الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٦١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

فالإنسان العادي اللامس لهذه المعادن المكتنزة ، لا يحسّ فيها بالحرارة ، ولا يرى فيها الناس واللهيب ، لأنّه يفقد حين المسّ ، الحِسَّ المناسبَ لدرك نيران النشأة الآخرة . وأمّا الإنسان الكامل ، المالك لهذا الحسّ إلى جانب بقية حواسه العادية ، فإنّه يدرك الوجه الآخر لهذه الفلزات ، ويحسّ أيما إحساس بنارها ولهيبها ، فلذلك هو يجتنبها كاجتنابه النيران الدنيوية ، ولن يقدم أبداً على جمعها وتكديسها .

وهذا البيان الثاني الذي ذكرناه ، يفيد أنّ للعلم مرحلة قوية ، راسخة ، تُغَلِّب الإنسان على الشهوات وتَصُدُّه عن فعل المعاصي والآثام . ونجد هذا البيان في كلمات جمال الدين الفاضل مقداد بن عبد الله السُيوري الحلِّي في كتابه القيّم « اللّوامع الإلهية » ، يقول : « العصمة ملكة نفسانية تمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه . وتتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات . لأنّ العفة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء وفي الطاعة من السعادة ، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس ، فتصير ملكة » (١) .

وليس المُدَّعى أنّ كل علم بعواقب الأفعال يصد الإنسان عن ارتكابها ، وأنّ العلم بمجرده يقوم مقام التكليف الإلهي ، فإنّ ذلك باطل بلا ريب ، لأنّا نرى الكثيرين من ذوي العلوم بمَضَراتِ المُخَدِّرات والمُسْكرات والأعمال الشنيعة لا يتورعون عن ارتكابها ، استسهالاً للذم في مقابل قضاء وَطَرهم منها . فلو كان العلم بعواقب المعاصي من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك ، لتسرب إليه التخلّف ، لكنّ سنخ العلم الذي يصيِّر الإنسان معصوماً ، ليس من سنخ هذه العلوم والإدراكات المتعارفة ، بل علمٌ خاصٌ فوقها ، ربما يعبر عنه بشهود العواقب وانكشافها كشفاً تاماً لا يبقى معه ريب .

وإن شئت تقريب ذلك أكثر ، فلنفترض أنّ إنساناً يرى أمام ناظريه بركاناً عظيماً يقذف بكتل هائلة من الحميم الملتهب ، ووقف على أنّ اقتراف عمل ما

__________________

(١) اللوامع الإلهية ، ص ١٧٠ .

١٦١
 &

يوجب رميه في جوف هذا البركان الهائل ليبقى محبوساً في أحشائه مدة من الزمن يناله عذاب الحريق الرهيب ولا يموت . فهل يقدم إنسان يمتلك شيئاً من العقل على اقتراف هذا العمل ؟ .

يقول سبحانه : ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّـهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ) (١) .

وعلى ضوء هذا البيان ، فشهود نتائج المعاصي وعواقبها ، شهوداً لا يُبقي في النفس أيَّ ريب وشك ، يصدُّ الإنسان عن اختيار ارتكابها ، صدّاً قاطعاً ، ومع ذلك لا يتنافى مع اختياره ولا يسلب حريته ، كما سيوافيك .

الوجه الثالث : الإستشعار بعظمة الربّ وكماله وجماله

وإنّ هنا بياناً ثالثاً للعصمة لا يخالف البيانين السالفين ولبّ هذا البيان يرجع إلى أنّ استشعار عظمة الخالق والتفاني في معرفته ، وحُبِّه وعشقِه ، صادُّ عن سلوك ما يخالف رضاه ، وهذه الدرجة من الحبِّ والعشق ، أحد عوامل حصول تلك المرتبة من التقوى المتقدمة ، وهي لا تحصل إلّا للكاملين في المعرفة الإلهية .

إنّ الإنسان إذا عرف خالقه كمال المعرفة الميسورة ، واستغرق في شهود كماله وجماله وجلاله ، وجد في نفسه انجذاباً نحوه ، وتعلّقاً خاصاً به ، على نحو لا يستبدل برضاه شيئاً . ويدفعه شوق المحبة إلى أن لا يبتغي سواه ، ويصبح كل ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه ، مقبوحاً في نظره أشدَّ القبح ، وتلك هي درجة العصمة الكاملة ، ولا ينالها إلّا الأَوْحَدِيُّ من الناس .

وإلى هذا يشير الإمام عليٍّ عليه السلام بقوله : « ما عبدتُك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك ، إنّما وجدتكَ أهلاً للعبادة فعبدتك » (٢) .

*       *      *

__________________

(١) سورة المرسلات : الآيات ٢٨ ـ ٣٣ .

(٢) حديث معروف مروي عن الإمام عليه السلام .

١٦٢
 &

هذه التحليلات والبيانات الثلاثة التي ذكرناها في حقيقة العصمة ، نظريةٌ واحدةٌ ، تُعْرِبُ بمجموعها عن أَنَّ العصمةَ قُوّةٌ في النفس تعصم الإنسان عن مخالفة الرّب سبحانه وتعالى ، وهي معجونةٌ في ذات الإنسان الكامل وهُوِيَّتَهُ الخارجية .

