الشيخ حسن محمد مكي العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦١٦
العقول في انكلترا ، وعضوية السير « أوليڤرلودج » الملقب بـ « داروين علم الطبيعة » ـ أي أنّه لعالم الطبيعة ، كداروين للتاريخ الطبيعي ـ مع عدّة من الأساتذة المتخصصين في صنوف العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية . وكان الغرض من هذه الجمعية البت في المسألة الروحية ، وتحقيق حوادثها بأُسلوب النقد الصارم ، والحكم بقبولها نهائياً في العلم إن كانت حقيقةً ، أو تقرير إبعادها عن العلم والفلسفة إن كانت من الأمور الوهمية .
وفي خلال مدّة تربو على خمس وأربعين سنة ، حققت هذه الجمعية أُلوفاً من الحوادث الروحية ، وعملت من التجارب في النفس وقواها ما لا يكاد يدرك ، لولا أنّه مُدوَّن في محاضر تلك الجمعية في نحو خمسين مجلداً ضخماً ، فكان من ثمرات جهادها :
١ ـ إثبات شخصية ثانية للإنسان أي إنّنا أحياء مدركون في حياتنا الحاضرة ، لا بكل قوى الروح التي فينا ، بل بجزء من تلك القوى ، سمحت لنا بها حواسنا الخمس القاصرة . ولكن لنا فوق ما تعطيه لنا حواسنا هذه ، حياة أرقى من هذه الحياة ، لا تظهر بشيء من جلالها إلّا إذا تعطّلت فينا هذه الشخصية العادية بالنوم العادي ، أو بالنوم المغناطيسي .
وقد جرّبوا ذلك على المنوَّمين تنويماً مغناطيسياً ، فوجدوا أنّ النائم يظهر بمظهر من الحياة الروحية والعلم ، لا يكون له وهو يقظان ، فيعلم الغيب ، ويخبر عن البعيدين ، يبصر ويسمع ويحسّ بغير حواسه الجسمية ويكون ـ وهو على تلك الحالة ـ على جانب كبير من التعقّل والإدراك .
قالوا : وتكون هذه حالة الإنسان في نومه العادي . والدليل على ذلك ، ما يأتيه المصابون بمرض الإنتقال النومي من الأفعال المعجزة ، والمدارك السامية .
٢ ـ ثبت لديهم وجود شخصية راقية للإنسان وراء شخصيته العادية . وعلموا أنّها هي التي كوّنت جسمه في الرحم . وهي التي تحرّك جميع أعضائه التي ليست تحت حكم إرادته ، كالكبد ، والقلب ، والمعدة ، وغيرها . . . فهو إنسان بها ، لا بهذه الشخصية العادية المكتسبة من الحواس القاصرة .
قالوا : وهي التي تهديه بالخواطر الجيّدة من خلال حُجُبِهِ الجسمية الكثيفة ، وهي التي تعطيه الإلهامات الطيبة الفجائية في الظروف الحرجة . وهي التي تنفث في روع الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله ، وقد تظهر لهم متجسدة فيحسبونها من ملائكة الله هبطت عليهم من السماء .
قالوا : وهذه الشخصية الباطنة أصبحت مُدْرَكَةً بالحسِّ ، فإنَّ ظهور النائم نوماً مغناطيسياً ، بهذا المظهر من العقل الراجح ، والفكر الثاقب ، والنظر البعيد ، واكتشافه لخفايا الأُمور ، وجولانه في الأقطار البعيدة ، بينما يكون هو جاهلاً غبياً في حالاته العادية ، أدلّ دليل على أنّ للإنسان شخصية تحجبها هذه الحياة الجسدية ، ولا تظهر إلّا إذا وقع جسمه في نوم طبيعي أو صناعي .
وهناك أمور أخرى تدلّ بالحس على وجود تلك الشخصية ، درستها الجمعية وحققت تجارب الذين درسوها :
فقد كتب الأُستاذ الدكتور « ميرس » ، فصولاً ضافية في التنويم المغناطيسي ، والعبقرية ، والوحي ، والشخصية الباطنة ، فذكر الحاسبين على البديهية ، وهم طائفة من الناس ، تلقى عليهم أعوص المسائل الرياضية التي تحتاج إلى زمن طويل في الحساب والعمل ، فيجيبون عليها على الفور ، وهم لا يدرون كيف وجد هذا الحلّ في نفوسهم . وهذا الأمر يثبت وجود الشخصية الباطنة بدليل محسوس ، لأنّ الجواب الصحيح عن المسائل الرياضية العويصة ، إن لم تأت به هذه الشخصية العادية ، فلا بدّ أن تكون ثمرة قوى باطنة أخرى لا تنكشف للإنسان إلّا بآثارها هذه .
