الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٦١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الدعوى ، ويتساءل ـ هو ـ عن برهانها ، ثم يثبتها بنفسه ، ويتحدّى الناس على الإتيان بمثله ، ويعجزهم ويدينهم . وهذه خصيصة لهذه المعجزة لا توجد في سائر المعاجز .

٣ ـ التحدّي بأبسط الأشياء وأوفرها

قد تعرفت في مباحث الإعجاز ـ من النبوة العامة ـ على الفروق الواضحة بين المعجزة وغيرها ، وقلنا إنّه ربما يصل العلم والصنعة إلى الغاية التي وصلت إليها معاجز الأنبياء ، ومع ذلك كلّه لا تتجاوز الصنعة عن كونها صنعة بشرية ولا تدخل في إطار الإعجاز .

مثلاً : إنّ سليمان بن داود ، أول من فتح أبواب الفضاء على عُيون المجتمع الإنساني ، فهو كان رائد الفضاء الأول بفضل الريح المسخرة له ، يقول سبحانه : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (١) .

ولم تتوفق الحضارة البشرية إلى إرسال الإنسان إلى الفضاء إلّا بعد آلاف السنين ، حتى تمكنت أخيراً من إنزاله على سطح القمر ، والركب بعد مستمر ، ومع ذلك كلّه فما أنجزته هذه الحضارة لا يخرج عن إطار الصنعة ، لوجود الميز الجوهري بين العَمَلين ، وإن اتحدا في النتيجة . وذلك أنّ سليمان بَدَأَ عمله بأبسط الأشياء ، وأكثرها شياعاً ، وهو الجلوس على بساط ، يحركه الريح ، تجري بأمره حيث شاء ، كما قال تعالى : ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ (٢) .

وأمّا ما قامت به الحضارة الصناعية من إرسال الرّواد إلى الفضاء ، فهو صنعة بحتة ، لأنّها قامت بهذا الفعل بأعقد الصناعات وأخفاها . فالسفينة الفضائية الحاملة لعدّة من الرواد ، والتي هبطت على سطح القمر ، اشترك في

__________________

(١) سورة ص : الآية ٣٦ .

(٢) سورة سبأ : الآية ١٢ .

٢٤١
 &

صنعها مجموعة هائلة من الصناعيين وخبراء العلوم الطبيعية من علماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والطب ، حتى علماء النفس وغيرهم ممن خدموا هذه السفينة والصواريخ الحاملة لها . فلأجل ذلك كلما ازدادت الصناعة عمقاً وتعقيداً ، اتّضح كونها نتيجة حضارة بشرية بحتة ، لا صلة لها بأمر سماوي .

ونفس هذه القاعدة تنطبق على معجزة النبي الأكرم بوضوح ، فإنّه تحدّى بشيء مؤلف من مواد يعرفها كل الناس وفي متناولهم ، حيث إنّه لا يتجاوز عن كونه حروفاً وألفاظاً تشكل لغة العرب ومفردات كلامهم وجملهم . فلو كان هذا القرآن مصنوعَ نفسِ مَنْ جاء به ، فهو وسائر الناس في هذه الحلبة سواء ، لأنّ موادّه في متناول الناس واختيارهم ، فليقم خُبَراؤُهم وعلماؤهم وبُلَغاؤهم وفصحاؤهم بصنع كتاب ، أو عشر سُوَر ، أو سورة واحدة مثله . .

ومع أنّ كل المعاجز تشترك في هذا المضمار ، غير أنّ القرآن يمتاز عنها بمزية ثالثة وهي أنّ الإذعان بكون ما جاء به الكليم والمسيح من المعاجز ، يحتاج إلى معلومات خاصة حتى يتميز في ظلّها السّحر والطب من الإعجاز ، ولكن الإذعان بكون القرآن معجزة إلهية لا يحتاج إلى شرائط في السامع أزيد من كونه عربياً صميماً عارفاً بأساليب الكلام ، فإنّ ذلك كافٍ في تمييز ما هو داخل في حدود الطاقة البشرية عمّا هو خارج عنها ، ولأجل ذلك كان النبي يتحدّى بالقرآن ويدعو كلَّ الناس إلى المقابلة والمنازلة ، وقلّما يتّفق أن يسمع إنسان كلامه ولا يتأثر منه ، وإن كان أغلبهم يعارض ما يجده حقّاً في فطرته وعمق ضميره ، بأساليب شيطانية ، كما سيوافيك في قصة الوليد بن المُغيرة ، وعتبة بن ربيعة ومجمل سيرة رؤساء قريش .

هذه المزايا الثلاث تختص بمعجزته الخالدة . ولها مزايا أخرى ستقف عليها خلال المباحث الآتية .

