الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

المجرمين يوم القيامة : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ* رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١). فيستظهر من إضافة الشقوة إلى أنفسهم أنّ شقاء المجرمين كان أمرا نابعا من ذواتهم ، ولكنه ظهور بدوي يزال عن الذهن بعد التدقيق في مفاد الآيتين إذ لقائل أن يقول إنّ في إضافة الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أنّ لهم صنعا في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم ، والدليل على ذلك قولهم : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ). إذ هو وعد منهم بالإتيان بالحسنات بعد الخروج من النار ، فلو لم تكن الشقوة مكتسبة لهم بالإرادة والاختيار لم يكن للوعد معنى ، لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبله. وهذا يدل على أنّ المجرمين كانوا واقفين على أنّ السعادة والشقاء بأيديهم ، فقد اكتسبوا الشقاء بسوء الاختيار. فلما رأوا نتيجة أعمالهم ، صاروا يعدونه سبحانه بأنهم إن خرجوا يكتسبون السعادة بصالح أعمالهم.

على أنّ الاستدلال بكلام المجرمين في يوم القيامة ، بكون الشقاء ذاتيا ، غير تام جدا ، مع دلالة الآيات على أنهم يكذبون يومئذ ، وينكرون أشياء مع ظهور الحق ومعاينته ، لاستقرار ملكة الكذب والإنكار في نفوسهم. قال تعالى : (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) (٢). وقال سبحانه : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٣). فإذا كان المجرم يكذب على الله سبحانه بهذا النحو ، فلا عتب عليه أن يسند ضلالته إلى شقوته تبرئة لنفسه.

ونختم البحث برواية الصدوق في (الأمالي) عن علي (عليه‌السلام) أنّه قال : «حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة ، وحقيقة الشقاء أن

__________________

(١) سورة المؤمنون : الآيتان ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٢) سورة غافر : الآيتان ٧٣ و ٧٤.

(٣) سورة الأنعام : الآية ٢٣.

٣٨١

يختم المرء عمله بالشقاء» (١).

ثم إنّ العلّامة الطباطبائي (ره) طرح البحث عن الروايات الواردة حول الشقاء والسعادة في تفسيره عند البحث عن قوله سبحانه : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢). فمن أراد الوقوف على مضامين هذه الروايات وعلاج اختلافها فعليه أن يرجع إليه (٣).

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥ ، باب السعادة والشقاء ، ص ١٥٤ ، الحديث ٥. وفي هذا الباب روايات لا توافق محكمات القرآن والأحاديث فلا بد من التوجيه إن صحّت أسنادها.

(٢) سورة الأعراف : الآية ٢٩.

(٣) الميزان ، ج ٨ ، ص ٩٥ ـ ١٠٩.

٣٨٢

السؤال الثالث

انتهاء الأمور إلى الإرادة الأزلية

لا شك أنّ ما يوجد في الكون عن طريق الأسباب والعلل تنتهي تأثيراتها إلى الإرادة الأزلية ، فهي المؤثر التام لما يوجد في الكون ، فيكون الوجود الإمكاني معلولا لها ، وواجبا بوجودها ، ومع ذلك كيف يمكن أن يتصف بعض الوجود الإمكاني كأفعال الإنسان بالاختيار ، وهذا ما اعتمد عليه المحقق الخراساني في بحث اتحاد الطلب والإرادة وقال :

«إنّ الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ، ولو كانا مسبوقين بإرادتهما ، إلّا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار. كيف ، وقد سبقتهما الإرادة الأزلية والمشيئة الإلهية. ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما لا يكون أخيرا بلا اختيار» (١).

تحليل الإشكال

إنّ ما ذكر يتحد جوهرا مع ما مرّ في أدلّة الأشاعرة على الجبر ولكن التقرير مختلف ، فإن مبدأ الإشكال هناك أنّ فعل العبد متعلق بمشيئته تعالى

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٠٠.

٣٨٣

وما هو كذلك يكون متحققا إلزاما ، فكيف يوصف بالاختيار.

ومبدأ الإشكال هنا هو أنّ مجموع الوجود الإمكاني معلول لوجود الواجب وإرادته ، فإرادته سبحانه هي العلّة التامة لما سواه ومعه كيف يتصف بعض الوجود الإمكاني كأفعال الإنسان بالاختيار؟. فالإشكالان متحدان جوهرا ، مختلفان صورة وصياغة.