وحكى العلامة « ميرس » قول العالم الفرنسي « ترودم » : « حدث لي في بعض الأحايين أنّي كنت أجد فجأة برهان نظرية هندسية القيت إليّ منذ سنة ، وذلك من دون أن أعيرها أقل التفات . لعلّه يقال في تعليل ذلك إنّ المعلومات المختَزَنَة في عقلي من مطالعاتي قد نضجت من نفسها ، وولّدت في عقلي البراهين عليها ، من نفسها أيضاً » .
وقال « ميرس » : لقد كتب الشاعر
المشهور « موسيه » عن نفسه يقول :
« أنا لا أعمل شيئاً ، بل أسمع ، فأنقل ، فكأنّ إنساناً مجهولاً يناجيني في أذني » !! .
هذه خلاصة هذه النظرية وتاريخ نشأتها (١) ويمكن تحريرها بكلمتين :
الأولى : إنّ الشخصية الظاهرية العادية للإنسان ، أسيرة قواه الظاهرية ( الحواس الخمس ) .
الثانية : إنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلى ، وتظهر آثارها ، إذا تعطّلت القوى الظاهرية ، وتخدّرت فعاليتها ، كما في حالات النوم العادي أو المغناطيسي .
ثم بلحاظ هاتين النكتتين ، يفسّر الوحي في الأنبياء ، فإنّ كل ما يحدثون به من التعاليم والإخبارات ليس إلّا إفاضات شخصياتهم الباطنة وإيحاءاتها عند تعطّل قواهم الظاهرية .
تحليل نظرية الشخصية الباطنة
إنّ هذا التفسير للوحي ـ الناتج عن الغرور العلمي وحصر جميع ما في الكون ضمن إطار الأُصول التجريبية ـ فاشل من جهات شتّى :
الجهة الأولى : إنّ الفرضية التي جاءت بها هذه النظرية ـ لو سلّمت ـ ليست دليلاً ولا برهاناً على كون خصوص الوحي عند الأنبياء من سنخ إفاضة الشخصية الباطنة وتجلّيها عند تعطّل القوى الظاهرية . بل قد تكون هذه الفرضية صحيحة ، ومع ذلك يكون للوحي في الأنبياء عاملاً إلهياً ، يفيض تلك المعارف والأُصول والإنباءات الغيبية إلى عقول الأنبياء وقلوبهم فيعرّفونها للبشر .
الجهة الثانية : إنّ الذي تفيده هذه النظرية ، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلّى وتجد مجالاً للظهور بآثارها المختلفة ، عند تعطّل القُوى
__________________
(١) لاحظ فيما نقلناه ، دائرة معارف القرن الرابع عشر ، ج ١٠ ، ص ٧١٢ ـ ٧١٦ .
الظاهرية ، فلذا يقوى ظهورها في المرضى والسكارى والنائمين والمُرْهَقين وتبقى مندثرة ومغمورة في طوايا النفس عندما تكون القُوى الظاهرية والحواس البشرية في حالة الفعالية والجدّ والسعي .
هذا ، وإنّ المعلوم من حالات الأنبياء عليهم السلام أنّ الوحي الإلهي كان ينزل عليهم في أقصى حالات تنَبُّههم واشتغالهم بالأُمور السياسية والدفاعية والتبليغية ، فكيف يكون ما تجلّى للنبي وهو يخوض غمار الحرب ، تجلياً للشخصية الباطنة ، والضمير المخفي ، أو ما شئت فعبّر ، ممّا لا يرى النور ، إلّا في حالات الغفلة والغيبوبة وما شابه ذلك ، كما يصرّح به هؤلاء ؟ .
وأين الأنبياء من الخمول والإنعزال عن المجتمع ، وهم أولو الجهاد ، والصبر والثبات في مواجهة الأعداء وتبليغ رسالاتهم السماوية ؟ .
فما ذكرناه دليل قاطع على بطلان تفسير الوحي بما ذكروه .
الجهة الثالثة : لا شكّ أنّ الشخصية الباطنة للإنسان لا تملك تلك المعلومات التي تفيضها في حالات تعطّل الحواس ، من ذاتها وصميمها من دون أن تتلقى شيئاً من خارجها . وإن دعوى ذلك ، باطلٌ ، لا قيمة له في سوق العلوم النفسية . فإنّ الذي توصّل إليه علماء النفس قبل « فرويد » وبعده ، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان تُحفظ فيها المعارف التي تردّها عبر القوى والشخصية الظاهرية ، وذلك عندما لا ترغب الشخصية الظاهرية في إبقائها في مجال نشاطها وتفكرها ، فتنسحب تلك الأفكار والمعارف إلى أعماق ضميره وشخصيته الباطنة ، فتكمن في زواياها ، وتختبيء بين طواياها ، مُتَحيِّنة فرصة تعطيل الشخصية الظاهرية ، حتى تنبعث من مكامنها ، وتجري على لسان صاحبها من دون إرادة منه ولا ميل ، كما عرفت في حالات التنويم المغناطيسي ، وكما يقع غالباً في حالات السهو والغفلة ، من تلفُّظ الإنسان بما لا يرغب ، أو يتحاشى إظهاره ممّا أضمره في نفسه ، ولا يُظهره قطعاً عند التفاته وانتباهه . وفي هذا المجال يقول علي عليه السلام : « ما أَضَمَرَ أَحَدٌ شيئاً إلَّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » (١) .
