الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
ونظن أنّ الآيتين كافيتين في إذعان الباحث بعصمة الأنبياء من جهة النقل أيضاً (١) .
نعم ، إنّ هناك لفيفاً من الآيات ربما يُستظهر منه عدم عصمة الأنبياء على الإطلاق أولاً ، وعدم عصمة عدّة منهم كـ « آدم » و « يونس » ثانياً . غير أنّ دراسة هذه الأصناف من الآيات خروج عن طور البحث ، فإنّها أبحاث قرآنية تطلب من مظانّها (٢) .
وإلى هنا يتمّ البحث في المرحلة الأُولى من مراحل العصمة ، أَعني العصمة عن المعصية والمخالفة المولوية ، ويقع الكلام بعدها في المرحلة الثانية ، وهي العصمة في مقام تبليغ الرسالة .
* * *
__________________
(١) ومن أراد البسط فليرجع إلى المصدر الذي أشرنا إليه .
(٢) قد بحث الأُستاذ ـ أطال الله بقاءه ـ عن مجموع هذه الآيات في موسوعته القرآنية « مفاهيم القرآن » ، ج ٤ ، ص ٤٣١ ـ ٤٥٠ وج ٥ ، ص ١٩ ـ ١٣٤ فلاحظ .
المرتبة الثانية للعصمة
عصمة النبي في تبليغ الرسالة
ذهب جمهور المتكلمين من السنّة والشيعة إلى عصمة الأنبياء في هذه المرحلة ، ونُسب إلى أبي بكر الباقلاني ( المتوفى سنة ٤٠٣ ) تجويز الخطأ في إبلاغ الرسالة سهواً ونسياناً ، لا عمداً وقصداً .
قال صاحب المواقف : « أجمع أهل الملل والشرائع على عصمتهم عن تعمُّد الكذب فيما دلّت المعجزة على صدقهم فيه ، كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله . وفي جواز صدوره عنهم على سبيل السهو والنسيان خلاف ، فمنعه الأُستاذ وكثير من الأئمة ، لدلالة المعجزة على صدقهم ، وجوّزه القاضي مصيراً منه إلى عدم دخوله في التصديق المقصود بالمعجزة » (١) .
هذا رأي الأشاعرة ، وأمّا المعتزلة فإليك رأيهم بلسان القاضي عبد الجبّار ، قال :
« إنّا لا نجوز عليه ( النبي ) السهو والغلط فيما يؤدّيه عن الله تعالى ، وإنّما نجوّز عليه أن يسهو في فعل قد بيّنه من قبل ، وأدّى ما يلزم فيه حتى لم يغاير منه شيئاً . فإذا فعله مرة لمصالحه ، لم يمتنع أن يقع فيه السهو والغلط . ولذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو ، وكذلك ما وقع
__________________
(١) المواقف ، ص ٣٥٨ .
منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك » (١) .
أقول : نظر القاضي في الإستثناء هو أنّ النبي لا يسهو في التبليغ ، ولكن يعرض له السهو في عالم التطبيق . وقد نسبوا إليه السهو في الصلاة حيث سلّم في الركعة الثانية ، فاعترض عليه ذو اليدين : « أَقَصَرْتَ الصلاة أم نسيت » ، وسيوافيك الحال في هذا الإستثناء عند البحث في المرحلة الثالثة .
ثم إنّا نقول : إنّ العصمة في مرحلة تبليغ الرسالة على وجهين :
أ ـ العصمة عن الكذب ، وهو داخل في العصمة عن المعصية ، التي تقدم البرهان عليها .
ب ـ العصمة عن الخطأ سهواً في تلقّي الوحي وتحمّله ( وعيه ) وأدائه ، وهذا هو الذي نركز البحث عليه .
إنّ الدليل الأول ، أعني كون حصول الوثوق مرهوناً بالعصمة ، كما يُثبت عصمة الأنبياء عن المعصية ، فكذلك يُثبت عصمتهم في هذا المجال . ولأجل ذلك اكتفى به المحقق الطوسي في إثبات العصمة على الإطلاق ، إِنْ في مقام الفعل والعمل ، أو في مقام التبليغ والرسالة .
