ٢٣ .

(٢) ربما يطلق النظم في كلماتهم ويراد منه الأسلوب والسبك الذي هو الأمر الرابع ، ولأجل ذلك نردفه بالتأليف حتى لا يشتبه المراد .

٢٦١
 &

رجال العرب وفُتّاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله ، فسمعوا آيات من القرآن ، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم ، أن تَحَوّلوا عن رأيهم الأول ، وركنوا إلى مسالمته ، ودخلوا في دينه ، وانقلبت عداوتهم موالاةً ، وكفرهم إيماناً .

يقول سبحانه : ( لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ ) (١)

ويقول سبحانه : ( اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ ) (٢) .

ويقول سبحانه : ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ) (٣) .

هذا ما يثبته التحليل الآتي لكلٍّ من هذه الدعائم . فليس المُدَّعى كون كل واحدة منها ، وجهاً مستقلاً للإعجاز ، وإنّما المراد أنّ كلّ واحدةٍ منها توجِد أَرْضِيَّةً خاصةً ، ليتشكل باجتماعها كلامٌ معجزٌ خارق ، مُبهر للعقول ، ومدهش للنفوس . فيجد الإنسان في نفسه العجز عن المباراة . والضعف عن التحدّي .

هذا ، وقد نقل السيوطي عن عدّة من المحققين في مسألة إعجاز القرآن أقوالاً كثيرةً (٤) ، غير أنّ بعضها خارج عن الإطار البياني ، الذي نحن بصدد تشريحه ، مثل انطواء القرآن على الإخبار بالمُغَيّبات ، الذي سنذكره في عِداد الشواهد الدالة على أنّ القرآن كتاب إلهي لا بشري ، ولكن لُبّ هذه الأقوال ـ التي ترجع إلى الإعجاز البياني ـ يتلخص في الدعائم الأربع التي اخترناها أساساً للإعجاز .

ولأجل توضيح هذه الدعائم الأربع نأتي بمقدمة نبيّن فيها معنى الفصاحة والبلاغة ، حتى يتبيّن نسبة كل واحدة من هذه الدعائم إلى الأُخرى .

__________________

(١) سورة الحشر : الآية ٢١ .

(٢) سورة الزمر : الآية ٢٣ .

(٣) سورة المائدة : الآية ٨٣ .

(٤) لاحظ الإتقان في علوم القرآن ، ج ٤ ، ص ٦ ـ ١٧ ط مصر ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم .

٢٦٢
 &

تعريف الفصاحة

الفصاحة يوصف بها المفرد كما يوصف بها الكلام .

والفصاحة في المفرد عبارة عن خلوصه من تنافر الحروف ، والغرابة ، ومخالفة القياس اللغوي المستنبط من استقراء اللغة العربية .

وقد ذكر القوم للتنافر وجهاً أو وجوهاً ، والحق أنّه أمْر ذوقي ، وليس رهن قرب المخارج ، ولا بعدها دائماً .

وأمّا الفصاحة في الكلام ، فهي خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد ، مع فصاحتها ، أي يشترط مضافاً إلى الشرائط المعتبرة في فصاحة المفرد ، الأُمور الثلاثة الواردة في صدر التعريف .

ثم إنّ التعقيد تارة يحصل بسبب خلل في نظم الكلام ، بمعنى تقديم ما حقّه التأخير وبالعكس ، وأُخرى بسبب بُعْد المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الكنائي المقصود .

والمتكفل لبيان الخلل في النظم هو النحو . والمتكفل لبيان الخلل في الإنتقال هو علم البيان ، فبما أنّه علم يبحث فيه عن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه وخفائه ، يشرح لنا التعقيد المعنوي ومراتبه ، فإنّ لكل معنى لوازم ، بعضها بلا واسطة ، وبعضها بواسطة ، فيمكن إيراده بعبارات مختلفة في الوضوح والخفاء (١) .

__________________

(١) وبعبارة أخرى : إنّ إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح ، لا يتأتّى بالدلالة المطابقية ، لأنّ السامع إن كان عالماً بوضع الألفاظ ، لم يكن كل واحد منها دالاً عليه ، وإن كان عالماً لم يكن بعضها أوضح دلالة عليه من بعض آخر ، وإنّما يتأتّى في الدلالة العقلية ، لجواز أن تختلف مراتب اللزوم في الوضوح . ويتضح ذلك في الدلالة ، الإلتزامية مثل دلالة قولنا : « زيد كثير الرّماد » و « زيد جبان الكلب » ، و « زيد مهزول الفصيل » ، على لازمه ، أعني كون زيد جواداً . فالكلُّ يدلُّ على ذلك اللازم ، لكن يختلف في الوضوح والخفاء ، لقلة الوسائط أو كثرتها .