__________________
(١) نهج البلاغة باب قصار الحكم ، الحكمة ٢٦ .
وعلى ما ذكرنا يمتنع أن تكون تلك المعارف العليا ، والشرائع والقوانين الاجتماعية التي جاء بها الأنبياء ، نتاج الشخصية الباطنة ، والضمير المخفي وكيف يكون ذلك ، والمصدر الوحيد للمعارف الموجودة في الضمير المخفي هو الشخصية الظاهرية وما تأخذه الحواس من خارج الذهن والمحيط والبيئة . والمحيط الذي عاش فيه الأنبياء ، وترعرعوا في أحضانه ، في واد آخر من هذه المعارف والشرائع ، لم يسمع ولم يخبر بها .
فلا يبقى بالنتيجة إلّا أن يكون لها مصدر ومنبعٌ آخر ، غير ما يدعون .
إنّ هذه المعلومات التي يعطيها هؤلاء المحلّلون لمسألة الوحي ، قليلة المواد ، ضيقة النطاق عن أن تكون مصدراً لوحي مثل القرآن الكريم . فإنّ ما جاء في هذا الكتاب من الأحكام والمعارف العليا لا يمكن أن تكون مستمدة من الوحي بهذا المعنى .
وأنّى يكون ليتيم فقير ، نشأ بين الأُميين ، ليس عنده كتاب يرشده ، ولا أُستاذ ينبّهه ، ولا عضد إذا عزم يؤيده ، أن يأتي ولو بمعشار ما في هذا الكتاب من السنن والنظم والمعارف والعقائد . فلا يبقى إلّا القول بأنّه فائض من نور الله الأعظم على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وآله ، كما يقول البوصيري :
الله أكبرُ إِنَّ دينَ محمد |
وكتابَه أَقوى وأَقْومُ قيلا |
|
لا تذكروا الكُتُبَ السوالفَ عنده |
طَلَعَ الصباحُ فاطفَأَ القِنديلا (١) |
__________________
(١) في الختام نعاتب الأستاذ فريد وجدي بما أنّه رجل موحّد مؤمن بعوالم الغيب ورسالة السماء إلى الأرض ، التي تلقّاها الأنبياء عن طريق الوحي ، نعاتبه كيف نقل هذه النظرية الساقطة حول الوحي بإسهاب ، وأوضحها ، ولم يعلّق عليها شيئاً ، وكأنّه بها راض ، ولها مُتَبَنٍّ !! . وهذا الذي وقع منه ، ربما يؤيد ما ذكره مصطفى صبري ، شيخ الإسلام في الدولة العثمانية ، من أنّ الأستاذ المذكور كان منكراً لمعجزات الأنبياء ، ومضيفاً إليه عند النقاش إنكار البعث بعد الموت ، وقد نَقَلَ عنه هذه العبارات :
« ولد العلم الحديث ، وما زال يجاهد القوى التي كانت
تساوره ، فتغلب عليها ، ودالت الدولة إليه في الأرض ، فنظر نظرة في الأديان وسرى عليها أسلوبه ، فقذف بها جملة في عالم
الميتولوجيا ( أي الأساطير ) . ثم بحث في اشتقاق بعضها عن بعض ، واتّصال أساطيرها بعضها ببعض ، فجعل
الثالثة ـ نظرية الفلاسفة المشائين في الوحي
سلك المشائيون من فلاسفة الإسلام ، في تحليل الوحي ، مسلكاً خاصّاً لا يمت إلى ما سبق من التحليلات بصلة ، وتبتني نظريتهم على أُصول لا مجال لذكرها هنا ، وإنّما نأتي بمجمل معتقدهم ونبيّنه في أُمور :
الأول : قد أثبتوا بفضل قاعدة الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد (١) ، إنّ الصادر الأول من الواجب سبحانه شيء واحد وهو العقل الأول ، ثم أفاض الوجود ، فأوجد العقل الثاني ، ثم أوجد الثاني الثالث إلى أنِ انتهى الفيض بإيجاد العقل العاشر ، وهو المسمى عندهم بالعقل الفعّال . وليست العقول عندهم منحصرة على وجه القطع بالعشرة ، بل لم يجدوا دليلاً على أزيد منها (٢) .
__________________
= ذلك مجموعة تقرأ لا لتقدس تقديساً ، ولكن ليعرف الباحثون منها الصور الذهنية التي كان يستعبد لها الإنسان نفسه ، ويقف على صيانتها جهوده ، غير مدّخر في سبيلها روحه وماله .
