الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٦١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

العقول في انكلترا ، وعضوية السير « أوليڤرلودج » الملقب بـ « داروين علم الطبيعة » ـ أي أنّه لعالم الطبيعة ، كداروين للتاريخ الطبيعي ـ مع عدّة من الأساتذة المتخصصين في صنوف العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية . وكان الغرض من هذه الجمعية البت في المسألة الروحية ، وتحقيق حوادثها بأُسلوب النقد الصارم ، والحكم بقبولها نهائياً في العلم إن كانت حقيقةً ، أو تقرير إبعادها عن العلم والفلسفة إن كانت من الأمور الوهمية .

وفي خلال مدّة تربو على خمس وأربعين سنة ، حققت هذه الجمعية أُلوفاً من الحوادث الروحية ، وعملت من التجارب في النفس وقواها ما لا يكاد يدرك ، لولا أنّه مُدوَّن في محاضر تلك الجمعية في نحو خمسين مجلداً ضخماً ، فكان من ثمرات جهادها :

١ ـ إثبات شخصية ثانية للإنسان أي إنّنا أحياء مدركون في حياتنا الحاضرة ، لا بكل قوى الروح التي فينا ، بل بجزء من تلك القوى ، سمحت لنا بها حواسنا الخمس القاصرة . ولكن لنا فوق ما تعطيه لنا حواسنا هذه ، حياة أرقى من هذه الحياة ، لا تظهر بشيء من جلالها إلّا إذا تعطّلت فينا هذه الشخصية العادية بالنوم العادي ، أو بالنوم المغناطيسي .

وقد جرّبوا ذلك على المنوَّمين تنويماً مغناطيسياً ، فوجدوا أنّ النائم يظهر بمظهر من الحياة الروحية والعلم ، لا يكون له وهو يقظان ، فيعلم الغيب ، ويخبر عن البعيدين ، يبصر ويسمع ويحسّ بغير حواسه الجسمية ويكون ـ وهو على تلك الحالة ـ على جانب كبير من التعقّل والإدراك .

قالوا : وتكون هذه حالة الإنسان في نومه العادي . والدليل على ذلك ، ما يأتيه المصابون بمرض الإنتقال النومي من الأفعال المعجزة ، والمدارك السامية .

٢ ـ ثبت لديهم وجود شخصية راقية للإنسان وراء شخصيته العادية . وعلموا أنّها هي التي كوّنت جسمه في الرحم . وهي التي تحرّك جميع أعضائه التي ليست تحت حكم إرادته ، كالكبد ، والقلب ، والمعدة ، وغيرها . . . فهو إنسان بها ، لا بهذه الشخصية العادية المكتسبة من الحواس القاصرة .

١٤١
 &

قالوا : وهي التي تهديه بالخواطر الجيّدة من خلال حُجُبِهِ الجسمية الكثيفة ، وهي التي تعطيه الإلهامات الطيبة الفجائية في الظروف الحرجة . وهي التي تنفث في روع الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله ، وقد تظهر لهم متجسدة فيحسبونها من ملائكة الله هبطت عليهم من السماء .

قالوا : وهذه الشخصية الباطنة أصبحت مُدْرَكَةً بالحسِّ ، فإنَّ ظهور النائم نوماً مغناطيسياً ، بهذا المظهر من العقل الراجح ، والفكر الثاقب ، والنظر البعيد ، واكتشافه لخفايا الأُمور ، وجولانه في الأقطار البعيدة ، بينما يكون هو جاهلاً غبياً في حالاته العادية ، أدلّ دليل على أنّ للإنسان شخصية تحجبها هذه الحياة الجسدية ، ولا تظهر إلّا إذا وقع جسمه في نوم طبيعي أو صناعي .

وهناك أمور أخرى تدلّ بالحس على وجود تلك الشخصية ، درستها الجمعية وحققت تجارب الذين درسوها :

فقد كتب الأُستاذ الدكتور « ميرس » ، فصولاً ضافية في التنويم المغناطيسي ، والعبقرية ، والوحي ، والشخصية الباطنة ، فذكر الحاسبين على البديهية ، وهم طائفة من الناس ، تلقى عليهم أعوص المسائل الرياضية التي تحتاج إلى زمن طويل في الحساب والعمل ، فيجيبون عليها على الفور ، وهم لا يدرون كيف وجد هذا الحلّ في نفوسهم . وهذا الأمر يثبت وجود الشخصية الباطنة بدليل محسوس ، لأنّ الجواب الصحيح عن المسائل الرياضية العويصة ، إن لم تأت به هذه الشخصية العادية ، فلا بدّ أن تكون ثمرة قوى باطنة أخرى لا تنكشف للإنسان إلّا بآثارها هذه .

وحكى العلامة « ميرس » قول العالم الفرنسي « ترودم » : « حدث لي في بعض الأحايين أنّي كنت أجد فجأة برهان نظرية هندسية القيت إليّ منذ سنة ، وذلك من دون أن أعيرها أقل التفات . لعلّه يقال في تعليل ذلك إنّ المعلومات المختَزَنَة في عقلي من مطالعاتي قد نضجت من نفسها ، وولّدت في عقلي البراهين عليها ، من نفسها أيضاً » .

