الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
٤ ـ ما هي الصفات المميزة للنبي عن غيره ؟
ويرجع البحث في الأول إلى تحليل أدلة مثبتي لزوم البعثة ومنكريه ، كما يرجع البحث في الثاني إلى الطرق التي تثبت بها نبوة الأنبياء . ويرجع البحث في الثالث إلى الوسيلة التي يتلقى بها النبي تعاليمه من الغيب ، أعني الوحي والإلهام . ويرجع البحث في الرابع إلى التعرف على صفات الأنبياء ، كعصمتهم من الخطأ والزلل وتنزههم عن الصفات المنفِّرة .
وبإشباع البحث في هذه المجالات الأربعة ، يكتمل البحث في النبوة العامة ، ويقع الكلام بعده في النبوة الخاصة ، بإذنه تعالى .
******
مباحث النبوة العامة ( البحث الأول ) |
|
لزوم بعثة الأنبياء
إتفق أهل الملل قاطبة على لزوم بعثة الأنبياء إلى الناس ، بمعنى أن حكمة الخالق البالغة تقتضي إرسال الرسل لهداية الناس وإرشادهم إلى سبل السعادة .
وخالفهم في ذلك البراهمة ، فقالوا بأن المجتمع الانساني بفطرته وعقليته ، يصل إلى تلك الغاية ، من دون حاجة إلى معلم غيبي .
والتعرف على الحق في ذلك يتوقف على تحليل أدلة الطائفتين ، ونقدم أولاً أدلة المثبتين ، مختارين القليل من الكثير منها (١) ، ثم نتبعها بأدلة النافين فنذكرها ونحلّلها .
* * *
__________________
(١) استدل المتكلمون بأدلة تقارب العشر على لزوم البعثة ، فلاحظ تجريد الإِعتقاد وشروحه
أدلة لزوم البعثة ١ |
|
حاجة المجتمع إلى القانون الكامل
وبيان هذا الدليل يستدعي رسم أمور :
الأمر الأول : نزعة الإِنسان إلى الحياة المدنية .
لا يشك احد من الفلاسفة والباحثين في الحياة الإِنسانية ، في أن للإِنسان ميلاً إلى الإِجتماع والتمدن ، فهو يفر من حياة الإِنفراد في الغابات والصحاري وكهوف الجبال ، ويتجه إلى التشكّل مع أبناء نوعه في اطار المجتمعات الكبرى ، وكلّما تكاملت الحضارة الإِنسانية ، إنحسرت تلك الحياة الفردية وازدادت التشكّلات المدنية والإجتماعية .
وهناك نظريتان في تفسير هذه النزعة الانسانية :
الاولى : أن الإِنسان « مدني بالطبع » فهو بدافع فطري محض يفر من الحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية .
والثانية : أن الإِنسان « مستخدِم بالطبع » ، يميل إلى استخدام كلِّ شيء في الطبيعة لصالح غرائزه ومتطلِّبات فطرته ، ولا يمكنه تحقيق هذا الدافع إلى الإِستخدام إلا بالتشكل في إطار الحياة الإِجتماعية . ولولا وفاء التعاون مع أبناء نوعه ـ المستلزم للحياة الإِجتماعية ـ بإشباع ميله للاستخدام ، لظلّ حليف الغابات والكهوف .
وعلى كل تقدير ، لا مفر للإِنسان عن الحياة الإِجتماعية سواء لكونه مدنياً بالطبع أو مستخدماً بالطبع .
الأمر الثاني : الحياة الإِجتماعية رهن القانون
إن حاجة المجتمع إلى القانون مما لا يُرتاب فيه ، وذلك لأن الانسان مجبول على حب الذات ، وهذا يجرّه إلى تخصيص كل شيء بنفسه من دون أن يراعي لغيره حقاً . ومن المعلوم أن الحياة الإِجتماعية بهذا الوصف تنتهي إلى التنافس والتشاجر بين أبناء المجتمع ، وتؤدي بالتالي إلى عقم الحياة وتلاشي أركان المجتمع .
فلأجل ذلك لا يقوم للحياة الإِجتماعية أساس إلا بوضع قانون دقيق ومحكم ومتكامل ، يقوم بتحديد وظائف كلِّ فرد وحقوقه ، ويشرِّع الحدود والقيود التي يجب تحرك الجميع من خلالها .