وقد اتّصل الشرق الإسلامي بالغرب منذ أكثر من مائة سنة ، فأخذ يرتشف من مناهله العلمية ، ويقتبس من مدنيته المادية ، فوقف فيما وقف على هذه « الميتولوجيا » ، ووجد دينه ماثلاً فيها ، فلم ينبث بكلمة ، لأنّه يرى الأمر أكبر من أن يحاوله ، ولكنه استبطن الإلحاد ، متيقناً أنّه مصير إخوانه كافة متى وصلوا إلى درجته العلمية .
وقد نبغ في البلاد الإسلامية كتّاب وشعراء وقفوا على هذه البحوث العلمية ، فسحرتهم ، فأخذوا يهيئون الأذهان لقبولها ، دساً في مقالاتهم وقصائدهم ، غير مصارحين بها غير أمثالهم ، تفاديا من أن يقاطعوا أو ينفوا من الأرض » .
لاحظ موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين ، ج ١ ، ص ٢٤ . وفي الكتاب نصوص من مشاهير أساتذة مصر حول معجزات الأنبياء وخوارق العادات ، وكأنّهم كانوا منكرين لها ، محاولين توجيهها وتأويلها على نحو يلائم روح العصر بزعمهم . ونحن لا نذكر هنا أسماء أولئك الأساتذة الذين اتّهمهم صبري بالشذوذ عن الكتاب والسّنة ، ولكن نوصي طلاب الحقيقة بمطالعة هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة حتى يقفوا على كيفية زعزعة العلم الحديث لأركان الأزهر الشريف ، والضجة الكبيرة التي أوجدها في مفكريه حول الغيب والمعاجز والوحي والملائكة والجن ، وكل ما لا يصل إليه الإنسان بأدوات المعرفة المادية !! .
(١) المراد قاعدة : « لا يصدر من الواحد إلّا الواحد » ، وعكسها : « لا يصدر الواحد ، إلّا من الواحد » . وقد برهنوا عليها ببرهان فلسفي ، لا ينافي صدور ما في الكون جليله ودقيقه من الله سبحانه على نحو ترتب الأسباب والمسببات .
(٢) لأنّ طريق الاستكشاف هو الأفلاك التسعة المحسوسة الكاشفة عن النفوس التسع والعقول العشرة ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محله .
الثاني : إنّ ما يقوم به العقل العاشر من الفعل والإفاضة ، هو تكميل النفوس الإنسانية أوّلاً ، وإفاضة الصور الجوهرية على عالم المادة ثانياً .
فالمخرج للنفوس الإنسانية من القوة إلى الكمال ، ومفيضُ المعارف على قلوب الأولياء ، والصور الحيوانية والشجرية والمعدنية على المادة الأولى ، هو العقل الفعّال ، بإذنه سبحانه .
الثالث : إنّ الإنسان مجهز بالحواس الظاهرية الخمس المعروفة ، كما هو مجهز بحواس باطنية خمس ، هي :
١ ـ الحس المشترك : وهو القوة المدركة لما يرد العقل عبر الحواس الخمس الظاهرية .
٢ ـ الخيال : وهو مخزن الصور المحسوسة المأخوذة من الحسّ المشترك .
٣ ـ الواهمة : وهي القُوّة المدركة للمعاني الجزئية ، كالعداوة والصداقة .
٤ ـ الحافظة : وهي مخزن المعاني الجزئية المرسلة من الواهمة .
٥ ـ العاقلة : وهي القوّة المدركة للمفاهيم الكلية والحقائق المطلقة عن المادة وآثارها ، ولها شؤون أخرى ، كتركيب الأقيسة والأدلة وغير ذلك .
الرابع : إنّ النفوس الضعيفة غير الكاملة ، أسيرة القوى الباطنة في مدارجها المختلفة ، من القوّة العاقلة إلى الحسّ المشترك ، ومنه إليها .
وأمّا النفوس القوية الصافية ، فإنّ بإمكانها الخروج عن هذا الإطار والإتصال بالعقل الفعّال ، إتصالاً روحانياً معنوياً ، وتلقّي الحقائق والمعارف من ذلك الموجود النوراني .
وهكذا ، فإنّ المعارف العليا المفاضة من العقل الفعّال ، تنعكس على القوّة العاقلة ، ثم تفاض منها إلى القوة الخيالية ، ومنها إلى الحسّ المشترك ، وتأخذ كل قوة ما هو المناسب لحالها وذاتها : فالحقائق المفاضة من العقل الفعّال إلى النفوس الكاملة الإنسانية في مرحلة القوة العاقلة ، علومٌ ومعارف . وفي مرتبة القوة الخيالية ، صور وتمثّلات . وفي مرحلة الحسّ المشترك ، كلام فصيح ومنظوم .
فالنبي إذا تمّ استعداده ، وصَفَت نفسه ، يجد في نفسه استعداداً للإتصال بذلك العالم الأعلى ، فتفاض عليه الحقائق والدقائق ، من معارف المبدأ والمعاد ، والكون والحياة ، والإنسان والمجتمع ، كلّها بصورة معارف كليّة .