وبما أنّ الخفاء والوضوح في الإنتقال إلى المعنى اللازم يتأتّى في الدلالة الإلتزامية ، انحصر المقصود من علم البيان في التشبيه والمجاز ، والكناية ، لكون المقصود من الجميع هناك هو المعنى الخارج عن المدلول اللغوي للّفظ ، فالمراد من المجاز هو المعنى غير الموضوع له بادعاء كونه من مصاديق

٢٦٣
 &

تعريف البلاغة

البلاغة في الكلام عبارة عن مطابقته لمقتضى الحال ، أي مطابقته للغرض الداعي إلى التكلم على وجه مخصوص . مثلاً : كون المخاطب منكراً للحكم ، حال يقتضي تأكيده ، والتأكيد مقتضى الحال . كما أنّ كون المخاطب مستعداً لقبول الحكم ، يقتضي كون الكلام عارياً عن التأكيد ، والإطلاق مقتضاها ، وهكذا في سائر الأبواب .

هذا كلّه مع لزوم اعتبار فصاحة الكلام في تحقق البلاغة ، فالبلاغة لها عمادان . أحدهما مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، والثاني فصاحة الكلام .

وها هنا نكتة وهي أنّ القوم حصروا معنى البلاغة في هذا المعنى ، وحاصله كون عرض المعنى موافقاً للغرض الداعي إلى التكلم ( مع فصاحة الكلام ) ، وجعلوا للبلاغة بهذا المعنى طرفين :

أحدهما : أعلى ، وهو حدّ الإعجاز ، وهو أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته .

والثاني : ما لا يبلغ إلى هذا الحدّ .

ولكل واحد درجات ومراتب .

ولا يخفى أنّ جعل البلاغة بهذا المعنى ( أي العرض الصحيح المطابق للغرض ) لا يكون ركن الإعجاز وإن بلغ الكلام إلى نهاية الإتقان في العرض ، ما لم يضمّ إليه شيء آخر ، وهو إتقان المعاني وسمو المضامين . وإلّا فالمعاني المبتذلة ، والمضامين المتوفرة بين الناس إذا عرضت بشكل مطابق للغرض الداعي إلى التكلم ، لا يصير الكلام معها معجزاً خارقاً للعادة .

__________________

= الموضوع له ، كما أنّ المراد من الكناية هو المعنى المكنّى عنه لا المكنى به . وأمّا التشبيه فهو وإن كان خالياً عن الدلالة الالتزامية ، لكنه يبحث عنه مقدمة للإستعارة التي هي من أقسام المجاز .

وبذلك يعلم أن الأولى تقديم علم البيان على علم المعاني ، لكون الأول متكفّلاً بتفسير التعقيد المعنوي الدخل بالفصاحة ، وأمّا علم المعاني فهو يرجع إلى البلاغة ، كما سيظهر .

٢٦٤
 &

ولأجل ذلك كان على القوم الذين جعلوا الفصاحة والبلاغة ركنين للإعجاز ، وملاكين له ، إضافة قيد آخر ، وهو كون المعاني والمضامين عالية وسامية ، تسرح فيها النفوس ، وتغوص فيها العقول .

ومن هنا نرى أنّ بعض أساتذة هذا الفن المعاصرين ، عرفوا البلاغة بشكل آخر ، قالوا : هي تأدية المعنى الجليل واضحاً بعبارة صحيحة فصيحة ، مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه ، والأشخاص الذين يخاطبون (١) .

فترى أنّه أضيف في التعريف وراء ملائمة كل كلام للموطن ( مطابقة الكلام لمقتضى الحال ) ، كون المعنى جليلاً .

وسيوافيك أنّ هذا المقدار من التعريف أيضاً غير واف للرقي بالكلام إلى حدّ الإعجاز ، بل يحتاج إلى دعامة أخرى وهي بداعة الأسلوب ورقيّه ، كما سيوافيك .

نكتة مُهمّة

إنّ ها هنا نكتة تلقي الضوء على سبب حصر فصاحة القُرآن ـ كما سيأتي ـ في خلوه عن تنافر الحروف والكلمات ، وتَرْكنا البحث عن كل ما ذكروه في فصاحة المفرد والكلام من الشرائط المتعددة ، فهل هذا يعني إنكار دخالة غيره في الفصاحة ، أوْ له معنى آخر ؟ .

والجواب : إنّ كونَ الكلمةِ متلائمةَ الحروف في فصاحة المفرد ، وكونَ الكلامِ متلائمَ الكلمات في فصاحة الجملة ، له القسط الأوفر في تحقق الفصاحة ، لأنّ الفصاحة تعتمد على مقاطع الحروف والكلمات أكثر من كل شيء . وأمّا غير ذلك ممّا ذكروه في تعريفهما ، فكأنّها معدّات لخروج الكلام عذباً حسناً ، بهيّاً نَضِراً ، له وقع في القلوب . ولأجل ذلك ركزنا على حديث تلاؤم الحروف والكلمات ، وخلوهما عن التنافر ، هذا .

