الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-386-7
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٦١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ـ أبو سفيان : ما تبعه رجل ففارقه .

* قيصر : أخبرني كيف الحرب بينكم وبينه ؟ .

ـ أبو سفيان : سجال ، يدال علينا وندال عليه .

* قيصر : أخبرني هل يغدر ؟ .

ـ أبو سفيان : ( لم أجد شيئاً ممّا سألني عنه أغمزه فيه غيرها فقلت ) : لا ، ونحن منه في هدنة . ولا نأمن غدره . ( وأضاف أبو سفيان بأن قيصر ما التفت إلى الجملة الأخيرة منه ) .

ثم إنّ قيصر أبان وجه السؤال عن الأمور السابقة وأنّه كيف استنتج من الأجوبة التي سمعها من أبي سفيان أنّه نبي صادق ، بقوله :

« سألتك كيف نسبه فيكم ، فزعمت أنّه محض من أوسطكم نسباً ، وكذلك يأخذ الله النبي إذا أخذه ، لا يأخذه إلّا من أوسط قومه نسباً .

وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله ، فهو يتشبه به ، فزعمت أن لا .

وسألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه ، فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه ، فزعمت أن لا .

وسألتك عن أتباعه فزعمت أنّهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء ، وكذلك اتباع الأنبياء في كل زمان .

وسألتك عمّن يتبعه ، أيحبّه ويلزمه ، أم يقليه ويفارقه . فزعمت أنْ لا يتبعه أحد فيفارقه ، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه .

وسألتك هل يغدر ، فزعمت أن لا . فلئن صدقتني عنه ليغلّبني على ما تحت قدمي هاتين ، ولوددت أنّي عنده فأغسل قدميه . إنطلق لشأنك » .

قال أبو سفيان : فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يديّ بالأخرى وأقول : إي عباد الله ، لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة . أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في

١٢١
 &

سلطانهم بالشام (١) .

ومن المأسوف عليه أنّ هذا الطريق الذي سلكه قيصر ، ووجده وسيلة كافية لكشف الحقيقة بذكائه ، قد ترك بين المسلمين قرون عديدة .

وسلوك هذا الطريق ، وجمع القرائن والشواهد الدالّة على صدق دعوى المدّعي ، أكثر ملائمة لروح أبناء هذا العصر من التركيز على المعاجز المدوّنة في كتب الحديث ، التي مضت عليها قرون . نعم ، المعاجز أشدّ تأثيراً ، وأسرع في جلب القلوب لمن شاهدها بأُم عينيه . ولأجل ذلك كان عامة الأنبياء مجهزين بها بالنسبة إلى أبناء زمانهم .

وممن طرق هذا الباب في القرن الثالث عشر أحد مشايخ الشيعة في مدينة إسطنبول ، فقد ألف كتابه « ميزان الموازين » ، وأوعز إلى هذا الطريق عند البحث عن نبوّة خاتم الأنبياء (٢) . وبعده الكاتب السيد محمد رشيد رضا ، مؤلّف المنار ، في كتابه « الوحي المحمدي » ، فقد بلغ الغاية في جمع الشواهد والقرائن . وسنسلك نحن هذا الطريق عند البحث في النبوّة الخاصة .

وفي الختام نركّز على نكتة ، وهي أنّ الإعتماد على الطريقين الأخيرين ، لا يعني الإكتفاء بهما ورفض ما ثبت بالتواتر من المعجزات والبيّنات ، بل لكل موقعه الخاص يعرفه الكاتب القدير ، والخطيب البارع ، ويستفيد من كلٍّ حسب ما يناسبه الحال .

*       *      *

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٢٩٠ ـ ٢٩١ . حوادث السنة السادسة للهجرة .

(٢) طبع الكتاب عام ١٢٨٨ .

١٢٢
 &

مباحث النبوّة العامة

( البحث الثالث )

الوحي وأقسامه

إنّ تحديد حقيقة الوحي ، وتبيين ماهيته والفرق بينه وبين سائر الإدراكات البشرية ، من المواضيع الحساسة في أبحاث النبوة العامة التي لم يستوف حقها في الكتب الكلامية ، فأُهمل في الكثير منها ، وبحث في الأخرى على وجه الإجمال . هذا مع أنّه أساس النبوات والتكاليف والشرائع ، لأنّ الأنبياء يتلقون التعاليم السماوية من هذا الطريق ، ولولاه لانقطعت أخبار السماء (١) ، وصلة الأنبياء بالله سبحانه .

ولكن لأجل اختصاص الوحي بالأنبياء ، وحرمان غيرهم من الناس منه ، يصعب تحديده وبيان كيفيته ، ويُعَدُّ كشف الستر عن حقيقته ، تطلّعا إلى شيء ليس في اختيار الباحث ، ومع ذلك كلّه ، فإلقاء الضوء عليه بوجه إجمالي ، ممكنٌ ببيان الأُمور التالية :

الأمر الأول ـ الوحي في اللغة

قال ابن فارس في المقاييس : « الوحي أصلٌ يدلّ على إلقاء علمٍ في إخفاء

__________________

(١) هذا اقتباس من قول الإمام علي عليه السلام وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وتجهيزه : « بأبي أنت وأُمي يا رسول الله ، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك ، من النبوة والإنباء وأخبار السماء ( نهج البلاغة ، الخطبة ٢٣٥ ) .