الأمر الثالث : شرائط المقَنِّن
إن وضع قانون ولو للقضايا والمشاكل الجزئية ، يعدّ من أصعب الأُمور في مقام التحقيق ، ولا يقوم به إلا أماثل رجال المجتمع الذين تجتمع فيهم مؤهلات عالية من العلم والخبرة . ولكي تقف على حقيقة ما ذكرنا نضرب مثالا لبعض القضايا :
إنّ مشكلة أزمة السير من أعسر
المشكلات التي تعاني منها المجتمعات المدنية الحديثة ، ويُعَدّ حلُّها من الأُمنيات الكبرى لسكانها والقائمين عليها . فلو قامت مدينة تعاني من هذه الأزمة بتشكيل لجنة مهمتها وضع قانون وضوابط كفيلة بحلّها ، فلا بد أن تتوفر لدى أعضاء هذه اللجنة ، المعرفة والخبرة اللازمين لتحقيق هذه الغاية ، فلا بد أن تكون مطلعة على عدد شوارع المدينة ومقدار سعتها ، وكيفية ارتباطها ، وعدد الوسائط النقلية التي تجوبها ، وكذلك المراكز الاقتصادية والحيوية في المدينة ، ومراكز الكثافة السكانية ، ومراكز
المواقف العامة للسيارات ، ومقدار سعتها وضيقها ، وكذلك الوعي الثقافي لدى الناس الداعي إلى رعاية النظم والتخطيطات ، والتعرف ايضاً على خبرات السابقين والمخططات التي طبّقت في المدن الاخرى . . . . . . . الى غير ذلك من الشروط اللازمة لوضع قانون وخطة وافية بحل الإِزمة . والجهل بواحد منها فضلا عن جميعها ، موجب للفشل وعدم نجاح القانون .
فإذا كان هذا الموضوع الجزئي بحاجة إلى علم وخبروية بهذا الحد حتى يُجْعَلَ له قانون كافل لحل أزمته ، فكيف يجعل القانون للمجتمعات البشرية المنتشرة في أصقاع الأرض ، والتي تتباين من حيث الظروف الجغرافية والعادات والتقاليد ، يكون متناوِلاً لجميع جوانب الحياة ؟!
لا ريب أن جعل قانون كهذا يحتاج إلى توفّر شروط وشروط ، تخرج قطعاً عن طاقة الإِنسان مهما ترقّى في درجات العلم . واليك ثلاثة من أُمهات تلك الشروط .
الشرط الأول : أن يكون المقنّن عارفاً بالإِنسان .
إنّ أول وأهم خطوة في وضع القانون ، معرفة المقنِّن بالمورد الذي يضع له القانون ، كما أشرنا إليه في المثال المتقدم . وعلى ضوء هذا ، لا بد أن يكون المقنّن عارفا بالإنسان : جسمِهِ وروحِهِ ، غرائزه وفطرياته ، وما يصلح لهذه الامور أو يضُر بها ، وكلما تكاملت هذه المعرفة بالإِنسان ، كلما كان القانون ناجحاً وناجعاً في علاج مشاكله وإبلاغه إلى السعادة المتوخاة من خلقه ووجوده في هذا الكون .
ومَثَلُ المقنِّن في هذا المقام ، مَثَلُ الطبيب ، كلما كانت معلوماتهُ حول المريض ، جسمِهِ وروحِهِ وظروفِهِ المحيطةِ به ، كاملةً ، كلما كانت الوصفة مفيدةً وناجعة في قَلْعِ المرض .
وهناك وجهة أُخرى لاقتضاء طبيعة
التقنين ، المعرفة الكاملة بالانسان ، وهي أن الانسان خُلِقَ مع غرائز جامحة لا تعرف لإِرضائها قاعدة ولا حدّاً . ومن
المعلوم أن تعطيل هذه الغرائز بالكلية ينتهي إلى الفناء ، كما أن اطلاق عنانها يؤدي نفس النتيجة . فالطريق الأوسط ، كبح جماحها على حد يتم لصالح الإِنسان الفرد أولاً ، وصالح المجتمع ككلّ ثانيا .
ومن هذا يتبين أن من يريد أن يقنِّن لصالح المجتمع ، يجب أن يكون عارفا بالإِنسان عرفاناً كاملاً ، واقفاً على زوايا روحه وأعماق ضميره وخصوصيات بدنه وطاقاته ، وما يرجع إليه بالصلاح أو الفساد .
