الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
قال الشيخ المفيد (١) في رسالته التي يرد فيها على مَنْ ذَهَبَ إلى تجويز السهو على النبي والأئمة في العبادة ما هذا لفظه :
« الحديث الذي روته الناصبة والمقلّدة من الشيعة أنّ النبي سهى في صلاته فسلّم ركعتين ناسياً ، فلما نُبِّه على سهوه أضاف إليهما ركعتين ثم سجد سجدتي السهو ، من أخبار الآحاد التي لا تثمر علماً ولا توجب عملاً » (٢) .
وقال الشيخ الطوسي (٣) بعدما روى حديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله ما سجد سجدتي السهو قطّ ، قال بأنّ الذي يفتي به هو ما تضمنه هذا الخبر ، لا الأخبار التي قَدَّم ذكرَها وفيها أنّ النبي سها فسجد (٤) .
وقال المحقق (٥) في المختصر النافع : « والحقُّ رفع منصب الإمامة عن السهو في العبادة » (٦) ورفع منصب الإمامة عنه السهو يقتضي رفع منصب النبوة عنه .
وقال المحقق الطوسي (٧) في التجريد : « ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض . . و ( يجب ) كمال العقل ، والذكاء والفطنة ، وقوّة لرأي ، وعدم السهو » (٨) .
وقال العلامة (٩) في التذكرة ما هذا لفظه : « وَخَبَرُ ذي اليدَيْن عندنا باطل ، لأنّ النبي المعصوم لا يجوز عليه السهو » (١٠) .
__________________
(١) هو الشيخ محمد بن محمد بن النعمان البغدادي ، ت ٣٣٨ ـ م ٤١٣ .
(٢) التنبيه بالمعلوم من البرهان ، تأليف الشيخ الحرّ العاملي ، ص ٧ .
(٣) محمد بن الحسن الطوسي ، ت ٣٨٥ ـ م ٤٦٠ .
(٤) التهذيب ، ج ٢ ، ص ٣٥١ .
(٥) أبو القاسم جعفر بن الحسن الحلي ، ت ٦٠٢ ـ م ٦٧٦ .
(٦) المختصر النافع ، ص ٤٥ .
(٧) نصير الدين محمد بن محمد الحسن الطوسي ، ت ٥٩٧ ـ م ٦٧٢ .
(٨) شرح التجريد ، ص ١٩٥ .
(٩) الحسن بن يوسف الحلي ، ت ٦٤٨ ـ م ٧٢٦ .
(١٠) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ١٣٠ ، في مسألة وجوب ترك الكلام بحرفين فصاعداً مما ليس بقرآن ولا دعاء .
وقال أيضاً في الرسالة السَّعْدِيَّة : « لو جاز عليه السهو والخطأ ، لجاز ذلك في جميع أقواله وأفعاله ، فلم يبق وثوق بإخباراته عن الله تعالى ، ولا بالشرائع والأديان ، لجواز أن يزيد فيها وينقص ، فتنتفي فائدة البعثة ، ومِنَ المعلوم بالضرورة أنّ وصف النبي بالعصمة أكمل وأحسن من وصفه بضدها ، فيجب المصير إليه ، لما فيه من دفع الضرر المظنون بل المعلوم » (١) .
وقال الشهيد الأول (٢) في الذكرى ، بعد ذكره خبر ذي اليدين : « وهو متروكٌ بين الإمامية لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي عن السهو » (٣) .
وقال الفاضل المقداد(٤) : « لا يجوز على النبي صلى الله عليه وآله السهو مطلقاً ، أي في الشرع وغيره . أمّا في الشرع ، فلجواز أنّ لا يؤدّي جميع ما أُمر به ، فلا يحصل المقصود من البعثة . وأمّا في غيره ، فإنّه يُنَفِّر » (٥) .
وقال الشيخ بهاء الدين العاملي (٦) ـ عندما سأله سائل عن قول ابن بابويه إنّ النبي قد سهى ـ : « بل ابن بابويه قد سها ، فإنّه أولى بالسهو من النبي » (٧) .