__________________

(١) البلاغة الواضحة ، ص ٨ .

٢٦٥
 &

على أنّ البحث عن اشتمال القرآن على مخالفة القياس في فصاحة المفرد ، وضعف التأليف في فصاحة الكلام ، بحث زائد ، لأنّ القواعد تُعْرَض على القرآن ، ولا يعرض القرآن عليها ، لأنّه إمّا هو كلام إلهي فهو فوق القواعد ، وإمّا كلام بشري ، فهو صَدَرَ من عربي صميم في أعرق بيت من العرب ، ترحل إليه المواكب وتحطّ رحالها عنده . والمؤمن والملحد يعترفان بكون القرآن في درجة عالية من الكلام الذي ينبغي أن يُحتذى ويُقْتدى .

*       *      *

٢٦٦
 &

دعائم إعجاز القرآن

(١)

الفَصَاحَةُ : جمال اللفظ وأناقَة الظاهر

اعتمد علماء المعاني والبيان في تعريف فن الفصاحة على أمور ، وقد عرفت في المقدمة السابقة ـ نصوصهم على تلك الأمور .

لكن المهم في الفصاحة ، كون الكلمة عذبة مألوفة الإستعمال ، جامعة لنعوت الجودة وصفات الجمال ، كما أنّ المهم في فصاحة الكلام تلاؤم الكلمات في الجمل ، فإنّ التلاؤم يوجب حسن الكلام في السمع ، وسهولته في اللفظ ، وتقبل النفس معناه بوجه مطبوع ، لما يرد عليها المعنى بصورة حسنة ودلالة واضحة .

وأمّا غير العذوبة والتلاؤم من الشرائط فهو في الدرجة الثانية من تحقيق معنى الفصاحة ، وقد عرفت عدم اعتبار البعض ـ كمخالفة القياس في فصاحة المفرد ، وضعف التأليف بمعنى كونه على خلاف القانون النحوي المشتهر ـ في الفصاحة القرآنية ، لأنّ القرآن هو المقياس لهما .

والذوق السليم هو العُمْدَة في معرفة حسن الكلمات وسلاستها وتمييز ما فيها من وجوه البشاعة ومظاهر الإستكراه . لأنّ الألفاظ أصوات ، فالذي يطرب لصوت البلبل ، وينفر من أصوات البوم والغربان ، ينبو سمعه عن الكلمة إذا كانت غريبة متنافرة الحروف . ألا ترى أنّ كلمتي « المُزنة » ، و « الديمة » للسحابة الممطرة ، كلتاهما سهلة عذبة ، يسكن إليهما السمع بخلاف كلمة « البعاق » التي في معناهما ، فإنّها قبيحة ، تصكّ الآذان . وأمثال ذلك كثير في مفردات اللغة ،

٢٦٧
 &

تستطيع أن تدركه بذوقك . وهذا نظير الخط الحسن ، فإنّه يوجب إقبال الناس على قراءته ، وإمعان النظر في معناه ، بخلاف ما إذا كتب نفس ذلك الكتاب بخط رديء غير واضح .

يقول الإمام يحيى بن حمزة العلوي : « إنّ الفصاحة راجعة إلى الألفاظ ، والبلاغة راجعة إلى المعاني » . ويشرحه في مكان آخر بقوله : « إنّ المزايا الراجعة إلى الألفاظ ، تارة ترجع إلى مفردات الحروف ، وأُخرى إلى تأليفها من تلك الحروف ، وثالثة إلى مفردات الألفاظ ، ومرة إلى مركباتها . فهذه أوجه أربعة لا بدّ من اعتبارها في كون اللفظ فصيحاً » (١) .

ولأجل أنّ لتلاؤم الحروف والكلمات دوراً عظيماً في الفصاحة ، نركّز في هذا البحث ، على الخلو من تنافر الكلمة والكلمات ، بأن لا تكون نفس الكلمة ثقيلة على السمع ، كما لا يكون اتّصال بعضها ببعض مما يسبب ثقلها على السمع وصعوبة أدائها باللسان . وبما أنّ مخارج الحروف مختلفة ، فمنها ما هو من أقصى الحلق ، ومنها ما هو من أدنى الفم ، ومنها ما هو بين ذلك ، فلا بدّ في حصول التلاؤم من مراعاة تلك الصفات ، بأن لا يكون بين الحروف بُعْدٌ شديد ، أو قُرْبٌ شديد ، فعندها تظهر الكلمة أو الكلام سهلاً على اللسان ، وحسناً في الأسماع ، ومقبولاً في الطباع . وهذا إن لم يكن ملاكاً كليّاً لتمييز المتلائم عن المتنافر ، إلّا أنّه ميزان غالبي ، فلاحظ البيتين التاليين ترى الكلام في أحدهما في نهاية التنافر ، وفي الآخر في كمال التلاؤم .