توضيح ذلك : إنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء ، هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية التي ترشدهم إلى طريق السعادة ، ولا تحصل هذه الغاية إلّا بإيمان الناس بصدق المبعوثين وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه وأَنّ كلامهم وأقوالهم ، كلامه وقوله سبحانه . وهذا الإذعان لا يحصل إلّا بعد إذعان آخر ، وهو اعتقاد مصونيتهم عن الخطأ في المراحل الثلاث من مراحل تبليغ الرسالة ، أعني : التلقّي ، والتحمّل ، والأداء .
القرآن وعصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة
إنّ في الذكر الحكيم آياتٍ تدلّ على مصونية النبي الأعظم في مجال تبليغ
__________________
(١) المغنى ، ج ١ ، ص ٢٨١ .
الرسالة بجوانبها المختلفة ، من تلقي الوحي فوعيه وحفظه ، إلى إبلاغه .
* الآية الأولى : قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ، وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ، وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ (١) .
إنّ هذه الآية تصرّح بأنّ من أهداف بعثة الأنبياء ، القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه . وليس المراد من القضاء إلّا القضاء بالحق ، وهو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير ولا تحريف .
ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمَنَ مِنَ الناس إلى الحق بإذنه ، كما هو صريح قوله : ( فَهَدَى اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ﴾ . والهادي وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة ، لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي بوساطته . وتحقق الهداية منه ، فرع كونه واقفاً على الحق بكماله وتمامه . من دون تحريف ولا زيادة أو نقصان . وكل ذلك يستلزم عصمة النبي في تلقّي الوحي وتحمله وإبلاغه إلى الناس .
والحاصل أنّ الآية تدلّ على أنّ النبي يقضي بالحق أوّلاً ، ويهدي المؤمنين إليه ثانياً . وهذا يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه ، ومبلّغاً له على نحو ما تلقّاه ووعاه .
* الآية الثانية : قوله تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٢) .
فالآية تصرِّح بأنّ النبي لا يتكلم بداعي الهوى ، والمراد منه إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجالات الحياة على اختلافها ، كما هو مقتضى إطلاقها ، أو
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ٢١٣ .
(٢) سورة النجم : الآيتان ٣ و ٤ .
خصوص ما يحكيه عن الله سبحانه . وعلى كلا التقديرين فهي تدلّ على صيانته وعصمته في مجال تبليغ الرسالة : تلقّي الوحي ووعيه وإبلاغه .
* الآية الثالثة ـ قال تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) (١) .
وموضع الدلالة من الآية :
أ ـ قوله : ( مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ﴾ .
ب ـ قوله : ( مِنْ خَلْفِهِ ﴾ .
ج ـ قوله : ( أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ﴾ .
فبالإمعان في هذه النقاط الثلاث ، يظهر أنّ مشيئة الله تعالى الحكيمة ، تعلّقت على حفظ الوحي من لدن أخذه إلى زمن تبليغه ، وإليك توضيح الدلالة بتوضيح مفردات الآية .
١ ـ قوله : ( فَلَا يُظْهِرُ ﴾ . الإظهار من باب الإفعال بمعنى الإعلان ، كما في قوله سبحانه : ( وَأَظْهَرَهُ اللَّـهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ . . . ) (٢) .
٢ ـ لفظ « مِنْ » في قوله : ( مِن رَّسُولٍ ﴾ ، بيانية . تبيّن المَرْضيَّ عند الله . فالرسول هو الذي ارتضاه الله تعالى واختاره ليُعَرِّفه على الغيب .
٣ ـ الضمير في قوله : ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ ﴾ ، يرجع إلى الله تعالى . كما أنّ الضمير المستتر في قوله : ( يَسْلُكُ ﴾ ، يرجع إليه سبحانه أيضاً . و « يسلك » بمعنى يجعل .
__________________
(١) سورة الجن : الآيات ٢٦ ـ ٢٨ .
(٢) سورة التحريم : الآية ٣ .
٤ ـ الضمير في قوله : ( بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ ، يرجع إلى الرسول ، والمراد من الأول ما بَيْنه وبين الناس ، وهم المُرْسَلُ إليهم ، فإنّ النبي يواجه الناس ، وهم في مواجهته وبين يديه ، كما أنّ المراد من الثاني ، ما بين الرسول ومصدر الوحي الذي هو الله سبحانه . وإنّما عبّر بالخَلْفِ ، لأنّ النبي بُعث من الله إلى الناس ، فالله خَلْفَه والناس أمامه بهذا الإعتبار .
