الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

للموجودات الأرضية ومنها الإنسان ، فيجب أن يكون لها إشراف دائم على المدبّرات ، واتصال دائم بالعالم السفلي الذي يقع تحت تدبيرها ولكنه لا يجتمع مع الأفول والغروب ، لأنهما يستلزمان غيبة المدبّر عن مدبّره بالفتح وجهله بحاله ، فيكون دليلا قاطعا على عدم كونها مدبّرة للموجودات الأرضية.

ولأجل أنّ شرك عبدة الأجرام كان شركا في الربوبية والتدبير نرى أنّ إبراهيم يستعمل في طرح عقيدتهم وردّها لفظ «الربّ». يقول سبحانه حاكيا عنه : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) (١). وقال أيضا : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) (٢). فاستعمل لفظة «الربّ» فيهما وفي غيرهما من الآيات الواردة في احتجاجه مع المشركين ، ولم يستعمل كلمة «الخالق» ، للفرق الواضح بين التوحيدين وعدم إنكارهم التوحيد الأول وإصرارهم على الشّرك في الثاني.

وأمّا لفظة «الرّب» في لغة العرب فهي بمعنى المتصرف والمدبّر والمتحمل أمر تربية الشيء ، وكأنه بمعنى الصاحب. وهذه ، أعني التدبير والتصرف ، من لوازم كون الشخص صاحبا ومالكا. فربّ الضيعة يقوم بأمرها ، وربّ البيت والغنم يقوم بالتصرف اللازم فيهما.

وباختصار ، إنّ في زعم المشركين أنّ مقام الخلق غير التدبير وأنّ الذي يرتبط بالله إنما هو الخلق والإيجاد وأمّا التدبير فيتعلق بموجودات أخرى غير الله سبحانه وتعالى. فهي المتصرفات فيه وقد فوّض إليها تدبير عالم الطبيعة ، وليست لله تعالى أية دخالة في أمر تدبير الكون وإدارته وتنظيم شئونه والتصرف فيه.

هذه حقيقة الشّرك في التدبير ووجه الفرق بينه وبين الشّرك في الخالقية

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٧٦.

(٢) سورة الأنعام : الآية ٧٧.

٦١

ونرى ذلك الشّرك في كلام (عمر بن لحيّ) وهو أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أناسا يعبدون الأوثان وعند ما سألهم عن شئونها قالوا :

«هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير بها إلى أرض العرب فيعبدوه». فاستصحب معه صنما كبيرا باسم «هبل» ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعى الناس إلى عبادته (١).

وهاهنا نكتة يجب التنبيه عليها وهي : إنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور أنّ الوثنية تعتقد بأنّ هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي ذاتها المتصرفة والمدبرة للكون إذ لا يصدر ذلك عن عاقل ، بل كانوا يعتقدون بكونها أصناما للآلهة المدبّرة لهذا الكون فوّض إليها إدارته. ولما لم تكن هذه الآلهة المزعومة في متناول أيديهم وكانت عبادة الموجود البعيد عن متناول الحسّ واللمس صعبة التصور ، عمدوا إلى تجسيد تلك الآلهة وتصويرها في أوثان وأصنام ورسوم وأجسام وقوالب من الخشب والحجر ، وصاروا يعبدونها عوضا عن عبادة أصحابها الحقيقيين وهي الآلهة المزعومة.

ثم إنّ الاعتقاد بربوبية غير الله سبحانه كما يتصور في مسألة التكوين فيعتقد المشرك بكون الملك أو الجنّ أو غيرهما متصرفا في العالم ، فكذلك يتصور في عالم التشريع. فمن أعطى زمام التشريع والتقنين أو الحلال والحرام إلى الإنسان فقد اتخذه ربّا لنفسه وصاحبا لها ، ولأجل ذلك نرى أنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ اليهود والنصارى اتخذوا الأحبار والرّهبان أربابا لأنفسهم ولم يكن الاعتقاد بربوبيتهم بصورة الاعتقاد بتصرفهم في العالم السفلي وإنما كان يتجلّى في اتخاذهم أربابا وأصحابا لأنفسهم في إطار التقنين ، فاستحلوا ما أحلّوه ، وحرّموا ما حرموه. يقول سبحانه : (اتَّخَذُوا

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٧٩.