قال الشاعر :

وَقَبْرُ حَرْب بِمكانِ قَفْرُ

وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ

فقيل ، إنّ هذا البيت يعسر لأحد أن ينشده ثلاث مرات متواليات دون أن يتتعتع ، لأنّ اجتماع كلماته ، وقرب مخارج حروفها يحدثان ثقلاً ظاهراً ، وإن كانت كلُّ واحدة منها غير مستكرهة ولا ثقيلة .

وقال شاعر آخر :

__________________

(١) الطراز : ص ٢١٤ و ٢٢٠ .

٢٦٨
 &

رَمَتْني وسِتْرُ الله بيني وبينَها

عشيةَ آرامِ الكِناس رَميمُ (١) .

ولأجل دخالة عذوبة الكلمة وتلاؤم الكلمات في تحقق الفصاحة ، أدرك صيارفة الكلام ، ومشاهير الفصحاء في عصر النبي ما عَبّر عنه الوليد بن المُغيرة بقوله : « إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة » .

يقول الإمام يحيى بن حمزة في شأن تركيب مفردات الألفاظ العربية ، الذي له دور كبير في فصاحة الكلام : « ولا بُدَّ فيه من مراعاة أمرين :

أمّا أولاً : فأن تكون كلّ كلمة منظومة مع ما يشاكلها ويماثلها ، كما يكون في نظام العقد ، فإنّه إنّما يحسن إذا كان كل خرزة مؤتلفة مع ما يكون مشاكلاً لها . لأنّه إذا حصل على هذه الهيئة كان له وقع في النفوس وحسنُ منظر في رأي العين .

وأمّا ثانياً : فإذا كانت مؤتلفة ، فلا بدّ أن يقصد ما وضع لها بعد إحراز تركيبها .

والمثال الكاشف عمّا ذكرناه ، العقد المنظوم من اللئالي ونفائس الأحجار ، فإنّه لا يحسن إلّا إذا أُلّف تأليفاً بديعاً ، بحيث يجعل كل شيء من تلك الأحجار مع ما يلائمه . ثم إذا حصل ذلك التركيب على الوجه الذي ذكرناه ، فلا بدّ من مطابقته لما وضع له ، بأن يجعل الإكليل على الرأس ، والطَوْق في العنق ، والشنف في الأُذن ، ولو ألّف غير ذلك التأليف ، فلم يجعل كل شيء في موضعه ، بَطَلَ ذلك الحُسن . وزال ذلك الرونق » (٢) .

مثلاً : قوله سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ) (٣) .

إنّ لهذه الآية تميّزاً ذاتياً عن كلام البشر ، لا يتمارى فيه منصف ، ولا يشتبه على من له ذوق في معرفة فصاحة الكلام . وذلك التميز رهن فصاحة أبنيتها ،

__________________

(١) هذا البيت لأبي حية النُمَيْري من شُعراء الحماسة ، لاحظ شرح الحماسة للتبريزي ، طبع محي الدين ، ج ٣ ، ص ٢٦٩ .

(٢) الطراز ، ج ٣ ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦ .

(٣) سورة الشورى : الآية ٣٢ .

٢٦٩
 &

وعذوبة تركيب أحرفها ، وكونها مجانبة للوحشي الغريب ، وبعدها عن الركيك المسترذل ، مضافاً إلى سلاسة صيغها .

فإنّه سبحانه قال : ( الْجَوَارِ ) ، ولم يقل : « الفُلْك » ، لما في الجَرْي من الإشارة إلى باهر القُدرة حيث أجراها بالريح ، وهي أرق الأشياء وألطفها ، فحرّك ما هو أثقل الأمور ، وأعظمها في الجرم . ( والفُلْك ، وإن كان مثل الجوار في العذوبة ، لكنه يفقد النكتة التي يشملها الآخر ) .

وقال سبحانه : ( فِي الْبَحْرِ ) ، ولم يقل : « في الطمطام » . ولا : « في العُباب » . والكل من أسماء البحر ، لأنّ البحر أسهل وأسلس ، وبالتالي أعذب وأجمل .

وقال سبحانه : ( كَالْأَعْلَامِ ) ، ولم يقل : « كالروابي » ، ولا : « كالآكام » ، إيثاراً للأخف الملتذ به ، وعدولاً عن الوحشي المشترك (١) .

من عجائب القرآن أنّه يعمد إلى ألفاظ ذات تركيب يغلب عليه الثقل والخشونة ، فيجمعها في معرض واحد ، ثم ينظم منها آياته ، فإذا هي وضيئة مشرقة ، متعانقة متناسقة . ومن نماذج ذلك ، قوله سبحانه :

( قَالُوا تَاللَّـهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) (٢) .