نعم ، كل ما ذكرناه يرجع إلى العصمة بأحد معانيها ، وهو المصونية عن المعصية والتمرّد على أوامر المولى ، وأمّا العصمة في مقام تلقّي الوحي أوّلاً ، والتَّحَفُّظ عليه ثانياً ، وإِبلاغه إلى الناس ثالثاً ، والعصمة عن الخطأ في الأُمور الفردية والإجتماعية ، فلا بدّ لها من عامل آخر ، نتعرض له في الأبحاث الآتية ، بإذنه تعالى .

*       *      *

المقام الثاني ـ مبدأ ظهور فكرة العصمة

إنّ الكتب الكلامية ، قديمها وحديثها مشحونة بالبحث عن العصمة ، فيقع السؤال في مبدأ ظهور هذه الفكرة بين المسلمين ، ومن يقف وراء طرحها في الأوساط الكلامية .

لا ريب في أنّ علماء اليهود ليسوا هم المبدعين لهذه الفكرة ، لأنّهم يصفون أنبياءهم بأقبح الذنوب وأفظع المعاصي وهذا العهد القديم يسجّل لداود وسليمان وقبلهما يعقوب ، ما يندى له الجبين ويخجل القلم عن نقله (١) ، فكيف يمكن بعد هذا أن يكون أحبار اليهود المظهرين للإسلام ، هم المبدعون لهذه الفكرة .

ولا شك أيضاً في أنّ علماء النصارى ليسوا هم كذلك ، فإنّهم وإن كانوا ينزهون المسيح عن كلِّ عيب وشين ، إلّا أنّ ذلك ليس بملاك أنّه بشريٌّ أُرْسل لتعليم الإنسان وإرشاده ، بل بما هو « إلهٌ متجسِّد » ، أو « ثالثُ ثلاثةٍ » .

وبعد هذا فاعلم ، أنّ بعض المستشرقين من رماة القول على عواهنه ، لَمّا

__________________

(١) سنتعرض لذلك مفصّلا عند البحث في الشاهد الرابع من شواهد إعجاز القرآن ، وهو هيمنته على الكتب السماوية ، من مباحث النبوة الخاصّة .

١٦٣
 &

حار في تحديد زمن ومصدر نشوء فكرة عصمة الأنبياء في الإسلام ، ذهب إلى أنّ هذه الفكرة مرجعها إلى تطور علم الكلام عند الشيعة ، وأنّهم أوّلُ من تطرق إلى بحثها في العقائد . ومردّ ذلك ـ يضيف هذا المستشرق ـ إلى أنّ الشيعة لكي يثبتوا أحقيّة إمامة أئمَّتهم وصحة دعوتهم في مقابل الخلفاء السنيين ، أظهروا عصمة الرسل بوصفهم أئمة أو هداة (١) .

هذا ، والحقّ أنّ العصمة بمفهومها العام قد وردت أوساط المسلمين من خلال الإمعان في الآية القرآنية التي يصف فيها الله تعالى ملائكته بقوله : ( عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (٢) . ولن يجد الإنسان كلمة أوضح في العصمة من قوله : ( لَّا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ ) .

كما أنّ الله سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله : ( لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (٣) ، فإن هذا الوصف للقرآن عبارة أخرى عن المصونية من كل خطأ وتحريف .

بل إنّ الله سبحانه يصف منطق نبيه بالعصمة إذ يقول عزّ من قائل : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٤) .

ويقول : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) (٥) . ويقول : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ) (٦) .

فالعصمة بمفهومها الوسيع ـ مع قطع النظر عن موصوفها ـ مسألة أَلفتَ القرآن الكريم نظر الناس إليها ، فلا يحتاج معه علماء المسلمين إلى الأحبار والرهبان أو إلى نضاجة علم الكلام في عصر الإمام الصادق عليه السلام ، لينتقلوا إلى هذا الوصف .

__________________

(١) عقيدة الشيعة ، تأليف المستشرق رونالدسون ، ص ٣٢٨ .

(٢) سورة التحريم : الآية ٦ .

(٣) سورة فصلت : الآية ٤٢ .

(٤) سورة النجم : الآيتان ٣ و ٤ .

(٥) سورة النجم : الآية ١١ .

(٦) سورة النجم : الآية ١٧ .

١٦٤
 &

وأي عتب بعد هذا على الشيعة إذا اقتفوا في كلامهم أثر كتاب الله ، فوصفوا رُسُل الله وأنبياءه بما وصفهم به ربُّ الجلال والعزّة في كتابه .

ولا يمكن لأحد إنكار عناية الشيعة بتنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث والجسمية ، وأنبياءه عن وصمة الذَّنْب والخلاف . بل إنّك لن تجد في الأُمة الإسلامية طائفةً تهتم بالتنزيه والتقديس مثلَ الشيعة ، سواء فيما يرجع إلى الخالق عزّ وجل ، أو أنبيائه عليهم الصلاة والسلام .

*       *      *

المقام الثالث : دليل لزوم عصمة الأنبياء عن الذُّنوب

اختلف المتكلمون في حدود عصمة الأنبياء على أقوال :

١ ـ قالت الأزارقة من الخوارج : يجوز على الأنبياء الكفر ، أخذاً بمبدئهم من أنّ كلّ ذنب كُفْرٌ (١) .

٢ ـ قالت الحشوية : « يجوز ارتكاب الكبائر على الأنبياء قبل البعثة وبعدها » . وتمسكوا في ذلك بأباطيل لا أصل لها (٢) .