*       *      *

٢٤٢
 &

الأمر الثاني

وجه إعجاز القرآن وكونه كتاباً خارقاً للعادة

إنّ إعجاز القرآن في عصر الرسالة ، كان يتمثّل في فصاحة ألفاظه ، وبلاغة معانيه ، وروعة نظمه ، وبداعة أسلوبه الخاص . فَعَرَبُ عَصْرِ الرسالة وبُلَغاؤهم وحذّاقُهم في الخطابة والشعر ، لمسوا أنّ القرآن في ظل عُذوبة ألفاظه وسحر معانيه وجمال تأليفه ونظمه ، وبداعة سبكه ، لا يشبه الشعر ولا النثر ، وأنّه كتاب جاء في قالب ، لم يسبق له نظير فله جذابية خاصة ، وهيبة رائعة تهتز بها النفوس تارة ، وتقشعر منها الجلود أُخرى . فأحسّوا بضعف الفطرة عن معارضته ، ولمسوا أنّه جنس من الكلام غير ما هم فيه ، ووجدوا منه ما يغمر القوة ، ويخاذل النفس ، مصادمةً ، لا حيلةً ولا خدعة ، مع أنّه مؤلف من نفس الحروف التي هي المادة الأولى لكلماتهم وكلمهم .

إنّ المحققين في علوم القرآن ، ومبيّني وجوه إعجازه ، وإن ذكروا وجوهاً كثيرة لكون هذا الكتاب معجزاً ، وسنمر على تلك الوجوه ، غير أنّ جهة إعجازه في عصر الرسالة كان متمركزاً في جانبه البياني الذي يتمثل في لفظه الجميل ، ومعناه البليغ ، ونظمه المعجب ، وأُسلوبه الرائق . ولذلك أدهش عُقول الفصحاء والبُلَغاء في عصر النبي ، ولم يزل يدهش كلَّ عربي مُلِمّ بلغته ، أو غير عربي عارف باللغة العربية ، من غير فرق بين جيل وجيل .

إنّ للقرآن في مجالي اللفظ والمعنى كيفية خاصة يمتاز بها عن كل كلام سواه ،

٢٤٣
 &

سواء أصدر من أعظم الفُصَحاء والبُلَغاء أو من غيرهم ، وهذا هو الذي لمسه العرب المعاصرون لعصر الرسالة . ونحن نعيش في بدايات القرن الخامس من هجرة النبي ، ونَدّعي أنّ القرآن لم يزل معجزاً إلى الآن ، وأنّه أرقى من أن يعارض أو يبارى ويؤتى بمثله أبداً . غير أنّ لإثبات تلك الدعوى مسلكين .

الأول : المراجعة إلى أهل الخبرة ممّن يعدّون من صميم أهل اللغة العربية ، وفي الجبهة والسنام منهم .

الثاني : التعرّف عليه بالمباشرة والتحليل .

ونحن نسلك كلا الطريقين في هذا البحث وإن طال بنا الموقف والكلام ، وإليك البيان :

٢٤٤
 &

المسلك الأول

في إثبات إعجاز القرآن

إعتراف بُلغاء العرب بإعجاز القرآن البياني

إنّ السيرة النبوية قديمها وحديثها ، ضبطت إعتراف مجموعة كبيرة من فُصحاء العرب بهذا الأمر ، ونحن نأتي ببعض ما ظهرنا عليه .

١ ـ إعتراف الوليد بن المُغيرة ريحانة العرب

كان رسول الله لا يكف عن الحطّ من آلهة المشركين ، وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً ومن حُكّام العرب (١) ، يتحاكمون إليه في أُمورهم ، وينشدونه الأشعار ، فما اختاره من الشعر كان مقدَّماً ومختاراً . وقد كان من المستهزئين بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) .

ويروي التاريخ أنّ الوليد ـ الذي يصفه العرب بريحانتهم وحكيمهم ـ سمع الآيات التالية من النبيٍ الأكرم : ( حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ، شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّـهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ ، لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ

__________________

(١) وهو عمّ أبي جهل بن هشام .

٢٤٥
 &

رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (١) . فلما سمع ذلك قام حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال : « والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمُثْمِر ، وإِنّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقْ ، وإِنّه لَيْعلو وما يُعْلى عليه » .

ثم انصرف إلى منزله (٢)

ولعلّ الوليد أوّل من تنبّه إلى عظمة القُرآن وآي الذكر الحكيم ، وهو من بُلغاء عصر الوحي وزمن نزوله ، ومن شيوخ قُريش وعوارف العرب في الأدب الجاهلي ، والخبراء بصناعة الإنشاء ، ومن هذه المنطلقات جاءت كلمته المأثورة تلك ، سبيكة مرصعة ، تعدّ أول تقريظ ناله القرآن من خبراء عصره ومصره ، وإِنْ حمله المحدثون إلينا عارياً عن التفسير . ولعمري إنّها شهادة من الخبير العدو ، الذي التجأ إلى الإعتراف بدافعٍ من ضميره ، وإن أثر عنه تفسير آخر للقرآن الكريم دفعه إليه تعلقه بدين آبائه وسنن قومه ، سيوافيك نقله . ولأجل كونِ هذه الكلمة من أُستاذ البلاغة ، كلمةً شارحةً لوجهة إعجاز القرآن في عصر الرسالة ، نشرح بعض جملها .