إسمعها ، هل تجد نَبْرَةً تخدش أذنك ؟ . واقرأها ، فهل تجد لفظاً يتعسر على شفتيك ، أو يضطرب في لسانك ، فيا لها من سلاسة وعذوبة واتّساق ، مع أنّ فيها كلمات ثقيلة بمفردها ثقلاً واضحاً في الأذن وعلى اللسان ، أعني قوله : « تالله . . . تفتؤا . . . حَرَضاً » . ولكنها حين اجتمعت في نظم قرآني ، خفّ ثقيلها ، ولان يابسها . وسلس جامحها ، وانقاد وذلّ نافرها ، فإذا هي عرائس مجلوة ، تختال في روض نضير . فهذه ثلاث كلمات من أثقل الكلام ، قد انتظمت

__________________

(١) الطراز ، ج ٣ ، ص ٢١٥ .

(٢) سورة يوسف : الآية ٨٥ .

٢٧٠
 &

مع خمس كلمات أخرى ، فكان من ثمانيتها عقد نظيم يقطر ملاحة وحسناً .

وأيضاً ، من بدائع القرآن وغرائبه أنّه يكرر الحرف الثقيل في آية واحدة ، ولكنه يلطفه بحروف خفيفة بنحو يعلو مجموعه العذوبة والخفة ، مكان الثقل والخشونة ، ومن هذا النوع قوله سبحانه : ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (١) .

فقد جمعت هذه الآية ثمانية عشر ميماً ، منثورة بين كلماتها ، حتى كأنّ الآية مشكلة كلّها من ميمات ، كما ترى في « أمم ممن معك . . . وأمم سنمتعهم » ، ومع هذا فإنّك إذ ترتل الآية الكريمة على الوجه الذي يُرَتَّل به القرآن ، لا تحسّ أنّ هنا حرفاً ثقيلاً قد تكرر تكراراً غير مألوف ، بل تجد الآية قد توازنت كلماتها وتناغمت مقاطعها في أعدل صورة وأكملها فلا تنافر بين حرف وحرف ، ولا تباغض بين كلمة وكلمة .

ونظير هذا قوله سبحانه : ( قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ ، وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ ، وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ ، وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ ، إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢) .

ففي الآية عشر ميمات ، قد جاءت في مطلعها ، ولكنها مع ذلك كأنّها ميم واحدة ، ولو أنّ حرفاً آخر دخل في نظم الآية لما انبعث منها هذا الصوت القوي المجلجل ، الذي يقتضيه المقام هنا ، ولتفككت أوصال النظم وتخاذلت قواه .

وهكذا ، إنّ القاف من أثقل الحروف نطقاً ، تستنفر طاقة الحلق واللسان ليشتركا في حملها وإخراجها مخرج الأصوات . ومع هذا الثقل ، فقد جاءت في بعض الآيات مكررة بصورة مأنوسة لا يلتفت قارئها إلى التكرار ، ولا يجد فيها الجهد والعناء .

__________________

(١) سورة هود : الآية ٤٨ . والميم المشدّدة عند القراءة تحسب اثنين .

(٢) سورة آل عمران : الآية ٢٦ .

٢٧١
 &

قال سبحانه : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ، قَالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ . قَالَ : إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (١) .

فقد جاء فيها أحد عشر قافاً ، لو نثرت هذه القافات في كلام أبسط من هذا ، لظهر عليه الثقل ، ولكنها جاءت في هذه الآية من غير أن تحدث قلقاً واضطراباً . وإنّما حصل هذا ، لكثرة الباءات واللامات في الآية ، فإنّ الباء مخرجها الشفة ، فهي أخفّ الحروف ، وتليها اللام في الخفة ، فإنّ مخرجها اللسان . وقد بلغت عدّة الباء أحد عشر ، واللام خمس عشر ، فأوجب كثرة دوران هذين الحرفين ، تلطيفاً في الثقل الذي توجبه القاف في كيان الآية .

ومثل ذلك ، قوله سبحانه : ( لَّقَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ اللَّـهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ . سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ، وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) (٢) .

فقد اجتمعت فيها عشر قافات ، وتكررت فيها اللام أحد عشر مرة ، فكسرت حدّة الثقل في القاف ، فترى ماءَ الحُسْن يترقرق على محياها ، والملاحة تقطر من جبينها .

هذه هي الدعامة الأولى للإعجاز ، وليست هي سبباً تامّاً له . ولأجل ذلك ربما يوجد في كلام البشر ما هو مشتمل على هذه الدعامة بصورة رفيعة ، مع أنّه ليس بكلام معجز ، لإمكان مقابلته والإتيان بمثله ، لمن تبحّر في تلك الصنعة ، ولأجل ذلك تعلو عليه سيماء الصنع البشري ، وما ذلك إلّا لأنّ الإعجاز البياني يبتني على الدعائم الأربع مجتمعة ، وليس ذاك الكلام مستجمعاً لها ليكون معجزاً فإنّه يفقد الأسلوب القرآني ، أعني الأسلوب الذي لا يشبه أُسلوب المحاورة ولا أسلوب الخطابة ولا الشعر ، كما سيوافيك شرحه . وإليك من ذلك نموذجاً :

إنّ من أفصح كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ـ الذي أصفقت

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٢٧ .