ولكن هذه المعارف إذا تنزّلت إلى الدرجة التالية ، أعني القوة الخيالية ، تتمثل في خياله ملكاً نورانياً يكلمه ويخاطبه بتلك المعارف والأحكام والسنن .
كما أنّها إذا تنزّلت إلى الدرجة الثالثة ، أعني الحسّ المشترك ، قرع أسماعه صوت وكلام تلتذ به نفسه ، وتحفظه مصوناً عن كل تغيّر وتبدّل .
فليس للوحي حقيقة إلّا انعكاس ما في العقل الفعّال من المعارف والعلوم على عقل النبي ، ثم تنزله منه إلى خياله ، ومنه إلى حسّه . وليس هذا الإتصال والتنزل وتلقّي المعارف الكلية ، وتمثل الملك ومشاهدته ، وسماع الصوت والكلام المنظوم ، أشياء وهمية لا واقعية لها ، بل لكلٍّ منها درجة واقعية أحقّ من الواقعية الظاهرية المادية .
يقول صدر المتألهين : « إنّ سبب إنزال الكلام وتنزيل الكتاب ، هو أنّ الروح الإنسانية إذا تجرّدت عن البدن ، مهاجرةً إلى ربّها لمشاهدة آياته الكبرى ، وتطهّرت عن المعاصي والشهوات والتعلّقات ، لاح لها نور المعرفة والإيمان بالله وملكوته الأعلى . وهذا النور إذا تأكّد وتَجَوْهَر ، كان جوهراً قدسياً يسمى عند الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعّال ، وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي .
وبهذا النور الشديد العقلي ، يتلألأ فيها ( أي الروح الإنسانية ) أسرار ما في الأرض والسماء ، ويتراءى منها حقائق الأشياء ، كما يتراءى بالنور الحسيّ البصري ، الأشباح المثالية في قوّة البصر إذا لم يمنعها حجاب ، والحجاب ها هنا هو آثار الطبيعة وشواغل هذا الأدنى . وذلك لأنّ القلوب والأرواح ـ بحسب أصل فطرتها ـ صالحةٌ لقبول نور الحكمة والإيمان إذا لم يطرء عليها ظلمة تفسدها كالكفر ، أو حجاب يحجبها كالمعصية وما يجري مجراها .
وبعبارة أخرى : إذا أعرضت النفس عن
دواعي الطبيعة وظلمات الهوى
والإشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحسّ والخيال وولّت بوجهها شطر الحق ، وتلقاء عالم الملكوت ، اتّصلت بالسعادة القصوى ، فلاح لها سرّ الملكوت وانعكس عليها قدس اللاهوت ، ورأت عجائب آيات الله الكبرى .
ثم إنّ هذه الروح ، إذا كانت قدسية شديدة القوى ، قوية الإنارة لما تحتها ، لقوة اتّصالها بما فوقها ، فلا يشغلها شأن عن شأن ، ولا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها ، فتضبط للطرفين ، وتسع قوتها الجانبين ( الملك والملكوت ) ، لشدّة تمكّنها في الحدّ المشترك بين الملك والملكوت . لا كالأرواح الضعيفة ، التي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر ، وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ، ذهلت عن المشعر الآخر .
فإذا توجهت هذه الروح القدسية التي لا يشغلها شأن عن شأن ، ولا يصرفها نشأة عن نشأة ، وتلقت المعارف الإلهية بلا تعلّم بشري ، بل من الله ، يتعدى تأثيرها إلى قواها ، ويتمثل لروحه البشرى ، صورة ما شاهده بروحه القدسي وتبرز منها إلى ظاهر الكون ، فيتمثل للحواس الظاهرة ، لا سيما السمع والبصر ، لكونهما أشرف الحواس الظاهرة ، فيرى ببصره شخصاً محسوساً في غاية الحُسْن والصباحة ، ويسمع بسمعه كلاماً منظوماً في غاية الجودة والفصاحة ، فالشخص هو الملك النازل بإذن الله ، الحامل للوحي الإلهي ، والكلام هو كلام الله تعالى ، وبيده لوح فيه كتاب .
وهذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه ، ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في خارج الذهن والتخيّل ، كما يقوله من لاحظ له من الباطن ، ولا قَدَم له في أسرار الوحي والكتاب ، كبعض أتباع المشائين ، معاذ الله عن هذه العقيدة الناشئة من الجهل بكيفية الإنزال والتنزيل » (١) .
__________________
(١) الأسفار الأربعة ، ج ٧ ، ص ٢٤ ـ ٢٥
تحليل نظرية الفلاسفة
أُعتُرض على هذه النظرية باعتراضات عديدة ، غير واردة عند من أمعن النظر وتدبّر فيها ، نذكر بعضاً منها :
الإعتراض الأول : إنّ نتيجة هذه النظرية أنّه لا واقعية للملك ولا للصوت في مرتبة الحسّ ، لأنّ القوّة التخيّلية في ذهن النبي هي التي توجد الصوت وصورة الملك في تلك المرتبة ، ثم ينعكس من الخيال إلى مرتبة الحسّ .