١٢٣
 &

( أو غيره ) (١) ، إلى غيرك . فالوحي : الإشارة ، والوحي : الكتابة والرسالة وكل ما القيته إلى غيرك حتى عَلِمَهُ ، فهو وحي كيف كان » . . . إلى أن قال : « والوحي : السريع . والوَحَى : الصوت » (٢) .

وقال الراغب : « أصل الوحي الإشارة السريعة ، وَلِتَضَمُّنِ السُرعةِ قيل « أمر وَحْي » . وقد يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض ، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح ، وبالكتابة ، وقد حُمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا : ( فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) (٣) » (٤)

وقال ابن منظور : « الوحي : الإشارة ، والكتابة ، والرسالة ، والإلهام ، والكلام الخفي ، وكل ما ألقيته إلى غيرك . ويقال : وحيت إليه الكلام ، وأوحيت ، ووحى وَحْياً ، وأوحى أيضاً ، أي كتب » (٥) .

والمستنبط من هذه النصوص وغيرها ممّا أورده أهل اللغة في معاجمهم ، أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء ، بطريق من الطرق (٦) .

الأمر الثاني ـ الوحي في القرآن الكريم

جاء استعمال « الوحي » في القرآن الكريم في موارد متعددة ، ومختلفة ، يجمعها المعنى اللغوي الكلي وهو الإعلام بخفاء ، وهذا المعنى الجامع موجود في بعضها حقيقة ، وفي البعض الآخر مجازاً وادعاءً ، كما لو كان الموحى إليه جماداً أو حيواناً لا يعقل . ويظهر ذلك بالتدبر في الموارد التالية :

__________________

(١) كذا في نسخة الأصل ، والظاهر زيادته ويحتمل أن يكون عطفاً على العلم .

(٢) معجم مقاييس اللغة ، ج ٦ ص ٩٣ . الطبعة الأُولى ـ القاهرة ـ ١٣٧١ .

(٣) سورة مريم : الآية ١١ .

(٤) المفردات : ص ٥١٥ .

(٥) لسان العرب : ج ١٥ ، ص ٣٧٩ .

(٦) لاحظ تصحيح الإعتقاد للشيخ المفيد ، ص ٥٦ .

١٢٤
 &

١ ـ تقدير الخلقة بالسنن والقوانين

قال سبحانه : ( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ، فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ، وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ، ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) (١) .

القضاء : فَصْلُ الأمر . وضمير : « هُنّ » ، يرجع إلى السماء . وبما أنّ السماء كانت دُخاناً ، كان أمرها مبهماً غير مشخص من حيث الغاية والفعلية . ففصّل تعالى أمرها ، فجعلها سبع سماوات في يومين ، وأَخرجها بذلك عن الإبهام .

وأمّا قوله : ( وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ، فالمراد أنّه سبحانه أودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية ، وقدّر عليها دوامها .

فإذا كان إيجاد السنن والنُّظُم في بواطن السموات ومكامنها ، على وجه لا يقف عليه إلّا المتدبر في عالم الخلقة ، أشبه ذلك الإلقاءَ والإعلامَ بخفاء بنحو لا يقف عليه إلّا الملقى إليه ، وهو الوحي . فكان هذا كافياً في استعارة لفظ الوحي إلى مثل هذا التقدير والتكوين للسُنن ، فقال : ( وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) .

ومن هذا القسم ، قوله تعالى : ( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) (٢) .

٢ ـ الإدراك بالغريزة

قال سبحانه : ( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ، وَمِنَ الشَّجَرِ ، وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ، فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ

__________________

(١) سورة فُصّلت : الآيتان ١١ و ١٢ .

(٢) سورة الزلزلة : الآيات ١ ـ ٥ .

١٢٥
 &

ذُلُلًا . . . ) (١) .

فكُلُّ الأعمال العجيبة والمدهشة التي يقوم بها النحل ، في صنع بيوته بتلك الأشكال الهندسية المتقنة ، وإدارتها وتدبيرها وحراستها ، ثم الحركة الدؤوبة في التنقل بين البساتين والحقول ، ومصِّ رحيق الأزهار ، وتحويلها إلى عسل ، ثم إيداعها في صفائح الشهد ، وغير ذلك ، فإنّما يقوم به عن غريزة إلهية مودعة في مكامن خلقته ، وصميم وجوده ، لا يتوانى معها عن عمله ولا يختار معه عملاً آخر .

وحيث إنّ هذا الإيداع للغرائز في مكامن الخلقة أشبه بالإلقاء الخفي ، وتلقّي النحل له بلا شعور وإدراك ، أطلق عليه سبحانه الوحي فقال : ( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) .

٣ ـ الإلهام والإلقاء في القلب

قال سبحانه : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٢) .