١ ـ قوله : « ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ » . معناه أنّ المعروف من كلام الإنس المنثور ، سبك العبارات غير مقيدة بالأسجاع والقوافي ، فإذا أتوا بهما على عفو الخاطر ، لم يلتزموا بها متقاربة قصيرة الخطوات ، بخلاف كلمات الجن التي سمعوها على أَلسنة الكهنة كعبارات مجملة صغيرة الحجم ، كثيرة المقاطع مقرونة بأسجاع وقوافي ، وعليها مسحة من غرابة الألفاظ ومجانسة الحروف وغموض المعاني (٣) .

فَلَوَّح الوليد إلى أنّ هذا القرآن ليس من هذا القبيل ؛ لا هو على أساليب

__________________

(١) سورة غافر : الآيات ١ ـ ٦ .

(٢) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٨٧ .

(٣) سنذكر فيما يأتي نماذج من كلمات سطيح الكاهن الذي كان يتكلم عن لسان الجن .

٢٤٦
 &

كلام الناس ، ولا على أساليب كلام الكهنة المترجمة للغة الجن والشياطين ، ولا مزيجاً من هذا وذاك .

٢ ـ قوله : « إنّ له لحلاوة » : يريد أنّه شهي جذّاب للنفوس ، جلّاب للميول ، خلّاب للعقول ، ترتاح إليه الأرواح .

٣ ـ قوله : « وإنّ عليه لطلاوة » ، أي إنّه محلّى بألفاظ جميلة وأنغام مقبولة .

٤ ـ قوله : « إنّ أعلاه لمثمر وأسفله لمغدق » ، يريد أنّ القرآن كشجرة كبيرة ، غصونها زاخرة بالثمار وجذورها مستحكمة واسعة الإنتشار في أعماق الأرض (١)

٢ ـ إعتراف عُتبة بن ربيعة

حين أسلم حمزة بن عبد المطلب ، ورأت قريش أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون ، قام عُتبة بن ربيعة يوماً في نادي قريش ، ورسول الله حينها جالس في المسجد وحده ، وقال : « يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأُكلّمه ، وأعرض عليه أُموراً ، لعلّه يقبل بعضها ، فنعطيه أيها شاء ، ويكفّ عنّا ؟ » .

فقالوا : « بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلّمه » .

فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله ، فقال : « يابن أخي ، إنّك منّا حيث علمت ، من السّطّة (٢) في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فَرَّقْتَ به جماعتهم ، وسَفَّهْتَ به أَحلامهم ، وعِبْتَ به آلهتهم ودينهم ، وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها » .

فقال له رسول الله : « قل يا أبا الوليد ، أَسْمَعْ » . فاقترح عليه أُموراً (٣)

__________________

(١) يقال غدق المطر ، إذا كثر قطره . وأغدقت الأرض ، إذا أخصبت . وأغدق العيش ، إذا اتّسع . وفي بعض المنقولات : « مُعْذِق » بالذال .

(٢) السّطّة : الشرف .

(٣) منها أن يتنازل عن دعوته فتتخذه العرب ملكاً ، وتجمع إليه أموالٌ طائلة ، وغير ذلك .

٢٤٧
 &

فلما فرغ عتبة من كلامه ، قال رسول الله : « أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ » .

قال : « نعم » .

قال : « فاسمع مني » .

قال : « أَفعل » .

فقال : ( بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ، وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ، وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * . . . ) (١) .

ثم مضى رسولُ الله فيها يقرأُها عليه ، و« عتبة » منصت لها ، ملقياً يديه خلف ظهره ، معتمداً عليهما ، مذهولاً ، إلى أن انتهى رسول الله إلى آية السجدة منها (٢) فسجد . .

ثم قال : « قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك » .

فقام عُتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : « نحلف بالله ، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به » .

فلما جلس إليهم ، قالوا : « ما وراءك يا أبا الوليد » ؟ .

قال : « ورائي أنّي قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أَطيعوني واجعلوها بي ، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأٌ عظيم . فإنْ تصبه العرب فقد كُفِيتموه بغيركم . وإن يظهر على العرب ، فملكه ملككم ، وعزّه عزّكم ، وكنتم أَسْعَدَ الناس به » . .

قالوا : « سَحَرَكَ والله يا أَبا الوليد بلسانه » .

__________________

(١) الآيات من أوائل سورة فصّلت .

(٢) سورة فصلت : الآية ٢٨ .

٢٤٨
 &

قال : « هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم » (١) .