وقد ألّف غير واحد من الأصحاب كتباً ورسائل في نفي السهو عن النبي منها : رسالة الشيخ المفيد (٨) ، ورسالة إسحاق بن الحسن الأقْرائي (٩) ، ورسالة الحر العاملي (١٠) المُسمّاة بـ « التنبيه بالمعلوم من البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان » . وقد فصل العلامة المجلسي ( م ١١١١ ) في البحار ، الكلام في
__________________
(١) الرسالة السَّعدِيَّة ، ص ٧٦ ، طبعة النجف .
(٢) محمد بن مكي العاملي ، ت ٧٣٤ ـ م ٧٨٦ .
(٣) الذكرى ، ص ١٣٤ .
(٤) أبو عبد الله المقداد بن عبد الله الأسدي السيوري الحلي ، م ٨٢٦ .
(٥) إرشاد الطالبين ، ص ٣٠٥ .
(٦) محمد بن الحسين بهاء الدين العاملي ، ت ٩٥٣ ـ م ١٠٣٠ .
(٧) التنبيه على المعلوم من البرهان ، ص ١٣ .
(٨) أدرجها العلّامة المجلسي في البحار ، لاحظ ج ١٧ ، ص ١٢٢ ـ ١٢٩ .
(٩) رجال النجاشي ، رقم الترجمة ١٧٨ .
(١٠) محمد بن الحسن الحرّ العاملي ، المحدث المعروف ، م ١١٠٤ .
المسألة ، واطنب في بيان شُذوذ تلك الأخبار التي استند إليها القائلون بالسهو (١) وناقشها بأدلّة متعددة السيد عبد الله شبّر ( ت ١١٨٨ ـ م ١٢٤٢ ) في كتابيه : حقّ اليقين (٢) ومصابيح الأنوار (٣) .
نعم هناك من الإمامية من جوّز السهو على النبي ، وإليك نصوصهم :
١ ـ قال محمد بن الحسن بن الوليد (٤) : « أوّل درجة في الغلو ، نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله ، فلو جاز أن تُرَدَّ الأخبار الواردة في هذا المعنى ، لجاز أن تردّ جميع الأخبار ، وفي ردّها إبطال الدين والشريعة ، وأنّا أحتسب الأجر في تأليف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي والرَّدِّ على منكريه إن شاء الله تعالى » (٥) .
٢ ـ قال الصدوق (٦) : « إنّ الغُلاة والمفوضة ـ لعنهم الله ـ ينكرون سهو النبي ، ويقولون : لو جاز أن يسهو في الصلاة ، لجاز أن يسهو في التبليغ ، لأنّ الصلاة عليه ، فريضة ، كما أنّ التبليغ عليه فريضة » .
ثم ردّ عليه بأنّ سهو النبي ليس كسهونا ، لأنّ سهوه من الله عزّ وجل ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق ، فلا يتّخذ ربّاً معبوداً دونه . وليعلم الناسُ بسهوِه حُكْمَ السهو متى سهوا . وسَهْوُنا من الشيطان ، وليس للشيطان على النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام سلطان ، ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ (٧) و (٨) .
٣ ـ وقال الطبرسي (٩) في تفسير قوله سبحانه : ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ
__________________
(١) البحار ، ج ١٧ ، الباب ١٦ ، ص ٩٧ ـ ١٢٩ .
(٢) حق اليقين ، ج ١ ، ص ١٢٤ ـ ١٢٩ .
(٣) مصابيح الأنوار ، ج ٢ ، ص ١٣٣ .
(٤) محمد بن الحسن بن الوليد القمي ، من مشايخ الصدوق ، متوفى عام ٣٤٣ .
(٥) من لا يحضره الفقيه ، ج ١ ، ص ٣٦٠ .
(٦) محمد بن علي بن الحسين بن بابويه ، ت ٣٠٦ ـ م ٣٨١ .
(٧) سورة النحل : الآية ١٠٠ .
(٨) من لا يحضره الفقيه ، ج ١ ، ص ٣٦٠ .
(٩) الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي ، ت ٤٧٠ ـ م ٥٣٨ .
الشَّيْطَانُ . . ) : « نُقل عن الجبّائي أنّه قال : في هذه الآية دلالة على بطلان قول الإمامية في أنّ النسيان لا يجوز على الأنبياء » .