الجواب : إنّ ما ذكر من الإعتراض يَرِد على عقيدة بعض المشائيين في الوحي ، كما صرّح به صدر المتألهين نفسه في كلامه المتقدم . وأمّا عند غيرهم ، فللوحي درجات واقعية حسب مراتب وجوده . فله وجود عقلي وخيالي وحسّي ، وليس أيٌّ منها مصنوعَ ذهن النبي ونفسه ، تلك النفس الصافية الصقيلة التي ينعكس فيها كل ما في عالم العقل الفعّال . وما ذكرناه من عبارات صدر المتألهين أوضح شاهد على ذلك .
الإعتراض الثاني : إنّ هذا التصوير للوحي ، مقلوب ما نأنسه من الإدراكات في هذه الحياة ، فإنّ الترتيب الطبيعي للإدراك هو الحسيّ ثم الخيالي فالعقلي . ولكن على هذه النظرية ، ينقلب الأمر ويشرع الإدراك من العقل وينتهي بالحسّ .
الجواب : إنّ ما ذكره المعترض حقّ في الإدراكات المعاديّة ، وأمّا الإدراكات المتجاوزة حدّ العادة ، فهي على عكس المأنوس . والوحي النازل على الأنبياء إدراك خارق للعادة بدليل عظمة المعارف والقوانين التي يأتي بها الوحي إليه .
وغير ذلك من الإعتراضات القابلة للجواب .
والملاحظة الصحيحة على هذه النظرية ،
هي أنّ ما ذكروه من أنّ حقيقةً واحدةً تتجلى في نفس النبيِّ بصورٍ ثلاث ، وإن كان غير ممتنع ، إلّا أنّه لا دليل على أنّ الوحي هو خصوص ذاك . إذ ربّ وليّ من الأولياء الذين صفت ضمائرهم ، وطهرت قلوبهم ، نالوا المعارف والحقائق المفاضة من ذاك العالم
بالإشراق ومع ذلك لا يصحّ تفسيره بالوحي المصطلح وإلّا كان كل إنسان يدرك في عقله حقيقة عليا ثم تتجلى في خياله ثم في حسّه ، نبياً أو رسولاً .
وقد بلغ الحواريون درجةً راقيةً من المعرفة والإدراك حتى خاطبهم الباري عزّ وجلّ ، كما يشير إلى ذلك بقوله : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ) (١) . ومع ذلك لم يُسَمِّهِمُ القرآن رسلاً ، ولا أنبياء ، ولا الكلام المنزل عليهم وحياً نبوياً ، رسالياً ، وإنّما كان إلهاماً قوياً .
فحق المقال في الوحي ما ذكرناه في صدر البحث ، من أنّه مجهول الكنه ، معلوم الآثار ، يجب الإيمان به كالإيمان بالغيب على الإطلاق .
* * *
__________________
(١) سورة المائدة : الآية ١١١ .
مباحث النبوّة العامة ( البحث الرابع ) |
|
سِمات الأنبياء
إنّ أخطر المناصب وأكبرها مسؤولية ، قيادة المجتمع البشري وهدايته إلى السعادة ، فإنّها تتطلب في المتصدي لها مؤهّلات وامتيازات خاصة يتفرد بها عن سائر الناس .
ولتقريب عظمة تلك المؤهلات المطلوبة في هكذا إنسان ، نلاحظ جانباً واحداً من الجوانب الحيوية ، كإدارة الشؤون الإقتصادية ، أو السياسية ، أو العسكرية أو التربوية ، فإنّ القيادة في واحد منها تتطلب درجة عالية من الخبرة والمعرفة والتدبير ، فكيف إذا كانت دائرة القيادة واسعة النطاق ، تدير دفة كافة جوانب الحياة ، كما هي وظيفة رسل السماء لا سيما خاتمهم الذي به سُدَّ باب الوحي والنبوة ؟ فلا بد ، والحال هذه ، أن يتصفوا بفضائل روحية ، ومُثُل خُلُقية ، تُميِّزُهم عن غيرهم من البشر ، وتجعَلُهم في قمَّة الأخلاق والتزكية وحسن السيرة ، ثم في الإدارة والقيادة ، وتجتمع هذه الصفات في الأُمور التالية :
١ ـ العِصْمَة ، ولها مراتب ثلاث :
المرتبة الأُولى ـ المصونية عن الذنب ومخالفة الأوامر المولوية .
المرتبة الثانية ـ المصونية في تلقي الوحي ، ووَعْيه ، وإبلاغه إلى الناس .
المرتبة الثالثة ـ المصونية من الخطأ والإشتباه في تطبيق الشريعة والأمور الفردية والاجتماعية .
٢ ـ التنزّه عن كل ما يوجب نفرة الناس عنه وعُقم التبليغ .
٣ ـ الإطلاع على أُصول الدين وفروعه وكلِّ ما أُلقي إبلاغه على عاتقه .