وقال « ميرس » : لقد كتب الشاعر المشهور « موسيه » عن نفسه يقول :

١٤٢
 &

« أنا لا أعمل شيئاً ، بل أسمع ، فأنقل ، فكأنّ إنساناً مجهولاً يناجيني في أذني » !! .

هذه خلاصة هذه النظرية وتاريخ نشأتها (١) ويمكن تحريرها بكلمتين :

الأولى : إنّ الشخصية الظاهرية العادية للإنسان ، أسيرة قواه الظاهرية ( الحواس الخمس ) .

الثانية : إنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلى ، وتظهر آثارها ، إذا تعطّلت القوى الظاهرية ، وتخدّرت فعاليتها ، كما في حالات النوم العادي أو المغناطيسي .

ثم بلحاظ هاتين النكتتين ، يفسّر الوحي في الأنبياء ، فإنّ كل ما يحدثون به من التعاليم والإخبارات ليس إلّا إفاضات شخصياتهم الباطنة وإيحاءاتها عند تعطّل قواهم الظاهرية .

تحليل نظرية الشخصية الباطنة

إنّ هذا التفسير للوحي ـ الناتج عن الغرور العلمي وحصر جميع ما في الكون ضمن إطار الأُصول التجريبية ـ فاشل من جهات شتّى :

الجهة الأولى : إنّ الفرضية التي جاءت بها هذه النظرية ـ لو سلّمت ـ ليست دليلاً ولا برهاناً على كون خصوص الوحي عند الأنبياء من سنخ إفاضة الشخصية الباطنة وتجلّيها عند تعطّل القوى الظاهرية . بل قد تكون هذه الفرضية صحيحة ، ومع ذلك يكون للوحي في الأنبياء عاملاً إلهياً ، يفيض تلك المعارف والأُصول والإنباءات الغيبية إلى عقول الأنبياء وقلوبهم فيعرّفونها للبشر .

الجهة الثانية : إنّ الذي تفيده هذه النظرية ، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلّى وتجد مجالاً للظهور بآثارها المختلفة ، عند تعطّل القُوى

__________________

(١) لاحظ فيما نقلناه ، دائرة معارف القرن الرابع عشر ، ج ١٠ ، ص ٧١٢ ـ ٧١٦ .

١٤٣
 &

الظاهرية ، فلذا يقوى ظهورها في المرضى والسكارى والنائمين والمُرْهَقين وتبقى مندثرة ومغمورة في طوايا النفس عندما تكون القُوى الظاهرية والحواس البشرية في حالة الفعالية والجدّ والسعي .

هذا ، وإنّ المعلوم من حالات الأنبياء عليهم السلام أنّ الوحي الإلهي كان ينزل عليهم في أقصى حالات تنَبُّههم واشتغالهم بالأُمور السياسية والدفاعية والتبليغية ، فكيف يكون ما تجلّى للنبي وهو يخوض غمار الحرب ، تجلياً للشخصية الباطنة ، والضمير المخفي ، أو ما شئت فعبّر ، ممّا لا يرى النور ، إلّا في حالات الغفلة والغيبوبة وما شابه ذلك ، كما يصرّح به هؤلاء ؟ .

وأين الأنبياء من الخمول والإنعزال عن المجتمع ، وهم أولو الجهاد ، والصبر والثبات في مواجهة الأعداء وتبليغ رسالاتهم السماوية ؟ .

فما ذكرناه دليل قاطع على بطلان تفسير الوحي بما ذكروه .

الجهة الثالثة : لا شكّ أنّ الشخصية الباطنة للإنسان لا تملك تلك المعلومات التي تفيضها في حالات تعطّل الحواس ، من ذاتها وصميمها من دون أن تتلقى شيئاً من خارجها . وإن دعوى ذلك ، باطلٌ ، لا قيمة له في سوق العلوم النفسية . فإنّ الذي توصّل إليه علماء النفس قبل « فرويد » وبعده ، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان تُحفظ فيها المعارف التي تردّها عبر القوى والشخصية الظاهرية ، وذلك عندما لا ترغب الشخصية الظاهرية في إبقائها في مجال نشاطها وتفكرها ، فتنسحب تلك الأفكار والمعارف إلى أعماق ضميره وشخصيته الباطنة ، فتكمن في زواياها ، وتختبيء بين طواياها ، مُتَحيِّنة فرصة تعطيل الشخصية الظاهرية ، حتى تنبعث من مكامنها ، وتجري على لسان صاحبها من دون إرادة منه ولا ميل ، كما عرفت في حالات التنويم المغناطيسي ، وكما يقع غالباً في حالات السهو والغفلة ، من تلفُّظ الإنسان بما لا يرغب ، أو يتحاشى إظهاره ممّا أضمره في نفسه ، ولا يُظهره قطعاً عند التفاته وانتباهه . وفي هذا المجال يقول علي عليه السلام : « ما أَضَمَرَ أَحَدٌ شيئاً إلَّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » (١) .