٣ ـ والمعتزلة ، منهم من قال : « يجوز على الأنبياء الكبيرة قبل البعثة ولا يجوز بعدها » ، وهو أبو علي الجُبّائي . ومنهم من قال : « إنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكبيرة ، لا قبل البعثة ولا بعدها ، وتجوز عليهم الصغيرة إذا لم تكن

__________________

(١) المواقف ، ص ٣٥٩ ، ومن عجيب النِسَب ما عزاه القاضي الإيجي إلى الشيعة من تجويزهم إظهار الكفر من الأنبياء تقيةً ، ثم ردَّه بأنَّ ذلك يفضي إلى إخفاء الدعوة ، إذ أولى الأوقات بالتقية وقت الدعوة ، للضعف وكثرة المخالفين .

ولكنها فرية باطلة ، الشيعة منها براء ، فإنّ ذلك لا يجوز عندهم على الأنبياء ولا الأئمة بل لا يجوِّزونه لأعاظم الأمة من الفقهاء إذا كان في إظهار الكفر مظنة تزعزع عقائد الناس وتزلزلهم عن دينهم .

(٢) شرح الأصول الخمسة ، للقاضي عبد الجبار ، ص ٥٧٣ .

١٦٥
 &

مُنَفِّرة ، لأنّ قلّة الثواب (١) ممّا لا يقدح في صدق الرسل ولا في القبول منهم » ، وهو القاضي عبد الجبار (٢) .

٤ ـ وأمّا الأشاعرة ، فقد قال القوشجي : « المذهب عند محققي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً ، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً » (٣) .

وأما قبلها ، فقد نقل القاضي الإيجي ـ وهو من الأشاعرة ـ أنّ الجمهور قال : « لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة » (٤) .

٥ ـ وقالت الإمامية : « لا يجوز على الأنبياء صغيرة ولا كبيرة ، لا قبل البعثة ولا بعدها » (٥) .

هذه هي عمدة الأقوال المطروحة في المسألة ، وهناك أقوال أخر ضربنا عن نقلها صفحاً . والأولى لنا أن نتبع الدليل ، ونميل معه كيفما يميل ، والأدلة العقلية تثبت القول الأخير ، وإليك فيما يلي بيان أهمها .

__________________

(١) لم يعلم كنه قوله « قلّة الثواب » ، فإنّ ارتكاب الصغيرة موجب للبعد عن قرب الربّ ، وبالتالي فلا يخلو من العقاب المناسب ، فكيف ينحصر أثره في قلّة الثواب .

قال الشريف السيد المرتضى رحمه الله : « واعلم أنّ الخلاف بيننا وبين المعتزلة في تجويزهم الصغائر على الأنبياء صلوات الله عليهم ، يكاد يسقط عند التحقيق لأنّهم إنّما يجوّزون من الذنوب ما لا يستقرّ له استحقاق عقاب ، وإنّما يكون حظّه تنقيص الثواب ، على اختلافهم أيضاً في ذلك ، لأنّ أبا علي الجُبائي يقول : إنّ الصغير يسقط عقابه بغير موازنة . فكأنّهم معترفون بأنّه لا يقع منهم ما يستحقون به الذمّ والعقاب . وهذه موافقة للشيعة في المعنى ، لأنّ الشيعة إنّما تنفي عن الأنبياء عليهم السلام ، جميع المعاصي ، حيث كان كل شيء منها يستحق به فاعله الذمّ والعقاب . . . . فإذا كان استحقاق الذمّ والعقاب منفياً عن الأنبياء ، وجب أن ينفى عنهم سائر الذنوب » . ( تنزيه الأنبياء ، للشريف المرتضى ، ص ٢ ) .

(٢) شرح الأُصول الخمسة ، للقاضي عبد الجبار ، ص ٥٧٣ ـ ٥٧٥ .

(٣) شرح التجريد للقوشجي ، ص ٤٦٤ .

(٤) المواقف ، صفحة ٣٥٩ .

(٥) كشف المراد ، ص ٢١٧ ، طبعة صيدا . والمواقف ، ص ٣٥٩ .

١٦٦
 &

الدليل الأول ـ الوثوق فرع العصمة

إنّ ثقة الناس بالأنبياء ، وبالتالي حصول الغرض من بعثتهم ، إنّما هو رهن الإعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم ، وهذا بدوره فرع كونهم معصومين عن الخلاف والعصيان في السرّ والعلن من غير فرق بين معصية وأخرى ، ولا بين فترة من فترات حياتهم وأخرى .

وذلك لأنّ المبعوث إليه إذا جوّز الكذب على النبي ، أو جوّز المعصية على وجه الإطلاق ، جوّز ذلك أيضاً في أمره ونهيه وأفعاله التي أمره باتباعه فيها . ومع هذا الإحتمال لا ينقاد إلى امتثال أوامره ، فلا يحصل الغرض من البعثة ، لأنّه ـ بحكم عدم عصمته ـ يحتمل أن يكون كاذباً في أوامره ونواهيه ، وأن يتقول على الله ما لم يأمر به . ومع هذا الإحتمال ، لا يجد المبعوث إليه في قرارة نفسه حافزاً إلى الإمتثال .

ومثلُ قولِه فعلُه ، فإنّ الأُمة مأمورة باتباع أفعاله ، قال سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ (١) . فإذا احتملنا كون عمله على خلاف رضاه سبحانه ، فكيف نجد في أنفسنا الباعث على اتّباعه .