٥ ـ قوله : ( رَصَدًا ) الرصد هو الحارس الحافظ ، يطلق على الجمع والمفرد .
والتدبّر في مفاد الآية يثبت بأنّ الوحي مصون ومحفوظ من لدن إفاضته من الله سبحانه ، إلى وصوله إلى الناس ، فإنّها تَعْتَبر الوحي فيضاً متصلاً من المرسِل ( بالكسر ) إلى المرسَل إليهم .
إنّ الآية تصف طريق بلوغ الوحي إلى الرسل ، ومنهم إلى الناس ، بأنّه محروس بالحَفَظَة يمنعون تطرق أي خلل وانحراف فيه ، حتى يبلغ الناس كما أُنزل من الله تعالى . ويعلم هذا بوضوح مما تذكره الآية من أنّ الله سبحانه يجعل بين الرسول ومن أُرسل إليهم ( من بين يده ) وبَيْنَهُ ومصدرِ الوحي ( ومن خلفه ) ، رصداً مراقبين ، هم الملائكة . وليس الهدف من جعلهم في هذه المواضع إلّا الحفاظ على الوحي من كل تخليط وتشويش ، بالزيادة والنقصان ، التي ربما يقع النبي فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة ، أو معها . فإذا كان الوحي بهذه المثابة من الحراسة والمصونية في كلا المرحلتين ، أعني المتقدمة ـ وهي من حين الإفاضة من المرسِل إلى حين البلوغ إلى النبي ـ والمتأخرة ـ وهي إبلاغه إلى الناس ـ كان كذلك فيما بينهما ، أعني مرحلة الحفظ والوعي ، فالنبي فيها مصون عن النسيان أو تدخل الواهمة لتغييره وتبديله . ولولا ذاك لما كان لحفظ الوحي بين يديه أيّ معنى .
ثم إنّه سبحانه يؤكّد ذلك بجملتين أُخريين :
الأُولى ، قوله : ( لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ ، فإِنَّها
علّة لجعل الرصد بين يدي الرسول وخلفه . والمراد من العلم ، التحقق الخارجي ، على حدّ قوله سبحانه : ( . . . فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَاذِبِينَ ﴾ (١) ، أي ليتحقق إبلاغ رسالات الله على ما هي عليه من غير تبديل ولا تغيير ، وهو ـ أي تحقق الإبلاغ على ما هو عليه ـ يتوقف على جعل الرصد والحفظة عليه في المراحل الثلاث جميعها : الأخذ والوعي والإبلاغ .
والثانية ، قوله : ( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ﴾ . فإنّها أيضاً جملة مؤكدة لجعل الحراسة ، ومعناها أنّه سبحانه يحيط بما لدى الأنبياء من الوحي ، فيكون في أمانٍ من تطرّق التحريف .
وأمّا قوله : ( وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) ، فَمَسوقٌ لإفادة عموم علمه بكلِّ شيء ، من غير فرق بَيْنَ الوحي المُلْقى إلى الرسول وغيره .
وخلاصة الكلام : إنّ الوحي كالماء الصافي الزلال ، المنحدر من معينه ، ينزل من مصدره وهو خزائن علم الله تعالى ، إلى النبي ، ومنه إلى الناس ، من دون أن يتطرق إليه التحريف والتبديل من جانب الشياطين أو القوى النفسانية في النبي ، بل يصل كما صدر بلا أدنى تغيير .
قال العلامة الطباطبائي ، بعد بحثه في مفردات الآية على غرار ما ذكرناه : « إنّ الرسول مؤيَّدٌ بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه ، وفي حفظه ، وفي تبليغه إلى الناس ، مصونٌ من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً . لما مرّ من دلالة الآية على أنّ ما نزّل الله من دينه على الناس من طريق الوحي ، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس . ومن مراحله ، مرحلة أخذ الوحي وحفظه وتبليغه ، والتبليغ يعمّ القول والفعل ، فإنّ في الفعل تبليغاً ، كما في القول . فالرسول معصوم عن المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية ، لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين . فهو معصوم من فعل المعصية ، كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي وحفظه وتبليغه قولاً » (٢) .