الشرط الثاني : أن لا يكون المقنِّن منتفعاً بالقانون .
وهذا الشرط بديهي ، فإن المقنن إذا كان منتفعاً من القانون الذي يضعه ، سواء كان النفع عائداً إليه أو إلى من يمت إليه بصلة خاصة ، فإنّ هذا القانون سيتم لصالح المقنِّن لا لصالح المجتمع ، ومثل هذا القانون ناكب عن الحق ، متردّ في مهاوي التفرقة والتمييز ، ونتيجته الحتمية الظلم والإجحاف .
فالقانون الكامل لا يتحقق إلا إذا كان واضعُهُ مجرّداً عن حب الذات وهوى الإِنتفاع الشخصي .
الشرط الثالث : إصلاح الباطن
إن للعقيدة دورها وأثرها في اختيار الفعل وانتخابه ، وكلُّ ما يصدر من الإنسان من فعلٍ أو تركٍ فهو وليد عقيدته وتفكيره ، فالمؤمن بالله وشرائعه يسعى للإتيان بأعمال يرضي بها ربَّه ، كما أنّ الملحد والكافر به وبشرائعه يسعى إلى الأعمال التي فيها رضى غرائزه ومتطلبات نفسه .
والقانون مهما بلغ في درجات التكامل ، لا يكون ناجحاً ومفيداً إلا إذا كان في جوهره وصميم ذاته ، ضمانات لأجرائه وتجسيده في الحياة .
وبضم هاتين المقدمتين إلى بعضهما يتضح أن الضمان الكامل لإجراء القانون لا يتحقق إلا بتوجه المقنِّن إلى إصلاح الباطن مع إصلاح الظاهر ، ولا يكون نظره محصوراً بوضع الضوابط الماديَّة الجافّة .
فالقانون الكامل يبتني على إيجاد عقيدة وإيمان بالغيب ، وبقوةٍ قاهرةٍ كبرى ، تراقب الإِنسان في ليله ونهاره وفي حياته الشخصية وعلاقاته الإِجتماعية ، بالإِضافة إلى ايجاد التنظيمات المادية لمراقبة أعمال الفرد الظاهرية .
واجتماع هذين الأمرين يصنع من الفرد إِنساناً إِجتماعياً يعيش في ظل القانون مراعياً له ولا ينقضه إلا شاذاً ونادراً .
ولو كان المقنِّن ناظراً إلى الجهات الظاهرية فقط ومكتفياً في ضمانات الإِجراء بالتنظيمات الرائجة ، لكان خاسراً في تقنينه ، ولن يَرى له تجسّداً إلا في وضح النهار وأمام أعين القوى البشرية المُجْرِية .
هذه أبرز الجهات الوافية بكمال القانون فهلمّ نرى أين تتحقق هذه الشرائط ، وعند مَنْ ؟ .
أما الشرط الأول ، فإنا لن نجد في صفحة الوجود موجوداً أعرف بالإنسان من خالقه ، فإن صانع المصنوع أعرف به من غيره . يقول سبحانه : ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١) .
واما الشرط الثاني ، فلن نجد أيضا موجوداً مجرداً عن أي فقر وحاجة وانتفاع سواه سبحانه ، ووجه ذلك أن الإِنسان مجبول على حب الذات ، فهو مهما جرّد نفسه من تبعات غرائزه ، لن يستطيع التخلص من هذه النزعة ، وإِلا لزم أن ينسى نفسه ، ويَخْرُجَ بالتالي من عداد البشر .
وأما الشرط الثالث ، أي تشريع القانون على صرح الإِيمان والإِعتقاد بصحة التشريع ، فلن نجده أيضاً في غيره سبحانه ، لأنه يدعو إلى ربوبية نفسه وعبوديّة غيره ، ويبين للناس أن صلاحهم في إطاعته وشقاءهم في مخالفته وبهذا يسرى قانونُه وتشريعُه في الحياة والمجتمعات البشرية سريان الماء في الشجر والنبات ، ويكون مضمون الإِجراء والتطبيق .
__________________
(١) سورة المُلْك : الآية ١٤ .