وبالجملة ، بما أنّ النبيّ ، قولَه وفعلَه ، حجّتان ، فيجب اتّباعه فيهما ، وهذا لا يحصل إلّا عند الوثوق بصحتهما ، ومع عدم حصول هذا الوثوق تنتفي بواعث الاتّباع ، فلا يحصل الغرض .

قال المحقق الطوسي في التجريد : « ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق ، فيحصل الغرض » (٢) .

ثم إنّ هنا أسئلة حول هذا الدليل نطرحها ، واحداً بعد الآخر :

* السؤال الأول ـ يمكن أنْ يقال : يكفي في الإعتماد على قول النبي ، مصونيته عن معصية واحدة ، هي الكذب ، دون سائر المعاصي .

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٣١ .

(٢) كشف المراد ، ص ٢١٧ ، طبعة صيدا .

١٦٧
 &

والجواب : إنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا تصحّ أن تقع أساساً للتربية العامة ، لما فيها من الاشكالات .

أمّا أولاً ـ فلأنّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة ، فإنّ تَمَّ وجودها أو وجود بعضها ، حصلت المصونية عن المعاصي برمتها ، ولا يعقل معها التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي ، بأن يجتنب الكذب طيلة حياته ، بينما هو في الحين ذاته يسرح في سائر المعاصي ويمرح ، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى اقترافها ، تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب .

وأمّا ثانياً ـ فلأنّ التفكيك بينهما لو صحّ في عالم الثبوت ، فلا يمكن إثباته في حقّ مدّعي النبوة بأن يثبت أنّه لا يكذب أبداً مع ركوبه سائر المعاصي ، فمن أين يحصل للأُمة العلم بأنّ مدّعي النبوة مع اقترافه لأنواع الفجور والمآثم لا يكذب أبداً ، بل حتى لو صرّح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك ، لم يذعن له أحد ، لسريان الريب إلى نفس هذا التصريح .

* السؤال الثاني ـ إنّ أقصى ما يثبته هذا الدليل ، هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في الظاهر وبين الناس ، وهذا لا يخالف عصيانه في الخلوات ، فإنّ ذاك القدر من النزاهة كافٍ في جلب الثقة .

والجواب : إنّ نسبة هذا الأمر ( ركوب المعاصي في السرّ دون العلن ) إلى مدّعي النبوّة ، يهدم الثقة به من أساسها إذ ـ حينذاك ـ ما الذي يمنعه من أن يكذب ولا يُعلم كذبه ، فإذا تطرّق هذا الإحتمال إلى جميع أقواله ، انتفت الثقة فيه بالكليّة .

أضف إلى ذلك ، أنّ من كانت هذه حاله ، وإنْ أمكنه خداع الناس بتزيين الظاهر مدّة من الزمن ، إلّا أنّه لن يتمكن من البقاء على ذلك أبداً ، بل لن ينقضي زمان إلّا وترتفع الأستار وتكشف البواطن ، فتظهر سوأته ويبدو عيبه .

* السؤال الثالث ـ إنّ هذا الدليل لا يثبت أزيد من عصمة الأنبياء بعد البعثة لحصول الوثوق في تلك الفترة ، ولا يثبت لزوم عصمتهم قبلها .

١٦٨
 &

والجواب من وجهين :

الأول : إنّ العصمة كما عرفت غصن من دوحة التقوى ، ونتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي ، واستشعار عظمة الربّ . وهذه ليست وليدة ساعتها ، فينقلب غير المعصوم معصوماً بنزول جبرائيل عليه وإكسائه ثوب الرسالة ، بل هي ملكة نفسانية لا تحصل إلّا بعد رياضات ومجاهدات . فلا معنى حينئذٍ لجعل البعثة حداً في حياة النبي ، لأنّا إذا قلنا بعصمته ـ وهي ملكة نفسانية ـ وجب أن تمتد جذورها إلى ما قبل البعثة بزمن مديد .

الثاني : لو كانت سيرة الداعي إلى الله ، قبل بعثته مخالفة لما هو عليه بعدها ، بأن يكون قبلها إنساناً سافلاً مرتكباً لقبائح الأعمال ، لا يحصل الوثوق بقوله وإن صار إنساناً مثالياً ، بل يتسرب الريب إلى كل ما يتفوّه به من أمرٍ ونهي وإرشاد ، بحجة أنّه كان في طرف من حياته متهتكاً ، ملقياً جلباب الحياء ، فكيف انقلب إلى رجل مثالي معصوم ؟! .

لا شك أنّ لكل صفحة من صفحات عمر الإنسان الداعي تأثيراً في جلب ثقة الناس وانقيادهم إليه ، ولو كانت ملطخة بالسواد في بعضها ، لما سكنت إليه النفوس . فَتَحَقُّقُ الغرض الكامل من البعثة رهن عصمته في جميع فترات عمره . يقول السيد المرتضى ـ رحمه الله ـ في الإجابة عن هذا السؤال :

« إنّا نعلم أنّ من نجوِّز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال ، وإن تاب منهما ، وخرج من استحقاق العقاب به ، لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك في حال من الأحوال ، ولا على وجه من الوجوه . ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا ، الداعي إلى الله تعالى ، ونحن نعرفه ، مقارناً للكبائر ، مرتكباً لعظيم الذنوب ، وإن كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا ، كحال من لم نعهد منه إلّا النزاهة والطهارة . ومعلوم ضرورةً الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون النفور ، ولهذا كثيراً ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة ، بها ، وإن وقعت التوبة منها ، ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقادحاً . وليس إذاً تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة

١٦٩
 &

وناقصاً عن رتبته في باب التنفير ولأجل ذلك وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير ، لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير ، وإن كان أحدهما أقوى من الآخر » (١) .