وحيث إنّ تفهيمَ أُمِّ موسى مصيرَ ولدها كانَ بإلهام وإعلام خَفي ، عبّر عنه بالوحي .

ومثله قوله تعالى : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي . . . ) (٣) .

وأيضاً ، قوله تعالى في شأن يوسف عليه السلام : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) (٤) .

__________________

(١) سورة النحل : الآيتان ٦٨ و ٦٩ .

(٢) سورة القصص : الآية ٧ .

(٣) سورة المائدة : الآية ١١١ .

(٤) سورة يوسف : الآية ١٥ .

١٢٦
 &

وأيضاً قوله تعالى : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا . . . ) (١) .

٤ ـ الإشارة

قال سبحانه حكاية عن زكريا : ( قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ، قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) (٢) .

والمعنى : أشار إليهم من دون أن يتكلم ، لأَمْرِهِ سبحانه إِيّاه أن لا يكلّم الناس ثلاث ليالٍ سوياً ، فأشبه فعلُه ، إلقاء الكلام بخفاء ، لِكَوْن الإشارة أمراً مُبْهماً .

٥ ـ الإلقاءات الشيطانية

قال سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) (٣) .

وقال تعالى : ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ . . ) (٤) .

ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرناه فيما سبقه .

٦ ـ كلام الله تعالى المُنْزَل على نبي من أنبيائه

قال سبحانه : ( كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّـهُ الْعَزِيزُ

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ١٢ .

(٢) سورة مريم : الآيتان ١٠ و ١١ .

(٣) سورة الأنعام : الآية ١١٢ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ١٢١ .

١٢٧
 &

الْحَكِيمُ ) (١) .

وقد غلب استعمال الوحي في هذا القسم ، فكلما أُطلق الوحي وجُرِّد عن القرينة يراد منه ما يُلقى إلى الأنبياء من قِبَل الله تعالى .

الأمر الثالث ـ حقيقة الوحي في النُبوّة

إنّ الإدراكات العادية التي يحصّلها الإنسان عن طريق الحسّ أو عن طريق التفكر والإستدلال ، هي نتاج أدوات المعرفة الحسيّة والعقلية ، فإدراك المبصرات والمسموعات وغيرها ، رَهْنُ إعمال الحواس . كما أنّ الوقوف على الأُصول الفلسفية والعلمية ، نتاج إعمال الفكر والعقل ، فإنّ قولنا : « كلُّ ممكن ، فهو زوج تركيبي له ماهية ووجود » ، أو : « إنّ كلَّ معلولٍ يحتاج إلى علة » ، لم نقف عليه إلّا بالرياضات الفكرية ، وهكذا الحال في القوانين العلمية .

كما أنّ هناك إدراكات تنبع من صميم الذات ويطلق عليها الوجدانيات ، أو الفطريات . كإدراك حسن الأشياء وقبحها ، وإدراك الإنسان جوعه وعطشه ، فإنّ الجميع من ومضات الفطرة والغريزة ، ونظير ذلك ما يبدعه الذوق من الفنون والآداب والرسوم والأعمال اليدويَّة الظريفة ، فإنّها كلّها من وحي الذوق والغريزة إذا وقعت في إطار التربية والتوجيه .

وبالجملة ، فإنّ كلَّ ما يدركه الإنسان ، نتاجُ أدوات المعرفة بأشكالها المختلفة ، حسيّة كانت أو عقلية أو وُجدانية .

وأمّا الوحي الذي يختص به الأنبياء ، فإنّه إدراك خاص متميز عن سائر الإدراكات ، فإنّه ليس نتاج الحسّ ولا العقل ولا الغريزة ، وإنّما هو شعور خاص ، لا نعرف حقيقته ، يوجده الله سبحانه في الأنبياء . وهو شعور يغاير الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامة ، لا يغلط معه النبي في إدراكه ، ولا يشتبه ، ولا يختلجه شك ولا يعترضه ريب في أنّ الذي يوحي إليه هو الله

__________________

(١) سورة الشورى : الآية ٣ .

١٢٨
 &

سبحانه ، من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر ، أو التماس دليل ، أو إقامة حجة ، ولو افتقر إلى شيء من ذلك ، لكان اكتساباً عن طريق القوة النظرية ، لا تلقياً من الغيب ، من غير توسيط القوة الفكرية .

قال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ ) (١) .

فهذه الآية تشير إلى أنّ الذي يتلقى الوحي من الروح الأمين هو نفس النبي الشريفة ( قلبك ) ، من غير مشاركة الحواس الظاهرة ، التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية . فالنبي يرى ويسمع حينما يُوحى إليه ، من غير أن يستعمل حاسَّتَيِ البصر والسمع .

قال سبحانه : ( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ . قُلْ : مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ، إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل : لَّوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (٢) .