أضف إلى ما ذكرنا ، أن التبدل الدائم في القوانين ، والنقض المستمر الذي يورد عليها ، بحيث تحتاج في كل يوم إلى استثناء بعض التشريعات وزيادة اخرى ، إضافة الى تناقض القوانين المطروحة في العالم من قبل البشر ، كل ذلك دالّ على قصورها عن الوفاء بحاجة المجتمعات إليها ، وما ذلك إلا لقصورهم عن معرفة الانسان حقيقة المعرفة ، وانتفاء سائر الشروط في واضعيها .
فتلخص من هذا الدليل أُمور :
الأول : أَنَّ الأنسان يميل إلى الحياة المدنية ، إما لكونه « مدنياً بالطبع » ، أو لكونه « مستخدماً بالطبع » .
الثاني : أَنَّ الحياة الإِجتماعية لا تستقر إلا بتعرف أعضاء المجتمع على وظائفهم وحقوقهم ، وهذا لا يتسنى الّا بالتقنين .
الثالث : أَنَّ مهمة التقنين الشاقة لا يقوم بها إلا من اجتمعت فيه عدّة شروط أهمها : معرفته الكاملة بالأنسان ، وعدم انتفاعه من القانون الذي يجعله ، وأن يبني قانونه على صَرْح الإِيمان .
الرابع : أنّ تلك الشروط لا توجد على وجه الكمال إلّا في الله سبحانه خالق البشر .
فإذا كان استقرار الحياة الاجتماعية للبشر متوقفاً على التقنين الإلهي ، فالواجب في حكمته تعالى إبلاغ تلك القوانين إليهم عبر واحد منهم يرسله إليهم ، ليوقفهم على ما فيه سعادتهم . والحامل لرسالة الله سبحانه هو النبي المنبىء عنه والرسول المبلغ إلى الناس ، ويَثْبُتُ بذلك أنّ بعث الأنبياء واجب في حكمته تعالى حفظاً للنظام المتوقف على التقنين الكامل .
إشارة الى هذا الدليل في الذكر الحكيم .
إنّ في الكتاب الحكيم ما يشير إلى هذا الدليل ، وهو قوله تعالى :
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ . . . ) (١) .
فجعل القيام بالقسط الذي هو عبارةٌ أخرى عن ضبط المجتمعات بالنظم والقوانين ليحصل التآزر والتآلف المطلوبين لتأمين الأرضية الصالحة لسلوك الإِنسان إِلى معين السعادة ، جعله علةً وغايةً لإِرسال الرسل ، فالقسط لا يتحقق إِلا بالتسنين الصحيح والتقنين الكامل الذي لا يقوم به إلا خالق الانسان وبارئه .
__________________
(١) سورة الحديد : الآية ٢٥ .
أدلة لزوم البعثة (٢) |
|
حاجة المجتمع الى المعرفة
كل انسان عاقل إذا جال ببصره فيما يحيطه من أرض وسماءٍ ، يقف على أن الكون لم يخلق عبثاً ، بل له غاية وهدف تتفاعل كل أجزائه في سبيله .
وليس معنى كونه ذا غاية أن الفاعل قام بإيجاده لسد حاجته كما هو المتعارف في أفعال غيره سبحانه ، بل المراد أن الفعل ليس فعلاً عبثيّاً فاقداً للغاية ، التي ترجع إلى غيره ، فكون الفاعل ذا غرض يفارق كون الفعل ذا غاية ، والمنفي عن ساحته سبحانه هو الأول دون الثاني ـ وقد أوضحنا حاله في الجزء الأول فلاحظ . (١)
إن النظام السائد على العالم ، والإِنسجام الموجود بين أجزائه يعرب عن أن الهدف من إيجاده هو استقرار الحياة في كوكبنا هذا . وهذه الغاية إن لم تكن هي الوحيدة فهي على الأقل ـ إحدى الغايات فكأن سير النجوم والكواكب والشمس والقمر ، ونزول الأمطار والثلوج ، وحركة الرياح والسحب ، وجزر البحار ومدّها ، واخضرار المزارع وتفتح الازهار وو . . . مما لا يعدّ ولا يحصى من الآثار الطبيعية ، كلها لاجل تكوّن الحياة واستقرارها وتهيئة الأرضية الصالحة لتكامل الموجودات الحية .
__________________
(١) الالهيات ، ج ١ ، ص ٢٦٣ ـ ٢٧١ .
وتتضح حاجة الانسان إلى المعرفة بالوقوف على أُمور :
الأمر الأول ـ الهداية التكوينية .