وفي ضوء هذه الآية الكريمة يمكن القول بأنّ مصونية الأنبياء عن الخطأ
__________________
(١) سورة العنكبوت : الآية ٣ .
(٢) الميزان في تفسير القرآن ، ج ٢٠ ، ص ١٣٣ .
والإشتباه فيما يرجع إلى الرسالة والوحي ، لا يرجع إلى ذواتهم وكيانات وجودهم ، بل إلى عامل أو عوامل ، خارجة عن ذواتهم ، كالملائكة الرَّصّد ، الحافظين لهم من كل خطأ وزَلَّة ، والآخذين بأيديهم في مظانّ مزالقِ الألسن والأيدي والأقدام وسائر الجوارح .
* * *
المرتبة الثالثة للعصمة
العصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة والأمور العادية
إنّ صيانة النبي عن الخطأ والإشتباه في مجال تطبيق الشريعة والأمور العادية الفردية المرتبطة بحياته الشخصية ، ممّا طرح في علم الكلام ، وطال البحث فيه بين المتكلمين . والخطأ في تطبيق الشريعة ، مثل أنْ يسهو في صلاته ، أو يغلط في إجراء الحدود . والخطأ في الأمور العادية مثل خطئه في مقدار دَيْنه للناس ، كما لو اقترض ديناراً وظنّ أنّه ديناران أو نصفُ دينار .
والحقُّ في هذه المسألة واضح غايتَه ، ذلك أنّ الدليل العقلي الدالّ على لزوم عصمة النبي في مجال تلقّي الوحي وتحمّله وأدائه إلى الناس ، دالٌّ ـ بعينه ـ على عصمته عن الخطأ في تطبيق الشريعة وأُموره الفردية ، حرفاً بحرف . ولكن زيادة في البيان ، نقول :
إنّ الغاية المتوخاة من بعث الأنبياء
هي هداية الناس إلى السعادة . ولا تحصل هذه الغاية إلّا بكسب اعتمادهم وثقتهم المطلقة بصحة ما يقوله الأنبياء ويحكونه عن الله تعالى . ولكن ما قولك فيما لو شاهد الناس نبيَّهم يسهو في تطبيق الشريعة التي أمرهم بها ، أو يغلط في أُموره الفردية والاجتماعية ؟ . هل من رَيْبٍ
في أنّ الشّكّ سيجد طريقاً رحبة للتسرب إلى أذهان الناس في ما يدخل في مجال الوحي والرسالة ؟ بل لن يبقى شيء ممّا جاء به هذا النبي إلّا وتَطْرُقُهُ علامات الإستفهام ، ولسان حال الناس يقول : « هل ما يحكيه عن الله تعالى من
الوظائف ، هي وظائف إلهية حقّاً ؟ أمّ أنّها مزيج من الأخطاء والإشتباهات ؟ وبأي دليل هو لا يخطيء في مجال الوحي ، إن كان يخطيء ويسهو في المجالَيْن الآخرَيْن ؟ » . وهذا الحديث النفسي والشعور الداخلي ، إذا تعمّق في أذهان الناس ، سوف يَسْلُب اعتمادهم على النبي ، وتنتفي بالتالي النتيجة المطلوبة من بعثه .
نعم إنّ التفكيك بين صيانة النبي في مجال الوحي ، وصيانته في سائر المجالات ، وإن كان أمراً ممكناً عقلاً ، لكنه كذلك بالنسبة إلى عقول الناضحين في الأبحاث الكلامية ، وأمّا عامة الناس ورعاعُهُم الذين يُشكِّلون أغلبية المجتمع ، فإنّهم غير قادرين على التفكيك بين تَيْنِك المرحلتين ، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرُّب السهو إلى المرحلة الأُخرى .
فلا بدّ ـ لسدّ هذا الباب الذي ينافي الغاية المطلوبة من إرسال الرسل ـ من أن يكون النبي مصوناً عن الخطأ في عامة المراحل ، سواء في حقل الوحي أم تطبيق الشريعة أم في الأُمور الفردية والاجتماعية . وهذا الذي ذكرناه مقتضى الدليل العقلي القائم في المقام . والقرآن الكريم يدعم ذلك ببيان خاص ، نورده فيما يلي .