٣ ـ تأثير آيتين

إنّ حلاوة القرآن كانت بمكانة ربما يؤثّر سماع آيتين أو أكثر في نفس السامع ، بحيث يخضع له وللجائي به غبّ سماعه منه ، ويرفض الوثنية ، وينخرط في صفوف الموحدين ، وينتظم في عدادهم ، وما ذاك إلّا لأنّه يجد من صميم ذاته أنّه كلام سماوي لا غير . ويدلّ على ذلك ما نسرده عليك من تاريخ دخول الخزرجيين في الإسلام .

كان بين الأوس والخزرج حروب طاحنة ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكانت آخر حرب سجلت بينهم يوم « بعاث » ، وكان النصر حليف الأوس على الخزرج ، ولأجل ذلك خرج أسعد بن زرارة وزكوان الخزرجيَّينْ ، إلى مكة في عمرة رجب ، يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زُرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه ، فقال له :

« إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب ، وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم » .

فقال عتبة : « بعدت دارنا عن داركم ، ولنا شغل لا نتفرغ لشيء » .

قال : « وما شغلكم وأنتم في قومكم وأمنكم » .

قال له عتبة : « خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله ، سَفّه أحلامنا ، وسَبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا » .

فقال له أسعد : « من هو منكم » ؟ .

قال : « ابن عبد الله بن عبد المطلب ، من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً » .

فلما سمع ذلك أَسعد ، قال : « فأين هو » ؟ .

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ، ج ١ ، ص ٢٩٣ ـ ٢٩٤ .

٢٤٩
 &

قال : « جالس في الحجر ، وإنّهم لا يخرجون من شِعْبِهِمْ إلّا في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلّمه ، فإنّه ساحر يسحرك بكلامه » .

وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب .

فقال له أسعد : « فكيف أصنع وأنا معتمر ، لا بُدَّ لي أَن أطوف بالبيت » .

فقال : « ضع في أُذُنَيْكَ القُطُن » .

فدخل أسعد المسجد ، وقد حشا أُذنيه من القُطن ، وطاف بالبيت ، ورسول الله جالس في الحجر ، مع قوم من بني هاشم . فنظر إليه نظرة ، فجازه . فلما كان في الشوط الثاني ، قال في نفسه : « ما أَجد أَجْهَلَ مني . أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أعرفه ، حتى أرجع إلى قومي فأُخبرهم » ، ثم أخذ القُطُن من أُذنيه ورمى به . فلما وصل إلى رسول الله ، قال له : « أَنْعِمْ صباحاً » .

فرفع رسول الله رأسه إليه ، وقال : « قد أَبْدَلَنا الله به ما هو أحسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السلام عليكم » . .

فقال له أسعد : « إنّ عهدك بهذا القريب . إلى مَ تدعو يا محمد » ؟ .

قال : « إلى شهادة أنّ لا إله إلّا الله ، وأَنّي رسول الله » .

ثم قرأ هاتين الآيتين :

( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ، نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ، وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ، وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ، وَبِعَهْدِ اللَّـهِ أَوْفُوا ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) .

__________________

(١) سورة الأنعام : الآيتان ١٥١ ـ ١٥٢ .

٢٥٠
 &

فلما سمع أسعد ، قال : « أشهد أن لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، وأَنَّكَ رسولُ الله . بأبي أنت وأُمّي ، أنا من أَهل يثرب ومن الخزرج ، وبَيْنَنا وبَيْنَ إخواننا من الأَوس حبال مقطوعة ، فإنْ وصلها الله بك ، فلا أجد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي ، فإنْ دخل في هذا الأمر ، رجوت أن يُتِمَّ الله لنا أمرنا فيك . . . فالحمد لله الذي ساقنا إليك ، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل ما أتيت له » .

ثم أقبل زكوان ، فقال له أسعد : « هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به ، وتخبرنا بصفته ، فَهَلُمّ فأَسلم » .

فأَسلم زكوان . ثم قالا : « يا رسول الله ، إبعث معنا رجلاً يعلمنا القُرآن ، ويدعو الناس إلى أَمرك » .

فأمر رسول الله مصعب بن عُمير ـ وكان فتى حدثاً مُتْرَفاً بين أَبويه ، يكرمانه ويفضلانه على أولادهم ، ولم يخرج من مكة ، فلما أسلم جفاه أبواه ، وكان مع رسول الله في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد ، وقد كان يعلم من القرآن كثيراً ـ أمره بالخروج مع أسعد وزكوان ، فخرج معهما إلى المدينة ، وقدما على قومهما وأخبراهم بأمر رسول الله وخَبَره ، فأجاب من كلّ بطنٍ ، الرجل والرجلان (١) .