إن الموجودات الحية تصل إلى الغايات التي خلقت لها ، في ظلّ الهداية التكوينية والغرائز المودعة في ذواتها ، ولا تحتاج في بلوغها ذلك الكمال إلى عامل خارج عن ذواتها ، سوى الإِنسان .
إن الإِنسان ، وإن كان مجهّزا بغرائز ذاتية ، إلا أنها غير وافية في إبلاغه الغاية التي خلق لها ، ولا تعالج إلا القليل من حاجاته الضرورية . ولاجل ذلك ضمّ خالق الإنسان إلى تلك الغرائز ، مصباحاً يضيء له السبيل في مسيرة الحياة ، ويفي بحاجاته التي تقصر الغرائز عن إيفائها ، وهو العقل .
ومع ذلك كله فإن العقل والغرائز غير كافيين أيضا في إبلاغ الانسان إلى السعادة المتوخاة ، بل يحتاج معهما إلى عامل ثالث يعنيه في بلوغ تلك الغاية .
ووجه ذلك أن العقل الإِنساني غير مصون عن الخطأ والزلل والإِشتباه ، وذلك لأن عمل العقل إختياري ، فإنه يرى أمامه طرقاً متعددة وخطوطاً متفاوته ، عليه أن يسلك إحداها ويتجنب بقيّتها ، وكثيراً ما يركب الخاطيء منها ويحيد عن الصائب .
الأمر الثاني ـ قصور العلم الإنساني في مجال المعارف الإلهية
إذا كان العقل والغرائز غير وافيين بحلّ عامة مشاكل الإِنسان ، فالعلم الإِنساني أيضاً غير كاف فيه ، وذلك أن الإِنسان رغم التقدم الذي أحرزه في العلوم الطبيعية ، لا يزال في بدايات سلّم هذا العلم ، وما أحرزه ضئيل جداً أمام أسرار الكون العظيم . ورغم أن الإِنسان تمكّن من معرفة قسم من المعادلات والقوانين التي تسير عليها الظواهر الطبيعية والقوى الكونية ، إلّا أنّه لا يعلم أي شيء هي ، وما حقيقتها وماهيتها (١) .
__________________
(١) وقف مرة اينشتاين العالم الكبير ، عند درج صغير
أسفل مكتبته ، وقال : « إنّ نسبة ما أعلم إلى ما
ومما يوضح قصور العلم البشري في العلوم الالهية ، أن هناك الملايين من البشر يقطنون بلدان جنوب شرق آسيا على مستوى راق في الصناعات والعلوم الطبيعية ، إلى حد أوقعوا العالم في اسارة استهلاك مصنوعاتهم ، ومع ذلك فهم في الدرجة السفلى في المعارف الالهية . فجلّهم ـ إن لم يكن كلّهم ـ عبّاد الأصنام والأوثان ، وأُسراء الأحجار والاخشاب .
وقد بلغ الحد في بلاد اليابان أن جعلوا لكل حادثة ربّاً ، حتى أن هناك رباً باسم « رب الزواج » ، يتوسل إليه البنات الذين تأخروا في الزواج ، ليؤمن لهم الأزواج المناسبين .
وببابك بلاد الهند الشاسعة ، وما يعتقده مئات الملايين من أهلها من قداسةٍ وتألهٍ في « البقر » . وليست بعيدة عنّا أيام أصاب الجوع تلك البلاد ، وأصدر المجلس العام إجازة بذبح قسم من الأبقار لسدّ الجوع ورفع الموت عن أبناء الشعب ، فقد ثارت ثائرة الجماهير إلى الحدّ الذي أجبر الحكومة على إلغاء القانون . فرضوا أن يموت الإنسان بجوعه ، ويعيش البقر بأطيب عيشه ، يأكل محاصيلهم ويتلف ممتلكاتهم .
فإذا كان هذا هو حال المعارف الإلهية في عصر الفضاء والذرة ، وبعد ما جاءت الرسل تترى لهداية البشر ، فما هو حالها في غابر القرون والأزمان ؟ ! . بل بأي صورة يا ترى كان وضعنا الآن لولا الهداية الإلهية عن طريق الرسل ؟ ! .