ولكن الجواب عن كلا الإشكالين ، واحد ، ولكي يكون الجواب مناسبا لهذا التقرير نقول :

إن فعل الإنسان إنما يتصف بالوجوب إذا نسب إلى جميع أجزاء العلّة التّامة المنتهية إلى الواجب وإرادته ، ومنها اختيار الإنسان وإرادته فإذا لوحظ الفعل بالنسبة إلى جميع أجزاء العلّة التامة يوصف بالوجوب ، وهذا مما لا كلام فيه. إلّا أنّ الكلام ملاحظة الفعل قبل اجتماع أجزاء العلّة التّامّة كالإنسان قبل أن يريد ، فلا يوصف الفعل في هذه الحالة إلّا بالإمكان ، وبما أن ذات الإنسان وإرادته من أجزاء العلة أولا ، وبما أنّ الإنسان فاعل مختار بالذات في إيجاد الجزء الأخير من العلّة التامة ـ أعني الإرادة ـ فلا يكون الفعل بالنسبة إليه فعلا إيجابيا ، بل زمام الفعل بيده ، فله أن يوجد الإرادة وله أن يترك ، وقد تعلقت إرادته على اختياره أحد الطرفين باختيار ذاتي.

وبذلك يظهر أنّ نسبة الفعل تختلف حسب اختلاف المنسوب إليه ، فلو نسب الفعل إلى مجموع أجزاء العلّة التّامّة من الواجب سبحانه إلى إرادة العبد فالفعل متصف بالوجوب.

وإن نسب إلى نفس الباري سبحانه مع حذف الوسائط والعلل فالنسبة تنقلب إلى الإمكان لعدم وجود العلّة التامة. كيف ، وقد تعلقت مشيئته على صدور الفعل عن طريق العلل والأسباب.

وإن لوحظ الفعل بالنسبة إلى نفس الإنسان بما أنّه فاعل مختار بالذات في إيجاد الإرادة في ضميره وعدمه ، فالفعل فعل إمكاني ، اختياري.

٣٨٤

نعم ، بعد ما أوجد الجزء الأخير من العلّة ـ أعني الإرادة ـ يتّصف الفعل بالوجوب ولكن لا يخرج عن كونه فعلا اختياريا للإنسان ، لأن الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وكأنّ الإشكال نسج على منهج الأشعري القائل بعلة واحدة ـ أعني الواجب ـ وقيامه مكان جميع العلل ، وقد عرفت بطلانه.

* * *

٣٨٥
٣٨٦

السؤال الرابع

ما معنى كون الهداية والضلالة بيده سبحانه؟

دلّت الآيات القرآنية على أنّ الهداية والضلالة بيده سبحانه ، فهو يضل من يشاء ويهدي من يشاء. فإذا كان أمر الهداية مرتبطا بمشيئته ، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية ولا في الضلالة ، فالضال يعصي بلا اختيار ، والمهتدي يطيع كذلك وهذا بالجبر ، أشبه منه بالاختيار.

قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).

وقال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢).

وقال سبحانه : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٣).

__________________

(١) سورة إبراهيم : الآية ٤.

(٢) سورة النحل : الآية ٩٣.

(٣) سورة فاطر : الآية ٨.

٣٨٧

إلى غير ذلك من الآيات المخصصة للهداية والإضلال بالله تعالى.

أمّا الجواب : فإن تحليل أمر الهداية والضلالة الذي ورد في القرآن الكريم من المسائل الدقيقة المتشعبة الأبحاث ولا يقف على المحصل من الآيات إلّا من فسّرها عن طريق التفسير الموضوعي ، بمعنى جمع كل ما ورد في هذين المجالين في مقام واحد ، ثم تفسير المجموع باتخاذ البعض قرينة على البعض الآخر. وبما أنّ هذا الطراز من البحث لا يناسب وضع الكتاب ، نكتفي بما تمسك به الجبريون في المقام من الآيات لإثبات الجبر ، وبتفسيرها وتحليلها يسقط أهم ما تسلحوا به من العصور الأولى.

حقيقة الجواب تتضح في التفريق بين الهداية العامة التي عليها تبتنى مسألة الجبر والاختيار ، والهداية الخاصة التي لا تمت إلى هذه المسألة بصلة.