القرآن وعصمة النبي عن الخطأ
تستفاد عصمة الأنبياء عن الخطأ في مجال تطبيق الشريعة والأُمور الفردية من عدة من الآيات نكتفي في المقام بالبحث في آيتين منها . ولأجل توضيح دلالتهما ، نذكر كلا منها ، مع ما يرتبط بها من الآيات .
الآية الأولى ـ قال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّـهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) (١) .
وقال سبحانه أيضاً : ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن
__________________
(١) سورة النساء : الآية ١٠٥ .
يُضِلُّوكَ ، وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ، وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ، وَأَنزَلَ اللَّـهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) (١) .
الإستدلال بهاتين الآيتين وإن كان لا يتوقف على معرفة أسباب نزولهما ، إلّا أنّ الإحاطة بأسباب النزول توجب ظهورَهُما في مفادهما .
إنّ مجموع ما ورد حول هاتين الآيتين وغيرهما ، من أسباب النزول ، متفق على أنّها نزلت في شكوى رُفعت إلى النبيّ صلى الله عليه وآله ، وكان كلٌّ من المتخاصمين يسعى ليبرء نفسه ويلقي التهمة على الآخر . لكن كان إلى جانب أحدهما رجل طليق اللِّسان حاول أن يخدع النبي الأكرم بإثارة عواطفه على المتهم البريء ، ليقضي على خلاف الحق ، فعند ذلك نزلت الآيات ورَفَعَتِ النِّقاب عن وجه الحقيقة ، وعُرِفَ المُحِقُّ من المُبْطِل (٢) .
والدقة في فقرات الآية الثانية ، يوقفنا على مدى صيانة النبي الأكرم وعصمته عن السهو والخطأ ، فإنّها مؤلفة من فقرات أربع كلٌّ منها يشير إلى أمر خاص .
١ ـ ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) .
٢ ـ ( وَأَنزَلَ اللَّـهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) .
٣ ـ ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) .
٤ ـ ( وَكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) .
وإليك فيما يلي بيان ما تهدف إليه هذه الآيات وكيفية استنتاج العصمة منها .
الفقرة الأُولى تدلّ على أنّ نفس النبي بمجرّدها لا تصونه من الضلال ، أي من القضاء على خلاف الحق ، وإنّما الصائن له هو الله سبحانه ، فلَوْلا فضلُ الله
__________________
(١) سورة النساء : الآية ١١٣ .
(٢) راجع في الوقوف على مجموع ما نقل من أسباب النزول ، تفسير الطبري ، ج ٥ ، ص ١٦٩ .
ورحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن ، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن فعل ذلك ، وأبطل أمرهم الذي كان سيؤدّي إلى إضلاله .
وبما أنّ رعاية الله سبحانه وفضله الجسيم على النبي ليسا مقصورين على حال دون حال ، أو وقت دون آخر ، بل هو مشمول لهما ومحاطٌ بهما في جميع لحظات حياته ، فلن يصيبَه من إضلالهم شيء ، وإنّما يضرّون بذلك أنْفُسَهم ، كما قال عزّ وجلّ : ( وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) .
والفقرة الثانية تشير إلى مصادر حكمه ومدارك قضائه ، وأنّه لا يصدر في هذا المجال إلّا عن التعليم الإلهي .
ولما كان هذا النوع من العلم الكلّي أحد ركني القضاء ، وهو لوحده لا يفي بالقضاء بالحق ، وإنّما يتمّ القضاء بالحق بتمييز الصغريات ، وهو تشخيص المُحقّ من المُبْطل ، والخائن من الأمين ، والزاني من العفيف ، أتى بالفقرة الثالثة ، فقال : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) . ومقتضى العطف ، مغايرة المعطوف ( وعَلَّمَكَ . . ) للمعطوف عليه ( وأَنْزَل . . ) فإذا كان المعطوفُ عليه ناظراً إلى تمكّنه من الركن الأول ـ وهو العلم بالاحكام الكليّة الواردة في الكتاب والسنّة ـ يكون المعطوفُ ناظراً إلى الركن الثاني للقضاء الصحيح وهو العلم بالموضوعات والجزئيات .