ترى أنّ سماع الآيتين يصنع من الكافر الوثني مسلماً موحّداً ، شهماً هماماً ، يفدي بنفسه وماله في طريق دينه ، وما ذاك إلّا لتيقّنه من أنّ القرآن كلام سماوي خارج عن طوق قدرة البشر . وقد كان النصر حليف بعيث رسول الله ، وما كان ذاك ، إلّا لأنّه كان يقرأ ما نزل من القرآن وَحَفِظَهُ ، حتى أنّ أُسيد بن الحضير رئيس الخزرجين ـ لما سمع منه قوله سبحانه : ( حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . . ) (٢) ، ظهرت أَمارات الإيمان في وجهه ، فبعث إلى منزله من يأتيه بثوبين طاهرين ، واغتسل ،

__________________

(١) أعلام الورى لأعلام الهدى ، ص ٣٧ ـ ٣٨ .

(٢) الآيات من أول سورة فصلت .

٢٥١
 &

وشهد الشهادتين ، ثم قام وأخذ بيد مُصعب وقال : « أَظْهِر أَمرَكَ ولا تهابَنَّ أَحداً » .

*       *      *

ولما كان للقرآن تأثيره العجيب في نفوس الشباب ، إحتالت قريش في اللَّبس على الناس باللجوء إلى جملة من الأعمال الوقائية ، لِتَصُدَّ تأثير القرآن في النفوس المتهيئة لقبول الحق ، تعرّض لها التاريخ والسير النبوية ، أهمها :

١ ـ منع الناس ، وخاصةً الشخصيات والوجهاء ، من سماع القرآن ومقابلة الرسول .

٢ ـ عزو القرآن إلى السحر .

٣ ـ دعوة القصاصين لسرد أخبار الأُمم .

وكلُّ ذلك يدلّ على أنّ القرآن كان كلاماً ممتازاً فائقاً كلام البشر ، له تأثير فريد في النفوس بحيث يجذب إليه الناس بمجرّد سماعهم ، بلا اختيار . وفيما يلي بيان هذه الأعمال :

١ ـ منع سماع القرآن

يحكي لنا القرآن أنّ المشركين تواصوا بترك سماع القرآن والإلغاء عند قراءته في قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَـٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (١) . أي عارضوه باللّغو بما لا يُعْتَدُّ به من الكلام ، حتى لا يصل كلامه إلى أسماع الآخرين .

ومع ذلك كله فأولئك الذين كانوا مبدءاً لردع الشباب عن سماع القرآن ، قد نقضوا عهدهم ، لشدّة التذاذهم من سماعه .

__________________

(١) سورة فصلت : الآية ٢٦ .

٢٥٢
 &

فهؤلاء ثلاثةٌ من بُلغاء قريش وأَشرافهم وهم أبو سفيان بن حرب ، وأبو جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق ، خرجوا ليلة ليستمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يصلّي من الليل في بيته ، فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر ، تفرّقوا ، فجمعهم الطريق فتلاقوا وقال بعضهم لبعض : « لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً » ، ثم انصرفوا .

حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كلُّ رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثلما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا .

حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : « لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود » ، فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرّقوا (١) .

فلو كان القرآن كلاماً ، يشبه كلام الإنس ويوازنه ويعادله ، لم يكن هناك أي وازع لهؤلاء الصناديد الذين يعدّون في الطليعة والقمة من أعداء النبي ، أن يهجروا فرشهم ، ويُقلوا دفء دُثُرهم ، ويبيتوا في الظلام الحالك على التراب ، حتى يستمعوا إلى كلامه ومناجاته في أحشاء الليل في صلاته ونسكه ، وما هذا إلّا لأنّ القرآن كان كلاماً خلّاباً ، لعذوبة ألفاظه وبلاغة معانيه ، رائعاً في نظمه وأُسلوبه ، ولم يكن له نظير في أوساطهم ، ولا في كلمات بُلَغائهم وفُصَحائهم ، وهم الفُصحَاء والبُلغاء ومن يشار إليهم في تلك العُصور .

ومن الحبائل التي سلكوها لصدّ تأثير القرآن ، منع متشخصي المشركين من لقاء الرسول ، خصوصاً من كان لإسلامه تأثير خاص في إيمان قومه بدين الرسول .

ومن تلك الشخصيات الطفيل بن عمر الدوسي ، فقد قدم مكة ورسول الله

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣١٥ .

٢٥٣
 &

بها ، فمشى إليه رجال من قريش وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً ، فقالوا له : « يا طُفيل إنّك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل الذي بين أَظهرنا قد أعضل بنا ، وقد فرّق جماعتنا وشتت أمرنا ، وإنّما قوله كالسحر ، يفرّق بين الرجل وأبيه ، وبينه وأخيه وزوجته ، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا ، فلا تكلّمِنَّه ، ولا تَسْمَعَنَّ منه شيئاً » .

يقول الطفيل : فو الله ما زالوا بي حتى أَجْمَعْتُ أن لا أسمع منه شيئاً ولا أُكلَّمه ، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفاً ، فَرَقاً من أَنْ يَبْلُغني شيء من قوله ، وأنا لا أُريد أَنْ أَسمعه .