فالأنبياء كلّهم يُسندون تعاليمهم وتنبؤاتهم إلى هذا النوع من الإدراك ، الذي لا مصدر له إلّا عالم الغيب ، وخالق الكون ، ومثل هذا لا يمكن أن يُدْرَكَ كُنْهُه ، بل يجب الإيمان به كما هو شأن كلِّ أمرٍ غيبي لا يحيط الإنسان المادي بحقيقته ، وإنّما يذعن به عن طريق المُخْبِر الصادق . قال سبحانه : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ) (٣) .

وعلى هذا ، فالوحي حصيلة الإتصال بعالم الغيب ، ولا يصحّ تحليله بأدوات المعرفة ولا بالأُصول التي تَجَهَّزَ بها العلمُ الحديث . ولما كان العالِمُ الماديُّ غيَر مذعنٍ بعالَم الغيب ، ويرى أنّ الوجود مساوقٌ للمادة والطاقة ، فيشكل عليه الإذعان بهذا الإدراك الذي لا صلة له بعالم المادة وأُصوله .

__________________

(١) سورة الشعراء : الآية ١٩٣ و ١٩٤ .

(٢) سورة يونس : الآيتان ١٥ و ١٦ .

(٣) سورة البقرة : الآية ٣ .

١٢٩
 &

قال الشيخ محمد عبده ، معرضاً بأولئك المنكرين للوحي :

« إنّ انكشاف ما غاب من مصالح البشر عن عامتهم ، لمن يختصه الله بذلك ، لا أراه مما يصعب إدراكه ، إلّا على من يريد أن لا يدرك ، ويحبّ أن يرغم نفسه الفهّامة على أن لا تفهم . نعم ، يوجد في كلّ أُمة وفي كل زمان أُناس يقذف بهم الطيش ، والنقص في العِلْم ، إلى ما وراء سواحل اليقين ، فيسقطون في غمرات من الشك في كل ما لم يقع تحت حواسهم الخَمْس ، بل يدركهم الريب فيما هو من متناولها ، فكأنّهم بسقطتهم هذه انحطوا إلى ما هو أدنى من مراتب أنواع أخرى من الحيوان ، فينسون النقل وشؤونه ، ويجدون في ذلك لذّة الإطلاق عن قيود الأوامر والنواهي . فإذا عرض عليهم شيء من الكلام في النبوات والأديان ، وهم من أنفسهم هامّ بالإصغاء ، دافعوه بما أُوتوا من الإختيار في النظر ، وانصرفوا عنه ، وجعلوا أصابعهم في آذانهم ، حذر أن يخالط الدليل أذهانهم ، فيلزمهم العقيدة ، وتتبعها الشريعة ، فيحرموا لذّة ما ذاقوا ، أو ما يحبون أن يتذوقوا ، وهو مرض في الأنفس والقلوب يستشفى منه بالعلم إنشاء الله » .

ثم أضاف : « قلت : أي استحالة في الوحي ، وأن ينكشف لفلان ما لا ينكشف لغيره ، من غير فكر ولا ترتيب مقدمات ، مع العلم أنّ ذلك من قبل واهب الفكر ومانح النظر ، حتى حَفَّت العنايةُ من ميَّزَتْهُ هذه النعمة .

فما شهدت به البديهة ، أن درجات العقول متفاوتة ، يعلو بعضها بعضاً ، وأنّ الأدنى منها لا يدرك ما عليه الأعلى إلّا على وجه من الإجمال ، وأنّ ذلك ليس لتفاوت المراتب في التعليم ، بل لا بدّ معه من التفاوت في الفطر التي لا تدخل فيها ، لاختيار الإنسان وكسبه .

فمِنْ ضَعْف العقول ، والنكول عن النتيجة اللازمة لمقدماتها عند الوصول إليها ، أن لا يسلم بأنّ من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأُفق الأعلى وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا ، وتشهد من أمر الله شهود العيان ، ما لم يصل غيرها إلى تعقّله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان ، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحاً

١٣٠
 &

على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعليم . ثمّ تصدر عن ذلك العلم إلى تعليم ما علمت ، ودعوة الناس إلى ما حُملت على إبلاغه إليهم ، وأن يكون ذلك سنّة الله في كلّ أُمّة وفي كل زمان حسب الحاجة ، يظهر برحمته من يختصه بعنايته ، ليفي للإجتماع بما يضطرّ إليه من مصلحته ، إلى أن يبلغ النوع الإنساني أشُدّه وتكون الأعلام التي نصبها لهدايته إلى سعادته ، كافية في إرشاده ، فتختم الرسالة ، ويغلق باب النبوة » (١) .