ثم أجاب عليه بقوله : « وهذا القول غير صحيح ، لأنّ الإمامية لا يجوزون السهو عليهم فيما يؤدّونه عن الله ، فأمّا ما سواه ، فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل » (١) .
إلى هنا وقفت على أنّ المشهور بين علماء الإمامية هو القول الأول دون الثاني الذي هجر بعد الطبرسي ، ولم ينبث به أحد ، إلّا بعض المشايخ المعاصرين (٢) ، فعمد إلى جمع الروايات الدالّة على طروء السهو والنسيان على النبي والأئمة . ولعلّه جامع غير معتقد به .
والقضاء بين القولين يتوقف على نقل بعض ما أثر من الروايات الدالّة على سهو النبي ومناقشتها :
١ ـ روى الشيخان ( البخاري ومسلم ) وأبو داود ـ واللفظ للأخير ـ عن عمران بن حصين (رض) : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان في مسير له ، فناموا عن صلاة الفجر ، فاستيقظوا بِحَرِّ الشمس ، فقال عليه الصلاة والسلام : تنحو عن هذا المكان ثم أمر بلالاً فأذّن ثم توضأوا وصلّوا ركعتي الفجر (٣) . ثم أمر بلالاً فأقام الصلاة ، فصلّى بهم صلاة الصبح » (٤) .
وروى الشيخ الصدوق نَحْوَهُ (٥) .
__________________
(١) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٣١٧ .
(٢) وهو العلامة الشيخ محمد تقي التستري مؤلّف قاموس الرجال . وقد أدرج الرسالة في الجزء الحادي عشر من كتابه .
(٣) المراد نافلة فريضة الصبح .
(٤) التاج الجامع للأُصول في أحاديث الرسول ، ج ١ ، ص ١٢٠ .
(٥) من لا يحضره الفقيه ، ج ١ ، ص ٣٦٠ ، رقم الحديث المتسلسل ١٠٣١ وفي السند « الرباطي » .
فإن كان المراد منه علي بن رباط البجلي الكوفي ، لقرينة رواية الحسن بن محبوب عنه ، فهو ثقة والرواية معتبرة .
٢ ـ روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال : « صلّى لنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلاة الفجر ، فسلّم في ركعتين . فقام ذو اليدين فقال : أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كلُّ ذلك لم يكن .
فقال : قد كان بعض ذلك يا رسول الله ! .
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الناس فقال : أصدق ذو اليدين ؟ .
فقالوا : نعم ، يا رسول الله .
فأتمّ رسول الله ما بقي من الصلاة ، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم » (١) .
وروى نحوه الكليني بسند معتبر (٢) .
وبعد تقديم هذين النموذجين من الروايات نقول : إنّ الحق هو نفي السهو عن النبي ، وعدم الإعتداد بهذه الروايات لوجوه :
الوجه الأول ـ إنّ هذه الروايات معارضة لظاهر القرآن الدالّ على أنّ النبي مصونٌ عن السهو ، على ما عرفت .
الوجه الثاني ـ إنّ هذه الروايات معارضة لأحاديث كثيرة تدلّ على صيانة النبي عن السهو . وقد جمعها المحدث الحرّ العاملي في كتابه (٣) .
الوجه الثالث ـ إنّ ما روته الإمامية من أخبار السهو ، أكثر أسانيده ضعيفة ، وأمّا النقي منها فهو خبر واحد لا يصحّ الإعتماد عليه في باب
__________________
(١) التاج ، ج ١ ، ص ١٩٦ ، ولاحظ جامع الأصول ، ج ٦ ، ص ٣٥٠ ، الرقم المتسلسل ٣٧٦٢ .
(٢) الكافي ، ج ٣ ، ص ٣٥٥ ، باب من تكلم في صلاته ، الحديث الأول .
(٣) لاحظ التنبيه بالمعلوم من البرهان ، ص ٢٦ ـ ٤٤ .
الأُصول (١)
الوجه الرابع ـ إنّها معارِضة للأدلّة العقلية التي تقدم ذكرها .
وأمّا ما رواه أصحاب الصحاح ، فمع غضّ النظر عن أسناده ، فإنّه مضطرب جداً في متونه ، وذلك :
١ ـ فقد روى البخاري : صلّى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الظهر ركعتين فقيل صلّيت ركعتين . فصلّى ركعتين . . . الخ .