*       *      *

الدليل الثاني ـ التربية رهن عمل المربي

إنّ الهدف العام الذي بعث لأجله الأنبياء ، هو تزكية الناس وتربيتهم ، يقول سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم عليه السلام : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) .

وإنّ التربية عن طريق الوعظ والإرشاد وإن كانت مؤثرةً ، إلّا أن تأثير التربية بالعمل أشدّ وأعمق وآكد . وذلك أنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل هو العامل الرئيسي في إذعان الآخرين بأحقيَّة تعاليم المُصلح والمربّي . ولو كان هناك انفكاك بينهما لانفض الناس من حوله ، وفقدت دعوته أي أثر في القلوب .

ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣) .

ولذاك أيضاً ، نرى في الحِكَم أنّ العالِمَ إذا لم يعمل بعِلْمِه ، زَلَّت موعظتُه عن القلوب ، كما يَزِلُّ المطرُ عن الصفا (٤) .

وهذا الأصل التربوي يجرنا إلى القول بأنّ التربية الكاملة المتوخاة من بعثة الأنبياء ، وترسخها في نفوس المتربين ، لا تحصل إلّا بمطابقة أعمالهم لأقوالهم .

__________________

(١) تنزيه الأنبياء ، ص ٥ .

(٢) سورة البقرة : الآية ١٢٩ .

(٣) سورة الصف : الآيتان ٢ و ٣ .

(٤) لاحظ أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٤٤ ، باب استعمال العلم ، الحديث ٣ .

١٧٠
 &

قال القاضي عبد الجبار : « إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول ممن يخالف فعله قوله ، سكونَها إلى من كان منزهاً عن ذلك . فيجب أن لا يجوز في الأنبياء عليهم السلام ، إلّا ما نقوله من أنّهم منزهون عمّا يوجب العقاب والإستخفاف والخروج من ولاية الله تعالى إلى عداوته .

يبيّن ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي ، بالمنع والردع والتخويف ، فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك ، لأنّ المعلوم أنّ المُقْدِمَ على شيء ، لا يقبل منه منع الغير منه بالنهي والزجر والنكير ، وأنّ هذه الأحوال منه لا تؤثّر . . . ولو أنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي مَنْ يشاهده مقدماً على مثلها ، لاستخفّ به وبوعظه » (١) .

وقال في موضع آخر : « إنّ الواعظ والمُذَكّر ، وإنّ غلب على ظننا من حاله أنّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة والندامة ، حتى عرفنا من حاله الإنهماك في الشرب والفجور من قبل ، لم يؤثّر وعظه عندنا ، كتأثير المستمر على النظافة والنزاهة في سائر أحواله » (٢) .

وهذا كما يوجب العصمة بعد البعثة ، يقتضيها قبلها أيضاً ، لأنّ لسوابق الأشخاص ، وصحائف أعمالهم الماضية تأثيراً في قبول الناس كلامهم وإرشاداتهم وهداياتهم (٣) .

ثم إنّ هنا سؤالان مهمّان يطرحان حول العصمة ، نفردهما بالذكر ، ونجيب عليهما قبل أن ننتقل إلى بيان العصمة عن المعصية والمخالفة المولوية ، في الذكر الحكيم .

*       *      *

__________________

(١) المغنى ، ج ١٥ ، ص ٣٠٣ .

(٢) المصدر نفسه ، ص ٣٠٥ .

(٣) وقد أقام المتكلمون ، على عصمة الأنبياء ، دلائل كثيرة ، فذكر المحقق الطوسي ثلاثة ، وأضاف إليها القوشجي دليلين آخرين ، وذكر الإيجي تسعة أدلّة . غير أنّ بعض ما ذكروه ليس دليلاً عامّاً لجميع الأحوال والفترات ، بل يختص بعصر النبوة . ومن أرادها فليلاحظ المواضع التالية : كشف المراد ، ص ٢١٧ . شرح التجريد للقوشجي ، ص ٤٦٤ . المواقف ، ص ٣٥٩ ـ ٣٦٠ .

١٧١
 &

سؤالان هامّان

السؤال الأول : هل العصمة تسلب الإختيار ؟

ربما يتوهّم أنّ العصمة تسلب من المعصوم الحرية والإختيار ، وتقهره على ترك المعصية ، لتكون النتيجة انتفاء كلّ مكرمة ومحمدة ربما تنسب إليه لاجتنابه المعاصي والمآثم . وقد أُشير في أمالي السيد المرتضى إلى ما ذكرنا ، عند إيراد السؤال التالي :

« ما حقيقة العصمة التي يعتقد وجوبها للأنبياء والأئمة ، وهل هي معنى يضطرّ معه إلى الطاعة ، ويمنع عن المعصية ، فكيف يجوز الحمد لتارك المعصية ، والذمّ لفاعلها . وإن كان معنى يضاهي الإختيار ، فاذكروه ودلّوا على صحّة مطابقته له » (١) .