__________________

(١) نهج البلاغة باب قصار الحكم ، الحكمة ٢٦ .

١٤٤
 &

وعلى ما ذكرنا يمتنع أن تكون تلك المعارف العليا ، والشرائع والقوانين الاجتماعية التي جاء بها الأنبياء ، نتاج الشخصية الباطنة ، والضمير المخفي وكيف يكون ذلك ، والمصدر الوحيد للمعارف الموجودة في الضمير المخفي هو الشخصية الظاهرية وما تأخذه الحواس من خارج الذهن والمحيط والبيئة . والمحيط الذي عاش فيه الأنبياء ، وترعرعوا في أحضانه ، في واد آخر من هذه المعارف والشرائع ، لم يسمع ولم يخبر بها .

فلا يبقى بالنتيجة إلّا أن يكون لها مصدر ومنبعٌ آخر ، غير ما يدعون .

إنّ هذه المعلومات التي يعطيها هؤلاء المحلّلون لمسألة الوحي ، قليلة المواد ، ضيقة النطاق عن أن تكون مصدراً لوحي مثل القرآن الكريم . فإنّ ما جاء في هذا الكتاب من الأحكام والمعارف العليا لا يمكن أن تكون مستمدة من الوحي بهذا المعنى .

وأنّى يكون ليتيم فقير ، نشأ بين الأُميين ، ليس عنده كتاب يرشده ، ولا أُستاذ ينبّهه ، ولا عضد إذا عزم يؤيده ، أن يأتي ولو بمعشار ما في هذا الكتاب من السنن والنظم والمعارف والعقائد . فلا يبقى إلّا القول بأنّه فائض من نور الله الأعظم على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وآله ، كما يقول البوصيري :

الله أكبرُ إِنَّ دينَ محمد

وكتابَه أَقوى وأَقْومُ قيلا

لا تذكروا الكُتُبَ السوالفَ عنده

طَلَعَ الصباحُ فاطفَأَ القِنديلا (١)

__________________

(١) في الختام نعاتب الأستاذ فريد وجدي بما أنّه رجل موحّد مؤمن بعوالم الغيب ورسالة السماء إلى الأرض ، التي تلقّاها الأنبياء عن طريق الوحي ، نعاتبه كيف نقل هذه النظرية الساقطة حول الوحي بإسهاب ، وأوضحها ، ولم يعلّق عليها شيئاً ، وكأنّه بها راض ، ولها مُتَبَنٍّ !! . وهذا الذي وقع منه ، ربما يؤيد ما ذكره مصطفى صبري ، شيخ الإسلام في الدولة العثمانية ، من أنّ الأستاذ المذكور كان منكراً لمعجزات الأنبياء ، ومضيفاً إليه عند النقاش إنكار البعث بعد الموت ، وقد نَقَلَ عنه هذه العبارات :

« ولد العلم الحديث ، وما زال يجاهد القوى التي كانت تساوره ، فتغلب عليها ، ودالت الدولة إليه في الأرض ، فنظر نظرة في الأديان وسرى عليها أسلوبه ، فقذف بها جملة في عالم الميتولوجيا ( أي الأساطير ) . ثم بحث في اشتقاق بعضها عن بعض ، واتّصال أساطيرها بعضها ببعض ، فجعل

١٤٥
 &

الثالثة ـ نظرية الفلاسفة المشائين في الوحي

سلك المشائيون من فلاسفة الإسلام ، في تحليل الوحي ، مسلكاً خاصّاً لا يمت إلى ما سبق من التحليلات بصلة ، وتبتني نظريتهم على أُصول لا مجال لذكرها هنا ، وإنّما نأتي بمجمل معتقدهم ونبيّنه في أُمور :

الأول : قد أثبتوا بفضل قاعدة الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد (١) ، إنّ الصادر الأول من الواجب سبحانه شيء واحد وهو العقل الأول ، ثم أفاض الوجود ، فأوجد العقل الثاني ، ثم أوجد الثاني الثالث إلى أنِ انتهى الفيض بإيجاد العقل العاشر ، وهو المسمى عندهم بالعقل الفعّال . وليست العقول عندهم منحصرة على وجه القطع بالعشرة ، بل لم يجدوا دليلاً على أزيد منها (٢) .

__________________

= ذلك مجموعة تقرأ لا لتقدس تقديساً ، ولكن ليعرف الباحثون منها الصور الذهنية التي كان يستعبد لها الإنسان نفسه ، ويقف على صيانتها جهوده ، غير مدّخر في سبيلها روحه وماله .

وقد اتّصل الشرق الإسلامي بالغرب منذ أكثر من مائة سنة ، فأخذ يرتشف من مناهله العلمية ، ويقتبس من مدنيته المادية ، فوقف فيما وقف على هذه « الميتولوجيا » ، ووجد دينه ماثلاً فيها ، فلم ينبث بكلمة ، لأنّه يرى الأمر أكبر من أن يحاوله ، ولكنه استبطن الإلحاد ، متيقناً أنّه مصير إخوانه كافة متى وصلوا إلى درجته العلمية .