٦٢

أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (١) ويقول عزوجل : (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ)(٢).

وحصيلة البحث

١ ـ إنّ ربوبيّة الله عبارة عن مدبريته تعالى للعالم لا عن خالقيته.

٢ ـ دلّت الآيات التي ذكرناها على أنّ مسألة التوحيد في التدبير «لم تكن موضع اتفاق ، بخلاف مسألة «التوحيد في الخالقية» وأنّه كان في التاريخ ثمة فريق يعتقد بمدبريّة غير الله للكون كله أو بعضه ، وكانوا يخضعون أمامها باعتقاد أنها أرباب.

٣ ـ وبما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فقد تكون بعض الفرق موحدة في الثاني ومشركة في الأول فاليهود والنصارى تورطوا في «الشرك الربوبي التشريعي» لأنهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الأحبار والرهبان وجعلوهم أربابا من هذه الجهة ، فكأنهم فوّض أمر التشريع إليهم.

وبذلك يتجلّى أنّ التوحيد في الربوبية هو الاعتقاد بأنّ الخير والشرّ وتدبير الحياة والكون كلّها بيد الله سبحانه وأنّ الإنسان بل كل ما في الكون لا يملك لنفسه شيئا من التدبير ، وأنّ مصير الإنسان في حياته كلها إليه سبحانه ولو كان في عالم الكون أسباب ومدبرات له ، فكلها جنود له سبحانه يعملون بأمره ويفعلون بمشيئته. ويقابله الشرك في الربوبية وهو تصوّر أن هناك مخلوقات لله سبحانه لكن فوّض إليها أمر تدبير الكون ومصير الإنسان في حياته تكوينا أو تشريعا وأنّه سبحانه اعتزل هذه الأمور بعد خلقهم وتفويض الأمر إليهم.

هذا خلاصة التوحيد والشّرك في مجال الربوبية وإنما الكلام في إقامة الدليل عليه :

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ٣١.

(٢) سورة آل عمران : الآية ٦٤.

٦٣

أدلة التوحيد في الربوبية

١ ـ التدبير لا ينفك عن الخلق

إنّ النكتة الأساسية في خطأ المشركين تتمثل في أنهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أمور عائلة أو مؤسسة وتصوروا أنهما من نوع واحد.

إنّ تدبيره سبحانه لهذا العالم ليس كتدبير حاكم البلد بالنسبة إلى مواطنيه ، أو ربّ البيت بالنسبة إلى أهله حيث إنّ ذاك التدبير يتمّ بإصدار الأوامر ، ولكن التدبير في الكون في الحقيقة إدامة الخلق والإيجاد وقد سبق أنّ الخالقية منحصرة في الله سبحانه فالقول بالتوحيد فيها يستلزم القول بالتوحيد في التدبير.

توضيح ذلك : إنّ كل فرد من النظام الإمكاني بحكم كونه فقيرا ممكنا فاقد للوجود الذاتي ، لكن فقره ليس منحصرا في وجوده في بدء تحققه وإنما يستمر هذا الفقر معه في جميع الأزمنة والأمكنة. فهو محتاج في إدامة وجوده بل حتى في علاقاته وروابطه وانسجامه مع مجموع العالم. وحقيقة التدبير ليست إلّا خلق العالم وجعل الأسباب والعلل بحيث تأتي المعاليل والمسبّبات دبر الأسباب وعقيب العلل ، وبحيث تظهر أجزاء الكون إلى الوجود وراء بعضها البعض تباعا ، وبحيث يؤثر بعضها في البعض الآخر حتى يصل كل موجود إلى كماله المناسب وهدفه المطلوب. فإذا كان المراد من التدبير هو هذا ، فهو بعينه عبارة عن مسألة الخلق ، فكيف يمكن أن نعتقد بأنّ التدبير مغاير للخلق ونعتبرهما أمرين مختلفين؟.