الهداية العامّة

الهداية العامة من الله سبحانه تعمّ كل الموجودات عاقلها وغير عاقلها ، وهي على قسمين :

أ ـ الهداية العامة التكوينية ، والمراد منها خلق كل شيء وتجهيزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها : قال سبحانه حاكيا كلام النبي موسى (عليه‌السلام) : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١). وجهّز كل موجود بجهاز يوصله إلى الكمال ، فالنبات مجهز بأدقّ الأجهزة التي توصله في ظروف خاصة إلى تفتح طاقاته ؛ فالحبّة المستورة تحت الأرض ترعاها أجهزة داخلية وعوامل خارجية كالماء والنور إلى أن تصير شجرة مثمرة معطاءة. ومثله الحيوان والإنسان ، فهذه الهداية عامة لجميع الأشياء ليس فيها تبعيض وتمييز.

__________________

(١) سورة طه : الآية ٥٠.

٣٨٨

قال سبحانه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى)(١).

وقال سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٢).

وقال سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٣).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول الهداية التكوينية التي ترجع حقيقتها إلى الهداية النابعة من حاق ذات الشيء بما أودع الله فيه من الأجهزة والإلهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة والطريق المهيع ، من غير فرق بين المؤمن والكافر. قال سبحانه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤).

فهذا الفيض الإلهي الذي يأخذ بيد كل ممكن في النظام ، عام لا يختص بموجود دون موجود ، غير أن كيفية الهداية والأجهزة الهادية لكل موجود تختلف حسب اختلاف درجات وجوده. وقد أسماه سبحانه في بعض الموجودات «الوحي» وقال : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٥).

ومن الهداية التكوينية في الإنسان العقل الموهوب له ، المرشد له إلى

__________________

(١) سورة الأعلى : الآيات ١ ـ ٣.

(٢) سورة البلد : الآيات ٨ ـ ١٠.

(٣) سورة الشمس : الآيتان ٧ و ٨.

(٤) سورة الروم : الآية ٣٠.

(٥) سورة النحل : الآيتان ٦٨ و ٦٩.

٣٨٩

معالم الخير والصلاح ، وما ورد في الذكر الحكيم من الآيات الحاثّة على التعقل والتفكر والتدبر خير دليل على وجود هذه الهداية العامة في أفراد الإنسان وإنّ كان قسم منه لا يستضيء بنور العقل ولا يهتدي بالتّفكّر والتّدبّر.

ب ـ الهداية العامّة التّشريعية : إذا كانت الهداية التكوينية العامة أمرا نابعا من ذات الشيء بما أودع الله فيه من أجهزة تسوقه إلى الخير والكمال ، فالهداية التشريعية العامة عبارة عن الهداية الشاملة للموجود العاقل المدرك ، المفاضة عليه بتوسط عوامل خارجة عن ذاته ، وذلك كالأنبياء والرسل والكتب السماوية وأوصياء الرسل وخلفائهم والعلماء والمصلحين وغير ذلك من أدوات الهداية التشريعية العامة التي تعمّ جميع المكلفين. قال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١).

وقال سبحانه : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(٢).

وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(٣).

وقال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٤). وأهل الذكر في المجتمع اليهودي هم الأحبار ، والمجتمع المسيحي هم الرهبان.

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في القرآن الكريم التي تشير إلى أنّه سبحانه هدى الإنسان ببعث الرسل ، وإنزال الكتب ، ودعوته إلى إطاعة أولي الأمر والرجوع إلى أهل الذكر.

__________________

(١) سورة فاطر : الآية ٢٤.

(٢) سورة الحديد : الآية ٢٥.

(٣) سورة النساء : الآية ٥٩.

(٤) سورة الأنبياء : الآية ٧.

٣٩٠

قال سبحانه مصرّحا بأنّ النبي الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو الهادي لجميع أمته : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١).

وقال سبحانه في هداية القرآن إلى الطريق الأقوم : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(٢).

هذا ، وإن مقتضى الحكمة الإلهية أن يعمّ هذا القسم من الهداية العامة جميع البشر ، ولا يختص بجيل دون جيل ولا طائفة دون طائفة.