فالعلم بالحكم الشرعي أولاً ، وتشخيص الصغريات وتمييز الموضوعات ثانياً ، جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق ، من دون أن يجنح إلى جانب الباطل أو يسقط في هوّة الضلال . والفقرة الأولى تشير إلى الجانب الأول ، والثانية إلى الثاني .
ومجمل ما تقدم أنّ الآية الأُولى تدلّ على أنّ الهدف من إنزال الكتاب ، القضاء بين الناس بما أراه الله سبحانه ، ولا يمكن أن يكون ما أراه سبحانه أمراً خاطئاً ، بل هو صواب على الإطلاق ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر إنّ القضاء بالحق ـ الذي
هو الغاية المتوخاة من إنزال
الكتاب ـ تتوقف على العلم بالكبريات والصغريات ، وهو ما أشارت إلى تحققه في النبي ، الفَقرتان الثانية والثالثة من الآية الثانية .
قال العلامة الطباطبائي : « المراد من قوله سبحانه : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) ، ليس علمه بالكتاب والحكمة ، فإنّ مورد الآية قضاء النبي في الحوادث الواقعة ، والدعاوى المرفوعة إليه ، برأيه الخاص ، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء ، وإن كان متوقفاً عليهما ، بل المراد رأيه ونظره الخاص » (١) .
فَيْنْتِجُ كلُّ ذلك أنّ النبي ـ لأجل عميم فضله سبحانه ـ مصون في مقام القضاء عن الخطأ والسهو .
ولما كان هنا موضع توهّم وهو أنّ رعاية الله لنبيّه تختصّ بموردٍ دون مورد ، دفع ذلك التوهّم بالفقرة الرابعة وقال : ( وكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أخرى ، بل مقتضى عظمة الفضل سعة شموله لكل الوقائع والحوادث ، سواء أكانت من باب المرافعات أم من الأمور العادية الشخصية .
ولا كلام أعلى وأغزر عاطفة من قوله سبحانه في حق حبيبه : ( وكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) .
الآية الثانية ـ قال سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا . . ) (٢) .
إنّ الشهادة الواردة في الآية ، من الحقائق القُرآنية التي تكرر ورودها في الذكر الحكيم .
قال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا ) (٣) .
__________________
(١) الميزان ، ج ٥ ، ص ٨١ .
(٢) سورة البقرة : الآية ١٤٣ .
(٣) سورة النساء : الآية ٤١ .
وقال تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (١) .
وقال تعالى : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ . . . ) (٢) .
وهذه الشهادة يتحملها الشهداء في الدنيا ويُؤدُّونها في الآخرة ، ويدلّ على ذلك :
قوله سبحانه : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (٣) .
وقوله سبحانه : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) (٤) .
فمجموع هذه الآيات يدلّ على أنّ في كلّ أُمَّةٍ شهداء على أعمالها ، وأنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله على رأسهم ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ الشهادة هنا ليست على صور الأعمال والأفعال ، فإنّها غير كافية في القضاء الأُخروي ، بل المشهود عليه هو حقائق أعمال الأُمة : الإيمان والكفر والنفاق ، والرياء والإخلاص . . . ومن المعلوم أنّ هذه المشهودات لا يمكن تشخيصها والشهادة عليها عن طريق الحواس الخمس ، لأنّها لا يمكنها أن تستكشف حقائق الأعمال ، وما يستبطه الإنسان . فيجب أن يكون الأنبياء مجهزين بحسّ خاص يقدرون معه على الشهادة على ما لا يُدْرَك بالبصر ولا بسائر الحواس ، وهذا هو الذي نسميه بحبل العصمة ، وكلُّ ذلك بأمر من الله سبحانه وإِذْنِه ، والمُجَهَّز بهذا الحسّ لا يخطىء ولا يسهو .
وإن شئت قلت : إنّ الشهادة هنا ، لو كانت خاطئة ، للزم عقاب المطيع أو إثابة المجرم ، وهو قبيح عقلاً ، لا سيما الأول ، فيجب أن تكون شهادة الشاهد
__________________
(١) سورة النحل : الآية ٨٤ .
(٢) سورة الزمر : الآية ٦٩ .