إن تدبير الوردة ليس إلا تكوّنها من المواد النيتروجينية الموجودة في التربة مع استنشاقها لثاني أو كسيد الكاربون من الهواء وامتصاصها لأشعة الشمس وحدوث سلسلة معقدة من التفاعلات الكيميائية في خلاياها نتيجة ذلك ، لتنمو بالتدريج وتتفتّح وتخضر وتزهر. وليس كل منها إلا شعبة من الخلق. ومثلها الجنين مذ تكونه في رحم الأم ، فلا يزال يخضع لعمليات التفاعل والنمو حتى يخرج من بطنها ، وليست هذه التفاعلات إلّا شعبة من عملية الخلق وفرع منه وإيجاد بعد إيجاد.

٦٤

ولأجل وجود الصلة الشديدة بين التدبير والخلق نرى أنه سبحانه بعد ما يذكر مسألة خلق السّماوات والأرض يطرح مسألة تسخير الشمس والقمر (١) الذي هو نوع من التدبير.

ومن هذا الطريق يوقفنا القرآن الكريم على حقيقة التدبير الذي هو نوع من الخلق وقد عرفت أن لا خالق إلّا الله.

٢ ـ وحدة النظام دليل على وحدة المدبّر

إنّ مطالعة كل صفحة من صفحات الكتاب التكويني العظيم يقودنا إلى وجود نظام موحّد ، وكأنّ أوراق الكتاب التكويني ـ على غرار الكتاب التدويني شدّ بعضها إلى بعض بيد واحدة وأخرجت في صورة موحدة.

إنّ القوانين والسنن الحاكمة على الموجودات الطبيعية كليّة وشاملة ، بحيث لو أتيح لأحد أن يكشف ناموسا طبيعيا في نقطة من نقاط الكون فهو يكشف قانونا كليا سائدا على النظام من غير فرق بين أرضيّه وفلكيّه.

إنّ وحدة النظام وشمول السنن تقودنا إلى موضوعين :

١ ـ ليس للعالم إلّا خالق واحد.

٢ ـ ليس للعالم إلّا مدبّر واحد.

وعند ذلك يتجلى مفاد قوله سبحانه : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢).

إنّ جملة «له الخلق» إشارة إلى التوحيد في الخالقية.

وجملة «والأمر» إشارة إلى التوحيد في التدبير الذي هو نوع من الحاكمية.

وباختصار ، إنّ وحدة النظام وانسجامه وتلاحمه لا تتحقق إلّا إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبر واحد ، ولو خضع الكون لإدارة مدبرين ،

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ٥٤ ، سورة الرّعد : الآية ٢.

(٢) سورة الأعراف : الآية ٥٤.

٦٥

لما كان من النظام الموحّد أي أثر لأن تعدد المدبّر والمنظّم ـ بحكم اختلافهما في الذات أو في المصنّفات والمشخصات ـ يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإدارة ، ويستلزم تعدد التدبير فناء النظام الموحد وغيابه.

وبعبارة أخرى ، إنّ المدبرين إن كانا متساويين من كل الجهات لم يكن هنا اثنينية في المدبر ، وإن لم يكونا متساويين بل كان هناك اختلاف بينهما في الذات أو في عوارضها ، فالاختلاف فيها يؤثر اختلافا في التدبير وهو خلاف الحسّ.

إلى هنا خرجنا بهاتين النتيجتين :

الأولى : التدبير نوع من الخلق ، والتوحيد في الثاني يلازمه في الأول.

الثانية : إن وحدة النظام وانسجامه وتلاصقه وتماسكه كاشف عن وحدة التدبير والمدبّر.

إجابة عن إشكال

إنّ هناك إشكالا دارجا في الألسن وهو أنّ الأرباب المفروضين وإن كانوا متكثري الذوات ومتغايريها ويؤدي ذلك بالطبع إلى اختلاف الأفعال وتدافعها ، لكن من الممكن أن يتواطئوا على التسالم وهم عقلاء ، ويتوافقوا على التلاؤم رعاية لمصلحة النظام الواحد وتحفظا على بقائه. هذا هو الإشكال.