ثم إنّ هؤلاء الذين اتّخذوا لأنفسهم موقفاً مسبقاً في سعة الوجود وضيقه ، وسعة أدوات المعرفة وضيقها ، فعجزوا عن إدراك الوحي كنوع متميز عن الإدراكات البشرية ، حاولوا تحليله بأُصول مادية حتى يسهل عليهم تصديق الأنبياء وعدم اتّهامهم بتعمد الكذب . فمالوا يميناً وشمالاً في بيان حقيقته : فتارة يرون الوحي نوعاً من النبوغ الخاص بالأنبياء ، وأخرى نتيجة ظهور الشخصية الباطنية للرسول ، فتلهمه بما ينفعه وينفع قومه . ونحن فيما يلي نتعرض إلى هاتين النظريتين ونحللهما الواحدة بعد الأخرى ، ثم نعرّج على بيان نظرية الفلاسفة في حقيقة الوحي :

النظرية الأولى ـ الوحي نتيجة النّبوغ

إنّ هناك أُناساً يفسرون النبوات والرسالات ونزول الوحي على العباد الصالحين بنحو يجمع بين تصديق الأنبياء من جانب ، والأُصول العلمية الحديثة المادية من جانب آخر . ومن هذا الباب تفسير بعضهم النبوة بالنبوغ ، والوحي ـ الذي هو المصدر الوحيد للتسنين والتشريع ـ بلمعات ذاك النبوغ .

وحاصل مذهبهم أنّه يتميز بين أفراد الإنسان المتحضر ، أشخاص يملكون فطرة سليمة ، وعقولاً مشرقة ، تهديهم إلى ما فيه صلاح الإجتماع وسعادة الإنسان ، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع ، وعمران الدنيا . والإنسان

__________________

(١) رسالة التوحيد . ص ١٠٩ ـ ١١١ .

١٣١
 &

الصالح الذي يتميز بهذا النوع من النبوغ ، هو النبي . والفكر الصالح المترشح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي . والقوانين التي يسنّها لصلاح الاجتماع هي الدين . والروح الأمين ( جبرائيل ) ، هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه الأفكار إلى مراكز إدراكه . والكتاب السماوي ، هو كتابه الذي يتضمن سننه وقوانينه . والملائكة التي تؤيّده في حلّه وترحاله ، هي القوى الطبيعية . والشيطان الذي يقاومه ويقاوم أتباعه هو النفس الأمّارة بالسّوء ، أو سائر القوى الحيوانية الداعية إلى الشرّ والفساد . ومع ذلك كلّه ، فالله سبحانه من وراء الجميع .

تحليل نظرية النُبوغ

إنّ تفسير النبوة بالنبوغ ليس تفسيراً جديداً ، وإن صيغ في قالب علمي جديد ، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر ظهور الإسلام حيث كان العرب الجاهليون يحسّون بجذبات القرآن وبلاغته الخلابة ، فينسبونه إلى الشعر الذي كان الحرفة الرائجة عندهم ، ويتبارز فيه النوابغ منهم ، فكانوا يقولون : ( بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ) (١) .

ويرد عليهم القرآن الكريم بقوله : ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ) (٢) .

وبقوله : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) (٣) .

ومع ذلك يلاحظ عليه :

أولاً : إنّ العودة إلى هذه النظرية ينبع من الإحساس بالصَّغار أمام الحضارة المادية المُدهشة ، المقترنة بأنواع الإكتشافات والإختراعات في مجال

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآية ٥ .

(٢) سورة الحاقة : الآية ٤١ .

(٣) سورة يس : الآية ٦٩ .

١٣٢
 &

الطبيعة ، والقائلون بها جماعة من متجددي المسلمين ، انسحبوا أمام هذه الحضارة ناسين شخصيتهم الإسلامية ، فلجأوا إلى تفسير عالم الغيب والنبوة والدين والوحي بتفسيرات ملائمة للأُصول المادية ، حتى يَجْبُروا مركّب النقص في أنفسهم من هذه الزاوية ، ويصيحوا على رؤوس الأشهاد بأنّ أُصول الدين لا تخالف الأُصول العلمية الحديثة .

ولو صحّت هذه النظرية ، لم يَبْقَ من الإعتقاد بالغيب إلّا شيء واحد ، وهو الإعتقاد بوجود الخالق الباريء ، وأمّا ما سوى ذلك ، فكلُّه بأجمعه نتاج الفكر الإنساني الخاطيء وبالنتيجة ، لا يبقى إذعان بشيء مما أتى به الأنبياء من الأصول والمعارف في الدنيا والآخرة . وهذا في الواقع نوع إنكار للدين ، لكن بصورة لا تخدش العواطف الدينية .

وثانياً : إنّ قسماً مما يقع به الوحي ويخبر به النبي ، الإنباء عن الحوادث المستقبلية ، إنباءً لا يخطيء تحققه أبداً .

أفترى هل يجرؤ نابغة من نوابغ المجتمع على الإنباء بنزول العذاب قطعاً بعد أيام ثلاثة ، ويقول : ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (١) .

أو يخبر بهزيمة جيوش دولة عظمى في مدة لا تزيد على تسع سنين ويقول : (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ . . . ) (٢) .

إنّ النوابغ وإن سَمَوْا في الذكاء والفطنة ، لا يخبرون عن الحوادث المستقبلية إلّا مع الإحتياط والترديد ، لا بالقطع واليقين وأمّا رجالات السياسة ، اللاعبين بحبلها لمصالحهم الشخصية ، سواء صدقت تنبؤاتُهم أم كذبت ، فإنّ حسابَهم غيُر حساب النوابغ .