جوابه

إنّ العصمة لا تسلب الإختيار عن المعصوم بأيٍّ من التحاليل التي مضت ، ويتّضح ذلك بالنظر في العصمة النسبية المتحققة في العاديين من الناس ، فقد تقدم أنّ العالِم بوجود الطاقِة الكهربائية في الأسلاك العارية ، لا يمسّها ، والطبيب لا يشرب سؤر المجذومين والمسلولين ، لعلمهما بعواقب فعلهما . ومع ذلك ، فكل منهما ـ في حال اجتنابه عن الفعل ـ قادر على الفعل لو غضّ طرفه عن حياته وخاطر بها ، ولكنهما لا يقومان به لحبِّ كلٍّ منهما صحتَه وسلامته .

إنّ كلّ واحد من العملين المزبورين ممكن الصدور بالذات منهما ، غير أنّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة ، لا ذاتاً وعقلاً ، وكم فرق بين المحالين . ففي المحال العادي يكون الصدور من الفاعل ممكناً بالذات ، غير أنّه يرجّح أحد الطرفين على الآخر بالدواعي الموجودة في ذهنه ، بخلاف الثاني ، فإنّ أصل الفعل ممتنع بذاته ، فلا يصدر لذلك ، لا لعدم الدواعي . وهذا نظير صدور القبيح من

__________________

(١) أمالي السيد المرتضى ، ج ٢ ، ص ٣٤٧ .

١٧٢
 &

الله سبحانه ، فإنّه ممكن بالذات ، فيقع تحت إطار قدرته ، فبإمكانه تعالى إخلاد المطيع في نار جهنم ، لكنه لا يصدر منه ، لكونه مخالفاً للحكمة ، ومبائناً لما وعد به .

وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل من الإنسان ، حفظاً للأغراض والغايات ، لا يكون دليلاً على سلب الإختيار والقدرة .

وهكذا ، فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي ، بمقتضى ما أُعطي من القدرة والحرية ، غير أنّ تقواه العالية وعلمه بآثار المعاصي ، واستشعاره عظمة الخالق ، يصدّه عن ذلك ، فهو كالوالد العطوف الذي لا يُقدم على ذبح ولده ولو أُعطي ملء الأرض ذهباً ، وإن كان مع ذلك قادراً على قطع وتينه ، كما يقطع وتين عدوه .

يقول العلامة الطباطبائي : إنّ ملكة العصمة لا تغيّر الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية ، ولا تُخرجها إلى ساحة الإجبار والإضطرار . كيف ، والعلم من مباديء الإختيار ، ومجرّد قوة العلم لا يوجب إلّا قوة الإرادة . كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سمّاً قاتلاً من حينه ، فإنّه يمتنع باختياره من شربه ، ويشهد على ذلك قوله سبحانه : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ ، يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١) ، والضمير في ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ يرجع إلى الأنبياء . وفي الوقت نفسه تفيد الآية أنّ في إمكانهم أن يشركوا بالله ، غير أنّ الإجتباء والهداية الإلهية ، يمنعان من ذلك .

ومثله قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢) .

__________________

(١) سورة الأنعام : الآيتان ٨٧ ـ ٨٨ .

(٢) سورة المائدة : الآية ٦٧ .

١٧٣
 &

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في قدرة الأنبياء على المخالفة » (١) .

*       *      *

السؤال الثاني ـ العصمة موهبة فلا تكون مفخرة

الظاهر من كلمات المتكلمين أنّ العصمة موهبة إلهية يتفضل بها سبحانه على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم وقابليات مصححة لإفاضتها عليهم .

قال الشيخ المفيد : « العصمة تَفَضُّلٌ من الله على من علم أنّه يتمسّك بعصمته » (٢) .

وقال السيد المرتضى : « العصمة لطف الله الذي يفعله تعالى ، فيختار العبد عنده الإمتناع عن فعل القبيح » (٣) .

وفي الآيات القرآنية تلميحات وإشارات إلى ذلك ، مثل :

قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ (٤) .

وقوله سبحانه : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ، وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ (٥) والضمير يرجع إلى أنبياء بني إسرائيل .

فإنّ قولَه : ( إِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ، وقوله : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ، يدلّان على أنّ النبوة والعصمة وإعطاء الآيات

__________________

(١) لاحظ الميزان ، ج ١١ ، ص ١٧٩ .

(٢) تصحيح الإعتقاد ، ص ٦١ .

(٣) أمالي المرتضى ، ج ١ ، ص ١٤٨ .

(٤) سورة ص : الآيات ٤٥ ـ ٤٨ .

(٥) سورة الدخان : الآيتان ٣٢ و ٣٣ .

١٧٤
 &

لأصحابها ، من مواهب الله سبحانه للأنبياء ومَنْ يقوم مقامهم من الأوصياء . وإذا كانت موهبة منه ، فلا تُعَدّ كمالاً ومفخرة للمعصوم ، فتعود كصفاء اللؤلؤ ، لا يستحق اللؤلؤ عليه حمداً وتحسيناً ، لأنّ الحمد والثناء إنما يصحّان للفعل الإختياري ، لا لما هو خارج عن الإختيار ، والفرض أنّ المعصوم وغيره في هذا المجال سواء ، لأنّ ذاك الكمال لو أُفيض على فرد آخر غيره لكان مثله .

جوابه

إنّ العصمة الإلهية لا تفاض على المعصوم إلّا بعد وجود أرضيات صالحة في نفسه ، تقتضي إفاضة تلك الموهبة إليه ، وأمّا ما هي تلك الأرضيات ، والقابليات ، فخارج عن موضوع البحث ، غير أنّا نشير إليها إجمالاً .