وأمّا الإجابة فبوجود الفرق الواضح بين العقلاء والأرباب المفروضين فإنّ عمل العقلاء مبني على علومهم وليست هي إلّا قوانين كلية مأخوذة من النظام الخارجي الجاري في العالم. فللنظام الخارجي نوع تقدم على تلك الصور العلمية وهي تابعة لنفس النظام الخارجي ، فعند ذلك يتصالح العقلاء المتنازعون حسب ما تنكشف لهم المصلحة ، فيأخذون بالطريق الوسط الذي تجتمع فيه مصالحهم وأغراضهم وغاياتهم. هذا هو حكم العقلاء المتنازعين

٦٦

أولا فالمتنازلين ثانيا حسب تطابق أعمالهم على النظام السائد.

وأما الأرباب المفروضون فالأمر فيهم على العكس لأن الكيفية الخارجية تتبع علمهم لما عرفت من أنّ التدبير ليس منفكا عن الخلق والإيجاد ، وليس شأنهم شأن مدراء الدوائر والمنشآت حيث إنّ شأنهم التبعية للسنن السائدة فيها كما عرفت ، فإنّ تدبير الآلهة تدبير تكويني ينشأ عن الخلق والإيجاد ولو بقاء لا حدوثا ، فعند ذلك يكون الخارج تابعا لعلمهم لا أنهم يتبعون السنن الموجودة فيه. وعلى ضوء ذلك فلا معنى للتوافق في التدبير.

وباختصار هناك فرق بين تدبير خال عن الإيجاد والخلق كرئيسين بالنسبة إلى مرءوسيهما ، فيمكن تصالحهما على كيفية الاستفادة منها ، وبين تدبير ملازم للخلق والإيجاد وإدامة الحياة واستمرار الوجود ، فالرئيس في الأول يقتفي السنن السائدة والرئيس في الثاني يوجد السنن ويبدعها.

٣ ـ القرآن والتّوحيد في الرّبوبية

إنّ القرآن الكريم ينكر أي مدبّر سوى الله تعالى ويستدلّ على ذلك ببرهان ذي شقوق وقد جاء البرهان ضمن آيتين ، تتكفل كل واحدة منهما ببيان بعض الشقوق منه ، وإليك الآيتين :

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١).

(وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ)(٢).

وأمّا مجموع شقوق البرهان فبيانها بما يلي :

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآية ٢٢.

(٢) سورة المؤمنون : الآية ٩١.

٦٧

إنّ تصور تعدّد المدبر لهذا العالم يكون على وجوه :

١ ـ أن ينفرد كل واحد من الآلهة المدبرة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كل واحد ما يريده في الكون دون ما منازع ، ففي هذه الصورة يلزم تعدّد التدبير ، لأنّ المدبّر متعدّد ومختلف في الذات ، وهذا يستلزم طروء الفساد على العالم. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).

٢ ـ وإما أن يدبر كل واحد قسما من الكون الذي خلقه وعندئذ يجب أن يكون لكل جانب من الجانبين نظام خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به أصلا وعندئذ يلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام المشهود في الكون ، في حين أننا لا نرى في الكون إلّا نوعا واحدا من النظام يسود كل جوانبه من الذرّة إلى المجرّة وإلى هذا الشق أشار بقوله في الآية الثانية : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ).

٣ ـ أن يتفضل أحد هذه الآلهة على البقية ويكون حاكما عليهم ، ويوحّد جهودهم وأعمالهم ، ويسبغ عليها الانسجام ، وعندئذ يكون الإله الحقيقي هو هذا الحاكم دون البقية وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ).

فتلخص أنّ الآيتين بمجموعهما تشيران إلى برهان واحد ، ذي شقوق تتكفل كل واحدة منهما ببيان بعضها.

التوحيد في التدبير في أحاديث أئمة أهل البيت (ع)

جاءت الأحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) حول هذا القسم من التّوحيد مركزة على الدلائل التي تقدم ذكرها.

يقول الإمام الصادق (عليه‌السلام) : «فلما رأينا الخلق مسطما والفلك جاريا ، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر ، دلّ صحة الأمر

٦٨

والتدبير ، وائتلاف الأمر على أنّ المدبر واحد» (١).