(٢) سورة آل عمران : الآية ١٨١ .

٢٧٢
 &

جهابذة الأدب على أنّه فارس ميدان البيان ، وبطل حلبته ـ قوله في وصف الإنسان :

« أمْ هذا الذي أنشأه في ظُلُماتِ الأَرحام ، وشُغُف الأَستار ، نُطْفَةَ دهاقاً ، وعَلَقَةً مِحاقاً ، وجنيناً ، وراضعاً ، ووليداً ، ويافعاً . ثم منحه قلباً حافظاً ، ولساناً لافظاً ، وبصراً لاحظاً ، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً ، ويُقَصِّرَ مُزدجراً . حتى إذا قام اعتدالُه ، واستوى مثالُه ، نَفَرَ مُسْتكبراً ، وخَبَطَ سادِراً ، ماتحاً في غَرْبِ هواه ، كادحاً سعياً لدُنياه ، في لذات طَرَبِه ، وبَدَواتِ أَرَبِه » (١) .

فإنّ هذه القطعة من خطبه عليه السلام سبيكة مرصّعة بيواقيت الكلم ، ومعالي معاني الحكم ، معدودة من مدهشات كلامه ، وقد توفرت فيها جوامع وجوه الحسن . ومع ذلك ، فأين هي من الكلام الإلهي المعجز ، الذي إذا جعلته إلى جنب هذا الكلام ، ظهر بكل وضوح أنّه ليس من كلام البشر .

لاحظ قوله تعالى : ( وَاللَّـهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٢) .

أو قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ ، وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ، وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٣) .

هذا فيما يرجع إلى الدعامة الأولى لإعجاز القرآن . ويشير النبي الأعظم في كلمة له في تعريف القرآن إلى هذه الدعامة والدعامة التالية :

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٨٣ .

(٢) سورة النحل : الآية ٧٨ .

(٣) سورة الحج : الآيتان ٥ و ٦ .

٢٧٣
 &

قال صلى الله عليه وآله : « إذا التبست عليكُمُ الفِتَن َكَقِطَعِ الليلِ المظلم ، فعليكم بالقرآن » . . . إلى أن يصفه بقوله : « ظاهِرُهُ أَنيق ، وباطِنُه عميق » (١) .

*       *      *

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٣٨ .

٢٧٤
 &

دعائم إعجاز القرآن

(٢)

البلاغة : جمال العرض وسمو المعنى

قد وقفت ، في التعريف الفنّي للبلاغة على أنّها عبارة عن خروج الكلام مطابقاً لمقتضى الحال . فلو كان المقام مقتضياً للتأكيد أو الإطلاق ، وذكر المسند والمسند إليه أو حذفهما ، والإيجاز أو الإطناب ، وغير ذلك ، جاء الكلام مطابقاً له . وقد أسهب علماء المعاني في تبيين مقتضيات الأحوال ، على وجه لم يدعوا لقائلٍ مقالاً .

وقد اهتمّ بعض من كتب في الإعجاز ، بأمر البلاغة أزيد من غيرها . حتى أنّ الخطابي قال : « وذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أنّ وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة ، ولكن صعب عليهم تفصيلها » (١) .

غير أنّا ركّزنا على أنّ البلاغة بهذا المعنى ، ترجع إلى عرض المقصود بشكل مطلوب ، ومفيد في تحقق غرض المتكلم ، ولكنه لا يكفي في توصيف الكلام بالبلاغة ما لم يضم إليه قيد آخر ، وهو كون المعنى سامياً ورفيعاً ، وقابلاً للذكر والإفادة ، وإلّا فالمعاني المبتذلة ، وإن أُلبست أجمل الحُلي ، وعرضت بشكل يقتضيه الداعي إلى التكلم ، لا توصف بالبلاغة ، وعلى فرض صحة التوصيف ، لا يكون مثل ذلك الكلام أساساً للإعجاز ، ولا دعامة له . ولأجل ذلك قلنا إنّ

__________________

(١) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ، الرسالة الأولى للخطابي ، ص ٢١ .

٢٧٥
 &

التعريف الصحيح للبلاغة هو عبارة عن تأدية المعنى الجليل بعبارة صحيحة فصيحة ، مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه .

وعلى ضوء ذلك ، فالكلام الساقط عن الإعتبار من حيث المضمون ، لا يتّصف بالبلاغة ، مثل ما حكي عن مسيلمة الكذّاب حيث أقسم بالطاحنات ، وقال « والطاحنات طحناً ، والعاجنات عجناً ، والخابزات خبزاً » . فأين هذه المفاهيم الساقطة السوقية الركيكة الفاقدة لأيّةِ قيمة ، من المعاني العالية السامية الواردة في قوله سبحانه : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) (١) .