نعم ، هناك نوابغ في التاريخ عرفوا الحق وتعرفوا عليه عن طريق التفكير والتعقل ، كسقراط وأفلاطون وأرسطو . ولكنهم أُناس استثنائيون ، لا يعدون معياراً في البحث ، ولا ميزاناً في نفي لزوم البعثة . وكونهم عارفين بالتوحيد ، لا يكون دليلاً على مقدرة الآخرين عليه . على أنه من المحتمل جدا أن يكون
__________________
= لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي . ولو أنصف لقال : أقلّ من هذه النسبة ، لما ذكرناه من جهل الإنسان حقائق القوى التي يكتشف معادلاتها . لاحظ مجلة رسالة الإسلام ، الصادرة عن دار التقريب بالقاهرة ، العدد الأول ، السنة الرابعة ، ص ٢٤ ، تنحت مقاله بعنوان ما نعلم وما لا نعلم للدكتور أحمد أمين .
وقوفهم على هذه المعارف في ظل ما وصل اليهم من التعاليم السماوية عن طريق رسله سبحانه وأنبيائه .
الأمر الثالث ـ ضالة العلم الأنساني في التعرف على المصالح والمفاسد .
ربما يتصور أن الهدف الوحيد من بعثة الأنبياء ، هو هداية الناس إلى المبدأ والمعاد ، وما في المبدأ من صفات جمال وجلال ، ولكن هذه الفكرة نصرانية بحتة ، فإن هدف الأنبياء أوسع من ذلك ، فإنهم قد بعثوا ـ مضافاً إلى ما مرّ ـ لهداية الناس إلى وسائل السعادة والشقاء ، فلأجل ذلك حثّوا على الأخلاق والمثل العليا في الحياة ، كما بيّنوا مصالح العباد ومفاسدهم الفردية والإِجتماعية ، ولذا كانت برامجهم تتسع وتتكامل بتكامل المجتمعات البشرية ، حتى ختم التشريع بخاتم الأنبياء ، وتبيّنت معالم الهداية في كافة الجوانب .
والذي يحتم ضرورة هذا الهدف قصور العلم الأنساني عن تشخيص منافع البشر والمجتمعات ومضارّها ، ويدل على ذلك :
أولاً ـ إن المجتمع الأنساني ـ مع ما بلغه من الغرور العلمي ـ لم يقف بعد على ألفباء الأقتصاد . فقد انقسم العالم الحديث إلى طائفتين : واحدة تزعم أن سعادة البشرية في نظام الرأسمالية والإِقتصاد الحر المطلق ، وانه هو العامل الوحيد لرفاه المجتمعات وتفجّر الطاقات . والأُخرى تدّعي أنّ سعادة البشر في النظام الاشتراكي بدءً والشيوعي غايةً ، فالسعادة كلها في سلب الملكية عن أدوات الإنتاج وتفويضها إلى الدولة الحاكمة .
فلو كان الأنسان قادراً بحق على تشخيص المصالح والمفاسد ، وما ينفعه وما يضره ، لما حصل هذا الإِختلاف ، الذي انجر إلى انقسام خطير بين دول العالم .
ثانياً ـ وكما أن الإنسان
لم يصل إلى النظام الإقتصادي النافع له ، فهو كذلك
لم يصل إلى وفاق في مجال الأخلاق وقد تعددت المناهج الأخلاقية في العصر الأخير إلى حد التضاد فيما بينها .
ونضرب مثالا بأحدها : الشيوعية . إنها تدعى لنفسها منهجا أخلاقياً من أُصوله أن الإِنسان لا يكون شيوعياً إلا بالتضحية بكل شيء لبناء صرح حكومة العمال في العالم ، وكل ما كان يصبّ في هذا المنحى فهو من الأخلاق الفاضلة ، وإن كان ذلك إعداماً ، وتدميراً وسرقة واختلاساً . ولأجل تبرير هذه الآراء الشاذة اعتنقوا الأصل المعروف : « الغايات تبرر الوسائل » .
يقول لينين ـ أحد زعماء الشيوعية بعد ماركس وانجلز ـ : « إن الشيوعي هو من يتحمل كل التضحيات ويلجأ إلى انواع الحيل والأفعال غير المشروعة ، ليجد لنفسه موضعاً ، وموطيء قدم في الإِتحاديات التجارية » (١) .
فإذا كان هذا حال الإِنسان في معرفة المسائل الإبتدائية في الاقتصاد والأخلاق ، فما ظنك بحاله في المسائل المبنية على أُسس تلك العلوم . أفبعد هذا الجهل المطبق يصح لنا أن نقول إن الأنسان غني عن الوحي في سلوك طريق الحياة .