(٣) سورة المائدة : الآية ١١٧ .
(٤) سورة النساء : الآية ١٥٩ .
مصونة عن الخطأ والإشتباه حتى تكون منزهة عمّا يترتب عليهما من القبيح .
وهذه الآيات ، وإن كانت لا تثبت إلّا مصونيّته فيما يرتبط بالشهادة ، ولكن التفصيل غير موجود في كلمات القوم .
تبيّن إلى هنا أنّ الأنبياء ـ بحكم العقل والكتاب ـ مصونون عن الخطأ ، والزلل في تطبيق الشريعة أوّلاً ، وجميع أُمورهم الفردية والإجتماعية ثانياً .
* * *
أدلة المجوزين للخطأ على الأنبياء
جوّز جماعة من المتكلمين الخطأ والإشتباه على الأنبياء ، واستندوا في ذلك إلى آيات ، غفلوا عن أهدافها . ونحن نذكرها على وجه نميط الستر عنها .
١ ـ قال سبحانه : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) .
فقد استدلّ بها المخطئة بأنّ الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله ، فالنتيجة أنّ النبي ربما يطرأ عليه النسيان ، وهو لا يجتمع مع المصونية من الخطأ .
إلّا أنّهم غفلوا عن أنّ وزان الآية وزان كثير من الآيات الأُخر التي يخاطب فيها النبي ولكن يكون المقصود من الخطاب أبناء الأُمة .
ومن هذا القبيل ، قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٢) . فإنّ هذه الآية ـ ونظائرها ـ تركّز على الجانب التربوي من الشريعة ، والغاية منها تعريف الناس بوظيفتهم وتكليفهم تجاه الباري سبحانه ، ببيان أنّ نبي الأُمة إذا كان محكوماً بهذه
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ٦٨ .
(٢) سورة الزمر : الآية ٦٥ .
التكاليف ومخاطَباً بها ، فغيره أولى بأن يكون محكوماً بها . وهذه الآيات تجري مجرى قول القائل : « إيّاك أَعني واسْمَعي يا جارة » .
فالمراد من الآية المستدلّ بها هو حثّ المؤمنين على اجتناب الحضور في المجالس التي يخاض فيها في آيات الله سبحانه . فالنهي عن الخوض تكليفٌ عام يشترك فيه النبي وغيره ، وكون الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الأُمة . ويدلّ على ذلك قوله سبحانه في سورة النساء : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّـهِ يُكْفَرُ بِهَا ، وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ، إِنَّ اللَّـهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) (١) .
فإنّ هذه الآية مدنية ، والآية المستدلّ بها مكية ، وإذا قورنت إحداهما بالأُخرى يستنتج منه أنّ الحكم النازل سابقاً متوجه إلى المؤمنين ، وأنّ الخطاب فيه وإن كان للنبي ، إلّا أنّ المقصود إنشاءُ حُكْمٍ كلّيٍّ شاملٍ لجميع المكلَّفين من غير فرق بين النبي وغيره . ومع ما ذكرناه ، لا يكون في الآية دلالة على تحقق النسيان من النبي ، لأنّها إنّما تدلّ لو كان الخطاب مختصاً بالنبي لا يتعداه .
٢ ـ قال سبحانه : ( وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا ) (٢) .
المراد من النسيان الإستثناء ، وهو قول « إلّا أن يشاء الله » . والآية استدلالاً وجواباً ـ كسابقتها .
٣ ـ قال سبحانه : ( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ) (٣) .
ومعنى الآية : إنّا سنجعلك قارئاً بإلهامِكَ القِراءة ، فلا تنسى ما تَقْرؤه .
__________________
(١) سورة النساء : الآية ١٤٠ .
(٢) سورة الكهف : الآيتان ٢٣ و ٢٤ .
(٣) سورة الأعلى : الآيتان ٦ و ٧ .
استدلّت المخطئة بالإستثناء الوارد بعدها على إمكان النسيان ، غير أنّهم غفلوا عن نكتة الإستثناء ، وهي عين النكتة في الإستثناء الوارد في قوله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (١) .