٢ ـ وفي رواية أخرى له : صلّى بنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الظهر والعصر ركعتين ، فسلّم . فقال له ذو اليدين : الصلاة يا رسول الله ، أنقصت ؟ . . . الخ .
٣ ـ وروى مسلم عن أبي هُريرة ، يقول : صلّى لنا النبي ( صلى الله عليه وآله ) صلاة العصر ، فسلّم في ركعتين ، فقام ذو اليدين فقال : أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ . فقال : كل ذلك لم يكن . . . الخ .
٤ ـ وفي رواية أُخرى له : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلّى ركعتين من صلاة الظهر ثم سلّم ، فأتاه رجل من بني سُلَيْم ، فقال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت . . . الخ .
٥ ـ وروى البخاري وأبو داود ومسلم عن عمران بن حصين أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلّى العصر وسلّم في ثلاث ركعات ودخل منزله فقام له رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول . . . الخ .
٦ ـ أخرج أبو داود ، قال : صلّى بنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحد صلاتي العشاء ـ الظهر أو العصر ـ قال فصلّى بنا ركعتين ثم سلّم ، فقام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها ، إحداهما على الأُخرى ، يعرف في وجهه
__________________
(١) وقد قام الشيخ الحرّ العاملي ـ قدّس سرّه ـ بتحقيق لمسانيد تلك الروايات وبيان ضعفها . لاحظ ص ٦٤ ـ ٦٦ من المصدر السابق نفسه .
الغضب ، ثم خرج سرعان الناس وهم يقولون : قصرت الصلاة ، قصرت الصلاة . وفي الناس أبو بكر وعمر ، فهابا أن يكلماه . وقام رجل كان رسول الله يسمّيه ذا اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال : لم أنس ولم تقصر الصلاة . قال : بل نسيت يا رسول الله ! فأقبل رسول الله على القوم فقال : أصدق ذو اليدين . فأومأوا : أي نعم . فرجع رسول الله إلى مقامه ، فصلّى الركعتين الباقيتين ثم سلّم . . الخ .
٧ ـ وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : « صلّى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فزاد أو نقص ـ شكّ بعض الرواة ـ والصحيح أنّه زاد ، فلما سلّم قيل له يا رسول الله ، أَحَدَثَ في الصلاة شيء ؟ قال : وما ذاك ؟ قالوا : فإنّك صلّيت خمساً . فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلّم » .
وفي أُخرى لمسلم قال : « صلّى بنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خمساً ، فقلنا يا رسول الله ، أزيد في الصلاة ؟ قال : وما ذاك ؟ قالوا : صلّيت خمساً ، فقال : إنّما أنا بشر مثلكم ، أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون . . الخ .
وروى الترمذي نحوها مع قوله : « صلى الظهر خمساً » . وأخرجه أبو داود والترمذي .
فيلاحظ فيما ذكرناه ما يلي :
أولاً ـ اضطراب الروايات في تعيين الصلاة التي سهى فيها رسول الله ، فهي بين معيّنة للظهر ( الرواية الأولى والرابعة ) أو معينة للعصر ( الثالثة والخامسة ) ، أو مُرَدّدة بينهما ( الثانية والسادسة ) .
وثانياً ـ إنّ الرواية الخامسة تدلّ على نسيانه ركعة واحدة ، بخلاف السابعة فتدلّ على زيادته ركعة ، وبخلاف بقية الروايات فتدلّ على نسيانه ركعتين .
وثالثاً ـ قوله : « لم أَنْس ولَمْ تَقْصُر الصلاة » ، في الرواية الخامسة . أو قوله في الثالثة : « كل ذلك لم يكن » ، غير لائق بالرسول ، لأنّه لو كان يجوز على نفسه السهو لما نفاه عن نفسه بنحو القطع ، بل لقال : أظنّ أنّه لم يكن كذلك .
ورابعاً ـ إنّ إنكاره قول ذي اليدين مستلزم لتجويز سهوين عليه ، مكان تجويز سهو واحد ، وهو أيضاً عجيب في موردٍ واحدٍ .