فاللازم في البحث عن فصاحة القرآن ، التركيز على أمرين :

١ ـ مطابقة الكلام لمقتضى الحال .

٢ ـ سمو المعاني وعلو المضامين .

*       *      *

الأمر الأول ـ مطابقة الكلام المقتضى الحال

إنّ استقصاء جميع الأحوال التي يقع الكلام مطابقاً لها ، راجع إلى علم المعاني ، من علمي الفصاحة والبلاغة فذكروا مقتضيات الأحوال في أبواب الإسناد الخبري ، والمسند إليه ، والمسند ، ومتعلقات الفعل ، والإنشاء ، والفصل والوصل ، والإيجاز ، والإطناب والمساواة ، فذكروا الأحوال الطارئة على الكلام ومقتضياتها ، من ذكر المسند إليه وحذفه ، وتنكيره ، وتقديمه وتأخيره ، وتوصيفه وتأكيده ، إلى غير ذلك من الأحوال الطارئة على المسند إليه ، وبشكلٍ على المسند ، ولكل مقام . كما أنّ لكل من الإيجاز والإطناب والمساواة مقام .

ثم إنّ دراسة القرآن من حيث كونه مطابقاً للأحوال المقتضية ، يحتاج إلى

__________________

(١) سورة العاديات : الآيات ١ ـ ٣ .

٢٧٦
 &

تفسير حافل ، يفسّر القرآن من هذا الجانب ، ولعلّ « الكشاف » أحسن ما كتب في هذا الموضوع ، فقد ذكر الزمخشري فيه ، النكات البلاغية ، في تفسير الآيات ، وبذلك أثبت للقرآن إعجاز بيانياً خاصاً ، وأنّ كل آية بل كلّ كلمة واردة موردها .

ولما كانت الإحالة على مثل هذا الكتاب وغيره ، عن المحذور غير خالية ، نأتي بنماذج تثبت بلاغة القرآن ، وورود آياته وفق مقتضى الحال ، ونختار لذلك سورتين قصيرتين ، من السور المكية ، النازلة في أوائل البعثة .

١ ـ بلاغة سورة الكوثر

روى المفسرون أنّ العاص بن وائل السهمي رأى رسول الله صلى الله عليه وآله يخرج من المسجد ، فالتقيا عند باب بني سهم ، وتحدّثا ، وأُناس من صناديد قريش جلوس في المسجد ، فقالوا : من الذي كنت تتحدث معه . قال : ذلك الأبتر ، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله وهو من خديجة ، وكانوا يسمون من ليس له ابن أبتر ، فسمته قريش عند موت ابنه أبتر ، ومبتوراً (١) ، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات :

( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) (٢) .

قال الزمخشري ، في رسالته حول إعجاز سورة الكوثر : « أُنظر ، كيف نُظمت النظم الأَنيق ، ورُتِّبت الترتيب الرشيق ، حيث قدّم منها ما يدفع الدعوى ويرفعها ، وما يقطع الشبهة ويقلعها ( إنّا أعطيناك الكوثر ) ، ثم لِما يَجِبُ أَنْ يكون عنه مسبَّباً وعليه مترتباً ( فصل لربك وانحر ) ، ثم ما هو تتمة الغرض من وقوع

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٥٤٩ .

(٢) سورة الكوثر .

٢٧٧
 &

العدو في مُغَوّاتِه (١) التي حفر ، وصَلْيه بحر ناره التي سَعَر ( إنّ شانئك هو الأبتر ) » .

وإليك بيان نكات آياته الثلاث :

( إِنَّا ) .

تأَمَّل كيف من أُسند إليه إسداء هذه العطية والموهبة السنية ( الكوثر ) ، هو ملك السموات والأرض ، ومالك البسط والقبض . فدلّ بذلك على عظمة المعطي والمُعْطَى ، من المعلوم أنّه إذا كان المعطي كبيراً ، كان العطاء كثيراً .

وجمع ضمير المتكلم ، فأعلم بذلك عظم الربوبية .

( أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) .

استعمل لفظ الماضي مكان المستقبل ، مع أنّ الكوثر كما يتناول عطاء العاجلة ، يتناول عطاء الآجلة ، وذلك لأنّ المُتوقَّع من سيب الكريم ، تحققه على وجه القطع والبت .

وجاء بالكوثر محذوف الموصوف ، لأنّ المثبت ليس فيه ما في المحذوف من فرط الإبهام والشياع .

واختار الصفة المؤذنة بإفراط الكثرة ، المُبِينة عن المعطيات الوافرة ، وصدّرها باللام لتكون كاملة في إعطاء معنى الكثرة .