٤ ـ التحلّي بكفاءة خاصة في القيادة والإدارة مقترنة بحسن التدبير (١) .
وإليك البحث فيما يلي عن هذه السمات الواحدة تلو الأُخرى .
* * *
__________________
(١) هذه الصفة تختص بالنبوات التي تقود المجتمع في جميع المجالات ولا تشترط في كل نبي ، إذ رُبَّ نبي لا تتجاوز نبوتُه نفسَه ، ولا تعدو قيادتُه إطاراً خاصاً ، وما أكثر الأنبياء عدداً ، وما أكثر غاياتهم وأهدافهم اختلافاً ، سعة وضيقاً .
العِصْمَة
قد عرفت أنّ للعصمة مراتب ثلاث : العصمة عن المعصية ، والعصمة في تبليغ الرسالة ، والعصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة والأُمور الفردية والإجتماعية .
ونحن نقدم البحث في عصمة الأنبياء عن المعصية ، على عصمتهم في مقام تبليغ الرسالة ، مع أنّ أكثر المتكلمين يقدمون الثاني على الأول باعتبار كونه أمراً متفقاً عليه بين المسلمين إلّا من شذّ . وإنّما خالفنا الترتيب ، لأنّ العصمة عن المعصية تؤول إلى العصمة في مقام العمد ، بينما العصمة في تبليغ الرسالة ترجع إلى العصمة عن السهو والخطأ ، فطبيعة البحث تقتضي ما نقوم به .
* * *
المرتبة الأولى للعصمة
العصمة عن الذُنُوب
ويقع البحث في مقامات ثلاثة :
الأول ـ بيان حقيقة العصمة عن المعاصي والذنوب .
الثاني ـ بيان مبدأ ظهور فكرة العصمة .
الثالث ـ بيان الدليل على لزوم اتّصاف الأنبياء بها .
ثم نختم البحث بالإجابة عن سؤالين هامَّين .
* * *
المقام الأول ـ حقيقة العصمة عن المعاصي
قال ابن فارس : « عَصَمَ : أصلٌ واحدٌ صحيح يدلّ على إمساكٍ ومنعٍ وملازمةٍ ، والمعنى في ذلك كلِّه واحدٌ . من ذلك « العصمة » : أنْ يعصم الله عبدَه من سوءٍ يقع فيه . واعتصم العبد بالله تعالى : إذا تَمَنَّعَ . واستعصم : التجأ ، وتقول العرب : أَعصَمْت فلاناً ، أي هيّأَتُ له شيئاً يعتصم بما نالته يده ، أي يلتجيء ويتمسك به » (١) .
__________________
(١) المقاييس ، ج ٤ ، ص ٣٣١ .
هذا في اصطلاح أهل اللُّغة .
وفي اصطلاح المتكلِّمين : « العصمة قوة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية ، والوقوع في الخطأ » (١) .
وربما تُعَرّف أيضاً بأنّها : « لطف يفعله الله في المكلف بحيث لا يكون له مع ذلك داعٍ إلى ترك الطاعة ، ولا إلى فعل المعصية ، مع قدرته على ذلك » (٢) .
ومن العجب تفسير الأشاعرة العصمة بأنّها عبارة عن أنّه سبحانه لا يخلق في المعصومين ذنباً (٣) . فإنّه تعريف واهٍ سخيف على الأُصول التي سلكناها من أنّ فاعل الذنب وموجده هو العبد مباشرة ، بقوة منه سبحانه . نعم هو صحيح على أصولهم القائمة على إنكار السببية والعلّية بين الأشياء .
وفيما ذكرناه من التعاريف كفاية في المقام ، وإنّما المهم بيان حقيقة العصمة بنحو يرفع الغموض عنها ، وهو يحصل ببيان الوجوه التالية :
الوجه الأول : العصمة غصن من دوحة التقوى
إنّ التقوى في العاديين من الناس ، كيفية نفسانية تعصم صاحبها عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي ، ولأجل ذلك نرى البون الشاسع بينهم وبين المجرمين ، المليئة حياتهم بالجرائم وقبائح الأعمال ، بينما حياة المتقين خلو منها إلّا ما شذّ .
فإذا كان هذا أثر التقوى العمومية ، فما بالك بالتقوى ، إذا ترقت في مدارجها وعَلَت في مراتبها ، إنّها حينذاك تبلغ بصاحبها درجة العصمة الكاملة ، والإمتناع المطلق عن ارتكاب أي قبيح من الأعمال ، أو ذميم من الأفعال ، بل يمتنع معها حتى عن التفكير في خلاف أو معصية .
__________________
(١) الميزان ، ج ٨ ، ص ١٤٢ .
(٢) إرشاد الطالبيين إلى نهج المسترشدين ، ص ٣١٠ .
(٣) إبطال نهج الباطل ، للفضل بن روزبهان ، على ما في ذيل دلائل الصدق ، ج ١ ، ص ٣٧٠ .