وسأل هشام بن الحكم الإمام الصادق (عليه‌السلام) : «ما الدليل على أنّ الله واحد؟» قال : «اتصال التدبير وتمام الصنع كما قال الله عزوجل : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٢).

سؤال وجواب

إنّ التّوحيد في التدبير وأنّه لا مدبر سواه لا يجتمع مع تصريح القرآن بوجود مدبرات في الكون يقول سبحانه : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٣) ويقول عزوجل : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) (٤). ولا شك أنّ هؤلاء الحفظة إذ يراقبون البشر ويحفظونهم من الشر ، فلا محالة يكونون مدبرين لهم بنحو ما.

والجواب عنه بما عرفته منا غير مرة من أنّ معنى التّوحيد في الخالقية أو الربوبية ليس كونه سبحانه خالقا لجميع الأشياء مباشرة وبلا سبب ولا مدبرا كذلك ، بل معناه أنّه ليس في الكون خالق أو مدبر مستقل سواه ، وأنّ قيام الأشياء الأخرى بدور الخلقة والتدبير هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه. والاعتراف بمثل هذه المدبرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في الله سبحانه. ومن له أدنى إلمام بألف باء المعارف والمفاهيم القرآنية يقدر على الجمع بين تلكما الطائفتين من الآيات كما أوضحنا ذلك عند البحث عن الخالقية ، ولأجل إيضاح الحال نأتي بكلام العلّامة الطباطبائي في المقام.

__________________

(١) توحيد الصدوق ، ص ٢٤٤.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٥٠.

(٣) سورة النّازعات : الآية ٥.

(٤) سورة الأنعام : الآية ٦١.

٦٩

الملائكة وسائط في التدبير

الملائكة وسائط بينه تعالى وبين الأشياء بدءا وعودا ، على ما يعطيه القرآن الكريم ، بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة ، وبعده.

أمّا في العود ، أعني حال ظهور آيات الموت وقبض الروح وإجراء السؤال وثواب القبر وعذابه ، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك مجددا ، والحشر وإعطاء الكتاب ووضع الموازين ، والحساب ، والسوق إلى الجنة أو النار فوساطتهم فيها غنية عن البيان. والآيات الدّالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها والأخبار المأثورة فيها عن النبي وأئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) فوق حدّ الإحصاء. وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ودفع الشياطين عن المداخلة فيه ، وتسديد النبي ، وتأييد المؤمنين وتطهيرهم بالاستغفار.

وأمّا وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة فيدل عليها قوله سبحانه : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً* وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً* وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً* فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً* فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (١).

فإنّ المراد من «النّازعات» التي أقسم بها القرآن هو الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد ، و «غرقا» كناية عن الشديد في النزع. والمراد من «الناشطات» التي تخرج الأرواح برفق وسهولة. و «السابحات» النازلة من السماء مسرعة والسبح الإسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح إذا أسرع في جريه. و «السابقات» نفس الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير والإيمان والعمل الصالح و «فالمدبّرات أمرا» الملائكة المدبرة لأمور الكون.

فشأن الملائكة أن يتوسطوا بينه تعالى وينفذوا أمره كما يستفاد من قوله

__________________

(١) سورة النّازعات : الآيات ١ ـ ٥.

٧٠

تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (١).

وقوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٢).

ولا ينافي ما ذكرنا (توسطهم بينه تعالى وبين الحوادث وكونهم أسبابا تستند إليها الظواهر الكونية) إسناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادية فإنّ السببية طولية لا عرضية فإنّ السبب القريب سبب للحادث ، والسبب البعيد سبب للسبب.

كما لا ينافي توسطهم واستناد الحوادث إليهم ، استناد الحوادث إلى الله تعالى ، وكونه هو السبب الوحيد لها جميعا على ما يقتضيه توحيد الربوبية فإنّ السببية طولية كما سمعت لا عرضية. ولا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعية القريبة ، وقد صدّق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعية كما صدّق استنادها إلى الملائكة.

وليس لشيء من الأسباب استقلال في مقابله تعالى حتى ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه ، إلى الله سبحانه على ما يقول به الوثنية من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقربين. فالتوحيد القرآني ينفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة ، فالملائكة ، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.