وقد نبغ في البلاد الإسلامية كتّاب وشعراء وقفوا على هذه البحوث العلمية ، فسحرتهم ، فأخذوا يهيئون الأذهان لقبولها ، دساً في مقالاتهم وقصائدهم ، غير مصارحين بها غير أمثالهم ، تفاديا من أن يقاطعوا أو ينفوا من الأرض » .

لاحظ موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين ، ج ١ ، ص ٢٤ . وفي الكتاب نصوص من مشاهير أساتذة مصر حول معجزات الأنبياء وخوارق العادات ، وكأنّهم كانوا منكرين لها ، محاولين توجيهها وتأويلها على نحو يلائم روح العصر بزعمهم . ونحن لا نذكر هنا أسماء أولئك الأساتذة الذين اتّهمهم صبري بالشذوذ عن الكتاب والسّنة ، ولكن نوصي طلاب الحقيقة بمطالعة هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة حتى يقفوا على كيفية زعزعة العلم الحديث لأركان الأزهر الشريف ، والضجة الكبيرة التي أوجدها في مفكريه حول الغيب والمعاجز والوحي والملائكة والجن ، وكل ما لا يصل إليه الإنسان بأدوات المعرفة المادية !! .

(١) المراد قاعدة : « لا يصدر من الواحد إلّا الواحد » ، وعكسها : « لا يصدر الواحد ، إلّا من الواحد » . وقد برهنوا عليها ببرهان فلسفي ، لا ينافي صدور ما في الكون جليله ودقيقه من الله سبحانه على نحو ترتب الأسباب والمسببات .

(٢) لأنّ طريق الاستكشاف هو الأفلاك التسعة المحسوسة الكاشفة عن النفوس التسع والعقول العشرة ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محله .

١٤٦
 &

الثاني : إنّ ما يقوم به العقل العاشر من الفعل والإفاضة ، هو تكميل النفوس الإنسانية أوّلاً ، وإفاضة الصور الجوهرية على عالم المادة ثانياً .

فالمخرج للنفوس الإنسانية من القوة إلى الكمال ، ومفيضُ المعارف على قلوب الأولياء ، والصور الحيوانية والشجرية والمعدنية على المادة الأولى ، هو العقل الفعّال ، بإذنه سبحانه .

الثالث : إنّ الإنسان مجهز بالحواس الظاهرية الخمس المعروفة ، كما هو مجهز بحواس باطنية خمس ، هي :

١ ـ الحس المشترك : وهو القوة المدركة لما يرد العقل عبر الحواس الخمس الظاهرية .

٢ ـ الخيال : وهو مخزن الصور المحسوسة المأخوذة من الحسّ المشترك .

٣ ـ الواهمة : وهي القُوّة المدركة للمعاني الجزئية ، كالعداوة والصداقة .

٤ ـ الحافظة : وهي مخزن المعاني الجزئية المرسلة من الواهمة .

٥ ـ العاقلة : وهي القوّة المدركة للمفاهيم الكلية والحقائق المطلقة عن المادة وآثارها ، ولها شؤون أخرى ، كتركيب الأقيسة والأدلة وغير ذلك .

الرابع : إنّ النفوس الضعيفة غير الكاملة ، أسيرة القوى الباطنة في مدارجها المختلفة ، من القوّة العاقلة إلى الحسّ المشترك ، ومنه إليها .

وأمّا النفوس القوية الصافية ، فإنّ بإمكانها الخروج عن هذا الإطار والإتصال بالعقل الفعّال ، إتصالاً روحانياً معنوياً ، وتلقّي الحقائق والمعارف من ذلك الموجود النوراني .

وهكذا ، فإنّ المعارف العليا المفاضة من العقل الفعّال ، تنعكس على القوّة العاقلة ، ثم تفاض منها إلى القوة الخيالية ، ومنها إلى الحسّ المشترك ، وتأخذ كل قوة ما هو المناسب لحالها وذاتها : فالحقائق المفاضة من العقل الفعّال إلى النفوس الكاملة الإنسانية في مرحلة القوة العاقلة ، علومٌ ومعارف . وفي مرتبة القوة الخيالية ، صور وتمثّلات . وفي مرحلة الحسّ المشترك ، كلام فصيح ومنظوم .

١٤٧
 &

فالنبي إذا تمّ استعداده ، وصَفَت نفسه ، يجد في نفسه استعداداً للإتصال بذلك العالم الأعلى ، فتفاض عليه الحقائق والدقائق ، من معارف المبدأ والمعاد ، والكون والحياة ، والإنسان والمجتمع ، كلّها بصورة معارف كليّة .

ولكن هذه المعارف إذا تنزّلت إلى الدرجة التالية ، أعني القوة الخيالية ، تتمثل في خياله ملكاً نورانياً يكلمه ويخاطبه بتلك المعارف والأحكام والسنن .