وخامساً ـ الظاهر أنّ سهو الرسول في الصلاة ، واقعةٌ واحدةٌ ، فاختلاف السهو بين الزيادة والنقصية ، واختلاف الإعتراض بين قولهم : « أَقَصَرْتَ الصلاة أم نسيت ؟ » ، وقولهم « أَزِيدَ في الصلاة ؟ » ، كما في رواية الترمذي من القسم السابع من الروايات ، تناقض واضح .
وسادساً ـ اضطراب الروايات في بيان زمن التذكير ، فإنّ في بعضها أنّه كان بعد الصلاة بلا فصل ، وفي أُخرى بعد قيامه من الصلاة واستناده إلى خشبة في المسجد ، وفي ثالثة بعد دخوله حجرته . فما هذا التناقض مع كون الواقعة واحدة كما يظهر من مجموع ما تهدف إليه الروايات .
وسابعاً ـ في ذيل الرواية الخامسة ، أنّه بعدما ذكر ذو اليدين صنيع رسول الله من السهو : فخرج غضبان يجرّ رِدائه حتى انتهى إلى الناس فقال : أصدق هذا ، قالوا : نعم . فصلّى ركعة ثم سجد سجدتين .
ففي هذه الرواية ذكر الغضب بعد تنبيه ذي اليدين ، بينما في الرواية التي أخرجها أبو داود أنّ الغضب كان متقدِّماً على تنبيهه .
وثامناً ـ ما منشأ غضب رسول الله ؟ هل هو تنبيه ذي اليدين ؟! لا وجه له . مع أنّ الغضب لهذا الشأن لا يناسب قوله سبحانه في حقّ نبيه : ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) .
وَمُجْمل المقال إنّ هذه الروايات (٢) مع ما فيها ممّا ذكرناه ولم نذكره ، لا يصحّ أن تقع سناداً للعقيدة .
* * *
__________________
(١) سورة القلم : الآية ٤ .
(٢) لاحظ مجموع ما نقلناه من مقاطع الروايات ، جامع الأصول ، ج ٦ ، ص ٣٤٦ ـ ٣٥٧ .
سمات الأنبياء (٢) |
|
التنزّه عن المُنَفِّرات
قد وقفت فيما تقدم على أنّ قيادة الناس وهدايتهم ، من الأُمور الصعبة التي تتطلب في المدير والقائد أن يتمتع بصفات عالية تسهّل توفيقه للغرض الذي بعث له ، أو نَهَضَ لتحقيقه . وقد عرفت أنّ مسؤولية هداية البشر في جميع النواحي ملقاةٌ على عاتق الأنبياء ، وأنّ العصمة ـ بمراتبها ـ إحدى الصفات اللازمة فيهم . وهناك صفات أخرى يجب اتّصاف الأنبياء بها تحصيلاً لغرضهم ، التي لولاها لما وصلوا إليه . ويجمعها التنزّه عن كل ما يوجب تنفر الناس ، والتحلّي بكلّ ما يوجب انجذابهم إليهم . ونحن نشير إلى بعض عناوين هذه الصفات مع تفسيرها إجمالاً .
١ ـ التنزّه عن دناءة الآباء وعهر الأُمهات
لا شكّ أنّ القائد إذا كان وليد بيت طيب طاهر ، معروفٍ بالعفاف والتُّقى ، فإنّ ذلك يكون له تأثيره الخاص في انسياق الناس وميلهم إليه . بخلاف ما إذا كان وليد بيت صِفر من القيم الأخلاقية سواء في جانب الآباء أو الأُمهات ، فإنّ أفئدة الناس تنفضُّ من وليده بحجة أنّ الأبناء يرثون صفات الآباء والأُمهات .
٢ ـ سلامة الخِلْقة
ومن العوامل الباعثة على اجتماع الناس حول القائد ، سلامته في بدنه من التشوّه ، ومن الأمراض التي يستوحش الناس معها من التعاطي مع المصاب بها ، كالجذام والبرص .
٣ ـ كمال الخُلُق
إنّ لحسن الخُلُق وكماله تأثيراً خاصاً في جذب الناس ، كما أنّ لِقَسْوَة القلب وفظاظة المعاملة تَأثيراً في تنفير الناس ، فلهذا يلزم أن يكون الأنبياء في القمة من صفاء النفس ولين الطباع ، والتواضع والنزاهة عن الحسد والتجبّر وما شاكل ذلك .