والمراد من الكوثر ، أولاده حسماً للشبهة ، وقطعاً لدعوى الخصم .

( فَصَلِّ ) .

عَقَّب إبهامه الكوثر ، بالفاء ، ليكون دليلاً لمعنى التسبيب ، فالعطاء الأكثر ، يستلزم الشكر الأوفر .

__________________

(١) حفرة كالزيبة ، تحفر للذئب ، ويجعل فيها جدي إذا نظر إليه سقط عليه يريده . ومنه قيل لكل مهلكة مغوَّاة . ( لاحظ النهاية ، ج ٣ ، ص ٣٩٨ ، مادة غوي ) .

٢٧٨
 &

( لِرَبِّكَ ) .

وقصد بذلك ، التعريفَ بدين « العاصي » وأشباهه ، ممّن كانت عبادته ونحره لغير إلهه ، وبالتالي لتثبيت قدمي رسول الله على صراطه المستقيم ، وإخلاصه العبادة لوجهه الكريم .

وقال : « لربك » ولم يقل « لنا » ، فصرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر ، إظهاراً لكبرياء شأنه ، وإنافةً لعزّ سلطانه . ومنه أخذ الخلفاء قولهم : يأمرك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة ، وينهاك أمير المؤمنين عن مخالفة الجماعة .

وعلّم ، بالأمر بالصلاة للرب ، أنّ مِنْ حَقِّ العبادة أن يَخُصَّ بها العبادُ ربَّهم ومالكهم ، ومن يتولى معايشهم ومهالكهم . وعرّض بخطأ من سفّه نفسه ، ونقض لبّه ، وعبد مربوباً ، وترك عبادة ربّه .

( وَانْحَرْ ) .

أشار بالأمر بالنحر ، بعد الأمر بالصلاة ، إلى قسمين من العبادات ، فالقسم الأول عمل بدني ، والصلاة إمامها . والثاني عمل مالي ، ونحر البدن سنامُها .

ونبّه على ما لرسول الله من الإختصاص بالصلاة التي جعلت لعينه قُرّة ، وبنحر البدن التي كانت همته متطاولة إليها .

قال : « وانحر » ، ولم يقل « وانحر له » ، رعايةً لفواصل الآيات ، وهو أمر مطلوب إذا سيق المتكلم ، إليه ، بلا تكلّف .

( إِنَّ شَانِئَكَ ) .

عنى بالشانيء : « السهمي » . وإنّما ذكره بوصفه لا باسمه ، ليتناول كلّ من كان مثل حاله . وأعرب بذلك عن أنّ عدوه لم يقصد بوصفه بالأبتر ، الإفصاح بالحق ، ولم ينطق إلّا عن الشنآن الذي هو توأم البغي والحسد ، وعن البغضاء التي هي نتيجة الغيظ ، فبذلك وسمه بما ينبيء عن المقت الأشدّ ، ويدلّ على حنق الخصم الألدّ .

٢٧٩
 &

( هُوَ ) .

أقحم الفصل لبيان أنّه المُعَيَّن لهذه النقيصة ( الأبتر ) ، وأنّه المُشَخَّص لهذه الغميصة (١) .

( الْأَبْتَرُ ) .

عرّف الخبر ، ليتمّ له البتر .

فسبحان من أعجز فصحاء العرب والعجم ، عن الإتيان بمثل هذه السورة على وجازة ألفاظها ، مع تحدّيه إيّاهم بذلك ، وحرصهم على بطلان أمره ، منذ بعث النبي إلى أمرنا هذا .

وسبحان من لو أَنزل هذه الواحدة وحدها ، ولم ينزل ما قبلها وما بعدها ، لكفى بها آية تغمر الأذهان . ومعجزة توجب الإذعان ، فكيف بما أنزل من السبع الطوال (٢) .

٢ ـ بلاغة سورة « والضحى »

جرت حكمته سبحانه على نزول الوحي تدريجياً ، لحكمة صرّح بها سبحانه في قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ، كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ، وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) (٣) .

ولأجل وقوع الفترة بين نزول الوحي ، عابه المشركون على النبي الأكرم ، فقالوا : إنّ محمداً قد ودعه ربُّه وَقَلاه ، ولو كان أمره من الله لتتابع عليه ، فنزلت السورة التالية :

( وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلْآخِرَةُ

__________________

(١) يقال اغتمصت فلاناً اغتماصاً : احتقرته ( لسان العرب ، مادة غمص ، ج ٧ ، ص ٦١ ) .

(٢) ما ذكرنا من النكات البيانية لسورة الكوثر مقتبسة من رسالة الزمخشري ، في إعجازها ، التي طبعت في مجلة « تراثنا » ، ومع ذلك كله ، لم يأت بجميع النكات الموجودة في هذه الآيات الثلاث

(٣) سورة الفرقان : الآية ٣٢ .

٢٨٠