والهداية العامة بكلا قسميها في مورد الإنسان ، ملاك الجبر والاختيار فلو عمّت هدايته التكوينية والتشريعية في خصوص الإنسان كل فرد منه ، لارتفع الجبر ، وساد الاختيار ، لأنّ لكل إنسان أن يهتدي بعقله وما حفّه سبحانه به من عوامل الهداية من الأنبياء والرسل والمزامير والكتب وغير ذلك.

ولو كانت الهداية المذكورة خاصة بأناس دون آخرين ، وأنّه سبحانه هدى أمة ولم يهد أخرى ، لكان لتوهم الجبر مجال وهو وهم واه ، كيف وقد قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣) وقال سبحانه : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) (٤). وغير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنّ نزول العذاب كان بعد بعث الرسول وشمول الهداية العامّة للمعذبين والهالكين ، وبالتالي يدلّ على أنّ من لم تبلغه تلك الهداية لا يكون مسئولا إلّا بمقدار ما يدلّ عليه عقله ويرشده إليه لبّه.

الهداية الخاصّة

وهناك هداية خاصة تختص بجملة من الأفراد الذين استضاءوا بنور

__________________

(١) سورة الشورى : الآية ٥٢.

(٢) سورة الإسراء : الآية ٩.

(٣) سورة الإسراء : الآية ١٥.

(٤) سورة القصص : الآية ٥٩.

٣٩١

الهداية العامة تكوينها وتشريعها ، فيقعون موردا للعناية الخاصة منه سبحانه. ومعنى هذه الهداية هو تسديدهم في مزالق الحياة إلى سبل النجاة ، وتوفيقهم للتزود بصالح الأعمال ، ويكون معنى الإضلال في هذه المرحلة هو منعهم من هذه المواهب ، وخذلانهم في الحياة ، ويدلّ على ذلك (أنّ هذه الهداية خاصة لمن استفاد من الهداية الأولى) ، قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (١). فعلّق الهداية على من اتصف بالإنابة والتوجّه إلى الله سبحانه.

وقال سبحانه : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (٢).

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ، وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٣). فمن أراد وجه الله سبحانه يمده بالهداية إلى سبله.

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٤).

وقال سبحانه : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً* وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (٥).

وكما أنّه علق الهداية هنا على من جعل نفسه في مهب العناية الخاصّة ، علّق الضلالة في كثير من الآيات على صفات تشعر باستحقاقه الضلال والحرمان من الهداية الخاصة.

قال سبحانه : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٦).

__________________

(١) سورة الرعد : الآية ٢٧.

(٢) سورة الشورى : الآية ١٣.

(٣) سورة العنكبوت : الآية ٦٩.

(٤) سورة محمد : الآية ١٧.

(٥) سورة الكهف : الآيتان ١٣ و ١٤.

(٦) سورة الجمعة : الآية ٥.

٣٩٢

وقال سبحانه : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (١).

وقال سبحانه : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢).

وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ)(٣).

وقال سبحانه : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٤).

فالمراد من الإضلال هو عدم الهداية لأجل عدم استحقاق العناية والتوفيق الخاص ، لأنهم كانوا ظالمين وفاسقين. كافرين ومنحرفين عن الحق. وبالمراجعة إلى الآيات الواردة حول الهداية والضلالة يظهر أنّه سبحانه لم ينسب في كلامه إلى نفسه إضلالا إلّا ما كان مسبوقا بظلم من العبد أو فسق أو كفر أو تكذيب ونظائرها التي استوجبت قطع العناية الخاصة وحرمانه منها.

إذا عرفت ما ذكرنا ، تقف على أنّ الهداية العامة التي بها تناط مسألة الجبر والاختيار ، عامة شاملة لجميع الأفراد ، ففي وسع كل إنسان أن يهتدي بهداها. وأمّا الهداية الخاصة والعناية الزائدة فتختص بطائفة المنيبين والمستفيدين من الهداية الأولى. فما جاء في كلام المستدل من الآيات من تعليق الهداية والضلالة على مشيئته سبحانه ناظر إلى القسم الثاني لا الأول.

أما القسم الأول فلأن المشيئة الإلهية تعلقت على عمومها بكل مكلف بل بكل إنسان ، وأما الهداية فقد تعلقت مشيئته بشمولها لصنف دون صنف ولم تكن مشيئته ، مشيئة جزافية ، بل الملاك في شمولها لصنف خاص هو

__________________

(١) سورة إبراهيم : الآية ٢٧.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٦.