كما أنّها إذا تنزّلت إلى الدرجة الثالثة ، أعني الحسّ المشترك ، قرع أسماعه صوت وكلام تلتذ به نفسه ، وتحفظه مصوناً عن كل تغيّر وتبدّل .

فليس للوحي حقيقة إلّا انعكاس ما في العقل الفعّال من المعارف والعلوم على عقل النبي ، ثم تنزله منه إلى خياله ، ومنه إلى حسّه . وليس هذا الإتصال والتنزل وتلقّي المعارف الكلية ، وتمثل الملك ومشاهدته ، وسماع الصوت والكلام المنظوم ، أشياء وهمية لا واقعية لها ، بل لكلٍّ منها درجة واقعية أحقّ من الواقعية الظاهرية المادية .

يقول صدر المتألهين : « إنّ سبب إنزال الكلام وتنزيل الكتاب ، هو أنّ الروح الإنسانية إذا تجرّدت عن البدن ، مهاجرةً إلى ربّها لمشاهدة آياته الكبرى ، وتطهّرت عن المعاصي والشهوات والتعلّقات ، لاح لها نور المعرفة والإيمان بالله وملكوته الأعلى . وهذا النور إذا تأكّد وتَجَوْهَر ، كان جوهراً قدسياً يسمى عند الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعّال ، وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي .

وبهذا النور الشديد العقلي ، يتلألأ فيها ( أي الروح الإنسانية ) أسرار ما في الأرض والسماء ، ويتراءى منها حقائق الأشياء ، كما يتراءى بالنور الحسيّ البصري ، الأشباح المثالية في قوّة البصر إذا لم يمنعها حجاب ، والحجاب ها هنا هو آثار الطبيعة وشواغل هذا الأدنى . وذلك لأنّ القلوب والأرواح ـ بحسب أصل فطرتها ـ صالحةٌ لقبول نور الحكمة والإيمان إذا لم يطرء عليها ظلمة تفسدها كالكفر ، أو حجاب يحجبها كالمعصية وما يجري مجراها .

وبعبارة أخرى : إذا أعرضت النفس عن دواعي الطبيعة وظلمات الهوى

١٤٨
 &

والإشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحسّ والخيال وولّت بوجهها شطر الحق ، وتلقاء عالم الملكوت ، اتّصلت بالسعادة القصوى ، فلاح لها سرّ الملكوت وانعكس عليها قدس اللاهوت ، ورأت عجائب آيات الله الكبرى .

ثم إنّ هذه الروح ، إذا كانت قدسية شديدة القوى ، قوية الإنارة لما تحتها ، لقوة اتّصالها بما فوقها ، فلا يشغلها شأن عن شأن ، ولا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها ، فتضبط للطرفين ، وتسع قوتها الجانبين ( الملك والملكوت ) ، لشدّة تمكّنها في الحدّ المشترك بين الملك والملكوت . لا كالأرواح الضعيفة ، التي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر ، وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ، ذهلت عن المشعر الآخر .

فإذا توجهت هذه الروح القدسية التي لا يشغلها شأن عن شأن ، ولا يصرفها نشأة عن نشأة ، وتلقت المعارف الإلهية بلا تعلّم بشري ، بل من الله ، يتعدى تأثيرها إلى قواها ، ويتمثل لروحه البشرى ، صورة ما شاهده بروحه القدسي وتبرز منها إلى ظاهر الكون ، فيتمثل للحواس الظاهرة ، لا سيما السمع والبصر ، لكونهما أشرف الحواس الظاهرة ، فيرى ببصره شخصاً محسوساً في غاية الحُسْن والصباحة ، ويسمع بسمعه كلاماً منظوماً في غاية الجودة والفصاحة ، فالشخص هو الملك النازل بإذن الله ، الحامل للوحي الإلهي ، والكلام هو كلام الله تعالى ، وبيده لوح فيه كتاب .

وهذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه ، ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في خارج الذهن والتخيّل ، كما يقوله من لاحظ له من الباطن ، ولا قَدَم له في أسرار الوحي والكتاب ، كبعض أتباع المشائين ، معاذ الله عن هذه العقيدة الناشئة من الجهل بكيفية الإنزال والتنزيل » (١) .

__________________

(١) الأسفار الأربعة ، ج ٧ ، ص ٢٤ ـ ٢٥

١٤٩
 &

تحليل نظرية الفلاسفة

أُعتُرض على هذه النظرية باعتراضات عديدة ، غير واردة عند من أمعن النظر وتدبّر فيها ، نذكر بعضاً منها :

الإعتراض الأول : إنّ نتيجة هذه النظرية أنّه لا واقعية للملك ولا للصوت في مرتبة الحسّ ، لأنّ القوّة التخيّلية في ذهن النبي هي التي توجد الصوت وصورة الملك في تلك المرتبة ، ثم ينعكس من الخيال إلى مرتبة الحسّ .