إنّ القابليات التي تسوغ نزول الموهبة الإلهية على قسمين :

قسم خارج عن اختيار المعصوم ، وقسم واقع في إطار إرادته واختياره .

أمّا الأول ـ فهو عبارة عمّا ينتقل إلى النبي من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة ، فإنّ في ناموس الطبيعة والخلقة أنّ الأبناء يرثون ما في الآباء من الصفات الظاهرية والباطنية ، فالشجاع يلد شجاعاً ، والجبان جباناً .

وإضافة إلى ذلك ، فإنّ هناك عاملاً آخر لتكوُّن تلك القابليات في النفوس هو عامل التربية ، والأنبياء يتلقون الكمالات الموجودة في بيوتاتهم في ظل هذين العاملين ، فيكوّن ذلك في أنفسهم الأرضية الصالحة لإفاضة المواهب عليهم ، ومنها العصمة والنبوة .

وأمّا الثاني ـ فهو عبارة عن المجاهدات الفردية والإجتماعية التي يقوم بها رجالات الوحي من أوائل شبابهم إلى أواخر كهولتهم ، من العبادة والرياضات النفسية إلى مقارعة الطغاة والظالمين (١) .

__________________

(١) أنظر إلى ما قام به إبراهيم على صغر سنه ، ويوسف في بيت من تملكه ، وموسى في مصر الفراعنة ، والمسيح في بني إسرائيل ، والنبي الأكرم (ص) في عامة فترات حياته .

١٧٥
 &

فهذه العوامل الداخل بعضها في الإختيار ، والخارج بعضها الآخر عنه ، أوجدت مجتمعة في الأنبياء القابلية لإفاضة وصف العصمة عليهم ، فتكون العصمة عند ذاك مفخرة للمعصوم ، يستحق عليها التحسين والتبجيل .

يقول العلامة الطباطبائي : « إنّ الله سبحانه خَلَقَ بعضَ عباده على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة ، فنشؤا من باديء الأمر بأذهان وقّادة ، وإدراكات صحيحة ، ونفوس طاهرة ، وقلوب سليمة ، فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة وسلامة النفس ، من نعمة الإخلاص ، ما ناله غيرهم بالإجتهاد والكسب ، بل أعلى وأرقى ، لطهارة داخلهم من التلوّث بأوساخ الموانع والمزاحمات . والظاهر أنّ هؤلاء هم المُخْلَصون ( بالفتح ) لله في مصطلح القرآن .

وقد نصّ القرآن على أنّ الله اجتباهم أي خلقهم ، قال تعالى : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (١) ، وقال : ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢) » (٣) .

وما جاء في كلامه يشير إلى القابليات الخارجة عن الإختيار ، ولكنك عرفت أنّ هناك مقدمات واقعة في اختيارهم فإذا انضمت تلك إلى هذه ، تتحقق الصلاحية المقتضية لإفاضة الموهبة الإلهية .

إجابة أخرى عن السؤال

وهناك إجابة أخرى وهي أنّ الله سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ، ومستقبل أمرهم ، ومصير حالهم ، وعلم أنّهم ذوات مقدسة لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرية واختيار . وهذا العلم كافٍ في تصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم من نعومة أظفارهم إلى أن أدْرجوا في أكفانهم ، بخلاف مَنْ يعلم مَنْ حاله خلاف ذلك .

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٨٧ .

(٢) سورة الحج : الآية ٧٨ .

(٣) الميزان ، ج ١١ ، ص ١٧٧ .

١٧٦
 &

وهذا الجواب يستفاد من كلمات الشيخ المفيد والسيد المرتضى .

قال الشيخ المفيد : « العصمة تفضُّلٌ من الله تعالى على من علم أنّه يتمسّك بعصمته » (١) .

وقال السيد المرتضى : « كلُّ من علم الله تعالى أنّ له لطفاً يختارُ عنده الامتناع من القبائح ، فإنّه لا بدّ أن يفعل به ، وإن لم يكن نبياً ولا إماماً ، لأنّ التكليف يقتضي فعل اللُّطف على ما دُلّ عليه في مواضع كثيرة ، غير أنّه لا يمتنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فُعِلَ اختار عنده الإمتناع من القبيح ، فيكون هذا المكلَّف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف . وتكليف من لا لطف له يَحْسُنُ ولا يَقْبُحُ ، وإنّما القبيح منع اللطف فيمن له لطف ، مع ثبوت التكليف » (٢) .

وحاصل ما أفاد هو أنّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل ، فكل من علم سبحانه أنّه لو أفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الإمتناع من القبائح ، فعندئذٍ تفاض عليه العصمة وإن لم يكن نبياً ولا إماماً وأمّا من علم أنّه متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الإمتناع عن القبيح ، فلا يفيضها عليه لعدم استحقاقه لها .

وعلى ضوء ذلك فوصفُ العصمة موهبةٌ إلهية تفاض على من يعلم من حاله أنّه باختياره ينتفع منها في ترك القبائح ، فيعدّ مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ، وقد شبّه الشيخ المفيد العصمة بالحبل الذي يعطى للغريق ليتشبث به فيسلم ، فالغريق مختار في التقاط الحبل والنجاة ، أو عدمه والغرق (٣) .