قال : فغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة .

قال : فقمت منه قريباً فأبى الله إلّا أن يُسْمِعني بعض قوله فسمعت كلاماً حسناً ، فقلت في نفسي : « واثكل أُمّي ، والله إنّي لرجل لبيب ، شاعر ، ما يخفى عَلَيّ الحَسَن من القبيح ، فما يمنعني أن أَسمع من هذا الرجل . فإن كان الذي يأتي به حسناً قَبِلته وإن كان قبيحاً تَرَكْتُه . فمكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته ، فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته ، دخلت عليه ، فقلت :

« يا محمد إنّ قومك قد قالوا لي كذا وكذا ، فوالله ما برحوا يخوّفونني أمرك حتى سددت أُذُنَيَّ بكُرسف ، لئلا أسمع قولك ، ثم أبى الله إلّا أن يسمعني قولك ، فسمعته قولاً حسناً ، فاعرض عَلَيَّ أمرك » .

قال : فعرض عَلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وآله الإسلام وتلا عَلَيَّ القرآن . فلا والله ما سمعت قولاً قطّ أحسن منه ، ولا أمراً أعدل منه .

قال : فأسلمت وشهدت شهادة الحق (١) .

وممّا نقل في هذا المجال أنّ الأعشى ، أحد شعراء العرب ، الطائر الصيت ، بلغ إليه الإسلام ، فخرج يريده ، فمدح النبي بقصيدة أدرج فيها كثيراً من تعاليم الإسلام ، مستهلها .

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٨٢ ـ ٣٨٣ .

٢٥٤
 &

ألم تَغْتَمِض عيناك ليلة أرمدا

وبت كما بات السليمُ مُسَهِّداً

إلى أن قال :

نبياً يرى ما لا ترون ، وذكره

أغار لعمري في البلاد وأنجدا

فإياك والميتات لا تقربنها

ولا تأْخُذَن سهماً حديدا لتفصدا

وذا النُّصب المنصوبَ لا تنسكنَّه

ولا تعبد الأوثان ، والله فاعبدا

ولا تقربن حرّة كان سرُّها

عليك حراما ، فانكحن أو تأبّدا

وذار الرحم القربى فلا تقطعنّه

لعاقبة ولا الأسير المقيّدا

وسبّح على حين العشيات والضُحى

ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا

فلما ورد الأعشى مكة ، اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره ، فأخبره أنّه جاء يريد رسول الله ليسلم فقال له : يا أبا بصير ، إنّه يحرّم الزنا .

فقال الأعشى : والله إن ذلك لأمر ما لي فيه أرب .

فقال له : يا أبا بصير ، فإنّه يحرّم الخمر .

فقال الأعشى : أمّا هذه فوالله إنّ في النفس منها لعلالات ، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأُسلم ، فانصرف . فمات في عامه ذلك ، ولم يعد إلى رسول الله (١) .

٢ ـ عزو القُرآن إلى السّحر

أدرك فُصحاء قريش وبُلَغاؤهم أنّ القرآن لا يشبه كلام الإنس ، وهو فوق كلامهم ، ولما كان مقتضى العجز ، اعتناق الدين الذي كان النبي يدعو إليه ، خدعوا عقولهم وعقول قومهم بتفسيره بالسحر ، بحجة أنّ السحر يفرّق ، والقرآن

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام : ص ٣٨٦ . وأضاف الشهرستاني في كتابه « المعجزة الخالدة » ، ص ٢١ : واجتمعت عليه قريش لما سمعت بخبره وبمدحه النبي الأُمي في قصيدة دالية ، جاء بها ليجعلها تقدمة إيمانه وإذعانه ، وقالوا للأعشى : « إنْ أنشدته هذه القصيدة لم يقبلها منك » . ولم يزالوا يخدعونه ويمنعونه حتى سافر إلى اليمامة ، وقال : « أقضي أياماً هناك ثم أعود إليه » .

٢٥٥
 &

أيضاً فرّق بينهم . وهذا هو ريحانة قريش ، الوليد بن المغيرة ، وقد اجتمع مع رؤساء قريش في دار الندوة ، فقال لهم : « إنّكم ذوو أحساب وذوو أحلام ، وإنّ العرب يأتونكم ، فينطلقون من عندكم على أمر مختلف ، فأجمعوا أمركم على شيء واحد . ما تقولون في هذا الرجل ؟ » .

قالوا : « نقول :

١ ـ إنّه شاعر » .

فعبس عندها ، وقال : « قد سمعنا الشعر ، فما يشبه قوله الشعر » . فقالوا :

٢ ـ « إنّه كاهن » .

قال : « إذاً تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكَهَنة » . قالوا :

٣ ـ « إنّه لمجنون » .

فقال : « إذاً تأتونه ، فلا تجدونه مجنوناً » . قالوا :

٤ ـ « إنّه ساحر » .