الجواب : إنّ ما ذكر من الإعتراض يَرِد على عقيدة بعض المشائيين في الوحي ، كما صرّح به صدر المتألهين نفسه في كلامه المتقدم . وأمّا عند غيرهم ، فللوحي درجات واقعية حسب مراتب وجوده . فله وجود عقلي وخيالي وحسّي ، وليس أيٌّ منها مصنوعَ ذهن النبي ونفسه ، تلك النفس الصافية الصقيلة التي ينعكس فيها كل ما في عالم العقل الفعّال . وما ذكرناه من عبارات صدر المتألهين أوضح شاهد على ذلك .

الإعتراض الثاني : إنّ هذا التصوير للوحي ، مقلوب ما نأنسه من الإدراكات في هذه الحياة ، فإنّ الترتيب الطبيعي للإدراك هو الحسيّ ثم الخيالي فالعقلي . ولكن على هذه النظرية ، ينقلب الأمر ويشرع الإدراك من العقل وينتهي بالحسّ .

الجواب : إنّ ما ذكره المعترض حقّ في الإدراكات المعاديّة ، وأمّا الإدراكات المتجاوزة حدّ العادة ، فهي على عكس المأنوس . والوحي النازل على الأنبياء إدراك خارق للعادة بدليل عظمة المعارف والقوانين التي يأتي بها الوحي إليه .

وغير ذلك من الإعتراضات القابلة للجواب .

والملاحظة الصحيحة على هذه النظرية ، هي أنّ ما ذكروه من أنّ حقيقةً واحدةً تتجلى في نفس النبيِّ بصورٍ ثلاث ، وإن كان غير ممتنع ، إلّا أنّه لا دليل على أنّ الوحي هو خصوص ذاك . إذ ربّ وليّ من الأولياء الذين صفت ضمائرهم ، وطهرت قلوبهم ، نالوا المعارف والحقائق المفاضة من ذاك العالم

١٥٠
 &

بالإشراق ومع ذلك لا يصحّ تفسيره بالوحي المصطلح وإلّا كان كل إنسان يدرك في عقله حقيقة عليا ثم تتجلى في خياله ثم في حسّه ، نبياً أو رسولاً .

وقد بلغ الحواريون درجةً راقيةً من المعرفة والإدراك حتى خاطبهم الباري عزّ وجلّ ، كما يشير إلى ذلك بقوله : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ) (١) . ومع ذلك لم يُسَمِّهِمُ القرآن رسلاً ، ولا أنبياء ، ولا الكلام المنزل عليهم وحياً نبوياً ، رسالياً ، وإنّما كان إلهاماً قوياً .

فحق المقال في الوحي ما ذكرناه في صدر البحث ، من أنّه مجهول الكنه ، معلوم الآثار ، يجب الإيمان به كالإيمان بالغيب على الإطلاق .

*       *      *

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ١١١ .

١٥١
 &

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعق الجزء الثالث

١٥٢
 &

مباحث النبوّة العامة

( البحث الرابع )

سِمات الأنبياء

إنّ أخطر المناصب وأكبرها مسؤولية ، قيادة المجتمع البشري وهدايته إلى السعادة ، فإنّها تتطلب في المتصدي لها مؤهّلات وامتيازات خاصة يتفرد بها عن سائر الناس .

ولتقريب عظمة تلك المؤهلات المطلوبة في هكذا إنسان ، نلاحظ جانباً واحداً من الجوانب الحيوية ، كإدارة الشؤون الإقتصادية ، أو السياسية ، أو العسكرية أو التربوية ، فإنّ القيادة في واحد منها تتطلب درجة عالية من الخبرة والمعرفة والتدبير ، فكيف إذا كانت دائرة القيادة واسعة النطاق ، تدير دفة كافة جوانب الحياة ، كما هي وظيفة رسل السماء لا سيما خاتمهم الذي به سُدَّ باب الوحي والنبوة ؟ فلا بد ، والحال هذه ، أن يتصفوا بفضائل روحية ، ومُثُل خُلُقية ، تُميِّزُهم عن غيرهم من البشر ، وتجعَلُهم في قمَّة الأخلاق والتزكية وحسن السيرة ، ثم في الإدارة والقيادة ، وتجتمع هذه الصفات في الأُمور التالية :

١ ـ العِصْمَة ، ولها مراتب ثلاث :

المرتبة الأُولى ـ المصونية عن الذنب ومخالفة الأوامر المولوية .

المرتبة الثانية ـ المصونية في تلقي الوحي ، ووَعْيه ، وإبلاغه إلى الناس .

المرتبة الثالثة ـ المصونية من الخطأ والإشتباه في تطبيق الشريعة والأمور الفردية والاجتماعية .

١٥٣
 &

٢ ـ التنزّه عن كل ما يوجب نفرة الناس عنه وعُقم التبليغ .

٣ ـ الإطلاع على أُصول الدين وفروعه وكلِّ ما أُلقي إبلاغه على عاتقه .

٤ ـ التحلّي بكفاءة خاصة في القيادة والإدارة مقترنة بحسن التدبير (١) .