ويترتب على ما ذكره السيد عدم انحصار العصمة بالنبي والوحي المنصوص عليه ، بل تشمل كلَّ مَنْ علم الله سبحانه أنّه ينتفع منها في طريق كسب رضاه .

*       *      *

__________________

(١) شرح عقائد الصدوق ، ص ٦١ .

(٢) أمالي المرتضى ، ج ٢ ، ص ٣٤٨ ، طبعة إحياء دار الكتب العربية .

(٣) لاحظ أوائل المقالات ، ص ١١ .

١٧٧
 &

العصمة في الكتاب العزيز

يصف الذكر الحكيم الأنبياء بالعصمة بلطائف البيان ودقائقه ، مما يحتاج في الوقوف عليه إلى التدبّر بإمعان ، ولأجل إيقاف الباحث على نماذج من هذه التوصيفات مع مراعاة ما يقتضيه المقام ، نكتفي بالبحث عن آيتين منها (١) .

الآية الأولى : قال عزّ وجل : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ . . . أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ (٢) .

وجه الدلالة

إنّ الآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهديّون بهداية الله سبحانه ، على وجه يجعلهم القُدوة والأُسوة ، هذا من جانب .

ومن جانب آخر ، نرى أنّه سبحانه يُصرّح بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا مُضِلَّ له ، يقول تعالى : ( وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ، وَمَن يَهْدِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ . . . . ) (٣) .

وفي آية أخرى يُصرِّح بأنّ حقيقة العصيان ، الضلالة والإنحراف عن الجادة الوسطى ، يقول عزّ مِنْ قائل : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا

__________________

(١) راجع في الوقوف على سائر الآيات ودلالتها ، مفاهيم القرآن ، ج ٤ ص ٤٢٣ ـ ٤٣١ .

(٢) سورة الأنعام : الآيات ٨٤ ـ ٩٠ .

(٣) سورة الزمر : الآيتان ٣٦ و ٣٧ .

١٧٨
 &

كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (١) .

وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات ، تُستَنْتَجُ العصمةُ بوضوح ، وذلك كما يلي :

إنّ اللّفيف الأول من الآيات يصف الأنبياء بأنّهم القُدوة والأُسوة ، والمهديّون من الأُمة .

واللَّفيف الثاني يصرّح بأنّ من شملته العناية الإلهية لا ضلالة ولا مُضِلّ له .

واللَّفيف الثالث يصرّح بأنّ العصيان نفسُ الضلالة ، حيث قال : ( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ . وما كانت ضلالتُهم إلّا لأجل عصيانِهم ومخالفتهم لأوامره تعالى ، ونواهيه .

فإذا كان الأنبياء مهديون بهداية الله ، وَمَنْ هداه الله لا تَتَطَرَّقُ إليه الضلالة ، وكانت المعصية نفس الضلالة ، فينتج أنّ المعصية لا سبيل لها إلى الأنبياء .

وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الشكل المنطقي فقل :

* النبي قد شملته الهداية الإلهية .

* ومن شملته الهداية الإلهية ، لا تتطرق إليه الضلالة .

* فينتج : النبي لا تتطرق إليه الضلالة .

وبما أنّ الضلالة والمعصية متساويان ، فيصحّ أن يقال في النتيجة : إنّ النبي لا تتطرق إليه المعصية .

الآية الثانية ـ قال عزّ وجل : ( وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَـٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ

__________________

(١) سورة يس : الآيات ٦٠ ـ ٦٢ .

١٧٩
 &

رَفِيقًا ) (١) .

ففي هذه الآية المباركة يَعُدّ الله تعالى الأنبياءَ من الذين أنعم عليهم ، هذا من جانب .

ومن جانب آخر يصف سبحانه من أنعم عليهم بأنّهم غير مغضوب عليهم ولا ضالّين ، في قوله : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٢) .

فيستنتج من ضمّ هاتين الآيتين إلى بعضهما ، عصمة الأنبياء بوضوح ، لأنّ العاصي يشمله غضب الربّ ، ويكون ضالّاً بقدر عصيانه . فإذا كان الأنبياء ممن أنعم الله عليهم ، والذين أنعم الله عليهم لا يشملهم غضب الربّ ( غير المغضوب عليهم الخ ) ، فيكونُ الأنبياءُ منزّهين عن المعصية ، وبريئين عن المخالفة .

وإنْ شئت إفراغ الإستدلال في قالب الشكل المنطقي ، فقل :

* إنّ الأنبياء ، قد أنعم الله عليهم .

* وكل من أنعم الله عليه ، فهو غير مغضوب عليه ولا ضالّ .

* فينتج : إنّ الأنبياءَ غيرُ مغضوب عليهم ولا ضالين .

ولما كان العصيان يلازم الغضب والضلال بمقداره ، فمن كان بعيداً عن جلب غضب الربّ إليه ، والضلالة ، يكون بريئاً عن المعصية .

وستعرف فيما يأتي أنّ جميع الأُمة ليسوا شهداء ، وإنّما عبّر بالجمع وأريد منه لفيف من الأُمة قد دلّ الدليل على عصمتهم .

وأمّا استلزام هذا الإستدلال ، عصمة غير الأنبياء والشهداء من الصديقين والصالحين ، فلا إشكال فيه كما عرفت عند نقل كلام السيد المرتضى فيما تقدم .

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٦٩ .

(٢) سورة الحمد : الآية ٧ .

١٨٠