قال : « وما الساحر » ؟ .

قالوا : « بشر يحببون بين المتباغضين ، ويبغِّضون بين المتحابين » .

قال : « فهو ساحر » .

فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إلّا قال :

يا ساحر ، يا ساحر » .

واشتدّ على النبي ذلك ، فأنزل الله تعالى قوله :

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَـٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) (١) .

__________________

(١) سورة المدثر : الآيات ١١ ـ ٢٥ .

٢٥٦
 &

وفي روايةٍ ، بعدما وصف الوليد ما سمع من كلام محمد ، بقوله : « ما هو من كلام الإنس الخ . . » (١) ، ذهب إليه أبو جهل ، فقعد إلى جنبه حزيناً ، فقال له الوليد : « ما لي أراك حزيناً يابن أخي » .

قال : « هذه قريش يعيبونك على كبر سنك ، ويزعمون أنَّك زيّنت كلام محمد » .

فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه ، فقال : « أتزعمون أنّ محمداً مجنون ، فهل رأيتموه يخنق » ؟ .

فقالوا : « اللهم لا » .

قال : « أتزعمون أنّه كاهن ، فهل رأيتم عليه شيئاً من ذلك » ؟ .

قالوا : « اللهم لا » .

قال : « أتزعمون أنّه شاعر ، فهل رأيتموه أنّه ينطق بشعر قطّ » ؟ .

قالوا : « اللهم لا » .

قال : « أتزعمون أنّه كذّاب ، فهل جَرّبتم عليه شيئاً من الكذب » ؟ .

قالوا : « اللهم لا » .

فقالت قريش للوليد : « ما هو ؟ » .

فتفكّر في نفسه ، ثم نظر وعبس ، فقال : « ما هو إلّا ساحر . ما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله ، وولده ومواليه ؟ . فهو ساحر ، وما يقوله سحر يُؤْثَر » (٢) .

إنّ تفسير القرآن بالسحر ، وتوصيف الداعي بالساحر ـ كما نقله القرآن في غير واحد من آياته ـ أدلّ دليل على أنّ فُصَحاء العرب وجدوا العجز في أنفسهم

__________________

(١) تقدم كلامه في الصفحة السابقة .

(٢) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧ .

٢٥٧
 &

ورأوا أنّ الهزيمة في حلبة السباق معقودة بنواصيهم ، فما وجدوا مخلصاً لتعمية من يفد على مكة في أيام الحج من عرب الجزيرة إلّا بتفسيره بشيء ينطلي على طباع السُّفهاء وأذهان السذج من الناس ، وهو أنّه سحر والجائي به ساحر ، بحجة الإشتراك في الأثر .

وعلى ضوء ذلك تعود كلُّ الشرائع السماوية سحراً والأنبياء سحرة ، بحجة أنّهم كانوا يفرّقون بشرائعهم بين أفراد الأُمة الواحدة (١) .

وكيف يكون القرآن سحراً ، والسحر لا يبقى بعد موت الساحر ، ولا يؤثّر في أقوياء النفوس ، وها هو القرآن قد مَرَّ عليه حتى اليوم أربعة عشر قرناً ، ولما يزل غضّاً طرياً كما كان ، لم يتضاءل نوره وأثره بمرور الزمان ، وتوالي الأعقاب في الأحقاب ، كما خضع له أعاظم أهل الفكر والتعقل من البشر .

٣ ـ دعوة القصاص لسرد الأساطير

وقد عمد رؤساء قريش ، لإحباط تأثير القرآن الكريم ـ بعد أن رأوا أنّ الناس يدركون بفراستهم وفطنتهم أنّ للقرآن جاذبية غريبة لم يسبقه كلام في الحلاوة ، ولا حديث في العذوبة ، ولا عبارات في العمق ، يتقبّله كل قلب واع ، وتسكن إليه كل نفس مستعدة ـ عمدوا إلى تخطيط تدبير آخر ، ظنّا منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه ، ألا وهو معارضة القرآن الكريم ، بدعوة النضر بن الحارث ليسرد للناس أخبار ملوك الفرس وقصصهم وحكايتهم وأساطيرهم ، وما طلبوا منه القيام بهذا العمل إلّا ليلهي به الناس عن الإصغاء إلى القرآن الكريم .

فقام بهذا العمل ولكن كانت خطتهم ، خطة حمقاء إلى درجة أنّها لم تدم إلّا عدّة أيام ، لأنّ قريشاً سئمت من أحاديث النضر ، وتفرّقت عنه (٢) .

*       *      *

__________________

(١) قد ورد تفسير القرآن بالسحر ، والداعي بالساحر ، في عدّة آيات منها في الأول الصافات : الآية ١٥ ، الأحقاف : الآية ٧ ، سبأ : الآية ٤٣ . وفي الثاني : يونس : الآية ٣ ، ص : الآية ٤ .