وإليك البحث فيما يلي عن هذه السمات الواحدة تلو الأُخرى .

*       *      *

__________________

(١) هذه الصفة تختص بالنبوات التي تقود المجتمع في جميع المجالات ولا تشترط في كل نبي ، إذ رُبَّ نبي لا تتجاوز نبوتُه نفسَه ، ولا تعدو قيادتُه إطاراً خاصاً ، وما أكثر الأنبياء عدداً ، وما أكثر غاياتهم وأهدافهم اختلافاً ، سعة وضيقاً .

١٥٤
 &

العِصْمَة

قد عرفت أنّ للعصمة مراتب ثلاث : العصمة عن المعصية ، والعصمة في تبليغ الرسالة ، والعصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة والأُمور الفردية والإجتماعية .

ونحن نقدم البحث في عصمة الأنبياء عن المعصية ، على عصمتهم في مقام تبليغ الرسالة ، مع أنّ أكثر المتكلمين يقدمون الثاني على الأول باعتبار كونه أمراً متفقاً عليه بين المسلمين إلّا من شذّ . وإنّما خالفنا الترتيب ، لأنّ العصمة عن المعصية تؤول إلى العصمة في مقام العمد ، بينما العصمة في تبليغ الرسالة ترجع إلى العصمة عن السهو والخطأ ، فطبيعة البحث تقتضي ما نقوم به .

*       *      *

١٥٥
 &

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعق الجزء الثالث

١٥٦
 &

المرتبة الأولى للعصمة

العصمة عن الذُنُوب

ويقع البحث في مقامات ثلاثة :

الأول ـ بيان حقيقة العصمة عن المعاصي والذنوب .

الثاني ـ بيان مبدأ ظهور فكرة العصمة .

الثالث ـ بيان الدليل على لزوم اتّصاف الأنبياء بها .

ثم نختم البحث بالإجابة عن سؤالين هامَّين .

*       *      *

المقام الأول ـ حقيقة العصمة عن المعاصي

قال ابن فارس : « عَصَمَ : أصلٌ واحدٌ صحيح يدلّ على إمساكٍ ومنعٍ وملازمةٍ ، والمعنى في ذلك كلِّه واحدٌ . من ذلك « العصمة » : أنْ يعصم الله عبدَه من سوءٍ يقع فيه . واعتصم العبد بالله تعالى : إذا تَمَنَّعَ . واستعصم : التجأ ، وتقول العرب : أَعصَمْت فلاناً ، أي هيّأَتُ له شيئاً يعتصم بما نالته يده ، أي يلتجيء ويتمسك به » (١) .

__________________

(١) المقاييس ، ج ٤ ، ص ٣٣١ .

١٥٧
 &

هذا في اصطلاح أهل اللُّغة .

وفي اصطلاح المتكلِّمين : « العصمة قوة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية ، والوقوع في الخطأ » (١) .

وربما تُعَرّف أيضاً بأنّها : « لطف يفعله الله في المكلف بحيث لا يكون له مع ذلك داعٍ إلى ترك الطاعة ، ولا إلى فعل المعصية ، مع قدرته على ذلك » (٢) .

ومن العجب تفسير الأشاعرة العصمة بأنّها عبارة عن أنّه سبحانه لا يخلق في المعصومين ذنباً (٣) . فإنّه تعريف واهٍ سخيف على الأُصول التي سلكناها من أنّ فاعل الذنب وموجده هو العبد مباشرة ، بقوة منه سبحانه . نعم هو صحيح على أصولهم القائمة على إنكار السببية والعلّية بين الأشياء .

وفيما ذكرناه من التعاريف كفاية في المقام ، وإنّما المهم بيان حقيقة العصمة بنحو يرفع الغموض عنها ، وهو يحصل ببيان الوجوه التالية :

الوجه الأول : العصمة غصن من دوحة التقوى

إنّ التقوى في العاديين من الناس ، كيفية نفسانية تعصم صاحبها عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي ، ولأجل ذلك نرى البون الشاسع بينهم وبين المجرمين ، المليئة حياتهم بالجرائم وقبائح الأعمال ، بينما حياة المتقين خلو منها إلّا ما شذّ .

فإذا كان هذا أثر التقوى العمومية ، فما بالك بالتقوى ، إذا ترقت في مدارجها وعَلَت في مراتبها ، إنّها حينذاك تبلغ بصاحبها درجة العصمة الكاملة ، والإمتناع المطلق عن ارتكاب أي قبيح من الأعمال ، أو ذميم من الأفعال ، بل يمتنع معها حتى عن التفكير في خلاف أو معصية .

__________________

(١) الميزان ، ج ٨ ، ص ١٤٢ .

(٢) إرشاد الطالبيين إلى نهج المسترشدين ، ص ٣١٠ .

(٣) إبطال نهج الباطل ، للفضل بن روزبهان ، على ما في ذيل دلائل الصدق ، ج ١ ، ص ٣٧٠ .