ثالثاً ـ إنّ التعرف على عوامل السعادة والشقاء له صلة وطيدة بسلوك الإنسان في الحياة ، ومع الأسف إنّ الإنسان ـ مع ما يدّعيه من العلم والمعرفة ـ لم يدرك بعد تلك العوامل ، بشهادة أنه يشرب المسكرات ، ويستعمل المخدرات ، ويتناول اللحوم الضارة . كما يقيم إقتصاده على الربا ، الذي لا يشك إنسان عطوف على المجتمع بأنه عامل إيجاد التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع .
هذه الوجوه وأمثالها ترشدنا إلى أن الإِنسان ليس ـ ولم يكن ـ غنياً عن تعاليم الأنبياء ، وتدعم بوضوح لزوم بعثتهم لنشر المعرفة بين الأمم الإِنسانية .
قال القاضي عبد الجبار : « إنه قد تقرر في عقل كل عاقل ، وجوب دفع
__________________
(١) موسوعة نيقولاي لينين ، ج ١٧ ، ص ١٤٢ ، طبعة ١٩٢٣ .
الضرر عن النفس ، وثبت أيضاً أن ما يدعو الى الواجب ويصرف عن القبيح فإنه واجب لا محالة . إذا صحّ هذا ، وكنا نجوّز أن يكون في الافعال ما إذا فعلناه كنا عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات (١) وأجتناب المقبّحات ، وفيها ما اذا فعلناه كنا بالعكس من ذلك ، ولم يكن في قوة العقل ما يعرف به ذلك ويفصل بين ما هو مصلحة ولطف ، وبين ما لا يكون كذلك ، فلا بد من أن يعرّفنا الله حال هذه الأفعال كي لا يكون عائداً بالنقص على غرضه بالتكليف . وإذا كان لا يمكن تعريفنا ذلك إلّا بأن يبعث إلينا رسولاً مؤيّداً بالمعجز الدالّ على صدقه ، فلا بُدّ من أن يفعل ذلك ، ولا يجوز له الإخلال به (٢) .
إشارة إلى هذا الدليل في الكتاب .
قد جاء في الكتاب العزيز والسنة الشريفة إشارة الى هذا الدليل نذكر منها :
قوله سبحانه : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . . . ) (٣) .
فإن الاختلاف ـ إن كان عن نوايا صادقة ـ آية عجز البشر عن الوصول إلى الحقيقة .
وقول رسول الله صلى الله عليه وآله : « ولا بعث الله نبيّاً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل . . . » (٤) .
وقول أمير المؤمنين عليه السلام : « فبعث الله محمدا صلى الله عليه وآله
__________________
(١) المراد من الواجبات ليس الفرائض الشرعية بل ما يقابل المقبحات ، وهي الامور التي يحكم العقل بحسنها ولزوم الإِتيان بها .
(٢) شرح الاصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ، ص ٥٦٤ .
(٣) سورة البقرة : الآية ٢١٣ .
(٤) الكافي ، ج ١ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث ١١ .
ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته ، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته » (١) .
وقوله عليه السلام : « . . . إلى أن بعث الله محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله لانجاز عدته ، وتمام نبوته . . . وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة ، وأهواء منتشرة ، وطوائف متشتتة ، بين مشبه لله بخَلْقه ، أو ملحدٍ في أسمائه ، أو مشير به إلى غيره ، فهداهم به من الضلالة . . . » (٢) .
وفي هذا الحديث اشار إلى قصور الانسان في التعرف على المبدأ والمعاد .
وقول الإمام الكاظم عليه السلام لتلميذه هشام : « يا هشام ، ما بعث الله أنبيائه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة . وأعلمهم بأمر الله ، أحسنهم عقلاً . وأكملهم عقلاً ، أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة (٣) .
وقول الامام الرضا عليه السلام : « لم يكن بدّ من رسول الله بينه وبينهم ، يؤدي إليهم امره ونهيه وأدبه ، ويقفهم على ما يكون به مِنْ إحراز منافعهم ودفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه . (٤) .
* * *
__________________
(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٤٧ .
(٢) نهج البلاغة الخطبة الاولى .
(٣) الكافي ، ج ١ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث ١٢ .
(٤) بحار الانوار ، ج ١١ ، ص ٤٠ .