(٢) لاحظ السيرة النبوية ، ج ١ ، ص ٣٠٠ و ٣٥٨ .

٢٥٨
 &

المسلك الثاني

في إثبات إعجاز القرآن

تحليل إعجاز القرآن الكريم

المتسالم عليه بين العلماء أنّ القرآن كتاب سماوي معجز ، لا يقدر الإنسان ـ مهما عظمت طاقاته ـ على الإتيان بمثله . ولكن عندما يُتَساءل عن سرّ إعجازه ، يتوقف الكثير منهم في ذلك ولا يأتون بكلمة شافية تغني السائل .

فمنهم من ذهب إلى أنّ شأن الإعجاز عجيب ، يُدْرَك ولا يمكن وصفه ، كاستقامة الوزن ، تُدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة . وأضافوا : « إنّ مدرك الإعجاز هو الذوق ليس إلّا ، وطريق اكتساب الذوق ، طول خدمة علمَيْ المعاني والبيان . نعم ، للبلاغة وجوه متلثمة ، وربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتتجلى عليك . أمّا نفس الإعجاز ، فلا » (١) .

ومنهم من يحيل سبب الإعجاز إلى فرط الفصاحة والبلاغة ، من دون أن يشرح السبب ، ويطرحَ آيات من القرآن على منضدة التشريح ، ويقارنها بكلام من كلم فصحاء العرب وبلغائهم وأقصى ما عندهم هو التصديق بكونه معجزاً بحجة أنّ أساطين البلاغة وأساتذتها عجزوا عن الإتيان بمثله في عصر نزول القرآن . ولكن هذا دليل إقناعي ، ورجوع إلى أهل الخبرة .

إلّا أنّ هناك جماعة من المحققين لم يقنعوا بهذا القدر دون البحث عن حقيقة

__________________

(١) مفتاح العلوم ، للسكاكي ، قسم البيان ، ص ١٧٦ .

٢٥٩
 &

إعجازه ، فبحثوا ونقبوا حتى رفعوا اللثام عن وجه إعجازه ، وبيّنوا الدعائم والأركان التي يقوم عليها تفوقه على كلام البشر ، قائلين :

هل يمكن أن يُعَرِّف سبحانه كتابَه النازلَ على نبيّه ، معجزاً وخارقاً ، ويباري الناس ويدعوهم إلى مقابلته والإتيان بمثله ، ثم لا يوجد فيه حتى إشارات إلى ملاك إعجازه ووجه تفوّقه ؟! إنّ مثل هذا لا يصدر عن الحكيم تعالى .

فعلى ضوء ذلك ، لا بُدّ لنا من الإمعان في آيات القرآن الكريم حتى نلمس ونستكشف ملاك إعجازه وخرقه للعادة ، وهذا هو ما نتعاطاه في هذا التحليل والذي تَبَيَّن لنا بعد دراسة ما كتبه المحققون حول إعجاز القرآن ، وبعد الإمعان في نفس آيات الذكر الحكيم ، أن ملاك تفوّقه هو الأمور الأربعة ـ الآتي ذكرها ـ مجتمعةً .

أجل ، إنّ ما نركّز البحث عليه في المقام راجع إلى الإعجاز البياني للقرآن ، الذي كان هو محور الإعجاز في عصر النزول وعند فصحاء الجزيرة ، وبُلغائهم ، وبه وقع التحدي . وأمّا إعجازه من جهات أُخرى ، ككون حامله أمياً ، وكونه مبيِّناً للعلوم الكونية التي وصل إليها البشر بعد أحقاب من الزمن ، أو إخباره عن المُغَيَّبات ، أو كونه مصدراً لتشريع مُتْقَن ومتكامل ، أو غير ذلك من الجهات ، فلا يمكن أن نعدّها أركاناً للإعجاز ، ووجه ذلك أنّ القرآن سَحَرَ العرب من اللحظة الأولى لنزوله ، سواء منهم في ذلك من شرح الله صدره للإسلام ومن جعل على بصره غشاوة . وكان القرآن هو العامل الحاسم في أوائل أيام الدعوة ، يوم لم يكن للنبي حول ولا طول ، ولم يكن للإسلام قوة ولا منعة .

فلا بُدّ أن نبحث عن منبع السحر في القرآن ، قبل التشريع المُحكَم ، وقبل النبوءة الغيبيَّة ، وقبل العلوم الكونية ، وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشتمل على هذه المزايا . فقليل القرآن الذي كان في أيام الدعوة الأولى ، كان مجرّداً عن هذه الأشياء التي جاءت فيما بعد ، وكان مع ذلك محتوياً على هذا النبع الأصيل الذي تذوقه العرب ، فقالوا إنْ هذا إلّا سحر يُؤْثَر .

إنّنا نقرأ الآيات الكثير في هذه السور فلا نجد فيها تشريعاً محكماً ، ولا

٢٦٠