قال سبحانه : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ ، وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (١) .
٤ ـ كمال العقل
كما أنّ للعقل سهماً وافراً في حقل القيادة ، فيجب أن يكون الأنبياء على درجة عالية من الذكاء والفطنة والرأي القاطع لا يتردَّدون في أُمورهم بعد تبيُّنها .
وقد ذكرنا سابقاً قوله عليه السلام . « ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل ، ويكون عقله أفضل من عقُول أُمته » (٢) .
٥ ـ حُسْنُ السِيرة
إنّ البسطاء من الناس ـ وما أكثر وجودهم في الأُمم ـ ينظرون إلى البواطن
__________________
(١) سورة آل عمران : الآية ١٥٩ .
(٢) الكافي ، ج ١ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث ١١ .
من خلال الظواهر ، فيستكشفون سرائر الأنبياء من ظواهر أفعالهم . ولذلك يجب أن يكون الأنبياء في معاشراتهم مجانبين للأراذل والسفلة وأرباب الهزل ، مبرَّئين عن المشاحنات والمشاجرات التافهة وغير ذلك ممّا يسقط شأن القائد في أعين الناس .
وما عددناه من الصفات هنا ، نماذج من الأصل الكلِّي الذي صدَّرنا به البحث وهو اتّصاف الأنبياء بكل ما يوجب توفيقهم في هداية الناس ، الذي هو الغرض من بعثتهم . ولعلّ هناك مصاديق أُخرى لها دخالة في هذا المضمار ، لم نذكرها فيما ذكرناه .
* * *
سمات الأنبياء (٣) |
|
علم النبي بالمعارف والأحكام
إنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء ، هداية الناس إلى المعارف العليا الراجعة إلى المبدأ والمعاد ، وما يضمن سعادتهم في حياتهم الدنيوية والأُخروية بالعمل بالأحكام الشرعية . ولأجل تحقق تلك الغاية يشترط أن يكون النبي على كمال المعرفة بتلك المعارف والأحكام ، مُسْتَقِياً لها من معينها ومصدرها ، معرفةً لا جهلَ فيها ، ولا شك ولا شُبْهَة .
وعلى ذلك ليس الأنبياء مجتهدين في استنباط المعارف والأحكام والوظائف العملية ، فإنّه أمر لا يخلو عن الجهل والإشتباه والخطأ . فما أوهن ما ذكره القوشجي في تصحيح تحريم المتعتين من جانب الخليفة عمر تجاه تحليل النبي لها ، بقوله : « إنّ ذلك ليس ممّا يوجب قَدْحاً فيه ( الخليفة ) ، فإنّ مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الإجتهادية ليس ببدع !! » (١) .
فيلاحظ عليه
أولاً ـ إنّ النصوص القُرآنية تضافرت على أنّ ما يحكم به النبي ، عن وحي إلهي لا يتطرق إليه السهو والخطأ ، كما قال عزّ من قائل : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ
__________________
(١) شرح التجريد للقوشجي ، ص ٤٨٤ .
الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴾ (١) .
وقال تعالى : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ﴾ (٢) .
وقال تعالى : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ﴾ (٣) .
وقد حظر الله تعالى على نبيّه العجل ولو بحركة لسان ، فقال عزّ وجل : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ (٤) .
فحينئذٍ لا يسوغ لأحد مخالفته ولا الإجتهاد في مقابل قضائه وحكمه أصلاً . كيف يكون ذلك ، وقد قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (٥) .
وقال سبحانه : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (٦) .
إلى غير ذلك من الآيات التي تبعث على طاعة النبي والأخذ بما أتى به ، والإنتهاء عمّا نهى عنه ، قال تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٧) .
فإنّ كل ذلك يكشف عن أنّ كل ما يؤدّيه النبي لا يُؤدّيه من تلقاء نفسه ،
__________________
(١) سورة النجم : الآيتان ٣ و ٤ .
(٢) سورة يونس : الآية ١٥ .
(٣) سورة الأحقاف : الآية ٩ .
(٤) سورة القيامة : الآيات ١٦ ـ ١٩ .
(٥) سورة الأحزاب : الآية ٣٦ .