أدلة لزوم البعثة ٣ |
|
هداية الفطريات وتعديل الغرائز
وتقرير هذا الدليل يحتاج إلى تقديم أمرين :
الأمر الأول ـ الانسان مجبول على فطرياته وغرائزه .
لا تكتمل وتتوازن حياة الإِنسان إلا إذا عاش على مقتضى متطلبات الفطرة ومتوخيات الغرائز ، بل العيش على خلاف هذه المقتضيات يؤدي بالحياة البشرية إِلى الهلاك ، وما مثل هذا إِلا كالسابح في عكس تيار الماء ، لن تكون عاقبته إِلا الإِرهاق وانهيار القوى فيتوقف عن السباحة ويبتلعه الماء .
فحاجة الخلايا إلى الغذاء ، والبدن إلى الراحة والنوم ، حاجة ضرورية لا بد من تلبيتها . كما أن الحاجة إلى اطفاء الشهوة بالزواج حاجة فطرية لا يمكن إهمالها ، وإلا صار الإِنسان موجوداً عصبياً ، وكانت الحياة كالعلقم في فمه .
ومن جملة الفطريات المودعة في وجود
الإِنسان ، والمكتوبة على جبينه بقلم القضاء والخلقة ، والتي تتفجر في أوائل بلوغ الإِنسان عمر الشباب ، معرفةُ الله سبحانه ، والميل إلى الأمور الحسنة ، والإِنزجار عن الأمور السيئة ، ولأجل ذلك لا ترى إنساناً ـ لم يقع تحت تأثير الأهواء وعوامل الانحراف ـ يَعُدُّ
ردّ الامانة قبيحاً ، والخيانة بها كرامة ، كما لا يعد العمل بالعهد أمراً سيئاً ،
ونقضه أمراً حسناً ، وهكذا الكثير من الأمور كالميل إِلى العفة والعدالة والإِنزجار عن
الدناسة والخيانة . وكل ذلك مما يلمسه الإِنسان في حياته ويعايشه في وجدانه ، وقد كشف عنه العلم الحديث وأيّده (١) .
الأمر الثاني ـ حاجة الفطريات إِلى الهداية والغرائز إلى التعديل
إن إعمال الغرائز والفطريات ـ وإِن كان به قوام الحياة ـ إِلا أنَّه لا يصح في المقابل تركها وحالها وإفساح المجال لها ، وإِلا أَدّى ذلك بالحياة البشرية إِلى الفناء والهلاك . وإنما تتحق سعادة الإِنسان بهداية فطرياته هداية صحيحة وتعديل غرائزه على وجه يفي بحاجاته ولا يخرجه عن طور إِنسانيته .
بيان ما ذكرنا : إن الثلوج المتراكمة على قمم الجبال إنما يمكن الأنتفاع بها إذا كان هناك جداول وقنوات تمتد من رأس كلّ جبل إلى السهول المحيطة به ، فتسيل فيها مياه الثلوج الذائبة بالتدريج . وفي غير تلك الصورة يسيل الماء كيف كان ، جارفاً في طريقه الاحجار والصخور ، وربما أنقلب إلى سيل جارف يدمّر كلَّ شيء أمامه .
وكذلك الفِصَل المغروسة ، أو البذور المنثورة على الأرض ، تحمل في ذواتها قوى واستعدادات ، إلا أنَّ تفجُّر تلك الطاقات يحتاج إلى من يتعهدها حراسةً وسقايةً وعنايةً على النحو المأنوس ، وعندها تصير الفِصَل أشجاراً مثمرة ، والبذور سنابل ذهبية .
ثم نقول : إذا كانت الإِستفادة من الثلوج المتراكمة على الجبال ، والفصل المغروسة والبذور المنثورة على الأرض ، متوقفاً على هداية خاصّة ، حتى تصب في مجراها الصحيح ، وتَرْشُدَ على نهجها الطبيعي ، فكذلك الأمر في السجايا الإِنسانية والغرائز البشرية الكامنة في وجود الانسان ، فإنها لن تعود عليه بالنفع والصلاح إلا في ظل هداية تمنعها من الإفراط والتفريط ، وتسيّرها في ما هو صالح البدن والروح .
__________________
(١) تقدم التعرض لذلك في مقدمات الجزء الاول : الالهيات ، ج ١ ، ص ١١ ـ ١٣ .