__________________

(١) سورة هود : الآية ٦٥ .

(٢) سورة الروم : الآيات ١ ـ ٤ . والبِضْع من العدد من ثلاثة إلى تسعة .

١٣٣
 &

وثالثاً : لو كان لهذه النظرية مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ، فما لنا لا نرى حملة الوحي ومدعي النبوة ينبثون بشيء من ذلك ، بل نراهم على العكس ، ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى الله سبحانه ، ولا يدّعون لأنفسهم شيئاً .

هذا هو القرآن الكريم ـ الذي جاء به النبي الخاتم ـ يصرّح بأنّ ما حوى من الحقائق والقوانين ، ممّا أوحى به الله سبحانه ، وليس هو من تلقاء نفسه :

( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ) (١)

( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٢) .

ولا يشك أحد في أنّ الأنبياء عبادٌ صالحون ، صادقون لا يكذبون ولا يفترون ، فلو كانت السنن التي أتوا بها من وحي أفكارهم ، فلماذا يغرون المجتمع بنسبتها إلى الله تعالى . فهذه النسبة ، إن دلّت على شيء ، فإنّما تدلّ على أنّهم كانوا يجدون في أنفسهم أنّ إدراكَ هذه السنن والمعارف ، إداركٌ وراءَ الشعور الفكري المشترك بين جميع أفراد الإنسان ، وأنّ الطريق الذي يصلون به إليها ، غيرُ طرق الإدراك المألوفة

وبكلمة جامعة ، إنّا نرى في المجتمع الإنساني طائفتين من رجال الإصلاح والصلاح ، كلٌّ يدّعي سَوْقَ المجتمع إلى السعادة :

طائفة ـ ولهم جذور عريقة في التاريخ ـ ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى عالم الغيب ، ويثبتون لأنفسهم مقام الرسالة والسفارة وأنّهم ليس لهم شأن سوى كونهم وسائط لإبلاغ أمر الله ونهيه .

وطائفة أخرى ـ مع اتّصافهم بالصلاح والسداد والسعي وراء الصالح العام ـ ينسبون تعاليمهم إلى قرائحهم وبدائع أفكارهم ، ويعلّلون مبادءهم ببراهين اجتماعية أو تاريخيّة أو عقلية ، ولا يتجاوزون هذا الحدّ قدر شعرة .

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٥٠ .

(٢) سورة النجم : الآية ٤ .

١٣٤
 &

فلو كانت الطائفتان صادرتين عن أصل واحد ، وتستقيان من عين واحدة ، فلماذا لم تَدّع ثانيتهما ما ادعته الأولى ؟ .

ثم إنّ علماء النفس الذين بحثوا عن النبوغ ، ذكروا لبُروزه وتفجّره في الإنسان عواملَ ، هي :

١ ـ العشق .

٢ ـ انهضام الحُقوق .

٣ ـ العزلة .

٤ ـ كثرة السكوت .

٥ ـ التربية والتوجيه الأوّلي الذي يتلقّاه الإنسان في صغره .

فإنّ هذه العوامل توجد في الإنسان استغراقاً في نفسه ، وتوقّداً في أفكاره ، وتَمَيُّزاً في فطنته وذكائه . ولكن تفسير النبوات والرسالات ، والقوانين والشرائع التي جاء بها الأنبياء بهذا الطريق ، أشبه بتفسير علّة تفجر البركان وثورانه ، بسقوط طائر على فوهته .

هذا ، ولو كانت شريعة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله ، والكتاب المجيد الذي جاء به ، وليديْ النبوغ والعبقرية ، فلماذا عجز عن مقابلته ومقارعته ، النوابغ والعباقرة طرّاً في جميع القرون إلى عصرنا هذا ، كما سيوافيك تفصيله في النبوة الخاصة ؟ .

*       *      *

النظرية الثانية ـ الوحي النفسي

إنّ تفسير الوحي بصورة الوحي النفسي ، منشؤه قساوسة المسيحيين الذين لا هدف لهم إلّا تفنيد رسالة النبي الخاتم ، وتخطئتها ، فتشبث هؤلاء بكل وجه خادع ، يوهم في ظاهره الملائمة لروح العصر وآخرِ ما توصلت إليه الحضارة من النظريات الفكرية ، والإبداعات العلمية ، ثم طبقوه بعبارات وقوالب متجددة على حياة النبي الأكرم ، والوحي المنزل عليه .

١٣٥
 &

وإرجاع الوحي الإلهي إلى الوحي النفسي هو الجامع بين النظريتين المتقاربتين التاليتين اللتين طرحتا في زماننا هذا . .