فمثل الأشياء في استنادها إلى الأسباب المترتبة : القريبة والبعيدة ، وانتهائها إلى الله سبحانه بوجه بعيد ، كمثل الكتابة يكتبها الإنسان بيده وبالقلم ، فللكتابة استناد إلى القلم ثم إلى اليد التي توسلت إلى الكتابة بالقلم ، وإلى الإنسان الذي توسل إليها باليد والقلم. والسبب الحقيقي هو الإنسان المستقل بالسببية من غير أن ينافي سببيته ، استناد الكتابة بوجه إلى اليد والقلم (٣).

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآيتان ٢٦ و ٢٧.

(٢) سورة النّحل : الآية ٥٠.

(٣) الميزان ، ج ٢٠ ، صفحة ١٨٣ ـ ١٨٤ بتلخيص.

٧١
٧٢

التوحيد في الحاكمية

(٦)

انحصار حق الحاكمية في الله سبحانه

إنّ التوحيد في الحاكمية من شئون التوحيد في الربوبية فإنّ الربّ بما أنّه صاحب المربوب ومالكه ، وبعبارة ثانية خالقه وموجده من العدم ، له حق التصرف والتسلط على النفوس والأموال وإيجاد الحدود في تصرفاته. وهذا يحتاج إلى ولاية بالنسبة إلى المسلّط عليه ، ولو لا ذلك لعدّ التصرف تصرفا عدوانيا. وبما أنّ جميع الناس أمام الله سواسية ، والكل مخلوق ومحتاج إليه لا يملك شيئا حتى وجوده وفعله وفكره ، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات والأصالة ، بل الولاية لله المالك الحقيقي للإنسان والكون والواهب له وجوده وحياته كما يقول سبحانه : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (١).

والاستدلال بهذه الآية على انحصار الولاية في الله سبحانه مبني على أن يكون اسم الإشارة «هنالك» إشارة إلى الوقت الذي يتنازع فيه الكافر والمؤمن في هذه الدنيا ، وأن تكون الولاية بمعنى تولي الأمور فهو الذي يتولى أمر عباده (٢).

__________________

(١) سورة الكهف : الآية ٤٤.

(٢) لاحظ مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٤٧٢.

٧٣

وعلى هذا فالحاكمية خاصة بالله سبحانه وهي منحصرة فيه وتعد من مراتب التّوحيد ولك أن تستظهر هذه الحقيقة من الآيات التالية :

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (١).

(أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (٢).

(لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣).

هذا من جانب ، ومن جانب آخر إنّ وجود الحكومة في المجتمع أمر ضروري. والمراد الحكومة التي تصون الحريات الفردية إلى جانب المصالح الاجتماعية ، وتسعى إلى تنظيم الطاقات وتنمية المواهب ، وتوقف أبناء المجتمع على واجباتهم ، وتجري القوانين والسّنن الإلهية والبشرية. ومن المعلوم أنّ تجسيم الحكومة وتجسيدها في الخارج وممارسة الإمرة ليس من شأنه سبحانه بل هو شأن من يماثل المحكوم في الجنس والنوع ويشافهه ويقابله مقابلة الإنسان للإنسان. وعلى ذلك ، فوجه الجمع بين حصر الحاكمية في الله سبحانه ولزوم كون الحاكم والأمير بشرا كالمحكوم ، هو لزوم كون من يمثل مقام الإمرة مأذونا من جانبه سبحانه لإدارة الأمور والتصرف ، في النفوس والأموال ، وأن تكون ولايته مستمدة من ولايته سبحانه ومنبعثة منها ولو لا ذلك لما كان لتنفيذ حكمه جهة ولا دليل.

وإن شئت قلت ، إنّ المقصود هو حصر الولاية التي تنبعث منها الحاكمية في الله سبحانه ، لا حصر الإمرة والتصدي لتنظيم البلاد ، وإقرار الأمن في المجتمع. فالولاية وحق الحاكمية له سبحانه ، وعلى ضوء ذلك يجب أن يكون المتمثل بها منصوبا من قبله سبحانه باسمه الخاص أو بوصفه المخصوص.

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٥٧.