إنّ قوله سبحانه : ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ، يَدُلُّ على أنّ الخلود في الجنة لا يقطع ولا يُجَزّ ، بل هو عطاءٌ موصول من الربّ ، ما دامت الجنة باقية ، ومع ذلك استثنى سبحانه الخلود بقوله : ( إِلَّا مَا شَاءَ ) . وليس ذلك لأنّ الخلود يُقطع ، بل للإشارة إلى أنّ قدرة الله سبحانه بعد إدخالهم الجنة باقية بعدُ ، فالله سبحانه ـ مع كونهم مخلَّدين في الجنة ـ قادر على إخراجهم منها .
وعلى ما ذكرنا يعلم وجه الإستثناء في الآية التي وقعت مورد الإستدلال ، فإنّه يفيد بقاء القدرة الإلهية على إطلاقها ، وأنّ عطية الله ( جَعْل النبي قارئاً لا ينسى ) لا تسلب القدرة عن الله سبحانه على إنسائه ، بل هو عليه قادر متى شاء ، وإن كان لا يشاء ذلك .
وبدراسة هذه الآيات التي قدمناها ، تقف على تحليل كثير من الآيات التي نُسب فيها النسيان إلى غير النبي الأعظم من الأنبياء ، مثل قوله سبحانه :
أ ـ ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) (٢) .
ب ـ ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا . . ) (٣) الوارد في موسى وفتاه .
ج ـ ( . . . لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ . . . ) (٤) وهو قول موسى للخضر .
وغير ذلك من الآيات (٥) .
__________________
(١) سورة هود : الآية ١٠٨ .
(٢) سورة طه : الآية ١١٥ .
(٣) سورة الكهف : الآية ٦١ .
(٤) سورة الكهف : الآية ٧٣ .
(٥) قد أجمل الأستاذ ـ دام ظلّه ـ الكلام هنا في هذه الآيات ، فنحن نستدرك البحث فيها بما يرفع الستار عن وجهها ، ونجعله في ملحق خاص آخر الكتاب .
الرأي السائد بين المتكلمين حول سهو النبي
الظاهر من المتكلمين الأشاعرة والمعتزلة ، تجويزهم السهو على الأنبياء إجمالاً ، إمّا في مقام إبلاغ الدين ، كالباقلاني (١) ، وإمّا في غيره كما عليه غيره . قال الإيجي في المواقف .
« أمّا الكبائر عمداً ، فمنعه الجمهور ، والأكثر على امتناعه سمعاً . وقالت المعتزلة ـ بناء على أُصولهم ـ يمتنع ذلك عقلاً . وأمّا سهواً فجوزه الأكثرون .
وأمّا الصغائر عمداً ، فجوّزه الجمهور إلّا الجُبّائي . وأمّا سهواً فهو جائز اتّفاقاً ، إلّا الصغائر الخسية ، كسرقة حبة أو لقمة » (٢) .
وجوّز القاضي عبد الجبار صدور الصغائر منهم عمداً ، قال في شرح الأُصول الخمسة : « وأمّا الصغائر التي لا حَظَّ لها إلّا في تقليل الثواب دون التنفير ، فإنّها مجوّزة على الأنبياء ولا مانع يمنع منها » (٣) .
فإذا كانت الكبائر من الذنوب جائزة عليهم سهواً عند الأكثر ، أو كان صدور الصغائر منها جائزاً عليهم سهواً بالإتفاق ، بل عمداً عند القاضي عبد الجبار كما تقدم في كلامه ، فمن الأولى أن يجوزوا عليهم السهو في غير الذنوب ، أعني في مجال تطبيق الشريعة أو أعمالهم الفردية والاجتماعية ، كيف لا وقد روى الجمهور في الصحاح والمسانيد وقوع السهو من النبي ، كما يجيء بيانه ونقاشه .
وأمّا الإمامية ، فالمحققون منهم متفقون على نفي السهو عن الأنبياء مطلقاً حتى في تطبيق الشريعة كالصلاة ، وإليك فيما يلي نقل نصوصهم في هذا الشأن .
__________________
(١) قد مرّ نصّ كلام صاحب المواقف في هذا المجال عند البحث في المرحلة الثانية من مراحل العصمة ، وهي عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة ، فلاحظ .
(٢) المواقف ، ص ٣٥٩ .
(٣) شرح الأصول الخمسة ، ص ٥٧٥ .