الأولى ـ الوحي نتيجة تجلّي الأحوال الروحية

هذه النظرية مأثورة عن المستشرق « مونتييه » وفصّلها « إميل درمنغام » ، وحاصلها أنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج . وذاك أنّ منازع نفسه العالية ، وسريرته الطاهرة ، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته ، وترك ما سواها من عبادة وثنية ، وتقاليد وراثية رديئة ، يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلى في ذهنه ، ويُحدث في عقله الباطن ، الرؤى والأحوال الروحية فيتصور ما يعتقد وجوبه ، إرشاداً إلهياً نازلاً عليه من السماء بدون وساطة . أو يتمثل له رجل يلقنه ذلك ، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب ، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة ، كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي ، عند جميع الأنبياء . فكلَّ ما يُخْبر به النبي أنّه كلام القي في روعه ، أو ملك ألقاه على سمعه ، فهو خبر صادق عنده .

ويقول أصحاب هذه النظرية : لا نشك في صدق الأنبياء في إخبارهم عمّا رأَوْا وسمعوا ، وإنّما نقول إنّ منبع ذلك من نفسه وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال إنّه وراء عالم المادة والطبيعة (١) .

ويقولون في نفس النبي الأكرم إنَّه توصّل إلى الوحي بالإنقطاع إلى عبادة الله تعالى والتوجه إليه في خلوته بغارِ حِراء ، وقَوِيَ هنالك إيمانُه ، وسَما وُجدانُه ، فاتّسع محيطُ تفكُّرِهِ ، وتضاعف نور بصيرتِه ، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات البيّنات في ملكوت السموات والأرض ، الدالّة على وحدانية مبدع الوجود ، وسرّ النظام الساري في كل موجود ، بما صار به أهلاً لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وما زال يفكّر ويتأمل ، وينفعل ويتململ ، ويتقلّب بين الآلام والآمال ، حتى أيقن أنّه النبي المنتظر الذي يبعثه الله لهداية البشر . فتجلّى

__________________

(١) لاحظ الوحي المحمدي ، صفحة ٦٦ ، الطبعة السادسة ، ١٩٦٠ م .

١٣٦
 &

له هذا الإعتقاد في الرؤى المنامية ، ثم قوي حتى صار يتمثّل له الملك ، يلقّنه الوحي في اليقظة .

وأمّا المعلومات التي جاءته في هذا الوحي فهي مستمدة الأصل من تلك الينابيع التي ذكرناها ، ومما هداه إليه عقله وتفكّره في التمييز بين ما يصحّ منها وما لا يصحّ ، ولكنها كانت تتجلّى له نازلة من السماء ، وأنّها خطاب الخالق عزّ وجلّ ، بواسطة الناموس الأكبر وملك الوحي ، جبرئيل روح القُدس (١) .

وبكلمة أدقّ : إنّ معلوماته وأفكاره وآماله ، ولّدت له إلهاماً ، فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية ، على مخيّلته السامية ؛ وانعكس اعتقاده على بصره : فرأى الملك ماثلاً له ، وعلى سمعه : فوعى ما حدّثه الملك به (٢) .

تحليل هذه النظرية

أ ـ نُبُوّةٌ أو أضغاث أحلام

هذه النظرية التي جاء بها بعض الغربيين ، وإن كانت تنطلي على السذج من الناس وتأخذ بينهم رونقاً ، إلّا أنّ رجال التحقيق يدركون تماماً أنّها ليست بشيء جديد قابل للذكر ، وإن هي إلّا تكرار لمقالات العرب الجاهليين في النبوة والوحي ، غير أنّ الغربي أخذ يديف السم في الدسم ، ويعرض ما أكل الدهر عليه وشرب ، بصورة نظرية حديثة برّاقة تتمحور في أنّ رجال الوحي أُناس مُخَبّطون ، استغرقوا في التفكير في أُمنياتهم عقوداً من الدهر حتى رأوها ماثلة في خيالهم وأمام حسّهم .

إنّ الذكر الحكيم ينقل لنا أنّ من جملة مقالات العرب وافتراءاتهم على النبي الأكرم ، وَصْم شريعته بأنّها نتاج الأحلام العذبة التي كانت تراود خاطره ، ثم تتجلى على لسانه وبصره .

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٩٠ .

(٢) المصدر السابق ، ص ٣٥ .

١٣٧
 &

قال تعالى : ( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ) (١) أي قالوا : إنّ النبي ليس مختاراً فيما جاءَ به من الكتاب ، وشَرَّعه من الأحكام ، وإنّما هو وحيُ الأحلام ، وطوارق الرؤى تجري على لسانه .

وقد ردّ تعالى مزعمتهم هذه في موضع آخر من كتابه ـ من دون أن يذكر تُهمتهم ـ بقوله : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) (٢) .

فهذه الآيات تركّز على صدق الوحي ، وكونه أمراً واقعياً مُفاضاً من الله سبحانه . وأنْتَ إذا لاحظت منها الآيتين التاليتين ، يتجلى لك بوضوح حقيقةُ ذلك .

أ ـ قوله : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) .

والمعنى لم يكذّب فؤاد محمد ما أدركه بصره ، أي كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة ، وإدراكاً على الحقيقة .

وهذا ، سواءٌ قُرِءَ « كذب » بالتشديد ، فالموصول مفعولُه ، أو قُرِءَ بالتخفيف ، كما هو القراءة المعروفة ، فهو يتعدى إلى مفعول ، قال الشاعر :

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآية ٥ .