وعلى هذا ، فالعصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس ، لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية مثل الشجاعة والعفة والسخاء : فإنّ الإنسان إذا كان شجاعاً وصبوراً ، سخياً وباذلاً ، عفيفاً ونزيهاً ، تراه يتطلب في حياته معالي الأمور ، ويتجنب سفاسفها ، فيطرد عن نفسه الخوف والجُبْنَ والبُخْلَ والإمساكَ ، والقبائح والمساويء ، ولا ترى لها أثراً في حياته .
وهكذا نقول في العصمة ، فإنّ الإنسان إذا بلغ درجة قصوى من التقوى ، يصل إلى حدّ من الطهارة لا يُرى معه في حياته أثر من آثار المعصية والتمرّد على أوامر الله تعالى . وأما كيف تحصل فيه هذه الكيفية النفسانية ، فهو ما نبحثه في الوجه الثاني .
وعلى ما ذكرنا ، تنقسم العصمة إلى عصمة مطلقة وعصمة نسبية ، والأُولى تختص بطبقة خاصة من الناس ، والثانية تعمّ كثيراً منهم . فكم من الناس يتورعون عن السرقة والقتل ونحو ذينك ، وإن عُرضت عليهم المكافاۤت المادية الكبيرة ، وما ذلك إلّا لانتفاء الحوافز إلى هذه الأفاعيل ، في قرارة أنفسهم ، إمّا نتيجة للتقوى أو غيرها من العوامل . وتصديق العصمة النسبية الملموسة لنا ، يُقَرِّب تصوُّرَ العصمة المطلقة إلى الأذهان ، والتي هي كون الإنسان في مرتبة شديدة من التقوى تمنعه عن اقتراف جميع أنواع القبائح ، طُرّاً .
الوجه الثاني : العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي
إنّ العلم القطعي بعواقب الأعمال
الخطيرة ، يخلق في نفس الإنسان وازعاً قوياً يصدُّه عن ارتكابها ، وأمثاله في الحياة كثيرة . فلو وقف أحدنا على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها أن تقتل من يمسّها عارية من دون عائق ، فإنّه يحجم من تلقاء نفسه عن مسّ تلك الأسلاك والإقتراب منها . ونظير ذلك ، الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم ، فإنّه إذا صادف ماءً اغتسل فيه مصاب بالجُذام أو البَرَص ، أو إناءً شرب منه مصابٌ بالسِّلِّ ، لا يقدم على الإغتسال فيه أو شربه ، مهما اشتدت حاجته إليه ، لعلمه بما يَجُرّ عليه الشرب والإغتسال بذاك الماء الموبوء ، من الأمراض ، وقس على ذلك سائر العواقب
الخطيرة ، وإن كانت من قبيل السقوط في أعين الناس ، وفقدان الكرامة وإراقة ماء الوجه بحيث لا ترغد الحياة معه .
فإذا كان العلم القطعي بالعواقب الدنيوية لبعض الأفعال يوجد تلك المصونية عن الإرتكاب ، في نفس العالم ، فكيف بالعلم القطعي بالعواقبِ والأُخرويةِ للمعاصي ورذائلِ الأفعال ، علماً لا يداخله ريبٌ ولا يعتريه شكٌ ، علماً تسقط دونه الحُجُب فيرى صاحبُه رَأْيَ العينِ ، ويَلْمِسُ لَمْسَ الحِسِّ ، تَبِعاتِ المعاصي ولوازِمَها وآثارَها في النشأة الأخرى . ذاك العلم الذي قال تعالى فيه : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) (١) ، فمِثْلُ هذا العِلم يخلُق من صاحبه إنساناً مثالياً ، لا يخالف قول ربّه قيد أنملة ، ولا يتعدى الحدود التي رسمها له في حياته قدر شعرة ، ولن تنتفي المعصية من حياته فحسب ، بل إنّ مجرّد التفكير فيها ، لن يجد سبيله إليه . وكأنَّ الإمامَ علياً يصف هؤلاء في قوله : « هم والجنّة كمن قد رآها ، فهم فيها مُنعمون » (٢) .
إنّ الإنسان إذا وصل إلى المقام الذي يرى فيه بالعيون البرزخية تبدُّلَ الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة ، إلى جمرات ملتهبة تُكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ، يمتنع ـ شهد الله ـ عن كنزها . يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ، هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) (٣) .
إنّ قوله سبحانه : ( هذا ما كُنْتُم ) ، يعرب عن أَنَّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ليست شيئاً غير الذهب والفضة ، وإنّما هي تلك البيضاء والصفراء التي تتجلى بوجودها الأُخروي في تلك النشأة ، فإنّ لها صورتان ، صورةٌ دنيوية معروفة ، وصورةٌ أُخروية هي النيران المحماة .
__________________
(١) سورة التكاثر : الآيتان ٥ و ٦ .
(٢) نهج البلاغة ، خطبة المتقين ، الخطبة ١٩٣ .
(٣) سورة التوبة : الآيتان ٣٤ و ٣٥ .