(٣) سورة النساء : الآيتان ١٦٨ و ١٦٩.

(٤) سورة الصف : الآية ٥.

٣٩٣

قابليته لأن تنزل عليه تلك الهداية ، لأنّه قد استفاد من كل من الهداية التكوينية والتشريعية العامتين ، فاستحق بذلك العناية الزائدة.

كما أنّ عدم شمولها لصنف خاص ما هو إلّا لأجل اتصافهم بصفات رديئة لا يستحقون معها تلك العناية الزائدة.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه بعد ما يقول : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، يذيله بقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) ، مشعرا بأنّ الإضلال والهداية كانا على وفاق الحكمة ، فهذا استحق الإضلال وذاك استحق الهداية.

بقي هنا سؤال ، وهو أنّ هناك جملة من الآيات تعرب عن عدم تعلق مشيئته سبحانه بهداية الكل ، قال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٢).

وقال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٣).

وقال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٤).

وقال سبحانه : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٥).

وقال سبحانه : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٦).

__________________

(١) سورة إبراهيم : الآية ٤.

(٢) سورة الأنعام : الآية ٣٥.

(٣) سورة الأنعام : الآية ١٠٧.

(٤) سورة يونس : الآية ٩٩.

(٥) سورة النحل : الآية ٩.

(٦) سورة السجدة : الآية ١٣.

٣٩٤

والجواب : إنّ هذه الآيات ناظرة إلى الهداية الجبرية بحيث تسلب عن الإنسان الاختيار والحرية فلا يقدر على الطرف المقابل. ولما كان مثل هذه الهداية الخارجة عن الاختيار ، منافيا لحكمته سبحانه ، ولا يوجب رفع منزلة الإنسان ، نفى تعلّق مشيئته بها ، وإنّما يقدّر الإيمان الذي يستند إلى اختيار المرء ، لا إلى الجبر والإلحاد (١).

* * *

قد وقع الفراغ من تبييض هذه المحاضرات بفضل الله سبحانه في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك من شهور عام ١٤٠٨ للهجرة النبوية الشريفة بيد مؤلفها الفقير بذاته حسن بن محمد مكي العاملي ، عامله الله بلطفه الخفي ، راجيا منه سبحانه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم إنّه على ذلك قدير. ويتلوه الجزء الثاني حول النبوّات العامة والخاصة والخلافة والوصاية والمعاد وحشر الأجساد وما يرتبط بهذه الموضوعات من المسائل الهامة بإذنه سبحانه (٢).

* * *

__________________

(١) هذا بعض الكلام في الهداية والضّلالة بالمقدار المناسب لوضع الكتاب ، والبحث في المقام واسع يلاحظ فيه الموسوعات التفسيرية.

(٢) لا يفوتنا في الختام أن نبارك للمركز العالمي للدراسات الإسلامية قيامه بتكليف الدار الإسلامية في بيروت بنشر هذا الكتاب على نطاق واسع ليكون محور الدراسة في جامعة العلوم الإسلامية في قم المقدّسة والفروع التابعة لها بإذن منه سبحانه.

٣٩٥

الملحق الأول(١)

ذكرنا عند البحث عن الجبر الأشعري أنّ للمعتزلة والأشاعرة أقوالا لا توافق الأصول الفلسفية ولا الكتاب العزيز ، وهاك بيانها.

الأول : قول الإمام الأشعري بأنّ الفعل يقع بقدرة الله سبحانه وحدها.

الثاني : قول المعتزلة أو أكثرهم بأنه يقع بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال.

الثالث : قول القاضي الباقلاني من الأشاعرة بأنّ قدرة الله تتعلق بأصل الفعل ، وقدرة العبد تتعلق بالعناوين الطارئة عليه كالطاعة والمعصية لأجل التأديب والإيذاء في لطم اليتيم ، فأصل اللطم واقع بقدرة الله ، وكونه طاعة لأجل التأديب ومعصية لأجل الإيذاء بقدرة العبد.

الرابع : ما حكاه الإيجي عن أستاذه بأنّه يقع بمجموع القدرتين العرضيّتين حيث جوّزوا اجتماع المؤثّرين على أثر واحد.

الخامس : ما ذهب إليه إمام الحرمين الجويني بأنّ قدرة الله تتعلق

__________________

(١) راجع إلى ص ٢٧٥.