١٥٨
 &

وعلى هذا ، فالعصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس ، لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية مثل الشجاعة والعفة والسخاء : فإنّ الإنسان إذا كان شجاعاً وصبوراً ، سخياً وباذلاً ، عفيفاً ونزيهاً ، تراه يتطلب في حياته معالي الأمور ، ويتجنب سفاسفها ، فيطرد عن نفسه الخوف والجُبْنَ والبُخْلَ والإمساكَ ، والقبائح والمساويء ، ولا ترى لها أثراً في حياته .

وهكذا نقول في العصمة ، فإنّ الإنسان إذا بلغ درجة قصوى من التقوى ، يصل إلى حدّ من الطهارة لا يُرى معه في حياته أثر من آثار المعصية والتمرّد على أوامر الله تعالى . وأما كيف تحصل فيه هذه الكيفية النفسانية ، فهو ما نبحثه في الوجه الثاني .

وعلى ما ذكرنا ، تنقسم العصمة إلى عصمة مطلقة وعصمة نسبية ، والأُولى تختص بطبقة خاصة من الناس ، والثانية تعمّ كثيراً منهم . فكم من الناس يتورعون عن السرقة والقتل ونحو ذينك ، وإن عُرضت عليهم المكافاۤت المادية الكبيرة ، وما ذلك إلّا لانتفاء الحوافز إلى هذه الأفاعيل ، في قرارة أنفسهم ، إمّا نتيجة للتقوى أو غيرها من العوامل . وتصديق العصمة النسبية الملموسة لنا ، يُقَرِّب تصوُّرَ العصمة المطلقة إلى الأذهان ، والتي هي كون الإنسان في مرتبة شديدة من التقوى تمنعه عن اقتراف جميع أنواع القبائح ، طُرّاً .

الوجه الثاني : العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

إنّ العلم القطعي بعواقب الأعمال الخطيرة ، يخلق في نفس الإنسان وازعاً قوياً يصدُّه عن ارتكابها ، وأمثاله في الحياة كثيرة . فلو وقف أحدنا على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها أن تقتل من يمسّها عارية من دون عائق ، فإنّه يحجم من تلقاء نفسه عن مسّ تلك الأسلاك والإقتراب منها . ونظير ذلك ، الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم ، فإنّه إذا صادف ماءً اغتسل فيه مصاب بالجُذام أو البَرَص ، أو إناءً شرب منه مصابٌ بالسِّلِّ ، لا يقدم على الإغتسال فيه أو شربه ، مهما اشتدت حاجته إليه ، لعلمه بما يَجُرّ عليه الشرب والإغتسال بذاك الماء الموبوء ، من الأمراض ، وقس على ذلك سائر العواقب

١٥٩
 &

الخطيرة ، وإن كانت من قبيل السقوط في أعين الناس ، وفقدان الكرامة وإراقة ماء الوجه بحيث لا ترغد الحياة معه .

فإذا كان العلم القطعي بالعواقب الدنيوية لبعض الأفعال يوجد تلك المصونية عن الإرتكاب ، في نفس العالم ، فكيف بالعلم القطعي بالعواقبِ والأُخرويةِ للمعاصي ورذائلِ الأفعال ، علماً لا يداخله ريبٌ ولا يعتريه شكٌ ، علماً تسقط دونه الحُجُب فيرى صاحبُه رَأْيَ العينِ ، ويَلْمِسُ لَمْسَ الحِسِّ ، تَبِعاتِ المعاصي ولوازِمَها وآثارَها في النشأة الأخرى . ذاك العلم الذي قال تعالى فيه : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) (١) ، فمِثْلُ هذا العِلم يخلُق من صاحبه إنساناً مثالياً ، لا يخالف قول ربّه قيد أنملة ، ولا يتعدى الحدود التي رسمها له في حياته قدر شعرة ، ولن تنتفي المعصية من حياته فحسب ، بل إنّ مجرّد التفكير فيها ، لن يجد سبيله إليه . وكأنَّ الإمامَ علياً يصف هؤلاء في قوله : « هم والجنّة كمن قد رآها ، فهم فيها مُنعمون » (٢) .

إنّ الإنسان إذا وصل إلى المقام الذي يرى فيه بالعيون البرزخية تبدُّلَ الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة ، إلى جمرات ملتهبة تُكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ، يمتنع ـ شهد الله ـ عن كنزها . يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ، هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) (٣) .

إنّ قوله سبحانه : ( هذا ما كُنْتُم ) ، يعرب عن أَنَّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ليست شيئاً غير الذهب والفضة ، وإنّما هي تلك البيضاء والصفراء التي تتجلى بوجودها الأُخروي في تلك النشأة ، فإنّ لها صورتان ، صورةٌ دنيوية معروفة ، وصورةٌ أُخروية هي النيران المحماة .

__________________

(١) سورة التكاثر : الآيتان ٥ و ٦ .

(٢) نهج البلاغة ، خطبة المتقين ، الخطبة ١٩٣ .

(٣) سورة التوبة : الآيتان ٣٤ و ٣٥ .

١٦٠