(٢) سورة النجم : الآيات ١ ـ ١٨ . والمراد من « شديد القوى » هو ملك الوحي والضميران في « فاستوى » و« وهو بالأفق الأعلى » ، يرجعان إلى شديد القوى وكذلك الضمير في قوله : « أوحى » ، وأمّا الضمير في عبده فيرجع إلى الله سبحانه .

وقد اشتبه الأمر على كثير من المفسّرين في تفسير هذه الآيات فزعموا أنّ النبي رأى الله سبحانه وتعالى .

١٣٨
 &

كذَبتك عينك أم رأَيْتَ بواسط

غَلَس الظَّلام من الرباب خيالاً

وعلى كل تقدير ، فالآية بصدد بيان أنّه لم يكن هناك اختلاف بين تصديق القلب ورؤية العين ، فإذا صدّق القلب ، تكون الرؤية حقيقةً .

ب ـ قوله : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ) .

أي ما زاغ بصر محمد وما طغى . وهو كناية عن صحة رؤيته وأنّه لم يُبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقية ، ولا أبصر ما لا حقيقة له . بل أبصر غيرَ خاطىء في إبصاره .

والآيتان بصدد بيان مصونية قلبه وبصره عن الخطأ ، في مقام الأخذ والتلقّي ، ولا تتم الصيانة إلّا بمصونية كل جوارحه إذا كانت في خدمة الوحي . فهو صلى الله عليه وآله يُبْصر بعينه ، ويسمع بأُذنه ، ويدرك بقلبه الأشياء والحقائق على ما هي عليه من دون خطأ .

ب ـ نُبُوَّةٌ أَو جنونٌ

ولك أن تقول ، إنّ مقالة هؤلاء المتجددين ، ليست بعيدة ولا غريبة عن اتّهام الأنبياء بالجنون الذي هو في حقيقته مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات الخيالية . هذه التهمة التي افتراها العرب على النبي الخاتم ، كما في قوله تعالى : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) (١) . وأشار إليها القرآن في موارد عديدة أخرى (٢) ، وافتراها أعداء الأنبياء المتقدمين عليهم ، كما يقول تعالى : ( كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) (٣) ، ثم افتراها هؤلاء القساوسة والمستشرقون

__________________

(١) سورة الحجر : الآية ٦ .

(٢) قد جاءت هذه الفرية في المواضع التالية من الذكر الحكيم :

سورة سبأ : الآية ٨ ، سورة الصافات : الآية ٣٦ . سورة الدخان : الآية ١٤ . سورة الطور : الآية ٢٩ . سورة القلم : الآية ٢ . سورة التكوير : الآية ٨٢ .

(٣) سورة الذاريات : الآيتان ٥٢ و ٥٣ .

١٣٩
 &

بصياغة أدبية وقوالب علمية ، تحت إسم « تجلّي الأحوال الروحية » . والمغزى والجوهر واحد .

سبحانك يا رب ، ما أعظم جناية الإنسان على أوليائك والصالحين من عبادك ، البالغين القمة في العقل والدراية والفكر والحكمة ، حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبط وأخرى بالجنون .

الثانية ـ الوحي نتيجة ظهور الشخصية الباطنة

وقد أسهب الأُستاذ فريد وجدي الكلامَ فيها في موسوعته ، نأتي منه بما يكفي في بيان المراد منها :

كان الغربيون إلى القرن السادس عشر ـ كجميع الأُمم المتدينة ـ يقولون بالوحي ، لأنّ كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء . فلما جاء العلم الجديد بشكوكه ومادياته ، ذهبت الفلسفة الغربية إلى أنّ مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة ، وغالت حتى أنكرت الخالق والروح معاً . وعلّلت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنّه إمّا اختلاق من المتنبئة أنفسهم لجذب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم ، وإمّا هَذَيانٌ مَرَضيٌ يعتري بعض العصبيين ، فيخيل إليهم أنّهم يرون أشباحاً تكلّمهم ، وهم لا يرون في الواقع شيئاً .

وقد راج هذا التعليل في العالم الغربي حتى صار مذهب العلم الرسمي . وظلّ الأمر على هذا المنوال حتى العام ١٨٤٦ عندما ظهرت في أمريكا آية الأرواح وسرت منها إلى أوروبا كلها ، وأثبت الناس بدليل محسوس وجود عالم روحانى آهل بالعقول الكبيرة والأفكار الثاقبة ، فتغير وجه النظر في المسائل الروحانية ، وأُحييت مسألة الوحي بعد أن كانت في عداد الأضاليل القديمة ، وأعاد العلماء البحث فيها على قاعدة العلم التجريبي المقرر ، لا على أُسلوب التقليد الديني ، ولا من طريق الضرب في مهامه الخيالات .

فقد تألّفت في لندرة سنة ١٨٨٢ جمعية دعيت باسم « جمعية المباحث النفسية » ، برئاسة السير « جويك » المدرس في جامعة كمبريدج ، وهو من أكبر

١٤٠