(٢) سورة الأنعام : الآية ٦٢.

(٣) سورة القصص : الآية ٧٠.

٧٤

ولأجل ذلك نجد أنّ أمة كبيرة من جنس البشر تولوا منصة الحاكمية من جانب الله سبحانه وإذنه الخاص ، يديرون شئون الحياة الاجتماعية للإنسان. وفي ذلك يخاطب الله نبيّه داود ويقول :

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(١).

إنّ الآية الكريمة وإن كانت واردة في تنصيب داود على القضاء ، لكن نفوذ قضائه كان ناشئا من حاكميته الواسعة التي تشمل الحكم والإمرة بحيث كان نفوذ قضائه من لوازمها وفروعها. ولم يكن القضاء في تلك الأعصار منفصلا عن سائر شئون الحكومة ولم يكن شأن داود منحصرا في بيان الأحكام والمعارف ، بل كان يتمتع بسلطة تامة تشمل التنفيذية والقضائية ، بل التشريعية أيضا بوحي من الله سبحانه. يقول سبحانه : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (٢).

قال العلّامة الطباطبائي : ويدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (٣) .. فالحكم لله لا يشاركه فيه غيره على ظاهر ما يدل عليه غير واحد من الآيات ، غير أنه سبحانه ربما ينسب الحكم وخاصة التشريعي منه في كلامه إلى غيره ، كقوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)(٤) ، وقوله للنبيّ : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٥). وقوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٦) وقوله: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) (٧) إلى غير ذلك

__________________

(١) سورة ص : الآية ٢٦.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٥١.

(٣) سورة يوسف : الآية ٤٠.

(٤) سورة المائدة : الآية ٩٥.

(٥) سورة المائدة : الآية ٤٩.

(٦) سورة المائدة : الآية ٤٨.

(٧) سورة المائدة : الآية ٤٤.

٧٥

من الآيات ، فإذا انضم هذا القسم من الآيات إلى القسم الأول الحاصر له بالله سبحانه يفيد أنّ الحكم الحق لله سبحانه بالأصالة وأوّلا لا يستقل به أحد غيره ، ويوجد لغيره بإذنه وبالعرض ثانيا ، ولذلك عدّ تعالى نفسه أحكم الحاكمين وخيرهم لأنه لازم الأصالة والاستقلال فقال : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (١) وقال : (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٢) ، وعمّ الحكم التكويني فلا يوجد ـ على ما أذكر ـ ما يدل على نسبته إلى غيره ، وإن كان معاني عامة الصفات والأفعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى عن الانتساب إلى غيره انتسابا إذنيا ، كالعلم والقدرة والحياة والخلق والرزق ، والإحياء والمشيئة التي انتسبت إلى غيره سبحانه في آيات كثيرة ، ولعل عدم نسبة الحكم التكويني إلى غيره سبحانه لحرمة جانبه تعالى ، لإشعار هذا الوصف بنوع من الاستقلال الذي لا مسوّغ لنسبته إلى هذه الأسباب المتوسطة. ونظيرها في ذلك ألفاظ البديع والبارئ والفاطر وألفاظ أخرى تجري مجراها في الإشعار بمعاني تنبئ عن نوع من الاختصاص ، وإنما كفّ عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحرمة ساحة الربوبية (٣).

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي أنّ الحاكمية فرع الولاية على المحكوم ، ولا ولاية إلّا لله سبحانه. فلا حكومة إلّا له. غير أن تجسيد الحكومة في المجتمع ، بمعنى الإمرة عليه ، ليس من شئونه سبحانه ، بل يقوم به المأذون من جانبه إمّا بالاسم كما مرّ في حق داود ، أو بالوصف والعنوان كما هو الحال في حق العلماء والفقهاء الذين لهم الحكم والإمرة عند غيبة النبي أو الإمام المنصوص عليه بالاسم.

وعلى هذا فالحكومات القائمة في المجتمعات يجب أن تكون شرعيتها مستمدة من ولايته سبحانه وحكمه بوجه من الوجوه ، وإذا كانت علاقتها

__________________

(١) سورة التين : الآية ٨.

(٢) سورة الأعراف : الآية ٨٧.