٣٩٦

بقدرة العبد وقدرة العبد تتعلق بالفعل. وهو باعتبار نفس ما اخترناه وهو خيرة الفلاسفة.

ولكن الحقيقة أدق ممّا نسب إلى إمام الحرمين حيث إنّه فرض قدرة الله منفصلة عن الفعل ولا تتعلّق به إلّا بواسطة قدرة العبد. مع أنّ مقتضى البراهين الفلسفية أنّ قدرة العبد من شئون قدرة الله سبحانه وليست شيئا منفصلا عنها ، وأنّ نسبة إحدى القدرتين إلى الأخرى كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي ، كما ستعرفه عند التعرّض للبحث في سائر أدلة الأشاعرة على الجبر (١).

ثم إن للقوم أيضا احتجاجات وتشكيكات أخرى في المقام ذكر بعضها العلّامة في (إرشاد الطالبيين) وشرحها الفاضل المقداد في شرحه عليه (٢).

__________________

(١) راجع في الوقوف على أقوالهم شرح المواقف ، ج ٢ ، ص ١٤٦ ـ ١٤٨.

(٢) إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين ، ص ٢٦٥ ـ ٢٦٩.

٣٩٧

الملحق الثاني(١)

إن للمحققين كلمات مختلفة في تعلق علمه الأزلي بأفعال العباد ننقل بعضها :

قال صدر المتألهين : «إنّ علمه وإن كان سببا مقتضيا لوجود الفعل من العبد لكنه إنما اقتضى وجوده وصدوره المسبوق بقدرة العبد واختياره أي إرادته لكونها من جملة أسباب الفعل وعلله والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحققه.

ونقل عن الإمام الرازي في المباحث المشرقية كلاما مفصلا ، يقول هو في آخره ما يظهر منه الموافقة لهذا الأصل ، وإليك نصه : «إذا من قضاء الله وقدره ، وقوع بعض الأفعال تابعا لاختيار فاعله ، ولا يندفع هذا إلّا بإقامة البرهان على أن لا مؤثر في الوجود إلّا هو» (٢).

يقول العلّامة الطباطبائي : «إن العلم الأزلي متعلق بكل شيء على ما هو عليه ، فهو متعلق بالأفعال الاختيارية بما هي اختيارية ، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية. وبعبارة أخرى : المقضيّ هو أن يصدر الفعل عن

__________________

(١) راجع إلى ص ٢٨٨.

(٢) الأسفار ، ج ٦ ، ص ٣٨٥ و ٣٨٧.

٣٩٨

الفاعل الفلاني اختيارا ، فلو انقلب الفعل من جهة تعلق هذا القضاء به ، غير اختياري ، ناقض القضاء نفسه» (١).

ثم إنّ شارح المواقف نقل جوابا آخر في المقام عن بعضهم وهو أنّ العلم تابع للمعلوم على معنى أنهما يتطابقان والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم. ألا ترى أنّ صورة الفرس مثلا على الجدار إنما كانت على هذه الهيئة المخصوصة ، لأن الفرس في حدّ نفسه هكذا ، ولا يتصور أن ينعكس الحال بينهما ، فالعلم بأنّ زيدا سيقوم غدا مثلا ، إنما يتحقق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه دون العكس. فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه ، وسلب القدرة والاختيار وإلّا لزم أن يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما (٢).

ويلاحظ عليه ـ كما أوعزنا إليه عند البحث عن القضاء والقدر ـ : إنه خلط بين العلم الانفعالي كالصورة الواردة إلى النفس من ملاحظة ذيها ، كما في المثال الذي ذكره ، وبين العلم الفعلي الذي هو إما شرط لحصول المعلوم في الخارج أو سبب تام. فالأول كعلم المهندس المقدر لبناء البيت والمصوّر له. والثاني كتصور السقوط من شاهق الذي يستلزمه. وعلمه سبحانه ليس علما انفعاليا حتى يكون تابعا ، بل هو في سلسلة العلل وإن لم يكن علّة تامة في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان ضرورة دور الإنسان في تحققها ، فتكون المقايسة باطلة.

__________________

(١) الأسفار ، ج ٦ ، تعليقة العلّامة الطباطبائي ، ص ٣١٨.

(٢) شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ١٥٥ ـ ١٥٦.

٣٩٩
٤٠٠