(٦) سورة النساء : الآية ٦٥ .
(٧) سورة الحشر : الآية ٧ .
ولا دخالة لفكره وشعوره فيه ، وإنّما هو إفاضة من ربّ العالمين إلى ذهنه ولوح عقله ليؤدّيه إلى الأُمة بلا تصرف ولا تدخّل .
وثانياً ـ إنّ الإجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع في فهم حكم الله تعالى من الحجج الأربع ومنها السنّة ، وهي قول النبي وفعله وتقريره . فإذا كان هذا معنى الإجتهاد ، فما معنى مخالفة الحجة باسم الاجتهاد . إن هو إلّا اجتهاد في مقابل الوحي ، وهو ساقط قطعاً .
* * *
سمات الأنبياء (٤) |
|
الكَفاءة في القيادة
إنّ القيادة والحكم يقتضيان اعتبار سلسلة من الشروط في القائد والحاكم ، وبدونها تنحرف القيادة عن طريق الحق وتنتهي بالأمة إلى أسوء مصير .
وقد كانت قيادة الأنبياء على نوعين :
الأول ـ القيادة المعنوية المحضة ، وهي هداية الأُمّة إلى عبادة الله سبحانه وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان ، وإرشادهم إلى وظائفهم أمام الله سبحانه . وهذا القسم لا يشترط فيه من المؤهّلات أزيد ممّا أسلفنا سوى الإستقامة في طريق الدعوة والصبر على النائبات ومعاداة المخالفين وأذاهم .
الثاني ـ القيادة بجميع شؤونها ، وهي هداية الأُمّة في حياتها الفردية والاجتماعية ، الدنيوية والأُخروية ، كما كان الحال في نبوة الكليم وداود وسليمان ، فلم تقتصر دعوتهم على الجهات المعنوية بل قاموا بتشكيل الممالك والدول ونشر دعوتهم بالجهاد بالنفس والنفيس ، ويكفي في ذلك مراجعة ما جاء حولهم في القُرآن الكريم .
قال سبحانه : ( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّـهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ) (١) .
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ٢٥١ .
ومن المعلوم أن القيادة في هذا الإطار الواسع لا تتسنى إلّا لمن كان ذا مواهب كثيرة في الإدارة والتدبير وحسن الولاية ، يقدر معها على القيام بتلك المسؤولية . ويجمعها ما يسميه السياسيون في مصطلح اليوم بالنضج العقلي والرُشد السياسي ، وبدونه لن يقوم للحكومة عمود ، ولن يَخْضَرّ لها عود . ولأجل ذلك أثر عن النبي الأكرم أنّه قال : « لا تَصْلُح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال :
١ ـ ورع يحجزه عن معاصي الله .
٢ ـ وحِلْمٌ يملك به غضبه .
٣ ـ وَحُسْنُ الولاية على من يلي حتى يكون كالأب الرحيم » (١) .
وقال الإمام علي عليه السلام : « أَيُّها الناس إنّ أحقَّ الناس بهذا الأمر أقْوَمُهم ( وفي رواية أقواهم ) وأعلمهم بأمر الله ، فإن شَغَب شاغِبٌ أُستُعْتِب ، وإِنْ أبى قُوتِل » (٢) .
* * *
ثم إنّ جمعاً من المتكلمين التزموا بوجود سمات أخرى في الأنبياء وراء ما ذكرنا ، ككونهم أشجع الناس وأعلمهم بالعلوم كافة ، وأزهدهم وأعبدهم ونحو ذلك .
ولعلّ هذه الأوصاف من سمات من بعث لكافة الناس وهم على المشهور خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، والنبي الأعظم عليهم السلام . وعلى التحقيق هو نبي الإسلام صلى الله عليه وآله (٣) .
إلى هنا تمّ البحث عن النُبوّة العامة التي تختص أبحاثها بنبُوّة نبي معين ، وحان وقت البحث عن النبوة الخاصة ، المختصة مباحثها بنبوة نبي الإسلام ، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله .
* * *
__________________
(١) الكافي ، ج ١ ، ص ٤٠٧ .
(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٢ .
(٣) لاحظ مفاهيم القرآن ، ج ٣ ، ص ٧٧ ـ ١١٦ .