(٣) الميزان ، ج ٧ ، ص ١١٦ ـ ١١٧. وسيوافيك معنى الحكم التكويني عند البحث عن القضاء والقدر التكويني ، فإن الحكم التكويني هو القضاء التكويني.

٧٦

منقطعة غير موصولة به سبحانه فهي حكومات طاغوتية لا قيمة لها ، فلا حاكمية لأحد على أحد إلّا من حكّمه الله على الإنسان في ظل شروط خاصة من العدل والقسط ورعاية الأحكام الإلهية.

* * *

٧٧
٧٨

التّوحيد في الطّاعة

(٧)

انحصار حق الطّاعة في الله سبحانه

إنّ انحصار حق الطّاعة في الله سبحانه من شئون انحصار الرّبوبية فيه سبحانه. فإنّ الربّ بما هو صاحب الإنسان ومدبر حياته ومخطط مساره ، وخالقه على وجه ، له حق الطاعة كما له حق الحاكمية ، فليس هناك مطاع بالذات إلّا هو فهو الذي يجب أن يطاع ويمتثل أمره ولا يجب إطاعة غيره إلّا إذا كان بإذنه وأمره.

وبعبارة أخرى ، إنّ المالك للوجود بأسره وربّ الكون الذي منه وإليه الإنسان يجب أن يطاع دون سواه. والمراد من الطاعة هو أن نضع ما وهبنا من الآلاء ، حتى وجودنا وإرادتنا ، في الموضع الذي يرضاه. والمروق من هذه الطّاعة عدوان على المولى وظلم له ، الذي يقبحه العقل.

وأمّا غيره تعالى ، فبما أنّه لا دخل له في وجود الإنسان وحياته ونعمه وآلائه بل هو أيضا إنسان محتاج مثله ، فلا يتصور له حق الطاعة إلّا إذا أمر المطاع بالذات بإطاعته.

ولأجل ذلك نجد الآيات على صنفين صنف يعرفه سبحانه مطاعا ويقول : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (١).

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٨٥.

٧٩

وصنف يعطف على إطاعة الله سبحانه إطاعة رسوله ولكن يجعل لزوم إطاعته مقيدا بإذنه سبحانه (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (١) ويقول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢).

لا شك أنّ الرسول الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وأولي الأمر ، والوالدين ، وغيرهم يجب طاعتهم ، وتحرم معصيتهم ومخالفتهم ، لكن وجوب إطاعتهم إنما هو بأمر من الله سبحانه ولو لا أمره لما كان لأحد على أحد حقّ الطاعة وبذلك تقدر على تصنيف الآيات وجمعها.

نعم ، ليست طاعة الرسول منحصرة في سماع الأحكام التي جاء بها والعمل على طبقها ، بل للرسول الأعظم مناصب وراء بيان الوحي وتبيين الأحكام ، ووراء تعليم القرآن وتلاوة آياته ، ومنها إصدار الأوامر والنواهي إلى المؤمنين في مختلف شئون الحياة فإذا أمر بتجهيز الجيش والنفر إلى الجهاد ومكافحة الظالمين فله حق الطاعة عليهم ، ومن خالفه فقد خالف الرسول وعصاه. وهذا بخلاف ما إذا بلّغ الرسول أحكام الله ورسالاته إلى الناس كالصلاة والصيام فتركهما يعدّ معصية لله سبحانه لا معصية للرسول. فيجب على الموحّد الإمعان في هذه المجالات المختلفة ويعترف :

أوّلا : إنّ الطّاعة على وجه الإطلاق مختصة بالله سبحانه ولا طاعة لغيره بالذات.

وثانيا : إنّ الرسول الأعظم له مقامات فهو في مقام مبلغ وبشير ونذير ، كما في إبلاغ رسالاته. وهو في الوقت نفسه في مقام آخر آمر وناه له حق الأمر والنهي ، كما هو في مقام ثالث فاصل للخصومات وقاض بين الناس فيجب تنفيذ حكمه. وتمييز هذه المقامات غير خفي لمن أمعن وتدبّر.

* * *

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٦٤.

(٢) سورة النساء : الآية ٨٠.

٨٠